أبحاث

بعد ست وثلاثين ساعة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

بعد ست وثلاثين ساعة - فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

بعد ست وثلاثين ساعة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

بعد ست وثلاثين ساعة - فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟
بعد ست وثلاثين ساعة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

بعد ست وثلاثين ساعة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

كان مفروضاً، حسب التفكير البشري العادي، أن ينتهي السر الغامض الذي اكتنف حياة يسوع بموته ودفنه. أما كونه مات بالمعنى الجسماني الكامل فقد قلنا إنه من حقائق التاريخ التي لا يتسرب إليها شك، ورأينا كيف تتابعت الحوادث تتابعاً طبعياً حتى انتهت بتكفين الجسد ودفنه دفناً لائقاً بكرامته.

وأنا لا أجد في سياق حوادث قصة الصلب والدفن ما لا يتفق مع الأوضاع البشرية للأشياء. فالقصة كلها ترسم لنا صورة حقة من صور الحياة لا تعمّل فيها لا تكلُّف. ولكن حين نقلب الصفحة لقراءة حوادث الأيام التالية، نرانا في موقف لا يسلّم به الباحث الملّم بحوادث التاريخ والواقف على مجريات الفكر الحديث.

ولأني أعتقد أن وراء النصوص اللفظية للقصة، أشياء عميقة خفية لها تأثيرها في تعديل وضعها، أراني مضطراً لأن أبحث أولاً مع القارئ الكريم تسلسل الحوادث من الساعة السادسة بعد ظهر يوم الجمعة إلى ذهاب النسوة إلى القبر في فجر يوم الأحد.

وقد استطعنا أن نتعقب خطى سبعة من صحابة يسوع التسعة الأخصاء الذين شهدوا المأساة يوم الجمعة في أورشليم. فالرسول يوحنا كان مع مريم أم يسوع عند قدمي الصليب، وقد غادر المكان بعد النزع الأخير ليُعنى بالأم التي عُهد أمر رعايتها إليه، ويأخذها إلى مكان هادئ أمين بعد الذي أصابها من هول الكارثة وتحطيم الأعصاب. والنسوة الثلاث، مريم المجدلية ومريم زوجة كلوبا، وسالومة، كنّ أيضاً على مقربة من الصليب. كذلك رأينا يوسف الرامي، والحبر اليهودي نيقوديموس في ساعة متأخرة من بعد الظهر يقومان بتكفين الجسد ومراسم الدفن.

هؤلاء سبعة من الأصدقاء التسعة الذين بقوا في أورشليم. أما الاثنان الآخران الغائبان، فهما بطرس. ويمكن تعليل غيابه بما طغا عليه من موجة الحزن والندم والتحسر بعد إنكار سيده، واضطراره إلى الانزواء عن عزلة للتفكير الحزين النادم. وأما التاسع فهو المرأة يونّا التي تعود فيما بعد إلى الظهور في موكب النسوة الذاهبات إلى القبر في فجر الأحد. وقد قلنا إنها ربما كانت منهمكة في القيام بواجباتها كزوجة وكيل هيرودس في إعداد معدّات العيد.

وبرهة من التفكير الهادئ تبين لنا من كان الأفراد العاملون “المتحركون” من صحابة يسوع الذين بقوا داخل أسوار أورشليم – وهنَّ النسوة الثلاث مريم المجدلية ومريم زوجة كلوبا وسالومة، وتعاونهن على قدر ما تسمح به أعمالها الرسمية المرأة يونّا.

وحين ندرك العبء الثقيل المضني الذي وقع على أولئك النسوة الثلاث أو الأربع، اللائي قمن بأوقر نصيب من التبعات التي اقتضاها الموقف الرهيب، نتبين مدى الحوادث الأليمة التي تتابعت في آخر ذلك الأسبوع، ونتميز معنى كثير من الأشياء التي لولا هذا التتابع لظلت خافيه غامضة. والحق أن القصة تكتب في إيضاح وجلاء ما عانته أولئك النسوة من شديد الألم وحسن القيام بالواجب في الظرف الدقيق، من تلقاء أنفسهن، وهنّ مقطوعات عن كل عون خارجي، ما خلا بعض المعونة التافهة يؤديها بطرس المضطرب المهموم، ويوحنا المشغول البال.
والآن لنحاول رسم صورة للمشهد كله. مستندين في ذلك إلى أقدم بشائر الإنجيل وهو بشارة مرقص. ومن دواعي الارتياح أن قصته من هذه الناحية صريحة واضحة. قد كتب في وصف المشهد الأخير للصلب:

“وكان أيضاً نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي وسالومة”.

ثم بعد أن يصف الدفن بعبارات موجزة يقول:

“وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسي تنظران أين وضع….”.

“وبعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنّه. وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس”.

وفي القصة شيئان جديران بالنظر والعناية:

1 – الأسبقية التي تفوز بها مريم المجدلية كأنها زعيمة الجماعة والشخصية البارزة فيها.

2 – اختفاء اسم سالومة من قصة الدفن.

ويصح أن نتغاضى إلى حين عن النقطة الخاصة بريم المجدلية. أما الإشارات إلى سالومة فإنها تحمل في طياتها بعض المعاني وتُلقي نوراً على القصة. ومرقص يدقق كثيراً في ذكر الأسماء والأماكن، فيضع اسم سالومة بين الواقفات عند الصليب، ثم يذكرها أيضاً بين اللائي أتين إلى القبر في الصباح الباكر، ولكن لم يذكر إلا المريمتين اللتين وقفتا “تنظران من بعيد”.

وحذف اسم سالومة من مشهد الدفن لم يكن عرضاً، ولا بد أن الكاتب أراد أن يبين لقارئيه أن سالومة كانت قد مضت في مهمة عاجلة.

أما هذه المهمة فيمكن استنتاجها من طريق الاحتمال الذي يكان يبلغ حد اليقين. ونحن نعلم أن مريم أم يعقوب وسالومة كانتا بنات خؤولة. وكانتا تعملان في هذه المحنة باتفاق وتعاون مع مريم المجدلية. ثم أن الاثنتين تمتّان بصلة قرابة إلى مريم أم يسوع، وكانت سالومة نفسها أم الرسول يوحنا.

ولا شك أن هذه الجماعة الأمينة المتفانية قد شغلها في ساعات الصلب الأخيرة الرهيبة أمران خطيران – الأول: الجزع الممضّ على زعيمهن وهو يعاني سكرات الموت في عذاب أليم خانق. والثاني: القلق على قريبتهن أم يسوع. وما بقيت نبضات الحياة مترجرجة في الجسد المعلق على الصليب كان عواطفهن مغمورة بالهّم والشجن والحرقة من أجله. ولكن بعد أن أدركه الموت الرحوم بصرخة داوية من النفس المعذبة، غلب عليهن ذلك الهمّ الآخر من أجل القريبة التي تحطم قلبها المتوجّع.

ولسنا نعرف، ولا نقدر أن نعرف، مبلغ الجهود العقيمة التي بذلت في ذلك اليوم لإبعاد مريم أم يسوع عن مشهد الصلب. فهي لم تكن يومئذ شابة في عنفوان الحياة، ولم يكن هيناً على من كان في سنها أن تقف أمام هذا المشهد الدمويّ، مشهد صلبان ثلاثة، عُلّق على أحدها ولدها وفلذة كبدها. ولا شك أن جماعة الصحابة من رجال ونساء قد أنفقوا من النصح والإقناع لإبعادها عن هذه المشهد كل ما استطاعوا. ولكن غريزة الأمومة قوية جبّارة تغالب الضعف والوهن وتستعذب الألم والضّنى، فأصرّت على أن تكون إلى جانب ولدها حتى المنتهى، ومن ذا الذي ينكر على الأم هذا الحق إذا هي ألحّت وأصرت؟

وأظنّنا لا نجد، بين غير المشتغلين بمهنة الطب، من يقدّر مدى الأخطار الجسمانية التي تعرضت لها الأم في ذلك الموقف الرهيب، ولا مبلغ الانسحاق والتصدّع الذي عاناه قلب الأمومة أمام هذا المشهد الجلل. وما أخال الأم التي اقتادها يوحنا بعد أن أسلم المصلوب روحه إلاّ امرأة خائرة القوى، محطّمة القلب، فاقدة الوعي، لا تلبث طويلاً حتى تهوي وتنهار تحت هذا العبء الذي لا يقوى عليه قلب الأم.

وكانت النسوة الثلاث على مقربة من الصليب، فلما سمعنَ الصرخة الداوية عرفن أن النهاية قد جاءت، ورأينّ يوحنا يقود الأم المحطّمة القلب وسط الجموع الواقفة. ثم إلى داخل المدينة وهو يسندها بذراعه في بطء وألم. وعندئذ يتشاور ثلاثتهن، ويقررن أن تذهب إحداهن إلى جانب الأم الثكلى، وتبقى الأخريات على مقربة من جسد الميت. وتتطوع سالومة لهذه المهمة لأن ولدها يوحنا هو الذي تولى رعاية الأم الحزينة ومرافقتها إلى داره. 

هذا هو منطق الحوادث كما أفهمه. وهو منطق سليم نستنتجه حتى ولو لم يكن في الإنجيل إي إشارة إليه. على أن رواية مرقص تجعل هذا الاستنتاج حاسماً.

ومن ثمّ نجد في أقدم بشائر الإنجيل – التي أجمعت المصادر التاريخية على قربها من زمن الحوادث – صورة رائعة للبقية الباقية من صحابة يسوع، يستجمعون فيها على الرغم من هول فاجعة الصلب، قوامهم للعمل على قدر ما تسمح به الظروف في هذه الطوارئ المفزعة – فبطرس وقد غالبه وخز الضمير والخجل من نفسه يبقى في عزلته كئيباً مهموماً، ويوحنا يتولى مع سالومة رعاية الأم المنكوبة المتفجعة التي أُوكل إليهما أمرها. ومريم المجدلية ومريم الأخرى – تعاونهما على قدر ما تسمح به الطاقة يونّا وسالومة – يتّخذان الأهبة لإعداد ما يتطلبه الموقف لتكريم جسد الميت وأداء آخر خدمة تفرضها واجبات المحبة والصداقة.

هكذا كان الموقف كما أفهمه عند غروب الشمس يوم الجمعة، أي عند بداية يوم السبت الذي تقف فيه كل الأعمال. وفيه نرى صورة بشرية تصدق على الحياة كل الصدق، وصورة يفهمها تماماً كل إنسان، بل كل امرأة خبرت شيئاً من هذا.

واضح من تسلسل الوقائع أنها وقفت وقوفاً تماماً طوال يوم السبت، وإن النسوة خلدن إلى الراحة والهدوء على أن يبدأن في صباح اليوم التالي للذهاب إلى القبر.

ومما جرت به العادة، حين يحاول امرؤ سبك حوادث قصة ما، وحبك مشاهدها، بعد مضيّ قرون طوال كما في القصة الموجزة في بيانها، أن يلجأ إلى كثير من التفاصيل الدقيقة ليكتشف مفتاح الحقائق التي تشرح الموقف كله. أما في موقفنا الحالي فالروايات ذاتها صريحة حاسمة، فالكُتاب الأربعة يشهدون أن موعد الزيارة كان عند طلوع الفجر – أي قبل أن تحين الساعة التي يصحو فيها النائمون. فيقول البشير مرقص “باكراً جداً …. إذ طلعت الشمس”. ويقول متى “عند الفجر”، ويقول لوقا “أول الفجر”، بينما يقول كاتب البشارة الرابع (ولشهادته هنا قيمتها وقدرها) “باكراً والظلام باقٍ”.

ولست أجد على الرغم مما بين هذه الأقوال من اختلاف طفيف في اللفظ من حيث طلوع الشمس أو عدم طلوعها. ما يلقي ظلاً من الشك على الحقيقة البارزة في الموضوع كله، وينبغي ألاّ نغفل أن الشمس تطلع مبكراً في مناطق العرض الجنوبية، وأن النساء يتأخرن عادة لأسباب وطوارئ غير منظورة حين يعزمن على العمل جماعات. وهنّ بلا شك قد استيقظن والظلام باقٍ ولكنهن حين وصلن إلى القبر كانت الشمس قد طلعت من وراء الأفق في الشرق. وعلى أي حال فقد أجمع الرواة في الوثائق الأربع على أن الوقت كان باكراً جداً، وبعد انتهاء السبت اليهودي.

هذا فيما يتعلق بالزمن. ولنعُد الآن إلى الأشخاص الذين تألفّ منهم الموكب. ولو أننا نضع الروايات الأربع تجاه بعضها، نراها تُجمع على شيء واحد، هو أن مريم المجدلية نهضت قبيل طلوع الشمس ومضت من فورها نحو القبر.

وهذه الحقيقة قد أثبتها بعبارة صريحة كاتب البشارة الرابعة التي نالها من النقد والتمحيص أكثر مما نال أي سفر آخر من أسفار التاريخ: “وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر والظلام باقٍ. فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه، وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه!”.

وما الذي نستنتجه من هذه العبارة؟ هل مضت مريم المجدلية وحدها إلى القبر؟ أن هذا السؤال خطير، وخليق بنا أن نفكر طويلاً قبل الإجابة عليه. فلو أن كاتب البشارة الرابعة أدرك يومئذٍ أن ملايين القراء في العصور المتعاقبة ستشغلهم مسألة النسوة اللائي ذهبن إلى القبر، ويجعلونها موضعاً للبحث والاستقراء، لكان عدّل الصيغة اللفظية لهذه العبارة بحيث تتفق الأفعال التي وردت بصيغة المفرد في أولها مع صيغة الجمع “لسنا نعلم” التي جاءت في آخرها.

وليس من عادة كاتب البشارة الرابعة أن يلجأ عمداً إلى الغموض أو الإبهام عند وصف الحقائق، بل هو على نقيض ذلك يتوخّى في بشارته أسلوباً وصفياً صريحاً لا يقل في صفاء ألفاظه وجلاء معانيه عن أرقى المؤلفات التي عرفها عالم الأدب، ويمتاز بصياغة أدبية يعبّر بها عن أدق المعاني في عبارة صافية نيّرة.

ولكنه في هذه العبارة – إما لسهو غير مقصود، أو لأن ذكر صويحبات مريم لم يكن في نظره أمراً ذا بال، لا أدري أيهما – جنح إلى شيء من الغموض، فيبدأ بوصف ذهاب مريم إلى القبر في ساعة ينقطع فيها المارة إلاّ من صويحباتها اللائي استيقظن في الصباح لمرافقتها. ثم يصفها تركض مسرعة جزعة مضطربة لتنبئ بطرس ويوحنا بما رأت. وهنا يذكر عبارة من العبارات التي تفوهت بها لاهثة: “أخذوا السيد ولسنا نعلم أين وضعوه”.

وليت شعري لماذا يثبت الكاتب العبارة بصيغة الجمع فيقول “لسنا” لو لم يكن عالماً أن مريم لم تذهب وحدها، وأنها أنبأت بما رأته أو بما لم تره مع فريق من زميلاتها! وبين بقايا المؤلفات القديمة التي تعتزُ بها المتاحف، قطعة منثورة يُقال أنه جزء من بشارة منسوبة إلى بطرس، تضمّنت بياناً يلقي نوراً شاعّاً على هذه المسألة، وذلك لأن الكاتب يجعل مريم المجدلية في مقدمة الزائرات صاحبة الفضل الأكبر، ولكنه يضيف عبارة تزيل تماماً الغموض الذي وقع فيه يوحنا فيقول الكاتب:

“باكراً في صباح يوم الرب، مضت مريم المجدلية، إحدى تلاميذ السيد إلى القبر، آخذة معها نساء من صاحباتها، وذلك لأنها خافت اليهود لشدة غضبهم، فلم تتمكن من القيام وحدها بما تفرضه التقاليد على النساء نحو الذين يموتون من أحبائهن.

وهنا صورة تمثل المشهد أصدق تمثيل: مريم المجدلية هي المحرك الأول في زيارة القبر، ولكنها تصحب معها، على الأقل للاطمئنان في تلك الساعة الباكرة، وحرصاً على الكرامة واللياقة، صديقاتها المخلصات ممن يفضلنها في نضوج السنّ وحكمة الاختبار.

وحين نعود إلى روايات البشائر الثلاث الأخرى، يأخذنا إجماعها واتفاق أقوالها من هذه الناحية، فيقول ثلاثتهم، في يقين وفي جلاء، إن مريم زوجة كلوبا ذهبت مع مريم المجدلية إلى القبر. ويقول مرقص إن سالومة رافقتهما، بينما يقول لوقا إن يونّا كانت العضو الثالث في هذه الجماعة.

وكلما دقق الباحث في دراسة الأحوال الخاصة التي أحاطت بحياة هؤلاء القوم البسطاء في تلك الساعات الخطيرة، استطاع أن يصّور لنفسه ذلك المشهد، وأن يرى، حين يعود بخيالاته إلى أورشليم في ذلك الفجر الداكن من يوم الأحد الخالد في تاريخ العصور، مريم المجدلية ومريم الأخرى، تصاحبهما سالومة أو يونّا، يخطرن متثاقلات حزينات في طرقات المدينة القديمة المظلمة في طريقهن ليقمن بالواجب الأخير نحو زعيمهن المائت.

وأنه لعلى جانب من الأهمية أن نقتنع اقتناعاً لا تشوبه ريبة، ونعرف من زار القبر قبل أي إنسان آخر في صباح الأحد، وذلك لأن النسوة حينما وصلن هناك لم يجدن الجسد موضوعاً في مكانه.

وأول ما يسترعي النظر في هذا الصدد، أن الغرض الذي مضى من أجله النسوة إلى القبر كان أمراً طبيعياً مألوفاً تفرضه العادات والعرف. وأن الساعة التي مضين فيها تتفق تماماً وهذا الغرض. ومن المسلّم به إجماعاً في الشرق أن انحلال جسد الميت يبدأ حوالي اليوم الثالث من تاريخ الوفاة. ولذلك كان لزاماً أن يقوم النسوة بالطقوس والمراسم في أقرب ساعة بعد نهاية يوم السبت اليهودي. وكانت تلك الساعة عند إشراق الشمس في صباح الأحد. وطبيعي أن يختزن ساعة مبكرة اجتناباً للتشهير. ولم يستطعن الذهاب قبل إشراق الشمس خشية الظلام، وربما لأن أبواب المدينة لم تكن تُفتح قبل هذا الميعاد.

إذن نحن أقرب ما نكون إلى الاحتمالات التاريخية الطبيعية حين نتخيل صورة النسوة الثلاث أو الأربع، سائرات في طريقهن نحو القبر في غبشة ذلك الصباح.  على أن هذه ليست الحقيقة الوحيدة التي دوّنها الإنجيل والتي رسخت رسوخ الطود في أذهان العصور المتعاقبة، وأقصد بذلك تفكير النسوة ومشغوليتهن إزاء الصعاب التي كنّ يتوقعنها في إزاحة الحجر الكبير الذي وضع على باب القبر بإجماع كل والوثائق التاريخية.

ولا شك أن مسألة إزاحة الحجر من على باب القبر شغلت أذهان النسوة وأقلقت بالهنّ طول الطريق، فإن اثنتين منهنّ على الأقل شهدتا الدفن وعرفتا الأشياء كما وقعت، فكانت الصعوبة أمامهن إزاحة ذلك الحجر الذي كان كبيراً وثقيلاً. وحين نقرأ في بشارة مرقص – وهي أقدم بشائر الإنجيل هذه الكلمات: “وكن يقُلْنَ فيما بينهن: مَن يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟” لا يسعنا الشعور إلاّ أن قلق بال أولئك النسوة من هذه الناحية لم يكن فقط ضرورة نفسية في ذلك الموقف، بل عنصراً تاريخياً تحدثنا عنه فعلاً طول الطريق إلى ساعة وصولهن إلى القبر.

ويتبين لكل من تستحثّه رغبة للوقوف على الحق التاريخي، لا مجرد تفنيد الأدلة، أن الذكريات القليلة، التي تحدّرت إلينا مما حدث فعلاً في اللحظات اللاحقة لوصولهن إلى القبر، تصور لنا اختباراً غريباً فوق المألوف. وليس الأمر هنا أن الروايات اتفقت على قول معين. فلو كانت قد اتفقت لأقبلنا نحو المشكلة من وضع آخر. ولكن الروايات لم تحاول إيجاد هذا التوافق ولم تتظاهر به، وإنْ تكن أقدم الروايات جميعاً التي سطرها مرقص معروفة قبل أن يكتب كلُّ من متى ولوقا بشارته. كما أن البشائر الأولى الثلاث كانت ملكاً مشاعاً حين وضع يوحنا بشارته الرابعة. والشيء المؤكد في هذه كلها أن النسوة حين بلغن القبر، أصابتهن صدمة عنيفة لم يكنّ متأهبات لها.

والذي اكتشفنه أن القبر قد حدث به بعض الاضطراب، وأن جسد يسوع لم يكن هناك، على عكس ما كنّ يتوقعن. ويُجْمِل لوقا البشير شهادة كُتّاب البشائر الثلاث في عبارة موجزة بقوله: “لم يجدن الجسد”. وكأنما في سبيل تأييد هذا الحديث المتواتر واثباته، يذكر يوحنا البشير في بشارته عبارة صريحة تختلف عن روايات البشائر الأخرى، ويضعها في وضع يستأثر كل قارئ مهما تكن نزعته، فيقول: “فركضت (أي مريم المجدلية) وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما: آخذوا السيد م القبر ولسنا نعلم أين وضعوه”.

ولست أريد هنا التأثير في غير ضرورة على مَن يؤثرون البشائر الثلاث القديمة الأولى على بشارة يوحنا عند البحث في حقيقة من الحقائق التاريخية. لست أريد شيئاً من هذا، ولكن لا مندوحة من القول إن هذه العبارة في المقام الذي وردت فيه، تترك عندي أبلغ أثر. وكأنني أراها سهماً من نور الشمس يشقُ طريقه في غبشة ذلك الفجر الداكن.

وما لم نعمد إلى إغفال كل ما لدينا من الوثائق والروايات الباقية على الزمن، وهو مسلك أربأ بكل قارئ منصف مدقق أن يتّخذه. فإننا مسوقون إلى أن نسلّم أن أولئك النسوة أيضاً حين بلغن القبر اصطدمن بما لم يكنّ له متأهبات، وهو أن الجسد لم يكن هناك. وأظنه أيضاً استنتاجاً معقولاً أن أقول أن هذا الكشف الذي وقف عليه النسوة قد بعث فيهن حالة من التوتر العصبي، وذلك لأنه وقع في ساعة مبكرة من الفجر، وفي ظروف مفزعة، ولعقول لم تكن متأهبة له. ويزداد فينا هذا اليقين حين نعلم أن اثنتين من النسوة قد جاوزتا سنّ الشباب.

وليس لدينا ما نستدل به على عمل يونّا، ولكن المفهوم أن مريم زوجة كلوبا وسالومة لا بد أن تكونا قد أشرفتا، إن لم يكن قد جاوزتا، العقد الخامس من العمر.

وقد يبدو لنا لأول وهلة أن هذه المسألة ليست ذات بال، ولكن لها معناها الخطير من الناحية النفسية. فأولئك النسوة قد أحسسن وفعلن ما تحسّ به وتفعله جماعة من النسوة في هذا العصر، لو أنهن فوجئن في ساعة مبكرة غير طبيعية مثل هذه، وفي مقبرة حديثة، بمظهر مثل هذا في غرابته وبُعده عن المنتظر.

وأول تأثير يبدو عليهن هو بلا شك شعور الذهول يعقبه سراعاً تفكير وتشاور عاجل فيما عسى أن يعملن. وأن كانت مريم المجدلية، كما هو المرجح، قد تبرعت وهي أصغرهن وأقواهنّ للذهاب مسرعة إلى المدينة وإخبار التلميذين بطرس ويوحنا تاركة النسوة الأخريات يسرن على مهل، إن كان هذا هو الذي حدث، وهو المرجح جداً كما قلنا، فإننا نشهد صورة تتفق تماماً والقصة التي روتها البشارة الرابعة، وفيها تعليل كافٍ لقول مريم بصيغة الجمع وبصوة لاهث متقطع: “لسنا….”

على أن هذا الاستنتاج سنوفيه حقه من البحث في فصل تالٍ، وحسبنا القول هنا أن الحقيقة الجوهرية في هذه القصة الغريبة لا تشوبها شبهة من الريب، فإن أولئك النسوة قد دبّرن القيام بخدمة لسيدهن المائت في أول ساعة من بكور النهار بعد انقضاء السبت اليهودي. وتنفيذاُ لهذا الغرض قمنَ مبكرات في صباح الأحد ومضين إلى القبر. أما الحقيقة التاريخية الهامة هنا فهي أن هذه الخدمة لم تؤدّ قط. ومهما يكن من أمر الحوادث التي وقعت في بستان القبر في صبيحة ذلك اليوم، فإن دليلاً حاسماً بين أيدينا يثبت لنا أنهن لم يجدن الجسد هناك.

فصول كتاب من دحرج الحجر

بعد ست وثلاثين ساعة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟