أبحاث

الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى
الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

لا مناص، قبل البحث في هذه الحقائق ومعانيها، ومبلغ الصدق الذي يقترن بالحلول المقترحة، من أن نكمل رسم الصورة العامة التي شُغلت بها أذهاننا حتى الآن.

رأينا في فصل سابق أن القبض على يسوع في بستان جثسيماني في ساعة متأخرة من يوم الخميس، قد أدّى إلى شطر صحابة يسوع فريقين. وقد تولينا في الفصول السابقة، وفي شيء من الإسهاب، دراسة ما حلّ بالفريق الأصغر، وهو الفريق الذي احتجز في أورشليم ذاتها. ولم نفكر إلاّ قليلاً في الفريق الأكبر الذي كان خارج أورشليم. على أن مسلك هذا الفريق من العوامل الهامة في المشكلة التي نعالجها الآن. فهل في الوثائق التي بين أيدينا ما يلقي ضوءً على هذه المسألة.

ولتبديد ما قد يعلق في الذهن من الغموض، نقول إن الغائبين فريقان. ولابد لنا من تعقّب آثارهما لمعرفة حقيقة الموقف. فهناك التلاميذ التسعة الذين قيل عنهم إنهم هربوا بعد إلقاء القبض على يسوع، ولكن هناك أيضاً الأختين مريم ومرثا وأخاهما لعازر في بيت عنيا، الذين نحسب غيابهم عن مشهد الصلب والدفن من الظواهر الغريبة الملحوظة في القصة، فالأختان قد أخلصتا الإخلاص كله ليسوع، وكان بيتهما الهادئ المريح ملاذه الوحيد حين كان يريد أن يحظى ببعض الراحة ونعومة الحياة ولين العيش.

والأرجح أنه من هذه الدار الناعمة خرج في صباح اليوم الذي كان آخر عهده بالحرية ومع ذلك فإنه بعد أن وقعت الواقعة واحتاج الموقف إلى كل ذرة من العزاء للأعوان المنكوبين، تختفي الأختان المضيافتان الكريمتان من المشهد كلية. ولا شك أن هناك تعليلاً تاريخياً قوياً يعلل هذا الاختفاء وهو ما نحاول أن نجلوه الآن.

ومن الأقضية السلمية في المنطق أن نفترض، عند حدوث ظاهرتين غير عاديتين في موقف شاذ غير مفهوم، وجود علاقة بين الظاهرتين. ولكن في الحالة التي نحن بصددها أسباباً تحملنا على الارتياب في هذا الاستنتاج المنطقي، فإنه يجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أنه في خلال الأيام الخمسة العاصفة التي سبقت القبض، كان يسوع وصحابته يبيتون في بيت عنيا.

ولطالما فكّرت: هل كانت المعدّات المنزلية في دار الأختين كافية لمبيت ثلاثة عشر شخصاً، أي يسوع وتلاميذه؟ وما أظن أن هذا كان ممكناً، وريما بات يسوع واثنان من كبار صحابته في تلك الدار، بينما اكترى الباقون مساكن مؤقتة على مقربة منهم.

وعلى أي حال فإن الدليل متوافر على أنهم باتوا جميعاً في تلك الضيعة في خلال الأسبوع، وكانوا يقطعون رحلة ثلاثة أميال يومياً في الغدو والرواح. ثم أن التلاميذ، ما عدا يهوذا الاسخريوطي الذي كان يعرف طبعاً ما تبطنه نفسه، كانوا يتوقعون العودة إلى بيت عنيا يوم الخميس ليلاً على مألوف عادتهم كل يوم.

وما من شك أنهم حاروا في تعليل هذا الإبطاء الطويل في البستان بعد فوات الميعاد الذي ألفوا العودة فيه كل يوم، وأظن أيضاً أن الأختين في بيت عنيا قد ساورهما شيء كثير من القلق بعد أن طال الإبطاء وأوشك الليل أن ينتصف.

وبهذه الحقائق المبسوطة أمامنا، لنعُد الآن إلى المشهد في بستان جثسماني: أجمعت الروايات كلها على أن الشرذمة التي أرسلت للقبض على يسوع كان عددها كثيراً، بحيث لم يكن ميسوراً ان يسير الكل في عرض الطريق في جهة واحدة. وحتى في الطريق العريض الواسع الممتد من باب المدينة إلى نقطة تقاطع طريق بيت عنيا مع طريق جبل الزيتون، لا بدّ أنهم ساروا في صفّ طويل امتد حوالي عشرين متراً على طول الطريق. وحريٌّ بنا أن نفكر في ذلك المزيج الغريب من الرجال الثائرين.

وإنّي أتصورهم يتباعدون بعضهم عن بعض في خطوط منتظمة حين يبلغون مدخل البستان أما حملة المشاعل وفي وسطهم يهوذا فأخالهم قد أقبلوا في المقدمة يحفظهم حرس الهيكل، ثم يليهم “شهود” من شذاذ الناس وأفّاكيهم ممن التفوا حول هذه الجماعة من سكان المدينة.

ولا شك ان القبض قد تمّ مباشرة بعد أن دلّهم يهوذا على شخصية يسوع، ومن المحتمل أن يكون بطرس قد ضرب عبد رئيس الكهنة قبل أن تُطبق عليهم مؤخرة الشرذمة المكلفة بالقبض، وقبل أن يعلم حقيقة ما هناك. ومن المحتمل أنه كان هناك أيضاً صراخ وجلبة حين أوثق جنود السنهدريم يدي يسوع وراء ظهره، وأضواء المشاعل المرتفعة تتراقص من خلال أوراق الشجر. وفي هذه الفترة أطبق الباقون من رجال الجند على الفئة القليلة التي بقيت ملتفة حول يسوع.

وليس غرضنا الآن أن نبحث كيف افترق بطرس ويوحنا عن رفاقهما ودخلا المدينة دون أن يعرفهما أحد. والذي نرجحه أن بطرس كان واقفاً إلى جانب يسوع. وما أخذت الجموع تحيط بهم، أطبق على بطرس ويوحنا وسط الزحام فلم يستطيعا الإفلات خشية أن يُفضح أمرهما.

وفي وسط النور الخافت المنبعث من المصابيح المتراقصة، رأي كلاهما أنه من الفطنة، وربما من الضرورة أيضاً، أن يمضيا مع الجماهير واثقين أنه ليس من العسير الولوج من أبواب المدينة في وسط هذا المزيج الغريب من شذاذ الناس. ولا يقدر الفكر أن يتصور غير هذه الوسيلة العريضة ليعلل بها مغامرة التلميذين في الدخول إلى المدينة بعيدين عن أعين الرقباء.

وإذا كان هذا هو الذي وقع فعلاً، فهو يشرح لنا بعض الوقائع التي شهدناها في أورشليم في صباح اليوم التالي لهذا الحادث.

على أن اهتمامنا في الآونة الحاضرة منصرف إلى التلاميذ التسعة الآخرين. وقبل أن نفكر في احتمال فرار هؤلاء الرجال إلى الجليل كما يزعم الدكتور “ليك” في نظرية سنتولاّها بالتفنيد فيما بعد، قبل أن نفكر في هذا الاحتمال، ينبغي أن نلقي نظرة فاحصة على الموقف الذي كان فيه أولئك التلاميذ.

والناس يأخذهم الذعر والفزع عادة حينما يحسون باقتراب مصيبة توشك أن تدهمهم قبل أن يُتاح لهم الوقت الكافي للتفكير الهادئ أو ابتكار أساليب النجاة. وفي هذه الحالة دهمهم الخطر وهم في غفلة، وما كانوا ليستطيعوا أن يركضوا بضعة أمتار بين الأشجار قبل أن تدركهم حقائق الحال، فيعلموا ما كانوا يجهلون.

وإذا كان بستان جثسيماني يقع في المكان الذي أشارت إليه التقاليد، فهو في سفح جبل الزيتون ولا بد أن الذين ألقوا القبض على يسوع. أقبلوا إليه من بابٍ على مقربة من طريق أريحا. فكل من يريد الهرب والإفلات من عيون الرقباء، عليه أن يتخذ طريقاً معاكساً للطريق الذي جاء منه المأمورون بالقبض على المتهم – أي الطريق الممتد على منحدر جبل الزيتون إلى ضيعة بيت عنيا. وكل خطوة يخطوها الهارب تُصعده إلى فوق وتجعله في وضع أفضل بالنسبة لمن في البستان تحته.

ومن حُسن حظ التلاميذ أن علائم الخطر كانت واضحة لهم، فإنْ سعى أحد وراءهم للقبض عليهم، كانت المصابيح المتراقصة بين الأشجار خير دليل لهم على اجتناب الخطر. وقد كان التلاميذ فعلاً في وضع موفّق من هذه الناحية، فما كان عليهم إلاّ أن يراقبوا نوراً مقترباً نحوهم، ويحاولوا الابتعاد عنه.

ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. فإن المأمورين بالقبض على المتهم نزلوا إلى أورشليم بعد دقائق قلال. ولحظ التلاميذ من بعيد أنوار المصابيح وهي تتلوى في الطرقات المؤدية إلى مدخل المدينة، وباختفاء هذه الأنوار زال الخطر المباشر على التلاميذ في تلك الليلة، وما توقعوا حدوث شيء ذي بال قبل طلوع النهار.

هذا هو التعليل المنطقي المعقول للمسألة. وإذ أُمهل التلاميذ على هذا النحو، فماذا عسى أن تكون حالتهم النفسية في ذلك الموقف؟ وماذا هم فاعلون؟ وأي الحلول يستنبطون؟

لن يقدر أحد على الإجابة عن هذه الأسئلة في يقين تام. على أننا نستطيع المجازفة ببعض التخمينات، التي نصحّحها بملاحظاتنا فيما بعد. ويُخيّل إليَّ أنه إذا كان التلاميذ قد توقفوا هنا ليفكروا في الموقف، فإن ثمة حقيقة رهيبة تبدّت لهم في ملء روعتها – أعني بها غياب بطرس ويوحنا. وأظنهم يذهبون إلى أسوأ الفروض والمظان، ولا أعتقد أنهم عرفوا أو فكروا في الظروف التي بها استطاعا أن ينفذا إلى داخل المدينة.

وما من شك أنهم توجسوا خيفة على زميليهما، وربما استنتجوا أنه قد أُلقي القبض عليهما، وأن تقهقرهم السريع في ساعة الخطر الداهم قد أنقذتهم من مصير كمصير الزميلين.

وأحسب تفكيراً كهذا قد منعهم من محاولة دخول المدينة. ومن الناحية الأخرى لو كان بطرس ويوحنا قد وقعا في القبض (كما افترض التلاميذ)، فإن موقف النسوة يسوء إلى أقصى حدّ ويتعرضن إلى عداء الكهنة الأهوج وإلى غضبة الدهماء الجنونية. هذه نقطة لابد من إدخالها في نطاق البحث. ولسنا نقدر على الذهاب إلى أبعد من هذا في الحدس والتخمين، فلا مناص من أن نترك التلاميذ التسعة المفقودين فوق تلّة جبل الزيتون، ونسلّم أن ليس لدينا من البينات ما يشرح لنا ما حدث لهم بعد ذلك.

ولكن يبقى علينا أن نشرح الحقيقة الغامضة الأخرى – وأعني بها اختفاء مريم ومرثا من القصة كلها. فهل بين اختفاء الأختين واختفاء التلاميذ التسعة علاقة؟ وهل يمكن تعليل الأمرين بأسباب واحدة. وما هي الظروف التي نشأ عنها غياب الأختين من أورشليم في تلك الساعات الرهيبة السابقة واللاحقة للصلب؟ وكيف تغيب الأختان بما عُهد فيهما من إخلاص ووفاء، بينما تُظهر النساء الأخريات عظيم الاهتمام بالأمر كله؟

وعندنا أن أشعة من النور تسطع على هذه المشكلة حين نفطن إلى موقع بيت عنيا الدقيق، فقد كانت تلك الضيعة الصغيرة الجاثمة على أكتاف جبل الزيتون، الرقيب الحارس على أورشليم في طريق أريحا. فكان لزاماً على كل آتٍ من الشمال، من الطريق الشرقي الذي يعبر وادي الأردن ويتسلق الهوة العميقة عند أريحا التي خلّدها المسيح في مثل السامري الصالح – أن يمر على بيت عنيا. كذلك يمرّ عليها كل قادم من أورشليم من الطريق العكسي إلى جهة الشمال.

ولهذه الحقيقة آثار بارزة في المشكلة التي نحن بصددها، فإذا سلّما أن التلاميذ التسعة انطلقوا إلى الجليل. فالأرجح أنهم جازوا على مقربة من بيت مريم ومرثا في بيت عنيا، الذي اختاروه، أو غير ملاصقاً له، مقاماً لهم في الأيام الخمسة الماضية. فإذا افترضنا أنهم ساروا إلى هذا الاتجاه تحت جنح الظلام كي لا يراهم أحد. أفلا يجوز لنا أن نزعم أنهم نقلوا الأنباء المزعجة إلى الأختين والتمسوا عندهما النصح المشورة؟

وهناك أسباب أخرى ترجح ذهاب التلاميذ إلى بيت عنيا.

1 – كانت بعض متعلّقاتهم وحاجاتهم في المقام المؤقت الذي اتخذوه في بيت عنيا (وطبيعي أنهم لا يسافرون إلى الجليل بدون أن يتزّودوا ببعض هذه الحاجات).

2 – كانت مريم ومرثا من أخلص صحابة يسوع، فكان على التلاميذ الفارّين أن ينذروهما بما تطورت إليه الحوادث، ليتدبرا هما أيضاً للهرب، إذا لم يكن منه بدُّ.

3 – وإذا كان النسوة في أورشليم قد عرفن أيضاً ما آلت إليه الحوادث ورأين من الحكمة الهرب من أورشليم، فإنهن يهربن على الأرجح إلى بيت عنيا.

ومن ثمّ نرى موقع بيت عنيا الممتاز يجعلها الهدف الأول الذي يتجه إليه التلاميذ بحكم غرائزهم.

وسواء اقتنعنا أن التلاميذ التسعة انطلقوا حالاً إلى الجليل، أو أنهم كانوا من طراز الرجال الأشداء المجازفين الذين لا يتقاعسون عن السعي لإنقاذ النسوة اللواتي كنّ من تلاميذ يسوع، أو أنهم لاذوا تعابى مذعورين إلى أقرب مأمن لهم سواء أخذنا بهذا أو بذاك، فإنه لا مندوحة من أن يمضي التلاميذ إلى بيت عنيا أولاً على أي حال.

الآن لنلقِ نظرة على ساكني بيت عنيا أنفسهم، نفهم مما جاء في بشائر الإنجيل أن الأختين كانتا تنتظران عودة يسوع مساء الخميس. وإذ تنقضي الساعات الطوال دون أن يعود، يتولاهما الجزع والفزع. ولم كانت الليلة قد تقضّت دون أن يبلغهما نبأ عنه، لكانت ذهبت إحداهما إلى أورشليم في صباح اليوم التالي وتمّ الاتصال بين الفريقين. وفي هذه الحالة كنّا نسمع عن مريم أو مرثا (أو عن كلتيهما) وكنا نراهما عند الصلب والدفن.

أما رواية الإنجيل فقد صمتت صمتاً عميقاً عن ذكر شيء من هذه الناحية. وإن في صمت الروايات وامتناعها عن الإشارة إلى أختي بيت عنيا، لا سيما فيما يتعلق بما دبّره النساء من زيارة القبر، ما يدعو إلى الدهشة والتفكير. الذي نستخلصه من هذا هو إما أن الأحوال في بيت عنيا قد قطعت عنهما أنباء هذه المأساة التي وقعت، وإما أنهما امتنعتا لأسباب قاهرة عن الانضمام إلى فئة الصحابة داخل أسوار أورشليم.

الفرض الأخير أقرب إلى الاحتمال، بل قد نحسُّ بين ثنايا روايات الإنجيل ونبراتها ما يؤيد هذا الفرض. وإن كان قد ذهب اثنان أو ثلاثة من التلاميذ الحيارى المذعورين يتخبّطون في ظلام تلك الليلة إلى الدار الصغيرة في بيت عنيا، أفلا نستطيع أن نصّور لأنفسنا حقيقة ما حدث هناك؟

وهنا ينبغي أن نُدخل في حسابنا مبلغ الاضطراب والتوتر الذي أصاب أعصاب أولئك التلاميذ. فإن يسوع قد قبض عليه شرذمة من جند الهيكل بأمر رؤساء الكهنة. كذلك أُلقي القبض على بطرس ويوحنا (في رأيهم). ودلّ الهجوم من جانب المعتدين على عداء شديد ونقمة صارخة – كل هذا يرويه التلاميذ الهاربون دون إخفاء لحقيقة ما تضمره الساعة.

ثم أن النساء بطبيعتهن شديدات الحساسية والتأثر، وهنّ إذ يجهلن حقيقة الموقف يصورن لأنفسهن الحقاسق بلون قاتم أسود، ويتلفتن يمنة ويسرة، فإذا المستقبل مفعم بالخطر المدلّهم والخطب القريب. ويسألن عما عساه أن يكون حادثاً وراء أسوار أورشليم: لعلّ الخائن يهوذا يعدّ فرقة أخرى لموالاة القبض على الباقين من الأتباع في اليوم التالي. وإذا نشطت حركة التعقب والمطاردة في الأودية بجبل الزيتون، فلا يمكن أن تفلت بيت عنيا من هذا الخطر. ولعلّهم يقبضون على الأختين أيضاً لما لهما من صلة بزعيم هذه الفئة من الناس.

هذه كلها خواطر دارت بعقولهم وأفكارهم. ولكن هناك اعتبارات أخرى: إن أمهات ثلاثة من أولئك التلاميذ التسعة باقيات في أورشليم عرضة للمخاطر والطوارئ. فهل يُحذّرن قبل حلول الخطر بوقت كافٍ؟ إن صحّ هذا فقد يأتين سراعاً ويقرعن على باب الدار الصغيرة في بيت عنيا في أية لحظة.

والذي نعلمه من التاريخ أن المواقف داخل أسوار المدينة لم يكن كما تصّوره أهل بيت عنيا. ونعلم ان بطري ويوحنا لم يقبض عليهما. وأن الكهنة وقد نالوا مأربهم بالقبض على يسوع لم يطاردوا أحداً سواه. ولكن هرب التلاميذ في هلع وذعر إلى بيت عنيا، إما كمرحلة أولى في طريقهم إلى الجليل، أو لأنهم حسبوها الملاذ الأمين ولو إلى حين – يجعل الجّو النفسي في تلك الضيعة أقرب ما يكون إلى الصورة التي رسمناها الآن.

وما من شك أن الأوهام والشكوك والمخاوف قد سادت كل فرد يمتّ بصلة إلى يسوع. ثم يشرق في صباح اليوم التالي، فما هو بأمثل من الليلة الفائتة – بل على نقيض ذلك تزداد الشدة ويتحرج الموقف، فقد يقع أي حادث وفي أية لحظة. توقع أهل بيت عنيا أسوأ ما يتوقعه إنسان في مثل هذه الظروف.

ومن الغريب حقاً أن نفكر في حال تلك الفئة المستضعفة تعاني في ضيعة بيت عنيا أمرّ صنوف الوهم والخوف بينما كان يسوع في أورشليم يجوز محاكمته مرحلة بعد مرحلة، وبينما كان أعداؤهم المزعومون الذين خشوا بطشهم يتابعون أغراضاً أخرى.

ومن الغريب أيضاً أن نفكر أنه بحكم طبائع الأشياء، كان مفروضاً أن تنقطع عنهم كل الأخبار. ففي الأحوال العادية كانت حركة المرور دائمة بين أورشليم وبيت عنيا، فتنقل أخبار العاصمة إلى تلك الضيعة في مدى ساعتين أو ثلاث.

ولكن إعدام أكبر معلم دينن عَهدتْهُ المدينة في تاريخها الحديث قد أحدث أثره في عواطف الشعب وأحاسيسه. وانساق الناس، كما يفعل المغناطيس، إلى دار الولاية الرومانية وإلى طريق الجلجثة. وتزاحم الجماهير لمشاهدة هذه الحوادث في أورشليم يوقف بطبيعة الحال حركة المرور بين أورشليم وبيت عنيا مؤقتاً.

وأغلب الظن أن أنباء حوادث أورشليم لم تُذع في القرى المجاورة إلا بعد تلك الصرخة الداوية التي صعدت من قلب المصلوب وعودة المشاهدين إلى بيوتهم في القرى، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب واقترب السبت اليهودي.

هذا هو الموقف كما أتصوره في تلك الساعات الرهيبة المضطربة التي عانى فيها يسوع هول الموت، وهو موقف ينسجم مع روايات الإنجيل، ويلقي بعض الضوء على الحوادث التي تبدو لنا غامضة عسرة. وأنا أقدّم هذا الايضاح في كثير من التحفظ والتوقير كحلّ أراه كفيلاً بإزاحة أسباب الغموض التي تكتنف الموقف.

فصول كتاب من دحرج الحجر

الأختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !