أبحاث

حقيقة القانون – سي إس لويس

حقيقة القانون - سي إس لويس

حقيقة القانون – سي إس لويس

حقيقة القانون - سي إس لويس
حقيقة القانون – سي إس لويس

حقيقة القانون – سي إس لويس

 

هذه المقالة هي جزء من كتاب “المسيحية المجردة” لسي أس لويس، ولقراءة كل مقالات الكتاب مفرغة على موقع فريق اللاهوت الدفاعي فإضغط هنا:http://goo.gl/hy23Rm ولقراءة المقالة السابقة إضغط هنا: http://www.difa3iat.com/31115.html

أعود الآن إلى ما قلته في ختام الفصل الأول، من أن الجنس البشري ينفرد بأمرين غريبين. أولهما أن البشر تنتابهم الفكرة المختصة بنوع من السلوك ينبغي لهم أن يمارسوه، وهو ما يمكنك أن تُسميه العدل أو الإنصاف، أو سلامة التصرف، أو الأخلاقيات، أو قانون الطبيعة. والثاني أنهم في الواقع لا يعملون بمقتضى ذلك. وربما يتساءل بعضٌ منكم عن سبب نعت هذين الأمرين بأنهما غريبان. فقد يبدو ذلك لكم أنه الأمر الأكثر طبيعة في الدنيا. وربما خيل إليكم على الخصوص أنني كنت اميل إلى القسوة في حكمي على الجنس البشري.

ثم إنكم قد تقولون إن ما أدعوه نقضاً لقانون الطبيعة بشأن الصواب والخطأ لا يعني سوى أن الناس غير كاملين. ولأي سبب في الدنيا ينبغي لي أن أتوقع منهم أن يكونوا كاملين؟ كان من شأن ذلك أن يكون رداً جيداً لو أن ما كنت أسعى للقيام به كان تعيين المقدار الصحيح من اللوم الواجب علينا لعدم تصرفنا كما نتوقع من الغير أن يتصرفوا. ولكن ليس هذا شأني على الإطلاق. فأنا غير معني الآن باللوم، بل إنما أسعى لتبين الحق. ومن وجهة النظر هذه، فإن فكرة كون أمر ما غير كامل، أي عدم كونه كما ينبغي أن يكون، فكرة تترتب عليها بحد ذاتها عواقب معينة.

فإذا أخذت مثلاً شيئاً مثل الحجر أو الشجرة، تجد أنه هو ما هو، ولا يبدو أي معنى لقولك إنه كان ينبغي أن يكون غير ذلك. يمكنك طبعاً أن تقول عن حجر ما إنه “ذو شكل غير صحيح” إذا أردت أن تستخدمه لسد ثغرة معينة؛ أو عن شجرة ما أنها رديئة لأنها لا تُعطيك مقدار الظل الذي تنشده.

ولكن كل ما تعنيه إن ذلك الحجر أو تلك الشجرة لا يصدف أنهما ملائمان لغرض ما من أغراضك. فأنت لا تلومهما على ذلك، إلا إذا كنت مازحاً. وفي علمك حقاً أن الشجرة، بوجود الطقس والتربة عينهما، ما كان ممكناً أن تكون مختلفة قطعاً. فتلك التي ندعوها نحن شجرة “رديئة” من وجهة نظرنا، إنما هي خاضعة لقوانين طبيعتها، شأنها شأن الشجرة “الجيدة” تماماً.

والآن، هل لاحظت ما يترتب على ذلك؟ يترتب عليه أن ما ندعوه عادة قوانين الطبيعة، كطريقة تأثير الطقس في شجرة مثلاً، ربما لا يكون قوانين بالمعنى الحصري، بل بمعنى مجازي فقط. وعندما تقول إن الحجارة الساقطة تخضع دائماً لقانون الجاذبية، أفلا يكون هذا شبيهاً إلى حد بعيد بقولك إن ذلك القانون يعني فقط “ما تفعله الحجارة دائماً”؟ فأنت لا تعتقد فعلاً أن الحجر عند إفلاتنا له يتذكر فجأة أنه تحت أوامر بأن يسقط إلى الأرض. ولكنك إنما تعني بالحقيقة أنه يسقط فعلاً. بعبارة أخرى، لا يمكنك أن تتيقن بوجود شيء ما، فضلاً عن الحقائق الواقعة ذاتها، قانون ما بشأن ما ينبغي أن يحدث، بمعزل عما يحدث فعلاً.

فقوانين الطبيعة، كما تنطبق على الحجارة أو الشجرة، قد تعني فقط “ما تفعله الطبيعة في الواقع”. ولكن عندما تتوجه إلى قانون الطبيعة الإنسانية، قانون السلوك الحميد، تجده قضية مختلفة. فذلك القانون، بكل يقين، لا يعني “ما تفعله الكائنات البشرية فعلاً”؛ لأنه كما سبق أن قلت: إن كثيرين من البشر لا يخضعون لهذا القانون أبداً، وليس أحدٌ منهم يخضع له خضوعاً كلياً. إن قانون الجاذبية يُفيدك بما تفعله الحجارة إذا أسقطتها، ولكن قانون الطبيعة الإنسانية يقول لك ما ينبغي للبشر أن يفعلوه، إلا أنهم لا يفعلونه.

بكلمات أخرى، عندما تكون بصدد التعامل مع كائنات بشرية، يتدخل شيء آخر فضلاً عن الحقائق الواقعة وبمعزل عنها. فلديك الوقائع (كيف يتصرف الناس فعلاً)، ولديك أيضاً شيء آخر (كيف كان ينبغي لهم أن يتصرفوا). وفي باقي الكون كله، لا داعي لوجود ما يتعدى الوقائع. فالالكترونات والجُزيئات تتصرف بطريقة معينة، وتترتب على ذلك نتائج معينة، وقد تكون تلك هي القصة كلها. (لا أعتقد أن تلك هي القصة كلها، كما سترى لاحقاً. أعني أنه فيما يتعلق بموضوعنا، كما برهنا إلى الآن، يمكن أن تكون) غير أن البشر يتصرفون بطريقة معينة؛ إنما ليست هذه هي القصة كلها، لأنك كل حين تعلم أنه ينبغي أن يتصرفوا بطريقة أخرى.

وفي الواقع أن هذا الأمر غريب للغاية بحيث يغري المرء بأن يحاول تفسيره في سبيل التخلص منه. فقد نحاول مثلاً أن نبيّن أنك عندما تقول عن إنسان إنه كان ينبغي له ألا يتصرف مثلما يتصرف فإنما تعني ما تعنيه تماماً حين تقول عن حجر إنه ذو شكل غلط، أي أن ما يفعله ذلك الإنسان يصدف أن يكون غير ملائم لك. غير أن ذلك غير صحيح تماماً. فإن رجلاً يحتل المقعد القريب من النافذة في القطار لأنه وصل إليه قبل، ورجلاً انسل إليه فيما أنا دائر ظهري وأزاح حقيبتي ولكني منعته، كلاهما يتصرفان تصرفاً لا يلائمني على السواء، إلا أنني ألوم الرجل الثاني ولا ألوم الأول.

فأنا لا أغضب على رجل يُزاحمني بالصدفة…. إلا هنيهة على الأرجح قبل أن يعود إلى رُشدي. ولكنني أغضب على رجل يحول أن يزاحمني متعمداً حتى لو لم يوفق. غير أن الأول آذاني، على خلاف الثاني. وأحياناً لا يكون التصرف الذي أدعوه سيئاً مزعجاً لي إطلاقاً، بل على العكس تماماً. ففي الحرب، قد يجني كلا الجانبين نفعاً جزيلاً من وجود خائن في الجانب الآخر. ولكن رغم استخدامها له وإعطائه أجرته، يعدانه آفة بشرية. وهكذا لا يمكنك أن تقول إن ما ندعوه سلوكاً شريفاً لدى الآخرين هو ببساطة ذلك الذي يصدف أن يكون نافعاً لنا.

وفيما خص السلوك الشريف لدينا نحن، أظن من الواضح تماماً أنه لا يعني السلوك المُجدي أو المُخزي. إنه يعني أموراً مثل القناعة بجنية واحد حين يمكن أن تحصل خمسة، وتأدية امتحانك المدرسي باستقامة حين يسهل عليك أن تغش، وترك امرأة وشأنها حين يتيسر لك أن تواقعها بالحرام، والبقاء في أمكنة خطرة حين يُتاح لك الذهاب إلى مكان آمن، والوفاء بوعود تؤثِر ألا تفي بها، وقول الحق حين يجعلك تبدو مغفلاً.

يقول بعض الناس إنه رغم كون السلوك اللائق لا يعني ما ينفع كل شخص بمفرده في لحظة معينة، فهو يعني ما ينفع الجنس البشري ككل، وإنه تالياً لا يحيط به أي لغز أو غموض. وبعد، أفليس لدى الكائنات البشرية حس ما، إذ إنهم يدركون أك لا تستطيع أن تحوز أية سلامة أو سعادة حقيقة إلا في مجتمع يتصرف فيه الجميع بإنصاف، ولأنهم يدركون ذلك فهم يحاولون أن يسلكوا بلياقة؟ والآن، صحيح بالطبع أن السلامة والسعادة لا يمكن أن تأتيا إلا من أفراد وفئات وأمم يعامل بعضها بعضاً بالاستقامة والعدي والمودة. فهذه حقيقة من أهم الحقائق في العالم.

لكنها كتفسير لسبب شعورنا المألوف من جهة الصواب والخطأ لا تُصيب الهدف. فإذا سألنا: “لماذا ينبغي لي أن أكون غير أناني؟” وأجبتم: “لأن هذا خير للمجتمع”، يمكن عندئذ أن نسأل: “ولماذا ينبغي أن يعنيني ما هو خير للمجتمع إلا حين يصدف أنه ينفعني أنا شخصياً؟” وعندئذ تُضطرون إلى القول: “لأنه ينبغي لك أن تكون غير أناني!” وهذا إنما يُرجعنا إلى النقطة التي منها انطلقنا. إنكم تقولون ما هو صحيح، ولكنكم لا تتقدمون إلى أبعد من ذلك أبداً. فإذا سأل سائل عن الغرض من لعبة كرة القدم، لا يكون كثير من الصحة في القول: “لأجل تسجيل أهداف”، لأن محاولة تسجيل الأهداف هي اللعبة بعينها وليست علّة اللعبة.

ويكن مؤدّى قولك بالحقيقة أن كرة القدم هي كرة القدم: وهذا أمر صحيح، إلا أنه لا يستحق أن يقال. وبالطريقة عينها، إذا سأل سائل عن مغزى السلوك بلياقة، فغير مُفيد أن تُجيب: “في سبيل منفعة المجتمع،” لأن محاولة نفع المجتمع (أي الناس الآخرين) هي أحد مقومات السلوك القويم. فيكون كل ما أنت قائله بالحقيقة أن السلوك القويم هو السلوك القويم. وهذا يعادل العبارة: “ينبغي للناس أن يكونوا غير أنانيين”.

وهنا أنا أتوقف فعلاً. ينبغي للناس أن يكونوا غير أنانيين، وأن يكونوا مُنصفين. ليس أن الناس غير أنانيين، ولا أنهم يحبون أن يكونوا غير أنانيين، بل أنه ينبغي لهم أن يكونوا كذلك. فالقانون الخلقي، أو قانون الطبيعة الإنسانية، ليس مجرد حقيقة واقعة بشأن السلوك البشري، مثله مثل قانون الجاذبية، أو ربما مجرد حقيقة تخص كيفية تصرف الأشياء الثقيلة. ومن جهة أخرى، ليس هو مجرد تخيل، لأننا لا نستطيع التخلص من هذا المفهوم. ولو تخلصنا منه، لتقلص معظم ما نقوله ونفكر فيه بشأن الناس وصار عديم المعنى.

وليس هو مجرد تعبير عن الكيفية التي ينبغي لنا أن نريد من الناس التصرف بها لأجل خيرنا وملاءمتنا، لأن السلوك الذي ندعوه سيئاً أو مجحفاً ليس هو تماماً السلوك الذي نجده غير ملائم، بل إنه قد يكون عكس ذلك أيضاً، وتاليا، فإن قاعدة الصواب والخطأ هذه، أو قانون الطبيعة الإنسانية، أو ما شئت أن تسميه، لا بد أن يكون، بطريقة أو بأخرى، شيئاً حقيقياً: شيئاً موجوداً بالفعل، لا شيئاً صنعناه نحن أنفسنا.

ومع ذلك فليس هو حقيقة واقعة بمعنى الكلمة المألوف، أي مثلما سلوكنا الفعلي حقيقة واقعة. ويكاد يبدو كما لو أننا سنُضطر إلى الاعتراف بوجود أكثر من نوع حقيقة واحد، وأنه في هذه الحالة بعينها يوحد شيء ما، فضلاً عن الوقائع المعهودة فيما يتعلق بسلوك البشر وبمعزل عنها، إلا أنه مع ذلك حقيقي بل تأكيد، ألا وهو قانون حقيقي لم يصنعه أيّ منا ولكننا نجده ملحاً علينا.

وإلى المقال التالي: ما يكمن وراء القانون – سي إس لويس

حقيقة القانون – سي إس لويس