أبحاث

الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس

الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس

الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس

الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس
الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس

الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس

قلت إنه لا يمكن أن نقيم مجتمعاً مسيحياً أبداً إلا إذا صار معظمنا أفراداً مسيحيين بالحق. ولا يعني هذا بالطبع أنه يمكننا أن نؤجل القيام بأي تحرك بشأن المجتمع قبل تاريخ وهمي نحدده في المستقبل البعيد. إنما يعني أنه يجب أن نباشر عملين معاً في الحال: أولهما أن نتبين كيف تطبيق المبدأ “عامل كما تحب أن تعامل” مُفصلاً في المجتمع الحديث؛ وثانيهما صيرورتنا أُناساً من النوع الذي يُبادر إلى تطبيق هذا المبدأ إذا عرف كيف يفعل ذلك. وأود الآن أن أباشر النظر في ماهية الفكرة المسيحية بشأن الإنسان الصالح، أي التوصيف المسيحي للمكنة البشرية.

ولكن قبل الدخول في التفاصيل، أرغب في توضيح نقطتين أكثر عمومية. أولاً، بما أن الأخلاقيات المسيحية تقول بأنها سبيل عملي لإصلاح المكنة البشرية، أظن أنك تود أن تعرف كيف تتصل بتقنية أخرى يبدو أنها تقول بمثل ذلك، ألا وهي طريقة التحليل النفسي.

فالآن لا بد لك من أن تميّز بوضوح جليّ بين أمرين: بين النظريات والتقنية الطبية الفعلية التي يعتمدها المحللون النفسيون، وبين النظرة الفلسفية العامة للعالم التي مضى فرويد وآخرون غيره قُدماً ليُضيفوها إلى تلك. والأمر الثاني، أي فلسفة فرويد، مناقض مباشرة لآراء يونغ، عالم النفس الكبير الآخر. ثم أن فرويد، عندما يتكلم عن كيفية شفاء العصابيين، يتحدث حديث اختصاصي في موضوعه، ولكنه حين يمضي ليتكلم في الفلسفة العامة فهو إنما يتحدث حديث هاوٍ غير خبير. وعليه، فمن المنطقي تماماً أن نصغي إليه باحترام في الحالة الأولى وليس في الثانية، وذلك هو ما أفعله أنا.

وأجدني أكثر استعداداً لفعل ذلك لأني لمستُ أنه يتكلم في غير موضوعه، وفي موضوع أُلم به بعض الإلمام (اللغة تحديداً)، فهو جاهل جداً، غير أن التحليل النفسي بحد ذاته، بمعزل عن جميع الإضافات الت زادها عليه فرويد وآخرون، ليس مناقضاً للمسيحية أبداً. فإن تقنيته تتوافق مع الأخلاق المسيحية في بعض النقاط، وليس أمراً سيئاً أن يعرف المرء شيئاً عنها. غير أنها لا تسير معها طول الطريق. لأن كلنا التقنيتين تؤدي بالأحرى عملاً مختلفاً عن عمل الأخرى.

عندما يقوم المرء باعتماد خيار خُلقي، يشتمل ذلك على أمرين: أحدهما فعل الاختيار، والآخر هو مختلف المشاعر والحوافز ونحوها مما تمده به تركيبته السيكولوجية، والتي هي جميعاً المادة الخامة التي يتكون خياره منها. وهذه المادة الخام قد تكون على نوعين. فإما أن تكون ما يمكن أن ندعوها سوية، إذ قد تتكون من صنف المشاعر المشتركة بين جميع البشر؛ وإما أن تتكون من مشاعر غير سوية إلى حد بعيد من جراء أمور تعطلت أو فسدت فيما دون وعيه.

وعليه، فالخوف من الأشياء الخطرة حقاً يمكن أن يكون مثلاً على النوع الأول، والخوف غير المنطقي من القطط أو العناكب يمكن أن يكون مثلاً على النوع الثاني. ومن شأن اشتهاء الرجل للمرأة أن يكون من النوع الأول، فيما يكون اشتهاء الرجل للرجل شذوذاً، من النوع الثاني. فما يتولى المحللون النفسيون القيام به هو إزالة المشاعر غير السوية، أي تزويد الإنسان بمادة خام فُضلى لأفعال اختياره. أما الأخلاق فمعنية بأفعال الاختيار عينها.

ولنعبر عن ذلك بطريقة أخرى. تصور ثلاثة رجال يذهبون إلى حرب ما. أحدهم لديه الخوف الطبيعي المعتاد من الخطر، شأنه شأن أي إنسان آخر، ولكنه يقمع خوفه بمجهود خُلقي ويصير رجلاً شجاعاً. ولنفترض أنه لدي الآخرين، من جراء أمور معين فيما دون وعيهما، مخاوف غير منطقية مبالغاً فيها، لا يمكن لأي مقدار من المجهود الخلقي أن يفعل شيئاً بشأنها، ولنفترض الآن أن محللاً نفسياً يتدخل ويشفي هذه الرجلين، أي يردّهما كليهما إلى موقع الرجل الأول.

فعندئذ تماماً تنتهي المشكلة المتعلقة بالتحليل النفسي وتبدأ المشكلة الخُلقي: لأن هذه الرجلين، وقد شفيا الآن، قد يسلكان سبيلين متفاوتين. فقد يقول الأول: “الحمد لله على كوني قد تخلصت من جميع تلك الهواجس والوساوس! فالآن أخيراً أستطيع أن أقوم بما كنت أرغب دائماً بأن أقوم به واجبي تجاه وطني”. ولكن الآخر قد يقول: “حسناً، أنا مسرور جداً الآن لأنيي أشعر برباطة الجأش على نحو معتدل تحت النيران، ولكن ذلك بالطبع لا يُبدل شيئاً من حقيقة كوني ما زلت عاقد العزم تماماً على الاهتمام بالأمر الأهم، تاركاً الرجل الآخر يوجه الخطر كلما استطعت ذلك.

وبالحقيقة إن واحداً من الأمور الحسنة في الشعور بمقدار من الخوف أقل هو أنه يمكنني الآن أن أعتني بنفسي بطريقة أكثر فعالية للغاية، ويمكنني أن أكون أذكى بكثير في إخفاء الحقيقة عن الآخرين” ففي الواقع أن الفارق خُلقي محض، ولا يستطيع التحليل النفسي فعل شيء بشأنه. فمهما حسّنت كثيراً مادة الرجل الخام، يبقى لديك بعد شيء أخر: خيار الرجل الحقيقي، على أساس المادة المقدمة إليه، إما أن يضع مصلحته الشخصية أولاً، وإما أن يضعها أخيراً. وهذا الخيار الحر هو الأمر الوحيد الذي تُعنى به الأخلاق.

وليست المادة السيكولوجية السيئة خطية، بل هي مرض. فلا يحتاج المرء لأن يتوب عنها، بل يحتاج لأن يُشفى منها. وبالمناسبة، هذا أمر مهم جداً. فالبشر يدينون بعضهم بعضاً على أساس الأفعال الظاهرة. أما الله فيدينهم على أساس خياراتهم الخُلقية. فإذا أجبر عصابي لديه خوف مرضي من القطط نفسه على التقاط قطة لسبب جيد، فمن المحتمل تماماً أنه في نظر الله قد أبدى شجاعة أكثر من تلك التي أبداها شخص سليم فكوفئ بمنحه وسام تقدير رفيعاً.

وعندما يقوم رجل انحرف منذ حداثته، وتعلم أن القساوة هي الأمر الصائب، بمعروف بسيط، أو يُمسك عن قسوة كان يمكن أن يرتكبها، وربما يغامر في ذلك بالتعرض للهزء من قِبل رفقائه، فلعله في نظر الله يكون فاعلاً أكثر مما قد نفعله أنا وأنت إذا ضحينا بحياتنا ذاتها في سبيل صديق.

ويحسن بنا أن نعبر عن هذه الفكرة بالطريقة المعاكسة. ربما يكون بعض منا، ممن يبدون أناساً لطفاء جداً، قد استفادوا في الواقع استفادة ضئيلة للغاية من حالة وراثية جيدة وتربية صالحة، بحيث يكونون بالحقيقة أسوأ من أولئك الذين يحسبونهم أشراراً جداً. فهل يمكننا أن نكون على يقين تام من جهة كيفية تصرفنا الممكن لو أثقلت كواهلنا التركيبة السيكولوجية، ثم التربية السيئة، ثم السلطة المطلقة، تلك التي أثقلت كاهل طاغية من الطغاة؟ لذلك يُطلب من المسيحيين بالحق ألا يدينوا. فنحن لا نرى إلا النتائج التي تُطلعها خيارات الإنسان من مادته الخام.

غير أن الله لا يدينه على أساس المادة الخام أبداً، بل على أساس ما صنعه منها. وربما كان الجزء الأغلب في تركيبة الإنسان السيكولوجية عائداً إلى جسده: فعندما يموت جسده يسقط عنه ذلك كله، في حين أن الإنسان الجوهري الحقيقي (العنصر الذي قام بالاختيارات والذي استفاد من تلك المادة أحسن استفادة أو أسوأ استفادة) سيقوم مجرّداً.

فجميع الأمور الحسنة المتنوعة التي حسبناها ملكاً لنا، ولكنها كانت بالحقيقة نتيجة اهتضام جيد، ستسقط عن بعض منا؛ في حين أن جميع الأمور السيئة المتنوعة التي كانت نتيجة عُقد نفسية أو سوء صحة ستسقط عن الآخرين. وعندئذٍ سنرى، أول مرة، كل امرئ كما كان بالحقيقة. ولسوف تحث مفاجآت!

وهذا يفضي بي إلى نُقطتي الثانية. غالباً ما يفكر الناس في الأخلاقيات المسيحية كما لو كانت صفقة فيها يقول الله: “إذا راعيت كثيراً من القواعد فسأكافئك؛ وإلا فعلت العكس”. لكنني لا أعتقد أن هذه هي أفضل طريقة للنظر إلى المسألة. فأنا أُوثر بالأحرى أن أقول إنك كل مرة تقوم باختيار تكون مُحولاً الجزء الجوهري فيك (ذلك الجزء الذي يختار) إلى شيء مختلف قليلاً عما كان عليه قبلاً.

ولدى النظر في حياتك بمجملها، بجميع خياراتك التي لا تُحصى، يتبين أنك طوال حياتك تحول ببطء الجزء الجوهري إما إلى مخلوق سماوي وإما إلى مخلوق جهنمي: إما إلى مخلوق متناغم مع الله ومع الخلائق الآخرين ومع ذاته، وإما إلى مخلوق في حالة حرب وكره مع الله ومع الخلائق الآخرين ومع ذاته. وأن تكون مخلوقاً من النوع الأول لهو سماء أو نعيم؛ أي فرح وسلام ومعرفة وقوة. أما أن تكون من النوع الآخر فمعناه جنون وغباوة وسخط وعجز ووحشة أبدية. وكل واحد منا، كل لحظة، يتقدم إلى إحدى هاتين الحالتين أو إلى الأخرى.

هذا الواقع يُفسر أمراً طالما حيرني لدى الكتاب المسيحيين: أنهم يبدون متشددين جداً مرة، ومتحررين ومتساهلين جداً مرة أخرى. فهم يتحدثون عن خطايا الفكر المجردة كما لو كانت مهمة على نحو هائل، ثم يتحدثون عن أشنع أفعال القتل والخيانة كما لو أن عليك فقط أن تتوب فتُغفر لك جميعاً. غير أنني بت أدرك أنهم على حق. فما يُفكرون فيه دائماً هو السمة التي يُخلفها الفعل على تلك الذات الجوهرية اللطيفة التي لا يراها أحد في هذا الحياة ولكن سيكون على كل منا أن يُقاسيها، أو يتمتع بها، إلى الأبد.

فرُب إنسان يكون في وضع فيه يدفعه غضبه إلى سفك دماء الآلاف، وآخر يكون في وضع مهما غضب فيه فسيكون فقط غرضاً للضحك. غير أن السمة الصغيرة على النفس قد تكون لدى كليهما هي إياها إلى أبعد حد. فكلاهما قد فعل بنفسه شيئاً إن لم يتب يُصعب عليه أكثر أن ينأى عن الغضب تالي مرة يُجرب فيها، ويجعل الغضب أسوأ حين يسقط فيه فعلاً. وكلا هذين، إذا رجع إلى الله صادقاً، يمكن أن تُقوَّم له تلك “الانحراف” في الإنسان الجوهري ويُسوى مجدداً. كما أن كليهما، إن لم يرجع إلى الله حقاً، هالك في نهاية المطاف. أما كبر ذلك الشيء أو صغره، إذا نُظر إليه من الخارج، فليس هو ما يهم حقاً.

تبقى نقطة أخيرة: تذكر أن الاتجاه الصحيح، كما سبق أن قُلت، لا يؤدي فقط إلى السلام بل أيضاً إلى المعرفة. فعندما يكون امرؤ آخذاً في التحسن، يفهم أوضح فأوضح الشر الذي ما يزال فيه. ولكن حين يكون امرؤ آخذاً في التردي، يفهم رداءته أقل فأقل. كذلك يعلم الإنسان الرديء على نحو معتدل أنه ليس صالحاً جداً؛ أما الإنسان الرديء كلياً فيظن أنه في أحسن حال.

وهذا منطق سليم بالحقيقة. فأنت تقدر أن تفهم النوم حين تكون مستيقظاً، لا فيما تكون نائماً. وفي وسعك أن تلاحظ أغلاط الحساب حين يكون ذهنك عاملاً بنشاط ومتيقظاً. ولكن حين تكون في حالة ارتكاب أغلاط لا يمكنك أن تلاحظها. وفي مقدورك أن تفهم طبيعة السُكر عندما تكون صاحياً، لا عندما تكون سكران. فالصالحون يعرفون أحوال الخير والشر؛ أما الطالحون فلا يعرفون شيئاً عن كليهما.

الأخلاق والتحليل النفسي – سي إس لويس