أبحاث

الوسيط – فيليب يانسي

الوسيط - فيليب يانسي

الوسيط  – فيليب يانسي

الوسيط  - فيليب يانسي
الوسيط – فيليب يانسي

الوسيط  – فيليب يانسي

“يضربنا الحق من الخلف وفي الظلام”

هنري ديفيد ثوريا

الكاتبة الإيطالية إمبرتو إيكو كتبت قصة جذابة عن رحلة عبر أمريكا بعنوان “سفريات في الحقيقة المفرطة” وفيها كتبت ملاحظاتها على نظرتنا المادية الكلية للحياة. حتى أن علم الأساطير الأمريكي يتخذ أشكالاً ملموسة: فتوضع دمية سانتا كلوز (بابا نويل) في كل المراكز التجارية أثناء الكريسماس، وتماثيل ضخمة لبعض الشخصيات توضع في ديزني لاند في أي وقت.

كما أن الإغريق القدماء كانوا يحتفلون بأبطالهم بإلقاء الملاحم الشعرية حول النيران المشتعلة في المعسكرات، أما الأمريكيون المحدثون فيصافحون بعضهم بعضاً وهم يرتدون أزياء تنكرية.

وتقول الكاتبة إيكو أن البرامج الدينية بالتلفزيون تخدعها: “فإذا تابعت برامج يوم الأحد الدينية سوف تفهم مننا أنه بإمكانك أن تفهم الله كطبيعة وجسد، وطاقة، وصورة ملموسة. ولأنه لا يجرؤ أي خادم أن يُظهر الله في صورة دمية ملتحية، أو كالإنسان الآلي في ديزني لاند، عندئذ يمكننا أن نجد الله فقط في صورة قوة طبيعة، فرح، شفاء، شباب، صحة أو ربح اقتصادي”.

وتوصلت إيكو إلى أن الأمريكيين يتصورون الله بطريقة ملموسة. أين إذا الغموض في هذا، تساءلت إيكو – الله المقدس، الروحي الذي لا ينطق به (لأنه أقدس من أن يُذكر)؟

وتساءلت فيما يمكن أن تفكر فيه إيكو لو رأت المنظر الذي رأيته أنا في الفلبين في إحدى الكنائس التي بها تمثال للمسيح مصنوع من الأبنوس. بعض الزوار يزحفون على ركبهم لمسافة أميال ليقتربوا من التمثال ويلمسوا أطراف أصابعه. واعتادوا على تقبيل هذه الأطراف.

وخوفاً على التمثال من أن يبلى غطوه بغطاء تاركين أطراف أصابعه للتقبيل. وإمعاناً في الحفاظ عليه رفعوه قليلاً إلى أعلى مما اضطر البعض لأن يقفز لأعلى حتى يتمكن من تقبيل قدميه المقدستين. والآن طوابير طويلة من قصيري القامة يقفزون لأعلى مثلما يفعل لاعبي كرة السلة حتى يصلوا لأطراف أصابع التمثال التي تآكلت.

وطبقاً لما تقوله إيكو، فإننا نبحث عن علامات واضحة وظاهرة على حضور الله، وكأننا ما زلنا نشتاق للعليقة المشتعلة أو الصوت المسموع. ولأننا كائنات مادية، فنحن نقلل من قدر الروح كما لو أنها غير حقيقي ويريد الله أن يظهر بطريقة مادية حيث نعيش. وقد استجاب يسوع لهذه الرغبة لفترة من الزمن، وهو حدث نحتفل به في فن مقدس، ولكن الحقيقة والواضحة هي أن يسوع عاد مرة أخرى إلى العالم غير المنظور.

وأصر يسوع على القول “إن الله روح” – وهذا ما يعتقد فيه كل يهودي مخلص، ولكن كيف يمكننا أن نتخيل الروح أو نرى الله بعيداً عن صورة مرئية؟ وكيف يمكن للروح أن تتواصل مع عالمنا المادي؟ هل يمكن للروح أن “ترى بدون عين لكي تتلقى وتركز الموجات الضوئية أو تسمع بدون إذن تسجل الاهتزازات؟

وكيف يمكننا أن نقرر ما إذا كان “الله الروح” يتواصل مع الحياة على كوكب الأرض؟ وباختصار، كيف يمكننا أن نؤمن بإله لا نستطيع ان نراه؟ لقد فشل الإسرائيليون في العهد القديم في هذا التحدي، بالرغم من رؤيتهم لدلائل كثيرة على وجود الله، وكانوا يعودون مرات عديدة إلى عبادة الأصنام التي يرونها ويلمسونها.

بعض المؤمنين، مثل أولئك الذين واجهتهم إيكو في أمريكا، يريدون أن يعيدوا تلك الأزمنة التي أعلن الله فيها عن ذاته بوضوح. إنهم يعتبرون الروح كنسخة معدلة لإله بني إسرائيل في البرية: يتحدث إليهم مباشرة، ويمدهم بالطعام والملبس، ويضمن لهم الصحة ويقودهم في الطريق. وبكلمات أخرى، يريدون الروح أن يغير قوانين الحياة حتى لا يُصاب بيأس أو خيبة أمل. أنني أعرف الكثيرين من المؤمنين الذين يؤمنون بهذا.

إنني أرى الروح ولكن ليس كمن يلمس حياتنا الدنيوية بعصا سحرية فندرك (كما تقول دورثي سايرز) حضور الله في أماكن كنا نغفلها. إن الروح قد يُحدث هذه الرجفة أو الرجة من الإدراك للأمور العادية جداً: ابتسامة طفل، جليد يسقط على بحيرة متجمدة، طقوس عبادة تتحول على غير توقع إلى ما هو غير طقسي. وفجأة نرى مثل هذه الذكريات السارة كمواهب من الله الذي يستحق حمدنا.

إن الذي يبحث عن الروح القدس كمن يبحث عن نظارته وهي على عينيه. ويقول جون تايلور: “ليس بإمكاننا على الإطلاق أن ندرك وجود الروح بطريقة مباشرة، لأنه في أي اختبار للاجتماع والتعرف فإنه دائماً هو الوسيط الذي يوجد الوعي والإدراك”.

إن الروح هو وسيلتنا للفهم والإدراك أكثر منه أن يكون هو نفسه الذي ندركه أو نتخيله، وهو الذي يفتح عيوننا للحقائق الروحية الأساسية. والإدراك الروحي للآخرين قد يتخطى الاجتماع أو المؤتمر، فهو لا يهتم كثيراً بشكل الجسد ولا بالدخل السنوي أو بإعاقة القوة. بل بالحرين قد يقودنا الروح لنفس المجموعات التي خدمها المسيح – الغرباء، الأرامل، المساجين، المشردين، الجوعى، المرضى – لكي نرى تدريجياً “هؤلاء الأصاغر” كما يراهم الله.

طالب جامعي أخبرني بطريقته في تصور الروح القدس: “أول ما تعلمته عن الروح القدس تعلمته في طفولتي من دروس اللوحة الوبرية: فقد رسموه كإنسان صغير للغاية كقزم، يعيش في أعماقنا. وما زلت أحمل هذه الصورة معي. إن الروح يعيش في مكان ما في داخلي، ربما في ذهني أو في قلبي. ومثل البواب المقيم في داخل مبنى يلفت انتباهي بالطرق على الضمير الواعي أو اللاواعي. فإذا تجاهلته، ينكمش. وإذا استمعت إليه يكبر ويكبر حتى يملأني”.

إن ذكر الروح القدس يستدعي الكثير من الحيرة والارتباك. فإذا قال أحد الأشخاص أو مجموعة “يقول الكتاب” بإمكانك أن تبحث بنفسك. وإذا قالوا: “الروح قال لي” فأين يمكنك أن تبحث؟ وهنا المشكلة: فالروح غير منظور. وضرب يسوع مثلاً لنيقوديموس: “الريح تهب حيث تشاء. وتسمع صوتها ولكن لا تعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب”. فكيف بإمكاننا أن نكتشف حضوراً لا صورة له ولا شكلاً معروفاً؟

ومع ذلك، فإن أي شخص يريد أن يعرف الله لا يمكنه تجاهل الروح الذي ظهر بطريقة مثيرة على الأرض في لحظة فاصلة فعندما ودع الرب يسوع تلاميذه، طلب منهم أولاً أن يفعلوا أمراً هاماً: انتظروا. ارجعوا إلى أورشليم وانتظروا الروح القدس.

ما الذي حدث منذ رحيل الرب يسوع الذي تحدى الإيمان – عبر التاريخ كله – وأبعد الكثيرين عن الله. بالمسيح، ضم الله إلى نفسه عالماً موبوءً بالشر وسقط ضحية له. وبالروح القدس، خاطر إله قدوس بسمعته على أناس أشرار، بتوسيع ونشر هذا التجسد ليشمل كل أتباع الرب يسوع. إن الله الذي تجسد لكي يمكننا من أن نختبره في عالمنا المادي ما زال يتجسد فينا نحن.

ومع ذلك، فلتقرأ التاريخ المحزن والملطخ للكنيسة. إن البشر لم يُجسدوا ويحسنوا التعبير عن الله الساكن فيهم كما فعل الرب يسوع. إننا في الحقيقة نُبعد الناس عن الله بدلاً من أن نجذبه إليه. وعندما وعد الرب يسوع تلاميذه بإرسال الروح القدس المعزي إليهم قال لهم: “إنه لخيركم وفائدتكم أنا ماض”. كيف هذا؟ ما هي “الامتيازات” الموجودة في هذه الرؤية الأخيرة لله؟

وإذا رغب شخص في أن تكون له “علاقة شخصية مع الله” فإن الروح القدس يرفع كلمة شخصية إلى مستوى جديد. لا توجد ديانة أخرى في العالم يحدث فيها مثل هذا الأمر: إله هذا الكون يوجد لا كقوة خارجية يحب علينا أن نطيعها، ولكن يعيش فينا، ويفتح فينا قناة للاتصال المباشر مع الله. وكما قال توماس ميرتون: “لأن أرواحنا تتكون من مواد روحية ولأن روح الله، فليس هناك ما يمنع الاتحاد بيننا وبينه أي انجذاب بكل معنى الكلمة”.

وكما قلت سابقاً، إن علاقتنا مع الآخرين تتطلب دائماً درجة من الشك. وغالباً ما يعبر جيران المجرم الخطير عن دهشتهم عند القبض عليه ووضع القيود في يديه قائلين: “كم كان رجلاً طيباً”. وكل منا يحتفظ بجزء من نفسه، الأنا الداخلية مختبئة ويُظهر للآخرين الأنا الخارجية فقط. ولكن في الروح القدس يتغلب الله على هذا الحاجز. الله الآن يعيش داخلنا، في الأنا الداخلية، ويحاول أن يوجد انسجاماً بين الأنا الداخلية والخارجية حتى لا يحدث انشقاق فينا ولكن تكون لنا ذات موحدة.

إننا ننال “مواهب الروح” من شخص – لأنه يعيش داخلنا – يعرف بالتحديد صفاتنا الشخصية، وأسلوب تربيتنا، ومهاراتنا الطبيعية وكيف يكمن استخدامها لخدمة الله. وكما قال جورجن مولتمان: “روح الحياة” تواجهه نفس الأمور التي تواجه الشخص الساكن فيه. إن الروح القدس يُجمل ويُحسن ويُشكل من يُقيم فيه ولكنه لا يطغى على مواهبنا وشخصياتنا الفردية.

قالت الملكة فيكتوريا أنها تشعر بمشاعر وانطباعات مختلفة تجاه اثنين من أشهر رؤساء الوزارات. فعندما تكون مع وليم إلدستون تقول: “أشعر أنني مع واحد من أهم قادة العالم”. وعندما تكون مع بينجامين إسرائيل: “إنه يُشعرني بأنني من أهم الناس في العالم”. وعندما قرأت هذا الوصف، تبادر لذهني الفرق في رد فعلي نحو يهوه في العهد القديم وفي الروح السكن فينا: يهوه يثير فينا الخوف بينما الروح القدس يربينا ويغذينا.

قال لي صديقي كين، وهو مؤمن ملتزم يناضل في حياة الإيمان: “أقول لك بصراحة إنني أشعر بوضوح بوجود الروح القدس في حياتي أكثر من الأقنومين الآخرين في الثالوث الأقدس. فعندما أشعر بجوع إلى الله فهذا علامة على حضور الروح فيّ. ومعاركي القوية مع الشهوة، وتبكيت الكبرياء، وشعوري القوي بالحاجة إلى الاعتذار، والغفران – كلها إشارات من الله ولها نفس قوة التأثير عليّ تماماً مثل العليقة المشتعلة. إنها تعرفني ان الله ما زال يعمل بداخلي”.

إن لدي إحساساً بأن هذه الانتصارات الصغيرة التي وصفها صديقي كين، تعطي الله نفس القدر بل وربما أكثر من السرور الذي يشعر به عند حدوث أية معجزة في وقت حرج.

كما أنني أعرف الكثير من الناس “العاديين” الذين يزورون السجون، ويعتنون بالذين قاربوا الموت، يبنون بيوتاً للفقراء، يتبنون أطفالاً غير مرغوب فيهم، يرحبون بعائلات اللاجئين. إنه يفعلون كل ذلك بدافع من الروح القدس.

“هل أنت مملوء من الروح القدس؟” إذا سألت هذا السؤال للرسول بولس فسوف يجيبك بقائمة الصفات التي يمنحها الروح: محبة، فرح، سلام… إلخ. هل تتمتع بهذه الصفات؟ هل تُظهر حب الله للآخرين؟ كل رسائل بولس تُختتم بدعوة عملة للحب والخدمة: الصلاة، مشاركة المحتاجين، مواساة المرضى، إضافة الغرباء… إننا لا نجرؤ على التقليل من قدر عمل الله “العادي” لكي يشعر بوجوده الدائم في حياتنا. هذه هي علامات الحياة المملوءة بالروح القدس، علامات غير المنظور تظهر في عالمنا المنظور.

إن الروح لا يمكن أن نحتفظ به كحيوان أليف مدلل، يعيش داخلنا في مكان صغير نستحضره عندما نشاء. وحضور الله داخلنا يجب أن ينفذ إلى كل شيء نراه ونفعله. ولكي نُظهر التشابه الجزئي بين الطالب الجامعي وبين الروح، فالروح ليس قزماً يضرب بعنف على أنابيب الأرغن لكي يجذب انتباهنا بل بالحري جزء أساسي ومقيم في كل المبنى. إن الروح لا يعمل فينا بل معنا فهو جزء منا، إله عامل فينا وليس إلهاً مليئاً بالفراغات.

ارتبط يسوع بالجنس البشري لفترة زمنية حتى يمكنه الآن أن يقوم بخدمة الدفاع عنا والشفاعة لنا عند الآب. وفي فترة رائعة يوضح الرسول بولس أن الروح يشاركنا في نضالنا الروحي هنا على الأرض.

ويلخص الأصحاح الثامن من رومية حالة البشرية جمعاء: “فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن”. ونحن البشر “نئن داخلياً”. فكل سكان الأرض تصدر عنهم إشارات الحزن واليأس. وكان الرسول بولس يحب التلاعب بالألفاظ، وأول مظهرين لهذا الأنين وهما بمثابة الدعامة التي أوصلته إلى قمة النتيجة التي توصل إليها: “… وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها”.

إنني أعرف جيداً شعور اليأس الذي ينتابنا عندما لا نعرف ما نصلي من أجله: كيف تصلي من أجل شخص وصل إلى طريق مسدود في زواجه، أو من أجل ضحية اعتداء جنسي، أو من أجل أب أو أم لطفل شُخص مرضه على أنه سرطان، من أجل مؤمنة في باكستان سُجنت من أجل إيمانها بالمسيح… ماذا يمكنني أن أطلب؟ وكيف يمكنني أن أصلي؟

ويعلن لنا روح الله الأخبار السارة بأننا لا نحتاج لأن نحدد بالضبط وتماماً كيف نصلي. إننا بحاجة فقط لأن نئن. وعندما أرجع إلى كلمات الرسول بولس تأتي لذهني صورة الأمر التي تسمع صراخ طفلها الذي لا يستطيع الكلام. إنني أعرف بعض الأمهات اللاتي يستطعن تمييز صيحة الطعام عن صيحة الحاجة إلى الرعاية، وصيحة ألم الأذن من صيحة ألم المعدة. وبالنسبة لي كل الصيحات تتشابه ولكن الأم تعرف بالغريزة نوعية صيحة طفلها وأنينه. إن عدم وضوح الكلام والعجز لدى الطفل هي التي تعطي للأم قوة العاطفة.

والكلمة اليونانية للروح القدس هي “الباراقليت” وتعني “الشخص الذي يقف بجانبك” مثل المحامي الذي يدافع عنك، صورة لا بد أنها أعطت نوعاً من الراحة للمسيحيين الأوائل الذين تعرضوا للاضطهاد. ونحن الذين نواجه صعوبات مختلفة – مرض السرطان لأحد أفراد العائلة، الإدمان، مراهق منحرف فصل من وظيفة – نحتاج أيضاً لحضور الروح داخلنا الذي يشفع فينا “بأنات لا ينطق بها” أو “بتنهدات يصعب التعبير عنها بالكلمات”.

ونفس الكلمة اليونانية تصف القائد الذي يُستدعى عندما يستعد الجيش لخوض معركة. وينادي على فرق الجيش الخائفة بكلمة “الباراقليت” فتبعث فيه الثقة والشجاعة. ونحن كمؤمنين لدينا هذا الصوت الداخلي المشجع، إنه صوت الله نفسه. و”الأنين” المذكور في رومية 8 يُختتم بالوعد القوي أنه سيأتي اليوم الذي لن يوجد فيه أنين على الإطلاق.

أحد زملائي كتب لي من فترة وجيزة أنه تخلى عن إيمانه بعد معاناته من سلسلة رهيبة من المشاكل الصحية والعاطفية. وأثناء أشد ساعاته ظلمة قال، لقد ظل الله صامتاً. ولم تجد الصلاة شيئاً.

وفي النهاية، عندما خرج من وادي ظل الموت، قال لي: “هل تعلم ما الذي منعني من أن أترك كل شيء ومنعني من الارتداد؟ تخليت كما لو أنني سأذهب إلى ثلاثة أو أربعة أشخاص أحترمهم جداً أكثر من أي شخص آخر في العالم وأقول لهم “لقد خُدعتم”. ولم أتمكن من أن أقنع نفسي لإنكار حقيقة روح الله في حياتهم.

وصديق آخر، كان يستمع لهذه الكلمات، كانت له فكرة أخرى. “هذا بالضبط ما يُغريني بالارتداد! وبكل صراحة، أنني لا أرى حقيقة وجود الله في حياة الآخرين. أريد دليلاً واضحاً ومباشراً على وجود الله”.

إن “عيب” معرفة الله من خلال الروح القدس هو هذا، عندما كلف الله الكنيسة بخدمته، فهو في الحقيقة أحدث تحولاً أو انقلاباً. وكنتيجة لذلك، فكثيرون من الذين يرفضون الله هم في الحقيقة لا يرفضونه بل يرفضون صورة كاريكاتورية منه وهي الت تقدمها الكنيسة.

نعم، إن الكنيسة سلكت طريق قضايا العدالة، الأمية، الطب، التعليم، والحقوق المدنية. ومن العار المشين الذي تعاني منه الكنيسة، أن العالم يحكم على الله من الكنيسة وتاريخها الذي يشتمل على الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش الكاثوليكية، ضد السامية، قهر المرأة، ومساندة تجارة العبيد.

إنني أرغب في أن أستبعد جانباً تاريخ الكنيسة، ونمحو هذه الرواسب، ونواجه كلمات الأناجيل لأول مرة. سوف لا يقبل كل الناس يسوع – ولم يحدث ذلك في أيامه على الأرض – ولكن على الأقل سوف لا يرفضونه للأسباب الخاطئة. ومع ذلك فما أتوق إليه ليس فقط من باب المستحيل بل أيضاً غير كتاب.

ويجب أن أذكر نفس بكلمات الرب يسوع: “إنه لخيركم ومصلحتكم أنا ماضي” والفشل المتتابع للكنيسة هو علامة استعداد الله للمجيء لمساعدتنا، وهو أيضاً نوع من المديح للإنسان: الله يثق فينا لتولي خدمته وإرساليته.

وأجد من السهل عليّ أن أقبل حقيقة أن الله سكن في يسوع الناصري أكثر من سكناه في الناس الذين يحضرون كنيستي المحلية وفيّ أنا أيضاً. ومع ذلك فإن العهد الجديد يُصر على أن هذا النموذج هو الذي يحقق خطة الله منذ البداية: ليس سلسلة مستمرة من التداخلات المثيرة والمذهلة ولكن تفويض تدريجي لخدمته يكلف بها بشر خطاة. ومنذ البدء، كان مخططاً أن يموت يسوع حتى نتمكن نحن، كنيسته، أن نحل محله.

وما منحه يسوع للقليلين – شفاء، نعمة، رجاء، أخبار سارة عن محبة الله – يمكن لأتباعه أن يمحوه للجميع. “ما لم تسقط حبة الحنطة في الأرض وتموت، تظل كما هي، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير”.

كتب إيوجين بيترسون عن عمله كراع محاولاً رعاية وخدمة اجتماع بدا له غير ناضج وثرثار يكشف أسرار الآخرين، ويشعرون بالضيق إذا لم يحل الله مشاكلهم. وبالمقارنة بين اجتماعه في الكنيسة والكنيسة المثالية كما وردت في العهد الجديد سببت له الكثير من المتاعب حتى قرأ شيئاً هاماً في سفر الرؤيا.

فوصفت الأصحاحات الأولى الكنائس غير الناضحة بأنها “المناير” “أنها الأماكن التي يضئ فيها نور المسيح”. “إنها لا تضئ من ذاتها. وليس في هذه الكنائس شيء فاتن أو ساحر، كما لا يوجد أيضاً ما يُشينها”.

وفي تشابه جزئي يُشبه جون تايلور تجسد المسيح بمنظر كتبه وليم شكسبير في مسرحيته هنري الخامس. في مساء معركة ضد الأعداء تنكر الملك هنري وسار بين الجنود في الميدان.

وإذ به يسمع أحد الجنود وهو يقسم ويقول إن الملك سوف يُدان في يوم الدينونة عندما يقوم الجنود الذين سيموتون في هذه المعركة ويتهمونه بأنه اشترى هذا النصر بحياتهم. لقد عرف الملك جيداً مقدار الحمل الملقى على كاهله، وهو حمل ألقاه الآن على كاهل جيشه:

“ومع ذلك فهو ما زال يثق من جدوى هذا الأمر، وعندما جاء الصباح، استجمع قوته وبث في جنوده أمله وإيمانه بقيمة المكافأة (النصر)…”

إن الله يعلم أكثر من أي شخص آخر الثمن الذي تدفعه الخليقة لمغامرته الضخمة لجعل هذا الكون البيئة الوحيدة التي يمكن أن يظهر فيها الحب يوماً ما ليتمتعوا به ويتجاوبوا مع هذه المحبة. وهو ما زال يؤمن بأن الثمر الناتج سوف يفوق كل الحزن والمعاناة وهذا أفضل بكثير من أن يبدو وكأنه محايد ولا يفعل شيئاً.

ولهذا – ولأننا لا نفهم ما يحدث – لا يمكننا أن نغفر ما يفعله معنا، إن الله جاء بيننا كإنسان شاركنا معاناتنا ليعطي تعويضاً وترضية ويسترد ثقتنا به.

لم يتمكن الملك هنري أن يحارب المعركة بنفسه. كان بإمكانه أن يتواصل مع جنوده ويتحرك فيما بينهم ويشجعهم. ولكن الانتصار العسكري العظيم الذي حدث في معركة Againcourt اعتمد على مجهودات الجنود العاديين.

إن وجود وسكنى الله في داخلنا يضمن أن الكل قد يتعرض للشك أحياناً وكثيرين سوف يرفضون الله تماماً. والخطة تضمن أيضاً أن تقدم ملكوت السموات يحدث ببطء وبخطوات متثاقلة، ومع ذلك فإن الله يُظهر صبراً كثيراً ولا يفرض سلطانه وقوته. لقد قضت الكنيسة ثمانية عشر قرناً في الوقوف في وجه العبودية ومنذ ذلك الوقت قاومها الكثيرون. وما زال الفقر موجوداً وكذلك الحروب والتمييز العنصري، وفي بعض الأماكن قدمت الكنيسة مساعدة قليلة.

كتبت إتي هيلسن ما يلي في إحدى الصحف والتي اكتشفت بعد موتها في أحد معسكرات النازية:

“أمر واحد أصبح واضحاً للغاية بالنسبة لي: يا الله أنت لا تستطيع أن تساعدنا ولهذا يجب أ، نساعدك لكي نساعد أنفسنا. وهذا ما يمكن أن نعمله في هذه الأيام وهذا هو الأمر المهم: أننا نقوم بحراسة الشيء الصغير منك الذي وضعته أنت فينا يا الله.

ربما يمكننا أن نحاول أن نفعل ذلك مع الآخرين أيضاً… ليس بإمكانك أن تساعدنا بل يجب علينا أن نساعدك أنت وأن نحمي المكان الذي أنت تسكن فيه في داخلنا حتى النهاية”.

“يوجد مسيح واحد فقط، عاش ومات مرة واحدة، ولكن الروح القدس يصنع من كل مؤمن مسيحاً آخر، وهذا المسيح الآخر يعيش في حياة الملايين في كل عصر”.

جيرالد مانلي هوبكنز

في بعض الأحيان يبدو كما لو أن الله لا يستطيع مساعدتنا أو ربما لا يفعل ذلك. ويبدو لنا أنه خلقنا وتركنا لحالنا هنا وسط قوى الشر. وفي الحقيقة نحن بحاجة إلى شخص سماوي ليحل مشاكلنا. وقد يشعر المؤمنون بنفس عدم الصبر تجاه بطء العمل الذي لا يتسم بالقوة والإثارة للروح القدس مثلما شعر اليهود نحو المسيا الذي لم يقدم لهم نوع الانتصار والإنقاذ الذي كانوا يريدونه وينتظرونه.

والسؤال الذي نوجهه لله هو نفسه الذي يوجهه لنا. أننا نتوسل إلى الله “لأن يأتي إلينا” ثم نعرف وبطريقة رافضة أن الله موجود هنا فعلاً، في داخلنا وأن ما يفعله الله على الأرض يمثل بوضوح ما تفعله الكنيسة. باختصار فإن العيب الرئيسي لمعرفة الله كروح هو تاريخ الكنيسة، وتاريخ حياتي الروحية الذي لي ولك.

 

الوسيط – فيليب يانسي