آبائياتأبحاث

رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2 – د. جوزيف موريس فلتس

رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2 - د. جوزيف موريس فلتس

رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2 – د. جوزيف موريس فلتس

والرد على القائلين بإن الجسد الذي من مريم هو من نفس جوهر لاهوت الكلمة وعلى أقوال أخرى

من التراث العربي المسيحي للأقباط

رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2 - د. جوزيف موريس فلتس
رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2 – د. جوزيف موريس فلتس

رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2

          تحدّثنا في الجزء الأول المنشور هنا من هذا البحث، عن لمحة تاريخية عن هذه الرسالة، ثم أوردنا كيف تناول التراث العربي المسيحي هذه الرسالة الهامة، وسجّلنا ملاحظات عامة حولها، وأخيرًا أوضحنا بعضًا من تعاليم ق. أثناسيوس الخريستولوجية التي وردت بها.

          ونستكمل في الجزء الثاني، عرض باقي تعاليم هذا الأب والمعلّم، كما جاءت برسالته التي بعث بها إلى الأسقف إبكتيتوس ردًا على مذكرات أرسلها الأخير لبابا الأسكندرية العشرين يسترشد فيها بتعاليمه في مواجهة الأفكار المنحرفة التي نادى بها البعض في كورنثوس حينذاك.

          2ـ([1]) ففي رده على القائلين بأن الكلمة قد تحوّل إلى لحم وعظام وكل الجسد وتغيّر عن طبيعته الخاصة، يشدّد ق. أثناسيوس على أن طبيعة الكلمة لم تتغير بالمرة، بل وكما أشار من قبل [ إن كلمة الله غير المتألم والذي بلا جسد كان في الجسد الذي سُمِر على الخشبة وتألم ] (فقرة 5). وفي موضع آخر من نفس الرسالة يؤكد أن [ الابن إذ هو الله ورب المجد، كان في الجسد الذي سُمِرَ وأُهين بخزي أما الجسد فكان يتألم وهو على الخشبة، وكان يسيل من جنبه المطعون دم وماء.

ولكن بسبب أنه كان هيكل الكلمة بالحقيقة، فقد كان مملوءًا من اللاهوت، ولهذا السبب إذًا عندما رأت الشمس خالقها وهو يتألم في الجسد المُهان، سحبت أشعتها، واظلمت الأرض ولكن الجسد نفسه، وهو من طبيعة مائتة، قام بطبيعة تفوق طبيعته بسبب الكلمة الذي فيه، وتوقف فساده (اضمحلاله) الطبيعي، وإذ قد لبس الكلمة الذي فوق الإنسان هذا الجسد، فقد صار (الجسد) غير فاسد (غير مضمحل) ] (فقرة: 10).

ويتابع تعليمه بقوله: [ هذا الجسد هو الذي وضع في القبر ـ عندما تخلى عنه الكلمة ـ ولكنه لم ينفصل عنه ـ وذلك ” ليكرز للأرواح التي في السجن ” كما يقول بطرس (1بط19:3) ] (فقرة: 5).

          وهنا يضع ق. أثناسيوس القائلين إن الكلمة تحوّل إلى لحم وعظم، أمام معضلة تفسير أحداث موت المسيح وقيامته، فيوضح قائلاً: [ لو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة إلى قبر ولكان الجسد ذاته قد مضى بنفسه ليكرز للأرواح التي في الهاوية، أما الآن فإنه مضى هو بنفسه ليكرز، أما الجسد فبعد أن كفّنه يوسف بالكتان (قارن مر46:15) وضعه في الجلجثة ] (فقرة: 6).

          وهكذا يعلّم ق. أثناسيوس بكل وضوح [ أن الجسد لم يكن الكلمة وإنما هو جسد الكلمة، والكلمة لم يفارق الجسد لا عند الموت ولا بعد القيامة[2]. لذا يتابع ق. أثناسيوس تعليمه في نفس الفقرة بقوله: إنه عندما قام الجسد من بين الأموات لمَسَه توما ورأى فيه آثار المسامير (قارن يو25:20).

التي احتملها الكلمة ذاته والتي رآها توما مخترقة جسد (الكلمة) ذاته، والتي كان في استطاعته أن يمنعها ولكنه لم يمنعها، بل بالعكس فإن الكلمة الذي بلا جسد خصص لنفسه خصائص الجسد باعتباره جسده ذاته ][3] (فقرة: 6).

ونتيجة لهذا الإتحاد الأقنومي كما وصفه فيما بعد القديس كيرلس، بين الطبيعة الإلهية (الكلمة) والطبيعة البشرية (الجسد) حدث ما يسمى بتبادل الخصائص، أو كما عبّر عنه ق. أثناسيوس قائلاً: [ فلماذا حينما ضرب العبد، الجسد، تألم الكلمة نفسه وقال: لماذا تضربني (يو23:18) ورغم أن الله بطبيعته لا يمكن لمسه، إلاّ أنه قال ” أسلمت ظهري للسياط وخدي للطمات، ولم أرد وجهى عن خزي البصقات ” (إش6:50) ] (فقرة: 6).

          ويُجمل ق. أثناسيوس تعليمه حول هذه النقطة مبينًا البُعد الخلاصي في هذا التعليم وأن ما فعله الكلمة عندما تجسد، إذ أنه وهو غير المتألم قد قَبِلَ الآلام في جسده الخاص، كان كل هذا من أجلنا ومن أجل خلاصنا فيقول بكل وضوح [ إن الكلمة نفسه كان متألمًا وغير متألم، فمن ناحية كان (الكلمة) يتألم لأن جسده هو الذي كان يتألم وكان هو المتألم فيه، ومن الناحية الأخرى، لم يكن الكلمة يتألم لأن الكلمة ـ إذ هو إله بالطبيعة ـ فهو لا يقبل التألم.

وكان الكلمة غير الجسدي موجودًا في الجسد الذي يتألم، وكان الجسد يحوي فيه الكلمة غير المتألم الذي كان يبيد العلل الذي قبلها في جسده وكان يصنع هذا، وهكذا كان يصير، كي بعد أن يأخذ ما لنا (أى الجسد) ويقدمه ذبحة، يقضي على العلل والضعفات كلها، وهكذا يلبسنا ما له ][4] (فقرة: 6).

          ويختم رده بشهادة كتابية مشيرًا إلى ما جاء على لسان ق. بولس: ” وهذا ما جعل الرسول يقول: ” لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم الموت” (1كو53:15).

          وفي شرحه لما حدث بعد قيامة الرب من بين الأموات حيث ظهر لتلاميذه:       ” وأراهم يديه ورجليه ” (لو39:24، 40)، يشدّد ق. أثناسيوس مرة أخرى على حقيقة أن الكلمة لم يتغيّر أو يتحوّل إلى لحم وعظام، عندما تجسّد[5]، أو عندما قام، فقد ظلّت الطبيعة الإلهية لله الكلمة كما هى، والطبيعة البشرية التي اتحد بها كما هى أيضًا بدون تغيير أو تحول حتى بعد القيامة، لهذا يعلّق ق. أثناسيوس على حديث الرّب القائم مع تلاميذه فيقول:

[ من هذا الكلام نستطيع أن نفند كلام الذين يتجاسرون مرّة أخرى أن يقولوا إن الرّب قد تغيّر إلى لحم وعظام لأنه لم يقل كما تشاهدونني وأنا لحم وعظام، بل قال: كما ترون إنه لي به لكي لا يعتقد أحد أن الكلمة نفسه قد تحوّل إلى هذه الأشياء قبل الموت، وبعد القيامة ] (فقرة: 7).

          ويعود ق. أثناسيوس ليشدّد مرّة أخرى على أهمية الاعتقاد أن الكلمة نفسه لم يتحوّل إلى عظام ولحم بل قد صار في الجسد، لهذا نجده في فقرة: 8 من هذه الرسالة يقول: [ وإذ قد تم إثبات هذه الأشياء هكذا فإنه يكون من نافله القول أن نتعرّض للموضوعات الأخرى وندخل في جدل حولها، إذ أن الجسد الذي كان فيه الكلمة لم يكن من نفس جوهر اللاهوت، بل هو حقًا مولود من مريم. والكلمة نفسه لم يتحوّل إلى عظام ولحم بل قد صار في الجسد ].

          ويستند ق. أثناسيوس على تعاليم الكتاب المقدس ويستشهد بما جاء في إنجيل يوحنا في هذا السياق فيقول [ لأن ما قيل في إنجيل يوحنا “الكلمة صار جسدًا ” (يو14:1) له هذا المعنى ] (فقرة: 8). ويضيف: [ لأن القول: ” الكلمة صار جسدًا ” هو مساو أيضًا للقول: ” الكلمة صار إنسانًا ” حسب ما قيل في يوئيل ” إني سأسكب من روحي على كل جسد ” (يوئيل28:2)، لأن الوعد لم يكن ممتدًا إلى الحيوانات غير الناطقة، بل هو للبشر الذين من أجلهم قد صار الرب إنسانًا ] (فقرة:8).

          ومن الجدير بالملاحظة أن القديس أثناسيوس يعتمد ـ مثله مثل باقي آباء الكنيسة ـ على وحدة الكتاب المقدس. لذا نجده يقارن بين ما جاء في إنجيل يوحنا عن تجسد الكلمة، وما جاء في رسائل معلّمنا بولس الرسول حول نفس المفهوم، فيكتب قائلاً:    [ لأن ما قيل في إنجيل يوحنا ” الكلمة صار جسدًا ” (يو14:1) يمكن أن نجد معناه في موضع مشابه، فقد كتب بولس ” المسيح صار لعنة لأجلنا (غلا13:3).

وكما أنه لم يصر هو نفسه لعنة، بل قيل إنه صار لعنة لأنه احتمل اللعنة من أجلنا هكذا أيضًا، فإنه قد صار جسدًا لا بتحوّله إلى جسد، بل باتخاذه لنفسه جسدًا حيًا من أجلنا وصار إنسانًا ] (فقرة:8).

          3ـ ويفند ق. أثناسيوس الآراء التي نادت بأن الرّب لبس جسدًا خياليًا وليس طبيعيًا، حال تجسده، وهنا يبدو أن هذه الآراء قد عادت وانتشرت في القرن الرابع الميلادي أى وقت كتابة هذه الرسالة، إذ أن أساس هذه التعاليم كان قد نادى به بعض الهراطقة في القرون الأولى للمسيحية والذين علّموا أن المسيح لم يكن له جسد حقيقي لكن له فقط جسد خيالي.

ولهذا فقد دعوا بالدوستين Δοκηταί وبالتالي فقد أنكروا تَجسُّد كلمة الله، ويشهد ق. يوحنا الإنجيلي في رسائله عن وجود مثل هذه التعاليم في عصره فيقول ” لأنه قد دخل إلى العالم مضلّون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيح آتيًا في الجسد ” (2يو7) كما يذكر في رسالته الأولى أن ” كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء بالجسد فليس من الله.

وهذا هو روح ضد المسيح ” (1يو3:4). ولقد حارب القديس أغناطيوس الأنطاكي الذي عاش وعلّم في القرن الثاني الميلادي، أصحاب هذه المعتقدات الخاطئة وذلك في رسائله واصفًا إياهم أنهم “غير مؤمنين” بل “وملحدين”[6].

كما أنه شدّد على أن المسيح ” بالحقيقة وُلِدَ، وأكل، وشَرَبَ وبالحقيقة صلب ومات … وبالحقيقة قام من الأموات “[7]. وفي القرن الثالث انتشرت هذه البدعة أكثر والتحمت أفكارهم مع أفكار الغنوسيين الذين كانوا يحتقرون كل ما هو مادي، أرضي، مخلوق، والذين كانوا ينادون أن الكلمة الأزلي نزل من العالم الروحي الأعلى وأنه اتحد في المعمودية، بالمولود من يوسف ومريم العذراء، بدون أن يصير إنسانًا حقيقيًا، بل حسب الظاهر.

وقَبلْ موت يسوع على الصليب، فإن الكلمة الأزلي قد فارقه حتى يكون موت الصليب هو موت الإنسان فقط. وفي تعاليم أخرى لهم قالوا إن جسد المسيح، هو جسد سماوي وإنه استخدم مريم العذراء كوسيلة فقط لكي يظهر بها على الأرض. والبعض الآخر كان يرفض بشدة أن يكون للمسيح جسد مخلوق[8].

          ولم يقف ق. أثناسيوس صامتًا أمام كل هذه التعاليم الخاطئة، بل وضع أمام أسقف كورنثوس ابكتيتوس إيمان الكنيسة بكل وضوح حتى يساعده في مواجهة القائلين بهذه التعاليم المنحرفة، فكتب له قائلاً: [ وهذه الأشياء[9] لم تحدث بمجرد الظن كما يقول أولئك، فإن هذا الظن يكون ضربًا من الخيال ] (فقرة: 7).

          وفي عبارات واضحة يربط القديس أثناسيوس البُعد الخريستولوجي بالبُعد السوتيرولوجي، بمعنى أنه بسبب تجسد الابن الوحيد وكلمة الله، واتحاده الأقنومي بطبيعتنا البشرية، اتحادًا حقيقيًا وطبيعيًا، صار خلاصنا، أمرًا حقيقيًا، وواقعًا ملموسًا، لهذا يستكمل ق. أثناسيوس في نفس الفقرة تعليمه ردًا على هذه الأفكار التي لو صدقت لكان [ خلاص الإنسان وقيامته يعتبران مجرد إدعاء غير حقيقي ] (فقرة 7)

ويستطرد موضحًا إيمان الكنيسة فيقول: [ إلاّ أن خلاصنا في واقع الأمر، لا يعتبر خيالاً، فليس الجسد هو الذي حصل على الخلاص، بل الإنسان كله من نفس وجسد حقًا، لقد صار له الخلاص في الكلمة ذاته ][10] (فقرة 7).

          ويَخلُص القديس أثناسيوس إلى حقيقة الأمر وهى أن جَسَد الرّب [ المولود من مريم هو بشري بالطبيعة، بحسب الكتب الإلهية، وأن جسده هو جسد حقيقي[11]. وهو حقيقي لأنه هو نفس جسدنا، حيث إن مريم هى أختنا، لأننا نحن جميعًا (هى ونحن) أيضًا من آدم ] (فقرة: 7).

 

          4ـ تفنيد الرأي القائل إن الجسد ليس أحدث (زمنيًا) من لاهوت الكلمة، بل هو مساوٍ له في الأزلية وهو معه على الدوام حيث إنه قد تكون من جوهر الحكمة.

          بعد أن أجمل ق. أثناسيوس ـ في بداية رسالته ـ كل التعاليم التي علّم بها المنحرفون، وذلك من خلال قراءة المذكرات التي بعث بها إليه الأسقف ابكتيتوس، نجده هنا يبيّن خطورة التعليم بأن الجسد المأخوذ من العذراء مريم ليس هو جسدًا بشريًا يشبه طبيعتنا المخلوقة في كل شئ ما عدا الخطية وحدها، إذ أن مثل هذا التعليم معناه أن الجسد من نفس جوهر الكلمة الأزلى، وحجتهم في هذا هو أنهم يدافعون عن عقيدة الثالوث، بقولهم: [ إن الجسد من نفس جوهر الكلمة وهكذا يبقى الثالوث ثالوثًا.

لأنه لا يكون هناك شيئًا غريب قد أضيف إلى الكلمة، ولكن إن قلنا إن الجسد المأخوذ من مريم، إنما هو بشري، فمن الضروري حيث إن الجسد غريب في جوهره عن الكلمة والكلمة كائن فيه، فإن إضافة الجسد تجعل هناك رابوعًا بدلاً من ثالوث ] (فقرة: 8).

          غير أن القديس أثناسيوس يُفند هذه المزاعم الكاذبة بقوله: [ إن الذين يتناولون هذه الأمور بهذه الطريقة، لا يدركون أنهم يقعون في تناقض مع أنفسهم، لأنهم حتى وإن قالوا إن الجسد ليس من مريم بل إنه من نفس جوهر الكلمة، (وهذا ما يتظاهرون أنهم يفكرون به وذلك لكي لا يظهروا حقيقة ما يفكرون فيه)

فإنه بحسب تفسيرهم هذا، يمكننا أن نوضح أنهم يقولون برابوع، لأنه كما أن الابن، بحسب الآباء، هو من نفس جوهر الآب، وليس هو الآب نفسه، بل يُقال إنه ابن من نفس جوهر الآب، هكذا جسد الكلمة (الذي يقولون) إنه من نفس جوهر الكلمة لا يكون هو الكلمة ذاته بل هو آخر بالنسبة للكلمة … ولكونه آخر (غير الكلمة) فإنه بحسب رأيهم يكون ثالوثهم رابوعًا ] (فقرة: 9).         

          وهنا يضع القديس أثناسيوس ـ بكل وضوح ـ إيمان الكنيسة في الثالوث القدوس فيقول: [ لأن الثالوث الحق، والكامل[12] بالحقيقة وغير المنفصل لا يقبل إضافة ] (فقرة:9). بل ويختم هذه الفقرة شاهدًا أن هذا الإيمان الثالوثي هو ما يُكرَز به في الكنيسة فيقول: [ إذًا فالثالوث هو ثالوث، رغم أن الكلمة حصل على جسد من مريم. والثالوث كامل لا يقبل زيادة أو نقصان، ولا نعرف إلاّ لاهوتًا واحدًا في الثالوث، وهكذا يكرز في الكنيسة بإله واحد هو أب الكلمة ] (فقرة:9).

          ويضع ق. أثناسيوس أصبعه على علّة هذا الاعتقاد الخاطئ من جهة الثالوث لدى هؤلاء المخالفين فيقول [ إن فكرة (الإضافة) قد اختلقها هؤلاء الأشخاص ] (فقرة:9).

          ويوضح سبب هذا الفكر الخاطئ لديهم بقوله: [ لأنهم يظنون أنه بسبب ما هو موجود في الكتب وما قيل فيها من أن جسد المخلّص هو من مريم وأنه بشري، فإنهم يعتبرون بذلك أن هناك رابوعًا بدلاً من ثالوث كما لو كانت قد حدثت إضافة بسبب الجسد ] (فقرة: 9). أما نتيجة هذا الفكر الخاطئ فهو [ إن الذين يساوون الخالق بالخليقة يضلون كثيرًا، إذ أنهم يتوهمون أنه من الممكن أن يقبل اللاهوت إضافة. وعجزوا عن أن يدركوا أن الكلمة صار جسدًا، ليس لأجل إضافة (شئ ما) إلى اللاهوت بل من أجل أن ينال الجسد قيامة ] (فقرة: 9).

وفي تعبيرات واضحة كل الوضوح يعلّم عن علاقة كلمة الله الأزلي، بالجسد الذي اتخذه من الروح القدس ومريم العذراء عندما تجسد فيقول: [ ولم يأتي الكلمة من مريم لكي يرتقي هو، بل لكي يفدي الجنس البشري. فكيف إذًا يفكرون أن الجسد وهو الذي افتداه الكلمة وأحياه، يقوم بإضافة شئ ما من ناحية اللاهوت إلى الكلمة الذي أحياه؟ بل بالعكس فإن الجسد البشري ذاته هو الذي الذي حدثت له زيادة كبيرة، بسبب شركة الكلمة معه واتحاده به، لأن (الجسد) صار غير مائت بعد أن كان مائتًا، ورغم أن الجسد كان حيوانيًا (نفسانيًا) فقد صار روحانيًا، ورغم أنه من تراب الأرض، فقد اجتاز الأبواب السماوية] (فقرة: 9).

 

5ـ الرد على الذين يَشكّون كيف أن الرب المولود من مريم بينما هو ابن الله بالجوهر والطبيعة فإنه من نسل داود من جهة الجسد ومن جسد القديسة مريم:

          وتتمثل خطورة التعاليم التي كان ينادي فيها البعض في كورنثوس والتي سجلها القديس ابكتيتوس في المذكرات التي بعث بها للقديس أثناسيوس في أن هذه التعاليم كانت تنكر وبطريقة مباشرة ألوهية المسيح، الله الذي ظهر في الجسد.

لهذا بعد أن بيّن القديس أثناسيوس إيمان الكنيسة القويم في ألوهية الكلمة المتجسد وكمال طبيعته البشرية، يدعوهم قائلاً: [ من أجل هذا فليصمت أولئك الذين سبق أن قالوا إن الذي جاء من مريم ليس هو المسيح والرب والإله، لأنه لو لم يكن إلهًا في الجسد، فكيف بمجرد ولادته من مريم دُعيّ ” عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ” (مت23:1) ].

          ويسوق ق. أثناسيوس شهادة القديس بولس عن نفس الحقيقة فيقول: [ وأيضًا لو لم يكن هو الكلمة في الجسد، فكيف كتب بولس الرسول إلى أهل رومية: ” ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين ” (رو5:9) ] (فقرة: 9).

 

6ـ تفنيد الرأى القائل إن المسيح المتألم بالجسد المصلوب ليس هو الرّب المخلّص والإله وابن الآب:

          ويضع ق. أثناسيوس هؤلاء الذين ينكرون الابن المتجسد، والمصلوب من أجلنا، في المواجهة مع حقيقة ما رآه توما بعينيه وما لمسه بيديه وما شهد به علانية فيقول:     [ أولئك الذين سبق لهم أن أنكروا أن المصلوب هو إله، فليعترفوا بأنهم قد أخطأوا، لأن الكتب الإلهية تحصنهم ـ وبنوع خاص ـ توما، الذي بعد أن رأى آثار المسامير صرخ قائلاً: ” ربي وإلهي ” (يو28:20) ] (فقرة: 10).

ومرّة أخرى يُسجل ق. أثناسيوس في رسالته في عبارات عميقة وواضحة إيمان الكنيسة بألوهية الابن المتجسد ووعيها بأحداث الصليب ونتائجه فيقول: [ لأن الابن إذ هو الله ورب المجد، كان في الجسد الذي سُمر وأُهين بخزي، أما الجسد فكان يتألم وهو على الخشبة، وكان يسيل من جنبه (المطعون) دم وماء.

ولكن بسبب أنه كان هيكل الكلمة بالحقيقة، فقد كان مملوءًا من اللاهوت. ولهذا السبب إذًا عندما رأت الشمس خالقها وهو يتألم في الجسد المُهان، سحبت أشعتها واظلمت الأرض، ولكن الجسد نفسه، وهو من طبيعة مائتة، قام بطبيعة تفوق طبيعته بسبب الكلمة الذي فيه، وتوقف فساده (اضمحلاله) الطبيعي، وإذ قد لبس الكلمة الذي هو فوق الإنسان، هذا الجسد، فقد صار (الجسد) غير فاسد (غير مضمحل) ] (فقرة: 10).

 

7ـ دحض الرأى القائل إن الكلمة قد حلّ على إنسان قديس كما كان يحل على أى واحد من الأنبياء، ولم يعد هو نفسه (الكلمة) إنسانًا باتخاذه الجسد من مريم:

          في رده المباشر على هذه الإنحرافات أو كما يسميها ق. أثناسيوس في رسالته [ ما يتخيله البعض ] (فقرة:11)، يكتب مؤكدًا: [ من العبث أن نجادل هذا القول، حيث إن جنونهم يحوي في طياته دينونته الواضحة.

لأنه لو كان قد جاء بهذه الطريقة، فلماذا جاء هذا الإنسان من عذراء ولم يولد هو أيضًا من رجل وامرأة؟ فإن جميع (الأنبياء) القديسين وُلِدوا هكذا (من رجل وامرأة) أما وقد جاء الكلمة هكذا (من عذراء)، فلماذا لا يقال إن موت كل واحد (من الأنبياء) قد حدث لأجلنا[13]، بل (يقال هذا فقط) على موت هذا الإنسان وحده؟ ] (فقرة: 11).

          ويأتي ق. أثناسيوس ببرهان كي يثبت أن تجسد كلمة الله يختلف عن حالة الأنبياء الذين قد صارت كلمة الله إلى كل واحد منهم، فيقول: [ وإن كان الكلمة قد سكن بيننا لفترة قصيرة، والأنبياء مثله قد أقاموا أيضًا فترة على الأرض، فلماذا يقال عن المولود من مريم إنه استوطن بيننا مرة واحدة عند انقضاء الدهر (عب26:9). وإن كان قد جاء هو، كما سبق أن جاء في القديسين (الذين قبله)، فلماذا مات جميع هؤلاء القديسين الآخرين ولم يقوموا بعد، في حين أن المولود من مريم وحده، قام من خلال فترة الثلاثة أيام؟ ] (فقرة: 11).

          ويستطرد ـ في نفس الفقرة ـ في سرد البراهين الكتابية التي تدعم تعاليمه العقيدية فيقول: [ وإن كان الكلمة قد جاء بطريقة مماثلة لتلك التي سبق أن جاء بها في الآخرين، فلماذا يُدعى المولود من مريم وحده، عمانوئيل، أى الذي وُلِد منها جسدًا مملوءً بالألوهية؟ لأن عمانوئيل تفسيره “الله معنا” ] (فقرة:11).

          ويوضح ق. أثناسيوس أن هناك فرقًا واضحًا بين الأنبياء والكلمة المتجسد ذلك أنه [ بينما يقال عن الآخرين أنهم فقط وُلِدوا متناسلين، يقال في حالة المولود من مريم وحده أن “الكلمة صار جسدًا ” (يو14:1) ] (فقرة: 11).

          وأخيرًا يختم ق. أثناسيوس رسالته فيوضح عمل الكلمة في الأنبياء، ويقدّم شهادة إيمان واضحة، تعكس ما آمنت به الكنيسة دائمًا من جهة ألوهية الكلمة المتجسّد، وكمال ناسوته فيقول: [ من كل هذا تبيّن أن الكلمة جاء إلى جميع الآخرين (الأنبياء) لكي يتنبأوا، أما الكلمة نفسه الذي وُلِدَ من مريم فقد اتخذ منها جسدًا وصار إنسانًا، إذ هو بطبيعة جوهره كلمة الله، أما من جهة الجسد فهو إنسان من نسل داود ومن جسد مريم كما قال بولس (انظر رو3:1) ].

          ولما كان البابا أثناسيوس هو المدافع الأول عن ألوهية الكلمة المتجسد، ضد هرطقة الآريوسيين، والذي شهد التاريخ لموقفه الحاسم، ودوره الفعّال في مجمع نيقية، فقد أراد في ختام رسالته أن يشدّد مرّة أخرى على أهمية الربط بين قانون الإيمان وقانون العبادة فالإله الذي نؤمن به هو الذي نقدم له العبادة وبهذا يتحقق فداؤنا، فيقول:

[ … وقد أظهره الآب في الأردن وعلى الجبل قائلاً: ” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ” (مت13:3) والآريوسيين أنكروه، أما نحن فنعترف به ونعبده ولا نفصل الابن عن الكلمة، بل نعرف أن الابن هو نفسه الكلمة الذي به قد كان كل شئ والذي به افتدينا نحن ] (فقرة: 11).

          لقد كان جون كواستن John Quasten عالِم الآبائيات، محقًا عندما شهد عن القديس أثناسيوس قائلاً: [ إن أعظم فضل لأثناسيوس يتركز في أنه دافع عن المسيحية التقليدية وحفظها من خطر التلوث اليوناني الكامن في هرطقة آريوس وأتباعه ][14].

          وها نحن نرى تأثير تعاليم القديس أثناسيوس يمتد في الكنيسة الجامعة في عصره، الأمر الذي جعل أسقف كورنثوس باليونان يطلب مشورته، بل وأيضًا نجد أن الآباء الأقباط في القرن العاشر الميلادي، قد أعطوا لهذه التعاليم وتلك الكتابات، المكانة التي تستحقها فعملوا على ترجمتها وحفظها في تراثهم العربي المسيحي.

[1]  نتابع هنا تعاليم ق. أثناسيوس التي سبق أن عرضناها في الجزء الأول من هذا المقال.

2 ولقد عبّرت الكنيسة عن هذا الإيمان في القداس الإلهي قائلة: ” لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين “.

3 كثيرًا ما كرر ق. أثناسيوس أن جسد الكلمة هو جسده الخاص. انظر مثلاً كتاب تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية د. جوزيف موريس فلتس. المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، الطبعة الرابعة 2006 ص21، 22، 25، 57، 58، 73، 88.

4 وهذا هو أيضًا ما تُعبّر عنه الكنيسة في صلوات التسبحة قائلة في ثيؤطوكية الجمعة: ” هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له .. ” انظر الابصلمودية السنوية، طبعة دير البراموس الطبعة الثالثة 2007 ص373.

5 يردد الكاهن هذه الحقيقة في صلوات القداس الإلهي فيقول: ”  بل أنت وحدك بغير استحالة (تحوّل) تجسّدت وتأنست .. ” انظر الخولاجي المقدس، طبعة دير البراموس الطبعة الرابعة سنة 2006 ص317.

6 الرسالة إلى أهل تراليا:10، الرسالة إلى أهل سميرنا1:5ـ2.

7 الرسالة إلى تراليا1:9ـ2، الرسالة إلى سميرنا 2:4.

[8]  θρησκευτική καί ήθική ̉εγκυκλοπαιδεία, Αθηναι, 1964, Τόμος 5. σελ: 149-150.

9 يقصد كل ما فعله الله الكلمة، في سر التدبير الإلهي، بتجسده وموته وقيامته من أجلنا ومن أجل خلاصنا.

10 في موضع آخر من كتاباته يشرح ق. أثناسيوس بإسهاب معنى أن خلاصنا هو أمر واقع فيقول: ” وهكذا إذ اتخذ جسدًا مماثلاً لطبيعة أجسادنا وإذ كان الجميع خاضعين للموت والفساد فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدّمه للآب.

كل هذا فعله من أجل محبته للبشر أولاً: لكي إذ كان الجميع قد ماتوا فيه، فإنه يُبطل عن البشر ناموس الموت والفناء، وذلك لأن سلطان الموت قد استنفذ في جسد الرب، فلا يعود للموت سلطان على أجساد البشر (المماثلة لجسد الرب). ثانيًا: وأيضًا فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية يعيدهم إلى عدم الفساد ويحييهم من الموت بالجسد الذي جعله جسده الخاص، وبنعمة القيامة يبيد الموت منهم كما تبيد النار القش. تجسد الكلمة، المرجع السابق. فصل 4:8 ص22.

11 يشرح ق. أثناسيوس معنى أن جسد المسيح الذي اتحد به هو جسد حقيقي معتمدًا على ما جاء في الكتاب المقدس فيقول  ” عندما يتحدّث الكتاب الموحى إليهم عنه أنه يأكل ويشرب وأنه وُلِدَ فإنهم يقصدون أن الجسد كجسد وُلِدَ واقتات بالطعام المناسب لطبيعته.

أما الله الكلمة نفسه الذي كان متحدًا بالجسد، فإنه يضبط كل الأشياء. وكل أعماله التي عملها وهو في الجسد تُظهر أنه لم يكن إنسانًا بل كان الله الكلمة، وأما هذه الأمور فإنها تُذكر عنه لأن الجسد الذي أكل ووُلِد تألم لم يكن جسد أحد آخر بل كان جسد الرب نفسه. ولأنه صار إنسانًا كان من المناسب أن يقال عنه هذه الأمور كإنسان حتى يتبيّن أنه أخذ جسدًا حقيقيًا لا خياليًا ” تجسد الكلمة، المرجع السابق فصل 1:18 ص51.

12 وترد الكنيسة في صلواتها الليتورجية هذه الحقيقة عندما ترنم قائلة: ” لأنه مبارك الآب والابن والروح القدس الثالوث الكامل نسجد له ونمجده “.

13 كما نردد في قانون الإيمان .. هذا الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا ..

الجزء الأول: رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 1 – د. جوزيف موريس فلتس

[14] Quasten, Patrology, Vol. III. P. 66

رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أبكتيتوس 2 – د. جوزيف موريس فلتس