آبائياتأبحاث

التعاليم اللاهوتية واللغة – رؤية أبائية – القس اثناسيوس اسحق حنين

التعاليم اللاهوتية واللغة – رؤية أبائية – القس اثناسيوس اسحق حنين

التعاليم اللاهوتية واللغة - رؤية أبائية - القس اثناسيوس اسحق حنين
التعاليم اللاهوتية واللغة – رؤية أبائية – القس اثناسيوس اسحق حنين

التعاليم اللاهوتية واللغة – رؤية أبائية – القس اثناسيوس اسحق حنين

مقدمة:

اللاهوت θεολογία)) هي كلمة يونانية تتكون كمعظم الكلمات اليونانية من مقطعين الأول (Θεός ) ويعنى الله والثاني (λόγος ) أي الكلام أو الحديث، فيصير المعنى: الكلام عن الله أو الحديث في الإلهيات. ويخبرنا الآباء بأن الثيؤلوجيا هي التعليم عن الثالوث وعلاقة الله بالخليقة[1] . بينما اللغة هي أداة التواصل بين البشر ونحن نعلم أن التعليم عن الله واحد لا يتغير ولا يتطور ولا ينحصر في لغة بشرية[2]، بينما اللغة تتغير وتتطور وتنحصر في حدود جغرافية وثقافية معينة.

 

1 – برج بابل والعنصرة والعلاقة بين الله واللغة:

أول قصة لعلاقة الله باللغة والتاريخ يقدمها لنا الكتاب المقدس في صورة رمزية ولغوية رائعة في قصة برج بابل، حينما يقول الوحي الإلهي ” وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة” (تك 11:1).

لكن عندما قرَّر أولاد نوح ونسله، لأن حسب شهادة الكتاب المقدس ” من هؤلاء تفرقت الأمم في الأرض بعد الطوفان ” (تك 10: 32)، أن يستغلوا اللغة الواحدة لأغراض مضادة لمقاصد الله، فرأى الله بسابق علمه أن اللغة الواحدة لن تكون وسيلة لنشر ملكوته وإنهم إستخدموها لخدمة أغراض خاصة لم يفصح عنها كاتب سفر التكوين ولكنها لاشك لا ترضى الله (تك 11:6 ). فقام الله لأول مرة في التاريخ بالتدخل لتغيير مسار لغة البشر ببلبلة ألسنتهم وفى الترجمة السبعينية البلبلة تعنى إثارة الاضطراب واللخبطة والارتباك الذهني والتشويش النفسي.

 

كما أن الله تدخل بعد ذلك في العنصرة لتصحيح مسار البلبلة اللغوية وتحويلها إلى سيمفونية تمجيد لعظائم الله، ففي العنصرة كانت السماء تبارك التعددية الثقافية واللغوية، والسبب أن البشرية قَبِلت هذه التعددية وجاءت بقرابينها الروحية والثقافية واللغوية وألقتها تحت أقدام الروح القدس في العنصرة فأعادها إليهم في الروح وحدة وانسجام((συμφωνία وتمجيد وكرازة، ومما ساعد على تجاوز صراع الثقافات يوم الخمسين أن جميع الذين كانوا يمثلون أقطار العالم في ذاك الزمان ” كانوا معا بنفس واحدة ” (أع 2:1-13) [3]

ومن بعد حادثة برج بابل بدأنا نسمع عن لغات قومية بالمعنى المعاصر أي علم اللغة ” في ذلك اليوم يكون في ارض مصر خمس مدن تتكلم لغة كنعان وتحلف لرب الجنود” (إش 19: 18 ). [4] وبدأت اللغة تأخذ طريقها الطبيعي فنجد أنها في بعض الأحيان غامضة عن الإدراك، ويؤنب الكتاب المقدس الشعب أنهم وإن تكلموا لغة واحدة وحظوا بعناية الله، إلا أنهم ” الشعب الشَّرِسَ لاَ تَرَى. الشَّعْبَ الْغَامِضَ اللُّغَةِ عَنِ الإِدْرَاكِ، الْعَيِيَّ بِلِسَانٍ لاَ يُفْهَمُ” (إش 33:19). والرسول بولس يتكلم عن قوة اللغة (1كو14:11 ) وحينما قالت الجارية ومن معها لبطرس ” إن لغتك تظهرك ” (مت 26:73)، كانت تعنى لغته الأم الفعلية أي العبرانية.[5]

 

2 -اللاهوت واللغة في العهد الجديد وعند الآباء:

التيارات البروتستانتية المعاصرة إنطلقت من أرضية إن الكلمة تكشف جوهر الإعلان الإلهي وأن مركز الاهتمام هو العظة وليس الافخارستيا وانه ليس من مسافة كيانية بين الله والبشر، وهذا يعني أن الله والكون شئ واحد لا فرق بينهما. وعلى هذا الأساس فلغة الكتاب تتطابق مع الإعلان الإلهي. أي يتم تقديس اللغة، وتكون العظة والتحليلات اللفظية لمعانيها هي بمثابة الإعلان الإلهي، وهذا يؤدى إلى تهميش الأساس الكنسي والإفخارستى للكلمة، ويؤدى إلي تأليه اللغة. ويسود في العالم الغربي ومَنْ يتأثرون به في الشرق، المنهج التحليلي والتفسيري للكلمة. ولاشك أن هذا المنهج اللغوي في التحليل قد استثمره كبار الوعاظ في كافة الطوائف، ومن أهم أثاره انه يحدث انبهار نفسي عند العامة والبسطاء ويتركهم أسرى الألفاظ وتأويلاتها.

3 – الأساس الفلسفي لعلاقة اللاهوت الغربي باللغة:

نحتاج أن نقف قليلاً لنتأمل الأسباب الجوهرية وراء تركيز الغرب على التحليل اللغوي والتفسير الكتابي، فهذا الأمر يتعلق بخلفيات ثقافية وفلسفية خاصة بمسيرة الإنسان الغربي وتاريخه. فالحركة البروتستانية مع كل إحترامنا ولكننا نتكلم علميًا لم تظهر في الشرق وليس لها جذور شرقية. فالفكر الفلسفي الغربي منذ العصور الوسطى مرورًا بتوما الأكويني هو الإبن البكر للفلسفة الوضعية الأرسطوطالية. وحديثًا إهتمت الفلسفة في الغرب باللغة ومعناها ودورها في الفكر الفلسفي وهذه اللغة بالطبع هي اللغة نفسها التي يستخدمها الدارسون، ومنذ بداية القرن الماضي ظهر المفكرون أمثال برتراند راسل ووجهوا نظر الفلاسفة إلى التحليل اللغوي[6]. ومن هنا ونتيجة للمناخ الثقافي الذي كان قد إبتعد عن المناخ الشرقي الصوفي، تأثر المفسرون البروتستانت بالمنهج التحليلي اللغوي، وساَّد في الغرب التحليل اللغوي والبراهين الفلسفية على وجود الله، ووّصل في اللاهوت الكاثوليكي إلى طرح السؤال عما يحدث في الإفخارستيا، وعن ماهية التحول فيما يُسمي باللاهوت المدرسي، بينما ساد في الشرق اللاهوت النُسكي الإختباري، العابد والصامت صمت العذراء أمام البشارة، وإذا أضطر للكلام فلكي يُعَّظِم مع أُم النور الرب ويبتهج بالله مخلصه (لو1).

في الكنيسة وفي اللاهوت الأرثوذكسي الكلمة هي البشارة السارة (ευαγγέλειον) لخلاص الخطاة في شخص المسيح له المجد، والرسول بطرس يفتخر بأنه لم يأت للسامعين بمجرد لغة أو كلمات، ولكن بقوة المسيح وحضوره (2بط16:1). فكلمات الإنجيل هي وصف حقيقي لحقيقة التجسد وعمل وآلام وقيامة إبن الله في زمان تاريخي (على عهد بيلاطس البنطي) ولكن مهما كان الوصف ومهما علا شأن اللغة: “فليس شيء من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر”[7]. فالمسيحية ليست مجرد عظة لغوية بديعة بل إتحاد بالمسيح وتغيير للحياة، وتجلى الواقع. والدليل على ذلك، أن الرب يسوع أعطى ذاته للبشرية لتحيا به. فاللغة مهما علىَّ شأنها هي الدعوة للذهاب إلى العرس، بينما الدخول إلى العرس هو شركة تفوق الكلام فالإنسان يستلم دعوة العُرس في أي وضع، بينما إذا قرر الذهاب إلى العرس فعليه أن يلبس لباس العرس، ومثال العرس هو مثال معبر عن العلاقة بين الدعوة للعُرس أي الصوت الداخلي، والكشف الإلهي، فالدعوة يتلقاها المؤمن في أي مكان وبأي شكل، فالروح يهب حيث يشاء. فاللغة في الكنيسة الأولى كانت وسيلة للدعوة وللشركة مع المسيح، والحياة في المسيح. وبولس الرسول خير شاهد على ذلك (1كو40:7ـ غلا20:2) فاللغة ـ بشهادة فيلسوف المسيحية ـ لا تفيد شيئًا إذا غابت الشركة الحقيقية مع الإله المتجسد يسوع المسيح، وغابت ثمارها العملية (1كو1:13). والرسول بولس إستخدم تعبير (الإله المجهول)، إستخدم نفس التعبير للكلام عن إله مختلف تمامًا أي (الإله المعلوم)، ويوحنا الحبيب إستخدم نفس التعبير الفلسفي (اللوغوس) لكي يقول أن (اللوغوس صار جسدًا وحل بيننا) (يو1:14). فالكلمة لها ماضي كبير في اللغة من قبل المسيحية، ولكن ماضي الكلمة الوثني وتاريخها لا يمنع تلاميذ المسيح من إستعمالها في سياق جديد تمامًا، لأن الإعلان الإلهي وأن كان يعبر عن نفسه في الألفاظ، إلا أنه فوق الألفاظ ولا ينحبس فيها وظاهرة الهذيذ في الحياة النُسكية، أي شركة صامتة تفوق الألفاظ، فاللاهوت النُسكي والآبائي يلفت النظر إلى أن العمق اللاهوتي أكبر من قدرة الألفاظ، ولهذا خادم الكلمة في الكنيسة، من أجل حياة العالم، يجاهد دائمًا لإنتقاء الكلمات المناسبة لمستوى السامعين، وهو لا يتمسك بألفاظ صعبة من شأنها جرح الضمير الكنسي، وإحداث بلبلة وسط شعب الله. والمثال على ذلك ما حدث مع القديس كيرلس الكبير الذي سعى للصلح مع الأنطاكيين مضحيًا ومتنازلاً عن أجمل العبارات الخرستولوجية العزيزة عنده والتي لم يفهمهما الأنطاكيون.

أيضًا حينما قَبِل المصريون المسيح، أدانوا ماضيهم وأخذوا أجمل أصوات اللغة الفرعونية مع حروف يونانية، وكوَّنوا اللغة القبطية في سابقة لغوية وما أروع أن تنقذ لغة تموت بحروف لغة حية. فالوحي الإلهي أعطى النعمة، والمصريون أبدعوا اللغة، ورغم أن الله نزَّل على الأرض وسكَّن بيننا، إلا أن القبطي لم ينظر إلى لغته على أنها لغة مُنزلة. وهكذا اليونانيون الذين إستطاعوا بنعمة الله أن يروَّضوا لغتهم الجامحة والعنيدة والمتكبرة بفلسفتها لنعمة الإنجيل، نفس الشيء مع السريان والأرمن والأحباش، وفي أكبر الحوارات اللاهوتية يتكلمون الإنجليزية ولا يتكلم أحد بلغته الأم رغم أنه يدافع عن لاهوت كنيسته. فاللغة في خدمة اللاهوت، والحرف في خدمة الروح، والتاريخ مكان خدمة عمل الله.

فالله يعلن عن نفسه بالروح، وتستقبله النفوس المستعدة التي يختارها ليتحول الإعلان فيهم إلى لغة لاهوت. فاللغة ليست موضوع الإعلان الإلهي بل الحب، فالله هو خالق كل الأشياء ومعلن الحق وليس خالق للألفاظ لأن الألفاظ يصيغها الإنسان من أجل الإنسان، والله لا يحتاج لها كما يقول القديس غريغوريوس النيسي ضد إفنوميوس “نحن لا نصنع جوهر الأشياء بل نعطيها أسماء”. والقديس أنطونيوس أذهل الفلاسفة حينما سألهم أيهما أسبق العلم أم الإيمان، أجابوه: الإيمان، فقال لهم: من له الإيمان لا حاجة له للعلم. فكل اللغات تقدر أن تعبر عن إعلان الله ولكن لا واحدة منها تقدر أن تتدعي احتكارها للحقيقة.

والقديس اغناطيوس الأنطاكي يقدم لنا في رسائله أن لاهوته وفكره الكنسي الرائع الذي كتبه في رسائله: من رؤية لاهوتية ومن مواجهته لقضايا ومشاكل الكبرياء والتعالي وعدم احترام التنظيمات الكنسية، إنما قدمه حينما كرز بالروح، وقال أنه سيكتب مرة أخرى لأهل أفسس فقط إذا أراد الرب “وكشف له أمرًا جديدًا”. والأمر الجديد بالطبع ليس إعلانًا جديدًا بل استنارة جديدة، وإلقاء للنور على نقاط لم يتناولها أحد غيره ويحتاجها المؤمنين والكنيسة في جهادها ضد أباطرة وفلسفات هذا الدهر، ولا تتناقض مع المسلّم مرة للقديسين، وحينما كتب اغناطيوس، بالرغم من أنه لا يفصله وآخِر كتابات العهد الجديد سوى عشر أعوام، جاء بأشياء جديدة فهو أول من سمى نصوص العهد الجديد (بالإنجيل). وقد قام عليه الذين يعبدون الحرف، وإحتجوا بأن ما يقوله لم يَرِد في الكتاب المقدس[8]، فأجاب الشهيد اغناطيوس: بأن الإنجيل بالنسبة له ليس كلمات محدودة أو مجرد نصوص فقط، بل هو شخص المسيح “الإنجيل بالنسبة لي هو المسيح وهو الصليب وموت السيد عليه والقيامة والإيمان بالرب”[9]. فإغناطيوس نظَّر إلى لغة الإنجيل كدعوة إلى الدخول في سر المسيح والكنيسة، فكتب لنا تراثًا لاهوتيًا وكنسيًا ليس موجودًا حرفيًا في الإنجيل، إلا إنه يتفق مع جوهره وقصده. ولقد تبنت الكنيسة رؤيته اللاهوتية وضمتها لتراثها اللاهوتي والآبائي.

 

4ـ الخبرة اللاهوتية واللغة بين القديس أثناسيوس والمبتدع آريوس:

الخبرة الروحية والبصيرة اللاهوتية هي البركات والعطايا الآتية من دموع التوبة والصوم والمِطانيات والقراءة والسهر، وفوق ذلك كله فعل الروح القدس في داخل النفس[10]. وهناك فارق كبير بين اللغة والبصيرة اللاهوتية، وبين كلام الحكمة المقنع وسمو الكلام، وبين برهان الروح والقوة (1انظر كو1:2). والدليل على المسافة الكبيرة بين اللاهوت كإعلان لمقاصد الله وتدابيره وبين اللغة كوسيلة التعبير والتفسير لهذه المقاصد ظاهرة في علاقة الرب بتلاميذه. فقد كان السيد يكلمهم بلغتهم الأم وفي كثير من الأحيان لم يفهموا كلامه عن ملكوت الله، وعن شخصه المبارك، وبعضهم قال أن هذا الكلام (اللغة) صعب وبعضهم رجعوا إلى الوراء ولم يعودوا يمشوا معه (يو60:6ـ66). إستعملوا نفس اللغة وغاب التفاهم. فاللغة، إذن، مهما كُشِفَت ومهما شُرِحَت لا تكفي لكي يقبل الإنسان الحقيقة. فالإنسان يحتاج، في الوقت الذي يستمع فيه إلى كلمة الله، إلى نور خاص يفتح عيون ذهنه (لو13:24ـ35) لكي يقبل حقائق الإيمان التي تعبر عنها كلمات الرب، وعمل الإستنارة يقوم به الروح القدس في تآزر مشترك مع الإنسان نفسه. ولهذا فالرب لم يكتفي بالكلمات واللغة بل قدَّم جسده في الإفخارستيا. ولم تكتف الكنيسة بترديد كلمات التأسيس فقط (مت26:26، مر22:14، لو19:22، 1كو23:11). بل تستدعي الروح القدس لأن قوة الله الحقيقية لا تقتصر على الحروف بل على الحضور[11]. ورغم أن الرب يسوع أعطى بنفسه كلمات التأسيس للإفخارستيا، إلا أن الكنيسة رأت بروح الرب أن تستدعي الروح القدس لكي يقوم بتحويل كلمات الرب نفسه إلى فعل وسر وحضور وبهاء ليتورجي، هكذا هناك احتياج كبير لأن يقوم الكاهن بإستدعاء الروح القدس الأقنوم الثالث لكي يحوَّل بنفس كلمات الرب التأسيسية الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، ويتم السر الآن وهنا في أعظم مدن الحضارات والثقافة، وفي أبسط القرى والنجوع. وظهرت الليتورجيات بأشكالها وأحجامها المختلفة، ومَنْ يرفض الليتورجيات ويمتنع عن التأمل فيها يَحرِم نفسه أولاً من خبز الله على حد تعبير القديس إغناطيوس، ومن ناحية أخرى لا يستمتع بالتأمل بالمعنى الآبائي لعمل الروح في لغات وموسيقى وثقافات وتراث البشرية. ولهذا فمن نافل القول أن نؤكد على أن اللاهوت الليتورجي من أهم فروع الدراسات اللاهوتية اليوم في العالم، الفرع الذي يدرس ويتمعن في (هذا السر العظيم الذي للتقوى)، وهكذا تصير الإفخارستيا سر إستعلان الثالوث. يا لها من سيمفونية سماوية وإبداعات لاهوتية وكنسية. وهكذا أيضًا يحق للمصلي في القداس القبطي أن يُسبح مع القديسين قائلاً: “نسبحك ونباركك ونمجدك ونشكرك يا رب لأجل هذه النعم العظيمة)[12]. فالتعليم اللاهوتي في كنيستنا يتحول إلى تسبيح وتمجيد وشكر ولم يكن أبدًا قضية لغوية وفكرية.

فاللغة ضرورية ولكنها ضعيفة، فكنز الإختبارات الروحية موضوع بالضرورة وللضرورة في أواني إنسانية ولغوية وحضارية خزفية (2كو7:4)[13]. ولقد ظهرت هذه القضية بوضوح في القرن الرابع الميلادي في العصر الذهبي للآباء الكبار، فآريوس الذي درَّس وفسَّر الكتب المقدسة كثيرًا علَّم أن الإبن الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس هو مخلوق، وليس إله حق من إله حق، بينما القديس أثناسيوس الذي يعرف نفس اللغة التي يستخدمها آريوس برَّهن بطرق عديدة أن الإبن له ذات طبيعة الآب فهو الله الحقيقي بحسب الطبيعة[14]. والشيء المذهل أن أثناسيوس قد قرأ نفس الآيات الكتابية التي قرأها أيضًا آريوس ” أنا والآب واحد” (يو30:10).

وأيضًا: “من رأني فقد رأى الآب” (يو9:14). ولكن فهمهما للآيات وُجِد على طرفي نقيض، فأثناسيوس عاش وذاق كل مسيرة التدبير الإلهي، أي كل روح وفكر الكنيسة ولديه إختبار عميق للحقائق الإلهية، ولم يستطع أثناسيوس بالرغم من إستعماله لآيات كثيرة أن يقنع آريوس[15]. والسبب أن آريوس رغم أنه يعرف لغة وكلمات وتركيبات الأسفار المقدسة اللغوية، إلا أنه كما قلنا مرارًا لم يحصل على خبرة اللاهوت الحقيقية التي تكمن في لغة وكلمات وتركيبات الأسفار المقدسة كما عرفها وذاقها وإختبرها أثناسيوس.

نقول المعيار هو الحقيقة الإلهية التي يعبر عنها اللفظ وعلى أساس (النعمة والحق) تتشكل الكلمات والنعوت والأسماء وليس العكس أبدًا. وعلى هذا الأساس فكل تعبير لاهوتي يجب أن يكون في انسجام وتوافق مع ما يعلمه تقليد الكنيسة منذ بدايتها من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يتوافق هذا التقليد مع المناخ الثقافي واللغوي المعاصر.

السؤال الآن هو: هل معنى كل ما سبق عن العلاقة الحوارية بين التعليم اللاهوتي واللغة، والإعلان والتفسير، تعني من قريب أو من بعيد أن الإعلان الإلهي يتطور وينمو؟، وهل وجود مجامع مسكونية وصياغتها للعقيدة يعني تغييرًا وتحولاً في جوهر الإعلان الإلهي، أم شأنًا تدبيريًا يخص إحتياجات، وأسئلة جديدة للناس لم تُثار من قبل، وإلا فما معنى (جددًا وعتقًا)؟، وهل الرسل والآباء والكنيسة من بعدهم قد حوَّلوا حقيقة الإنجيل كما يدعي بعض الهراطقة المعاصرين؟. لقد عكف العلماء واللاهوتيين على دراسة هذا الأمر وأجابوا بالنفي القاطع، فالكنيسة بما فيها من تراث وحق، وتسليم وتعليم هو أصيل وهو لا يخضع بأي حال لعملية التطوير أو التحسين، لأن كل هذا هو ثمرة عمل الروح القدس في الكنيسة والرسل ما دامت هي كلمات وتعاليم الرب يسوع وتلاميذه، واللاهوت الآبائي هو مستودع خبرات الكنيسة، فالحق الإلهي لا يزيد ولا ينقص (رؤ18:22ـ19)، والذي يحدث وحدث في تاريخ الكنيسة أنه كلمَّا تواضع الإنسان وتجرّد من الأهواء تزداد درجة رؤيته واختباره للحقائق اللاهوتية، ويقدم رؤية لجانب من جوانب التدبير الإلهي لم يسبقه إليها أحد. فكل مُعلم لاهوتي خادم لسر المسيح في الكنيسة والتاريخ يقدم مشاركته ومساهمته المتواضعة في شركة الحب والخضوع إنطلاقًا من مبدأ الشركة في المواهب.

فاللاهوت الآبائي كان أُحاديًا فيما يخص الله وإعلانه عن نفسه، وكان حواريًا إلى أقصى درجة الحوار فيما يخص خلاص الإنسان، والتواصل الثقافي والحضاري مع الشعوب التي قَبِلت الإعلان، والبحث عن آليات ووسائل للتواصل مع هموم وشجون الإنسان في كل عصر.

 

ولقد أشار إلى ذلك القديس إيرينئوس والقديس باسيليوس في المحاور التالية:

1ـ لا يضيف أحد في الكنيسة حقائق جديدة ولكن الذي يحدث هو إتساع مساحة فهمنا نتيجة نمونا في النعمة، وإذا وُجِد زيادة فهي لتكميل التعليم نتيجة أسئلة جديدة وليس تغيير في الحقائق اللاهوتية.

2ـ الإضافات اللاهوتية الجديدة تأتي موازية في نطاق المعرفة والتي يعطيها الروح القدس لآباء الكنيسة، فالزيادة حسب باسيليوس هي في فروع الشجرة بينما الجذع واحد[16].

+++++++

1 راجع المُعجم الابائى:Lampe – اكسفورد 1981، ص 627 ـ 628.

2 الخولاجى المقدس – دير البراموس العامر، ص 325.

3 الآباء يرون فى العنصرة تصحيحا لمسيرة البشرية بعد برج بابل، راجع قاموس لامبى الخاص بالآباء (البنتكوستى Pentecost  ) ص 1060 .

4  راجع اشعياء 33:19 – مت 26:73 – اع 2: 6 ,

5  البروفسور ترمبلاس يرى أن لغة بطرس هى لهجته المحلية التي تميز قومه، انظر العهد الجديد مع تفسير مختصر إصدار حركة التكريس سوتير عام 1986 .

6 ستليانوس بابادوبلوس، اللاهوت واللغة بين اللاهوت الاختياري واللغة المعبرة، اثينا 1988م. ص9 (باللغة اليونانية).

7 ستليانوس بابادوبلوس، المرجع السابق، ص17

8 الرسالة إلى فيلادلفيا 2:8.

9 نفس المرجع السابق.

10 راجع عظات القديس مقاريوس عن عمل الروح القدس داخل النفس، إصدار مركز الدراسات الآبائية.

11 غريغوريوس النيسي ضد افنوميوس وانظر (مت27:26ـ29، ومر22:14ـ24، ولو19:22ـ20).

12 قسمة صوم الرسل ـ الخولاجي المقدس ـ إصدار دير البراموس العامر، ص528.

13 أن فضيلة التكلم باللغات أو الألسنة في الكنيسة الأولى في كورنثوس هي دليل ساطع على الصراع الذي قاده الرسول بولس بين المحبة والمواهب الروحية واللاهوتية وبين اللغات. ولقد أصّر بولس على أن اللغة وسيلة لبنيان المؤمنين في لاهوت الشركة والوحدة وتعدد المواهب أي في لاهوت الحب ” أشكر إلهي إني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم. ولكن في كنيسة أريد أن أتكلم خمس كلمات بذهني لكي أعلم آخرين أيضًا أكثر من عشرة آلاف كلمة بلسان” (1كو18:14ـ19).

14 ستليانوس بابا دوبلوس، المرجع السابق، ص39.

15 نفس المرجع السابق، ص41.

16 ستليانوس بابادوبلوس، ص124.

التعاليم اللاهوتية واللغة – رؤية أبائية – القس اثناسيوس اسحق حنين