أبحاث

الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية

الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية

الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية

الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية
الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية

الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية

3 ـ  بين الرسول بولس والرسول يعقوب

د. موريس تاوضروس

 

            يبدو عند المقارنة بين تعليم الرسول بولس وتعاليم الرسول يعقوب عن الإيمان كما لو أن هناك شيئًا من التناقض بينهما. يقول الرسول بولس: ” الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس ” (رو28:3). ويقول أيضًا ” الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح ” (غلا16:2). وأما الرسول يعقوب فيقول ” ترون إذًا أنه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده ” (يع24:2). ومن ناحية أخرى فإن كلا الرسولين يقيم تعليمه على نفس الأساس الكتابي وعلى نفس النص، كما جاء في سفر التكوين ” فآمن إبراهيم بالرب فحسب له برًا ” (تك6:15).

          وفي تعليق الرسول بولس على هذا النص يقول ” لأنه إن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر ولكن ليس لدى الله ” (رو2:4).

          وأما الرسول يعقوب فيعلّق على نفس النص ويقول: ” ألم يتبرر إبراهيم أبونا بالأعمال إذ قدم اسحق ابنه على المذبح، فنرى أن الإيمان عمل مع أعماله، وبالأعمال أكمل الإيمان ” (يع21:2ـ22).

          أليس في هذا عدم توافق بين الرأيين؟ بل أليس في هذا تناقض بين الرأيين؟

          وقد أكد لوثر وجود تناقض بين الرسالتين واعتبر رسالة يعقوب رسالة ضحلة، لا تتضمن مادة تليق بالسيد المسيح. ولكننا نقول إن الفحص الدقيق لعبارات الرسولين بولس ويعقوب يوضح لنا أن الرسولين وإن كانا يستعملان نفس الكلمات، إلاّ أنهما لا يتكلمان على نفس الشئ. إن الإيمان الذي يتكلم عنه الرسول بولس هو إيمان حقيقي غير معنوي، فاعل، يأخذ من المحبة دافعه ونموذجه؛ أما الإيمان الذي يقول به الرسول يعقوب فهو تسليم (مصادفة) بسيط للعقل شبه بهذا الإيمان الذي تأخذه الشياطين بالنسبة للحقائق الواضحة ” أنت تؤمن أن الله واحد حسنًا تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرون ” (يع19:2) (أى أنت تؤمن أن الله واحد، ولكن هذا لا يكفي، فالشياطين يؤمنون ويقشعرون).

ومن الواضح أن هذا العمل، الذي هو بالضرورة عمل عقلي خالص، لا يمكن أن يعمل على تبرير الإنسان. إن الأعمال التي يتكلم عنها الرسول بولس هى الأعمال التي تسبق الإيمان والتبرير، وبالذات أعمال الناموس التي هى موضع النقاش مع اليهود، أما الأعمال التي يتكلم عنها الرسول يعقوب فهى الأعمال التي تتبع الإيمان والتبرير، حيث أنه هنا يخاطب المسيحيين الذين لهم إمكانيات الحياة فوق الطبيعة. إن التبرير الذي يتكلم عنه الرسول بولس هو التبرير الأول أى الانتقال من حالة الخطية إلى حالة القداسة، بينما التبرير الذي يتكلم عنه الرسول يعقوب هو النمو في حالة البر، النمو المطرد للحياة المسيحية. وفي كلمات مختصرة، فإن الرسول بولس يضع نفسه قبل حالة تبرير الإنسان، وأما الرسول يعقوب فيضع نفسه في حالة ما بعد تبرير الإنسان. الأول يتكلم عن الإيمان الحيّ، والرسول يعقوب يتكلم عن الإيمان المائت غير الفاعل. الرسول يتكلم لغير المؤمنين، موضحًا أنه بدون إيمان لا يمكن نوال حالة التبرير، بينما يتكلم الرسول يعقوب للمؤمن موضحًا له أن أعماله يجب أن تتلائم وتنسجم مع إيمانه، لأن الإيمان بمفرده ليس كافيًا.

          إن تعليم الرسول بولس ينبع من عمق فكره اللاهوتي، فهو يتجاوز مدركات العقل العادي. إنه من السهل أن يساء فهم تعاليم الرسول بولس وتفسيرها تفسيرًا مضادًا لما هو يقصده، وبذلك لا تتحقق الحياة الروحية الفاضلة التي قصدها الرسول بولس. وأحيانًا كان يحتج الرسول بولس نفسه بسبب فهم تعاليمه فهمًا خاطئًا. ولعله يمكن أن نقول إن الرسول يعقوب، وهو يلاحظ كيف أساء البعض فهم تعاليم الرسول بولس فظنوا أنه لا يقيم وزنًا للأفعال ويسقط قيمة العمل البشري في الحصول على التبرير، لعله أراد أن يصحح الفهم الخاطئ لتعاليم الرسول بولس، فأظهر قيمة الأفعال، وبين أن الإيمان بدون أفعال يعتبر ميتًا. والخلاصة أن الرسول يعقوب لم يكتب تعليمًا مضادًا لتعاليم الرسول بولس ولكنه كتب ضد هؤلاء الذين يفهمون هذه التعاليم فهمًا خاطئًا. وعلى ذلك يمكن بلورة مفهوم التبرير عند الرسول بولس على النحو التالي[1]:

          وردت كلمة “البر” عند الرسول بولس 65 مرة بينها 35 مرة في رسالة رومية وحدها، ومرة واحدة في الرسالة الأولى إلى كورنثوس وفي الرسالة الأولى إلى تيموثاوس وفي الرسالة إلى تيطس. ووردت 7 مرات في الرسالة الثانية إلى كورنثوس، وأربع مرات في رسالة غلاطية، و3 مرات في رسالة أفسس، وأربع مرات في رسالة فيلبي و 3 مرات في الرسالة الثانية إلى تيموثيؤس، وست مرات في رسالة العبرانيين.

          وأما كلمة “يبرر” فقد وردت 14 مرة في رسالة رومية، و 8 مرات في رسالة غلاطية، ومرتين في الرسالة الأولى إلى كورنثوس، ومرة في الرسالة الأولى إلى تيموثيؤس، ومرة واحدة في رسالة تيطس.

          ووردت الكلمة كصفة “بار” 7 مرات في رسالة رومية، ومرة واحدة في رسالة غلاطية ومرة في رسالة أفسس، ومرتين في رسالة فيلبي، ومرة في رسالة كولوسي، ومرتين في رسالة تسالونيكي الثانية، ومرة واحدة في الرسالة الأولى إلى تيموثيؤس ومرة في الرسالة الثانية إلى تيموثيؤس، ومرة في رسالة تيطس، وثلاث مرات في رسالة العبرانيين.

          وهكذا يمكن القول إن هذه الكلمة (سواء كاسم أو فعل أو صفة) هى من الكلمات الكثيرة الاستعمال في رسائل بولس الرسول، وهى تمثل واحدة من أهم الموضوعات اللاهوتية.

          ولعل مفهوم كلمة “بر” dikaiosyny يبدو في الكلمات الموازية لها في المعنى، وكذلك في الكلمات المضادة لها. ومن الكلمات المضادة في المعنى كلمة “فجور” asebeia وكلمة اثم adikia والكلمات ظلم وخطية amartia وموت thanatos و نجاسة akarthia وتعدي الناموس anomia. وأما بالنسبة للكلمات الموازية لكلمة “بر” نذكر “ملكوت الله” و “قداسة” و “تعفف” و “سلام” و “فرح” و “حكمة” و “صلاح” و “حق” و “تقوى” و “إيمان” و “محبة” و “صبر” و “وداعة”.

          وهكذا يبدو أن الكلمة لها جانبان واضحان، فهى من ناحية مفهوم ثيولوجي للخلاص، ومن ناحية أخرى تعبّر عن مفهوم للسلوك الأخلاقي القويم.

          وبالنسبة للرسول بولس، فإن كلمة “بر” تقف في مركز الحدث الخلاصي الذي تحقق في التاريخ بموت المسيح وقيامته، ولا يجيء البر ثمرة للناموس أو ثمرة لتنفيذ وصاياه، كما هو في الفكر اليهودي، ولكن التبرير هبة من الله، هبة الذبيحة المقدمة على الصليب لفدائنا وغفران خطايانا ” إن كان بالناموس بر فالمسيح مات بلا سبب ” (غلا21:2).

          وهكذا يبدو واضحًا أن مفهوم التبرير عند الرسول بولس، يقوم على الإيمان وليس على تنفيذ وصايا الناموس ” لأنه لو أُعطى ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس، لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون .. لكي نتبرر بالإيمان ” (غلا21:3ـ24).

          على أن عطية البر التي توهب للمؤمنين تتطلب عملاً وفعلاً من قبل المؤمن ” ولا تقدموا أعضاءكم آلات اثم للخطية بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر لله ” (رو12:6ـ23). إن هبة التبرير (رو17:5) تحدث تغييرًا في المؤمن وتنقله إلى حالة جديدة وإلى علاقة جديدة من الطاعة نحو الله ” وإذ أُعتقتم من الخطية صرتم عبيدًا للبر ” (رو18:6).

          وفي مقارنة مجازية، فإن الرسول بولس يصف خدمة البر، كما لو أن المؤمن يدخل في معركة فتتحول أعضاؤه فيه إلى آلات تحارب الخطية لتكون “آلات بر لله” (رو13:6) ” بسلاح البر لليمين ولليسار ” (2كو8:6). وكلمة “البر” هنا في هذه العبارة الأخيرة، تعني تحديد الغرض من استعمال السلاح الروحي في المعركة الروحية. فالسلاح هنا من أجل خدمة البر ومن أجل نفعه، ومن أجل انتصار البر على الخطية.

          منذ بداية الكرازة، حين جاء يسوع من الجليل إلى يوحنا ليعتمد منه، كانت رسالة المسيح تتجه نحو “البر” الذي يجب أن يُكمل ” هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ” (مت15:3).

           فالبر صار هو “برنامج المسيح الخلاصي”. إنه مطلب الإرادة الإلهية. إن السيد المسيح يطلب البر الذي به يتحقق خلاص البشرية. وكان هذا هو مضمون تعاليم السيد المسيح ومضمون خدمته. فالبر من ناحية تعبير عن خلاص الله الذي تجوع إليه البشرية وتعطش ” طوبى إلى الجياع والعطاش إلى البر ” (مت6:5)، ومن ناحية أخرى يظهر كمطلب لله من البشر (كما كان الحال في العهد القديم وفي الفكر اليهودي) وكشرط لتحقق الخلاص ” إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت الله ” (مت20:5). وقال السيد المسيح أيضًا ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره ” (مت23:6).

          ويذكر الرسول بولس كلمة “البر” كصفة وخاصية لله ” إن كان اثمنا يبين بر الله ” (رو5:3). وعبارة “بر  الله” هنا تعني أمانة الله وصدقه الذي يتفق مع طبيعة الله وعهوده. وفي (رو25:3ـ26) ” الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون بارًا ويبرر “هو من الإيمان بيسوع” فإنه واضح هنا أنه يتكلم عن البر كما هو يتحقق بموت المسيح على الصليب. وهو ما يعني أن الله لا يستخف بالخطية ولا تفوت اهتمامه بل على العكس فإن بر الله يشير إلى ما يتصف به الله من قداسة، والتي يجب أن تجد تعبيرًا لها في إدانة الخطية.

          إن النقطة الأساسية في مفهوم التبرير، هى كفارة المسيح وآلامه وموته على الصليب. أى أن الموت على الصليب كان هو الوسيلة الوحيدة لتشييد طريق البر، والسبيل الوحيد لمعاملة الله مع الخطية والخطاة. وبدون الإيمان بكفارة المسيح، فلا يمكن لنا الحصول على التبرير ولا يمكن نوال الخلاص. وكان هذا يمثل صلب كرازة الرسل. يقول الرسول بولس ” وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء. بر الله بالإيمان بيسوع المسيح. إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون، لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح ” (رو21:3ـ249).

 

وضع الناموس في خطة الخلاص الإلهي:

          قد يبدو للوهلة الأولى أن نظرة الرسول بولس إلى الناموس نظرة غامضة، بل وتبدو في بعض الأحيان كما لو أنها متناقضة، فهو في بعض الأحيان يمجد الناموس ويرتفع به إلى درجة عالية من السمو، وفي أحيان أخرى يهبط بالناموس.

          يقول الرسول بولس عن الناموس:

          ” إذ الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة ” (رو12:7)، ” الناموس روحي” (رو14:7). وهدف الناموس أن يعطي الحياة (رو10:7) ” والذين يعلمون بالناموس هم يبررون ” (رو13:2، وانظر رو5:10). لقد رتب الناموس بملائكة وأعطى بيد موسى ” غلا19:3). إن الناموس يقود بني إسرائيل إلى المسيح ” قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان ” (انظر غلا24:3، وانظر كو16:2).

          هذه الآيات وغيرها تكشف عن الجانب المجيد للناموس على أن الرسول بولس يعطي أيضًا صورة عكسية للناموس ” فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئًا ” (عب18:7، 19). ” لأن الناموس ينشئ غضبًا، إذ حيث ليس ناموسًا ليس أيضًا تعدٍ ” (رو15:4)، ” لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه لأن بالناموس معرفة الخطية ” (رو20:3). ” بل لم أعرف الخطية إلاّ بالناموس، فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته ” (رو7:7). ” لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به ” (غلا10:3)، ” وأما شوكة الموت فهى الخطية، وقوة الخطية هى الناموس ” (1كو56:15).

          وهكذا يبدو الناموس بهذين الوجهين المتناقضين، فمن ناحية يعبر عن صلاح الله، ومن ناحية أخرى هو نذير غضب الله. إن الناموس الذي أعطى ليهب الحياة، يُعبر في نفس الوقت عن قوة الخطية. إنه لا يهب التبرير ومع ذلك فإن الذين يعملون بالناموس يتبررون، فكيف يحل هذا التناقض؟

          والآن نحاول أن نجابه هذه المشكلة ونحل هذا اللغز، بربط رسالة غلاطية برسالة رومية. إن القضية الأساسية هنا تدور حول ماهية الناموس. لقد أشار الرسول بولس أنه لا رابطة بين الناموس وبين التبرير أو أن التبرير لا يقوم على أعمال الناموس، وأشار إلى أنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثًا للعالم بل ببر الإيمان، لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة فقد تعطل الإيمان وبطل الوعد (رو13:4ـ14). ثم يتساءل الرسول بولس ” فلماذا الناموس، قد زيد بسبب التعديات إلى أن يأتي النسل الذي قد وعد له ” (غلا19:3).

          إن تساؤل الرسول بولس هنا “لماذا الناموس”؟ يعني: لماذا يضاف الناموس إلى الموعد، طالما أن الميراث بالوعد وليس بالناموس. والإجابة أن الناموس سوف يكشف تعدياتنا وذنوبنا، وسوف يكشف ضعفنا عن أن نحقق الخلاص حتى يأتي النسل الموعود به، أى المسيح، فيكون هو لنا الخلاص والبر. وهكذا يقودنا الناموس إلى الإيمان بالمسيح فنجد فيه طبيبنا ومخلّصنا الشافي ” ليُعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون ” (غلا22:3).

          الواقع، إن ما يبدو تناقض في تعاليم الرسول بولس عن الناموس هو عدم فهم الغاية التي من أجلها أعطى الناموس. الناموس صالح في حدود الغاية التي من أجله قد أعطى. لقد أعطى الناموس ليمهد للإيمان بالمسيح وفي هذا يحقق الناموس غايته الصالحة … ولكن اليهود كانوا يفتخرون بالناموس ويعتقدون أن مجرد حصولهم على الناموس يكفل لهم حياة التبرير والخلاص، بينما أن الناموس نفسه لم يعط لكي يهب البر كما يقول الرسول نفسه في رسالته إلى غلاطية ” لو أعطى ناموس قادرًا أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس. ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس مغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن. إذًا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان. ولكن بعد أن جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ” (غلا21:3ـ26).

          وإذا كان الناموس قد ارتبط بظاهرة “تكاثر الخطية” فليس معنى ذلك أن الناموس هو علة الخطيئة أو هو السبب في تكاثر الخطيئة، بل بمعنى أن الناموس كان أشبه بالمرآه التي تكشف خطايا البشر وأظهرتها.

          وإذا كان الرسول قد قال إن الذين يعملون بالناموس يتبررون، فإن معنى ذلك أن الناموس يمهد للإيمان بالمسيح، وبهذا الإيمان نحصل على التبرير.

          للناموس إذًا عمل تمهيدي فاضل لقيادة اليهودي إلى الإيمان بالمسيح ومن ثم الحصول على التبرير.

          من كل  هذا يتضح أن الناموس لم يعط لكي يبقى إلى النهاية، ولكنه يمثل حلقة متوسطة في دراما الحياة الإنسانية. فعندما تتحقق الوعود التي يتضمنها هذا الناموس، فإن النظرة إلى الناموس سوف تختلف. إن الطريقة التي أعطى بها الناموس تنبئ أو تنذر بذلك.

          لقد كان موسى هو وسيط الناموس ولكن حضور الوسيط يشير إلى طرفين متعاقدين. والعمل الذي ينتج عن هذا التعاقد هو عمل ثنائي يفرض على الطرفين حقوقًا وواجبات، يظل بقاؤها مشروطًا، لأنه من الممكن أن تبطل هذه الحقوق والواجبات برضى الطرفين أو بتعدي أحد الطرفين المتعاقدين. هذا هو ما أراده الرسول بولس عندما قال عن الناموس ” مرتبًا بملائكة في يد وسيط. وأما الوسيط فلا يكون لواحد، ولكن الله واحد ” (غلا19:3ـ20).

          إذا كان هذا هو وضع الناموس، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للوعد هنا (في الوعد) فالأمر يختص بالله وحده، وليس هناك من جانب الله أى تخوف، فهو لن يخلف وعده ولن يتغير فيه ولن ينساه ولن يكون غير أمين من ناحية الإلتزام به. لقد ربط نفسه بقسم حتى يعطي للإنسان الثقة في هذا الوعد. إن وعد الله لا يعتمد على اتفاق أو استحقاق أى شخص. وحيث إنه وعد مطلق وحر من كل شرط، فليس هناك تخوف في أن يندم الله في وعوده.

          ولكن تبدو هذه الشروح كأنها تحل تعارضًا. فإذا كان الوعد الإلهي ـ الذي أعطى قبل الناموس ـ وعدًا مطلقًا ومجانيًا، فلماذا أضيف على الوعد ناموسًا يثقل كاهل اليهود؟ وهنا يبرز هذا التساؤل: هل الناموس ضد مواعيد الله؟ ويجيب الرسول بولس: حاشا لو أعطى ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس (غلا21:3).

          إن إجابة الرسول تبدو هنا غامضة، ولكنها تتضح لو أضفنا عليها هذه العبارة (لأجل توضيح المعنى): ” وعند ذلك يكون الناموس مضادًا لمواعيد الله الذي وعد أن يهبنا التبرير مجانًا “، أو يكون مضادًا لمواعيد الله إذا استمر حتى اللحظة التي تتحقق فيها مواعيد الله. ولكن الأمر ليس كذلك. إن الناموس غير قادر على أن يهب الحياة. إنه لا يقوى على أن يهب تبرير فوق طبيعي. ومن ناحية أخرى، فهو فقط حالة عبور. إنه مكان للتوقف قبل آخر الخط أو آخر الطريق. إنه حادثة هامة قبل النهاية. إنه لم يسترجع إمبراطورية الخطية، بل بالأحرى قواها، ولكن يتم هذا الأمر من خلال التدبير الإلهي ” لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون (غلا22:3).

          وحتى تجيء النهاية أى تحقيق المواعيد، فإن المرء سواء رغب أو لم يرغب، لابد أن يتحرك نحو أبواب الإيمان. وهذه هى الخدمة التي قدمها الناموس لليهود ” ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس مغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن ” (غلا23:3). إن الإيمان يعلن عند ملء الزمان. إنه يمثل مرحلة النضج في تاريخ الإنسانية. وفترة الناموس تمثل فترة الطفولة. قبل مجيء المسيح كان المرء في وضع القاصر. وكان الناموس يقوم بعمل الوصي عليه ” وإنما أقول ما دام الوارث قاصرًا لا يفترق شيئًا عن العبد مع كونه صاحب الجميع، بل هو تحت أوصياء ووكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه. هكذا نحن لما كنا قاصرين كنا مستعبدين تحت أركان العالم. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله أبيه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني. ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب. إذًا لست بعد عبدًا بل ابنًا، وإن كنت ابنًا فوارث لله بالمسيح ” (غلا1:3ـ7).

          إن القرون التي سبقت مجيء السيد المسيح كانت تمثل للبشر عصر قصورها، كان الناس ورثة بفضل المواعيد المسيانية، وذلك لأن هذه المواعيد كانت عهدًا يخص الأمميين كما يخص اليهود، والإنجيل هو ميراثهم المشترك. ولكن لكي يحصل البشر على هذا الميراث كان عليهم أن ينتظروا حتى عصر النضوج أو حتى يبلغ العالم “سن الرشد”. وحتى هذا العصر أو هذا السن كانت البشرية تخضع لنظم فطرية، تعدها لحالة أفضل وتقودهم إلى ذلك بالتدريج. وبالنسبة لليهود فقد أعطوا الناموس الموسوي كمؤدب يمهد إلى مجيء السيد المسيح. ومن أجل ذلك فإن الرسول بولس يتحدث عن الناموس الطبيعي بالنسبة إلى الأمميين. وعد الناموس الموسوي بالنسبة إلى اليهود. أما بالنسبة لعصر النضوج أو سن الرشد، فقد تحدد من قبل الله في “ملء الزمان”.

          والأمر أيضًا يحتاج لأن نفهم عبارة “أركان العالم” التي قيل إن البشرية كانت في عصر قصورها مستعبدة ” تحت أركان العالم ” حتى مجيء السيد المسيح. وبمقابلة تعاليم الرسول بعضهم ببعض، يتبين لنا أنه يقصد بأركان العالم ” النظم الفطرية” التي هى نتاج إعلان غير كامل أو نتاج الغريزة الدينية، التي حكمت اليهود والأمميين قبل إعلان الإنجيل. إن ظهور المسيح قد قدَّم الخلاص للعالم أجمع ولكن بطرق مختلفة. بالنسبة إلى اليهود، فقد خلصهم من نير الناموس، ووهب الجميع نعمة التبني التي وُعدت لكل أبناء إبراهيم الروحيين دون تمييز في الجنس وليس هناك اختلاف بين اليهود والأمميين من حيث إن كليهما ينتظران “ملء الزمن” وكلاهما مدعوين لنوال حقوقهم في الميراث.

          وهناك رمز روحي يقدمه الرسول بولس ليشرح به هذا الأمر. إنه يرى في زوجتى إبراهيم رمزًا للعهدين. هاجر الجارية، تمثل المجمع، وسارة المرأة الحرة تمثل الكنيسة. هاجر تلد (حسب الجسد وتتطابق مع قوانين الطبيعة) ابنًا عبدًا مثلها، أما سارة فهى تلد (حسب الروح وحسب وعد معجزي) ابنًا حرًا مثلها. إنه من المبادئ العامة أن الأبناء يشاركون في حالة أو وضع أمهاتهم. وعلى ذلك، فإن سيناء، التي تعتبر هاجر رمزًا لها، تلد فقط عبيدًا، وأما أورشليم السمائية، الكنيسة، المرموز لها بسارة، سوف تلد فقط أبناء أحرارًا. والرمز واضح في عبارات الرسول بولس حيث يقول: ” قولوا لي أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الناموس. ألستم تسمعون الناموس فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة. لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالوعد. وكل ذلك رمز لأن هاتين هما العهدان. أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذي هو هاجر، لأن هاجر جبل سيناء في العربية. ولكن يقابل أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها. وأما أورشليم العليا التي هى أمنا جميعًا فهى حرة. لأنه مكتوب افرحي أيتها العاقر التي لم تلد. اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج. وأما نحن أيها الإخوة فنظير اسحق أولاد الموعد. ولكن كما كان حينئذٍ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح هكذا الآن أيضًا. لكن ماذا يقول الكتاب: اطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذًا أيها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد حرّة (غلا21:4ـ31).

          ومن هذا النص يظهر لنا أن أبناء إبراهيم ليسوا على مستوى واحد. البعض من أبناء إبراهيم ينتسبون إلى هاجر الجارية، والبعض الآخر ينتسب إلى سارة الحرة. البعض من أبناء إبراهيم ولد حسب الجسد أو حسب الطبيعة، والبعض الآخر ولد حسب الوعد. سارة وهاجر يرمزان إلى عهدين متباينين في خطة التدبير الإلهي.

          عهد يشير إلى الناموس وعهد يشير إلى النعمة.

          عهد يشير إلى العبودية اليهودية للناموس، وعهد يشير إلى الحرية المسيحية.

          عهد يشير إلى مجمع اليهود وعهد يشير إلى الكنيسة المسيحية.

          عهد يشير إلى أورشليم الأرضية، وعهد يشير إلى أورشليم السماوية.

          عهد يشير إلى اسماعيل المولود حسب النظام الطبيعي، وعهد يشير إلى اسحق الذي ولد حسب الموعد، فإن ابراهيم ” إذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتًا، إذ كان ابن نحو مائة سنة ولا مماتية مستودع سارة، ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله، وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا ” (رو19:4ـ21). لقد كان ميلاد اسحق ثمرة الوعد الإلهي ولم يكن ثمرة الميلاد الطبيعي بسبب تجاوز السن المناسب وبسبب مماتية رحم سارة.

          إن اليهود، مثل اسماعيل، هم بالحقيقة أبناء لإبراهيم حسب الجسد، ولكنهم ليسوا الورثة الحقيقيين أكثر مما يكون عليه اسماعيل. أما المسيحيون فهم مثل اسحق. هم أبناء إبراهيم حسب الروح، ومثل اسحق فإنهم يرثون المواعيد والبركات الروحية. وينتج من ذلك أن المتهودين في غلاطية، الذين يريدون أن يكونوا تحت الناموس، هم يعرضون أنفسهم ليطردوا من بنوة أبيهم ابراهيم، مثل رمزهم اسماعيل.

          وهكذا نلاحظ أن الرسول بولس يتخذ من شخصيات العهد القديم نموذجًا أو مثالاً يشرح به تعاليمه. وهو بدل أن يستعمل كلمة Tupos (التي تعني: نموذج أو مثال أو نمط) استعمل كلمة (allygoroumena) التي تعني: رمز. وهو بلا شك لا يقصد كلمة رمز في المعنى الضيق لها والذي يكتفي من الحقيقة إلى ذكر ما تتضمنه من مجاز أو تشبيه أو استعارة. إنه أراد أن يقدم نموذجًا كتابيًا أوحى به الروح القدس، فاتخذ من قصص العهد القديم أحداثًا تؤخذ كنموذج ومثال لشرح القضايا الإيمانية في العهد الجديد.

          والخلاصة أن الناموس لا يلد أبناء متحررين من سلطان الخطية، ولكن بالإيمان بالمسيح الذي يهبنا الميلاد الروحي نتحرر من الخطية ونحصل على حياة التبرير، بدم المسيح المسفوك على الصليب.

[1] انظر Vine (W.E), An Expository Dictionary of New Testament Words (u.S.A Fleming Revell Company) 1966.  وكذلك انظر كتابنا: دراسات لاهوتية ولغوية في كتاب العهد الجديد ـ الجزء الثاني 2002 ص121، 142.

الفكر اللاهوتى للرسول بولس فى الرسالة إلى غلاطية