آبائياتأبحاث

تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأولى (3) تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد

تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد

تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأولى (3) تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد

تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأولى (3) تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد
تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأولى (3) تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد

تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأولى (3) تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد  [1] د. جورج عوض إبراهيم

موقف المسيح من العهد القديم:

لقد نظر المسيح إلى العهد القديم على أنه نص صادق وموحى به من الله. إن الكتاب أو العهد القديم يحتوي على شهادات عن شخص المسيح كمسيا وعن أعماله سواء المباشرة أو غير المباشرة. والفروق بين المسيح والمفسرين الرابيين في نظرتهم للعهد القديم هي:

 

أ ـ أن المسيح كان يملك وعيًا وإدراكًا وفهمًا للتطلع الاسخاتولوجي (الأخروي) للعهد القديم الذي بدأ يتحقق في شخصه بحياته وأعماله، وقد ركز بكل ثقل على الجانب الديني وليس على طقس العهد القديم. لقد نادى بالحقيقة أن المحبة لله والقريب بالمعنى الشامل لمفهوم “القريب” هي كل الناموس والأنبياء. وفسّر ـ ماسيانيًا ـ الكتب المقدسة، بينما ركز الرابيون انتباههم على الناموس وعلى التفاصيل المتنوعة لحفظة.

 

ب ـ المسيح كشارح للناموس قدم نفسه “كمن له سلطان وليس كالكتبة”، بينما شروحات الرابيين قد أُخذت من “تقليد الشيوخ”. لقد أعاد المسيح تفسير الناموس بروح ملكوت الله الذي أشرق بحضوره الشخصي. ولا يوجد تناقض بين تقدير المسيح للعهد القديم وشرحه للناموس بروح ملكوت الله، وبين ما فعله بعد ذلك بولس الرسول فمرة يدعو الناموس أنه روحي ومقدس، بينما في سياق آخر يدعوه ” لعنة “.

 

ج ـ من المعروف أنه في عصر العهد الجديد لم يكن قانون العهد القديم قد شُكِّل بعد وبصورة نهائية، لذلك كان المسيح يتحدث دائمًا بطريقة عامة عن الكتاب مثلاً في (يو10: 35، لو4: 21) بمصطلح “كتاب” يقصد الكتب الخمس الأولى للعهد القديم (الناموس)، وفي (مت5: 17) كتب الأنبياء وفي (لو24: 45) المزامير. ولقد قَبِلَ المسيح “الكتاب” مثلما قَبِله التقليد الرابوني كنص مُوحى بالروح القدس انظر مثلاً (مر12: 36) وأن هدفه التعبير عن إرادة الله وأنه لا يمكن أن ينقض المكتوب (مت5: 18، يو10: 35).

 

د ـ إن المسيح استخدم بكثرة العهد القديم في تعاليمه ومرات كثيرة بنفس الطريقة التي كان يستخدمها الرابيون في عصره. فباستخدام التعبير الرابوني “مكتوب” يقر المسيح بسريان وصايا الكتب الخمس الأولى (الناموس) (انظر لو10: 26). كما أنه استخدم محتوى العهد القديم في صد الكتبة (انظر متى3:12 وفيما بعده)، وفي إثبات حقيقة قيامة الموتى ضد الصدوقيين (انظر لو20: 37). وذكر أيضًا حوادث تاريخية كثيرة (خلق الإنسان، قتل هابيل، الطوفان، العليقة المشتعلة، الحية في البرية، المن…الخ).

وكذلك ذكر بعض شخصيات العهد القديم (أمثال البطاركة، موسى، داود، سليمان، إيليا، يونان، زكريا .. الخ). كذلك استخدم صور وأمثال كثيرة (الكرمة، الرعية، ..) وفي عظاته توجد تحذيرات لا تحصى (مثل القلب القاسي، الإنباء بالعقاب…). وقد نادى بوصية المحبة (انظر مر30:12)، وأيضًا بعض الأوامر الناموسية للناموس مثل ” اذهب أرِ نفسك للكاهن ” في (مر10:7)، وعدم انحلال الزواج (انظر مر1: 6).

 

هـ المسيح لم يستخدم العهد القديم كنص للناموس، ولا كان يهدف عندما يذكر الناموس إلى مجرد التأكيد على السلطة المقدسة للوصايا. بل على العكس كان يهدف في هذه الحالات إمّا إلى وقف التفسير الخاطئ للوصايا من قِبَل الفريسيين وإمّا أن يقلل من قيمة وصايا معينة بإعطاء ملاحظة على سبيل المثال أن هذه قد أُعطيت بسبب قساوة قلب اليهود (انظر مر22:4). فبتعليم المسيح أن كل الأوامر الناموسية والتعبدية تصبح نسبية (مر33:12) أمام وصية المحبة لله والقريب والتي تلخص كل الناموس والأنبياء (مت40:22).

 

وـ بالرغم من قبول المسيح الإيجابي للكتاب إلاّ أنه لم يتقيد بالمفهوم الحرفي لوصاياه. على العكس شعر أمامه بارتباط روحي، وقال عن أصغر حرف منه: أنه لا يُنقض (مت5: 18). والكلام هنا بالتأكيد ليس عن تمسك فريسى بحرف الناموس، لكن عن اعتراف بالثقل الأبدي لإرادة الله حتى في أصغر تفصيلات الناموس.

 

ز ـ إن تفسير المسيح للعهد القديم يكشف المزايدات الكثيرة التي أضافها الرابيون من عادات وتقاليد شعبية، التي وضعوها في مرتبة مساوية للتوراة. ولقد عبّر المسيح بوضوح في (مت15: 6) بأنهم أبطلوا وصية الله بسبب تقليدهم، لقد استبدلوا وصية الله بتقاليد البشر وأغلقوا ملكوت الله أمام الناس (انظر مت23: 13، مر7: 8). لأجل هذا السبب لم يتردد المسيح في توجيه “الويل” ـ تلك الكلمة الرهيبة ـ إلى الكتبة والفريسيين.

لقد أدان المسيح المعلمين اليهود في عصره ذاكرًا نبوة العهد القديم من إشعياء ” هذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا ” (مر7: 6). لأنهم بسبب الحرص على حفظ الوصايا هم مستعدون بأن يضحوا بالإنسان (مر13: 16). وبينما هم يفتخرون بمعرفتهم للناموس أمام الناس، في الواقع هم نجسون أمام الله (انظر مت16: 15).

إذًا فموقف المسيح الناقد للتفسير الرابوني ليس موجهًا بالطبع للملمح الإلهي للعهد القديم، لكن يخص تقاليد الشيوخ اليهود فيما يتعلق بأمور طقسية ومبالغات لحفظ الوصايا: ” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبت والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك ” (مت23:23). هكذا صار واضحًا جدًا أنه بالتمييز الذي صنعه المسيح بين تقاليد الشيوخ وبين ناموس الله، أنه يرفض المناهج التفسيرية للرابونيين.

لذا بحسب المسيح، التفسير الصحيح للناموس يقاس ليس بمقياس طرق تطبيقه التي وضعها الشيوخ اليهود لكن بمقياس مدى العلاقة الحية والعميقة بين الله والناس.

 

ح ـ إن العهد القديم، كمُوحى به من الروح القدس وشهادة حية أزلية لإرادة الله، له قيمة خاصة للمسيح كنص نبوي. فيه يرى المسيح الإنباء المسبق عن شخصه وأعماله. وفيه أيضًا يقبل بأن الكتب في مجموعها تشهد عنه (انظر مثلاً لو24: 27،44) و(يو5: 39) ويعترف في مواضع معينة بإنباء عن مراحل معينة من حياته [مثل العماد (مت3: 15)، عصيان يهوذا (يو13: 18)، الخيانة والقبض عليه (مت26: 24،54، 56)، قيامته (لو24: 46، يو20: 9)، المجيء الثاني (مر13: 26، 14: 26)].

لأن يسوع المسيح هو أول مَن فسر العهد القديم بالتطلع ” المسياني” وبهذه الطريقة قد حدد وضع ووظيفة العهد القديم في حياة الكنيسة. لقد كان في إدراك المسيح بأنه “اليوم” (s»meron) تحققت في شخصه نبوة إشعياء (لو4: 17 وما بعده)، وأن العمل الذي يتممه هو تحقيق للنبوات الماسيانية للأنبياء (مت11: 5). إذ يعترف ويقول للسامرية إنه هو المسيا المنتظر (يو4: 25)، وأمام المجمع يظهر أنه “المنتظر”، “فوق السحاب” ابن الإنسان (دانيال7: 13= مت24: 30). ويشير أيضًا إلى شخصه في أقوال المزامير عن الملوك مثل (مز109: 1 = مت22: 41، مز117: 26=مت23: 39) أيضًا آلامه يقدمها دائمًا على أساس تقليد “عبد يهوه” لإشعياء53.

 

بهذا الفهم المسياني للعهد القديم لم يعترف المسيح بالعهد القديم كمجرد نص نبوي، بل قد أكد أن حتى الأنبياء أنفسهم والملوك المذكورون في العهد القديم اشتهوا أن يروا أيامه ولم يروا (مت17:8). إبراهيم البطريرك (أبو الآباء) رأى يومي وفرح (لو56:8). نفس الأمر إشعياء رأى مجد المسيح وتحدث عنه (يو41:12). كل ما يخص الحوادث التاريخية في العهد القديم يجد فيها المسيح إشارات جوهرية إليه. هكذا يكشف المسيح هدف تاريخ العهد القديم بطريقة مختلفة تمامًا عن المنهج الرابوني للتفسير. ففي قصة يونان والحادثة المشهورة مع الحوت إشارات عن رسالته (يو30:11)، ودفنه ثلاث أيام (مت40:12).

وفي طوفان نوح وظروف عصر لوط (سدوم وعمورة) صورة للمجيء الثاني والدينونة الأخيرة (لو17: 26،28، مت24: 37). ورفع الحية في البرية بواسطة موسى له علاقة برفعه على الصليب (يو3: 14). وأن المن هو صورة الخبز الحي، الذي يقدمه المسيح نفسه (يو31:6،49). هذا التجاوب لهذه الحوادث التي لها تطلع نبوي وأخروي تستلزم بالتأكيد الاستمرارية التاريخية ووحدة الخطة الإلهية.

وبناء على ذلك، من يقبل الناموس والأنبياء سيؤمن بالمسيح، طالما “أن (موسى) كتب عنى” (انظر يو5: 46). هذا المنهج التفسيري يعرف بالمنهج المثالي أو النماذجي (Tupologik»). ولقد اُستخدم هذا المنهج في سياق الوعي والتقييم المسياني للعهد القديم.

بالتأكيد إن العهد الجديد الذي دشنه المسيح يختلف جذريًا عن العهد القديم. والمسيح هو نفسه المسيا، غاية كل نبوات العهد القديم، وبناء على ذلك فبحضوره التاريخي بدأ عصر الإنجيل: ” كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله وكل واحد يغتصب نفسه إليه” (لو16:16).

في عصر العهد القديم، كان الدخول في قلب شعب الله يتطلب حفظ صارم للناموس، الآن في العهد الجديد أُدين هذا المبدأ وكل واحد يستطيع أن “يغتصب” الملكوت، فقط بحسب النعمة وبدون عمل الناموس. لم يُنقَض الناموس القديم بل على العكس وَجَد العهد القديم في شخص المسيح تحقيقه وكماله.

إن موقف المسيح العام أمام العهد القديم يبلوره نص (مت5: 17ـ20) في الموعظة على الجبل، والتي تبدأ بالتعبير المشهور ” لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السموات. وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات. فإني أقول لكم إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات “.

 

مباديء تفسير أساسية

في هذا النص نتعرف على أربع مباديء تفسيرية:

1ـ في عدد17: المسيح لا يدين التوراة الناموسية أو العظة النبوية للعهد القديم، مثلما أدانها معاصروه من الفريسيين، بل على العكس كان يهدف إلى تتميم وتكميل الناموس والأنبياء. بالطبع هنا لدى المسيح أدراك بأنه هو “مسيا” هذا العصر، الذي يحقق أو يتمم التطلع الداخلي للناموس والأنبياء، ونتيجة لذلك يظهر العهد القديم أنه غير كامل ويحتاج للتحقيق بمجيء المسيا.

2 ـ في عدد18: الناموس له سريان مطلق ومصداقية ولا يمكن الاستهانة بأصغر وصاياه. وسلطة الناموس وقيمته اكتسبها بواسطة شخص يسوع المسيح.

3 ـ في عدد 19: الطريقة التي يحقق ويفسر بها المسيح الناموس هي طريقة مقيدة تقييدًا مطلقًا، حتى أنه مع التطبيق الآمن له يتحقق خلاص الإنسان. بهذه الطريقة يضع المسيح الناموس في وظيفته الحقيقية.

4 ـ في عدد 20: قبول وتطبيق الناموس بهذا المفهوم السابق يدين تقليد الرابونيين.. الناموس أو العهد القديم في مجموعة يتمم رسالته الصحيحة فقط في شخص يسوع المسيح. هو بالضبط المبدأ والأساس التفسيري الجديد لقبول وفهم وتفسير العهد القديم.

 

طـ إن موقف المسيح أمام العهد القديم وخاصة “الناموس” لا ينحصر بالتأكيد في موضوع التفسير الصحيح للعهد القديم. إن يسوع المسيح لم يكن مجرد نموذج لمعلم جديد. لقد علّم حقًا بطريقة جديدة تمامًا، ليس كالكتبة والفريسيين، وكان في تعليمه “كمن له سلطان” ولذا أثار غرابة ودهشة الجموع (مر22:1، متى28:7 وما بعده) ورؤساء اليهود (مت21:23).

إن المسيح حدد علاقته بالناموس على أساس قناعته الداخلية بأنه في وحِدة مع الله الآب. إنه المرسل “من السماء” لكى “يخبر” ليس عن الناموس والعهد القديم ولكن عن الآب نفسه، ويتمم النعمة والحق ” لأن الناموس بموسى أعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح قد صارا “، ” الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر” (يو1: 17ـ18).

ونتيجة لذلك فإن المسيح، من جهة، حقق في شخصه إرادة الله القديمة كما شهد لها العهد القديم، ومن جهة أخرى، أعلن الإنجيل الجديد إلى الإنسان والعالم والذي بمقتضاه صنع علاقة شخصية معه. بهذا الوعي والإدراك حدد المسيح، من جديد، طبيعة وتطلع العهد القديم بالتضاد مع الرابونيين. إذ بينما يقر بالقيمة الإلهية والأزلية للعهد القديم، فإنه من جهة أخرى يعلن أنه في شخصه دخلت البشرية في عالم جديد يتخطى ذاك الذي للعهد القديم.

ى ـ إن يسوع المسيح هو أعظم وأسمى من عظة العهد القديم النبوية “هوذا أعظم من يونان ههنا” (مت41:12)، وأيضًا أعظم من النظام التعبدي لإسرائيل القديم ” إن ههنا أعظم من الهيكل ” (مت12: 6) ـ لذلك أبطل التقليد الرابوني من ناحية مفهوم راحة السبت: ” فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا ” (مت12: 8)، والذي كان يرمى فقط إلى الامتثال الظاهري والشكلي، أيضًا أدان تقاليد الشيوخ عن التطهيرات (انظر مر7: 3ـ13)، وعن الأصوام والصلوات (انظر يو33:5)، والتي اعتبرها أحمالاً ثقيلة (مت4:23) تعوق إقامة علاقة حية مع الله. إن الأمور القانونية والمظهرية لا تحدد العلاقة مع الله بل الاستعداد الداخلي للإنسان وطهارة قلبه (مت15: 20).

إن التفسير الجديد للناموس الذي قام به المسيح صار واضحًا من المقارنات المعروفة في العظة على الجبل (مت5: 27- 28): ” سمعتم أنه قيل للقدماء… وأما أنا فأقول لكم… “. والعبارة الأخيرة ” وأما أنا فأقول لكم.. “، تظهره على أنه هو المشرع الجديد الذي لا يستهزئ بترتيب الناموس القديم، لكن يُظهِر بمصداقية إلهية عدم اكتمال الناموس القديم. بالتحديد إن المسيح يستنكر ويرفض رفضًا جذريًا التطبيق الشكلي والآلي لحرف الناموس وأيضًا التكرار الرتيب المبالغ فيه للسلوك الأخلاقي والذي يخلق رضاءً وغرورًا واكتفاءً ذاتيًا.

إن العمل الخارجي في حد ذاته لا يحدد النوعية الأخلاقية للإنسان، بقدر استعداده الداخلي ودوافعه الحقيقية، وذلك عندما يتحددان من الرحمة والنعمة والإعلان الإلهي. بهذا المفهوم يُعيِد المسيح تفسير الوصايا الخاصة بالقتل، والزنا، والطلاق، والقسم، ورد الدين، والمحبة للقريب، والإحسان، والصلاة والصوم. في تفسير المسيح الجديد لا ينفصل العمل عن النية أو القصد أو الاستعداد، لذلك لا توجد مقاييس محددة للسلوك العملي.

وبخصوص هذه الوصايا فإن المسيح لا يعيد تفسير الناموس القديم ولكنه يُشرّع من جديد العلاقة بين الإنسان والله، على إنها علاقة نعمة وحرية علاقة تبطل محدودية الحرف وتلد الإنسان ثانية ليكون ابنًا حرًا للآب. لأجل هذا السبب، فإن كل الناموس يمكن أن يلخص في وصية واحدة: ” تحب الرب إلهك… وتحب قريبك كنفسك ” (مت22: 37، 39). ولذلك فإن مقياس تقدير الوصايا القانونية هو التشبه الكامل بالله: ” كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل ” (مت5: 48).

إن علاقة الكمال بالله ليست لها حدود ولا يمكن أن تتم بحفظ وصايا خارجية ناموسية. إن هجران الشكل التقوى والسلوكيات الفريسية من جهة العبادة والأخلاق هو الشرط الجديد للدخول إلى ملكوت الله ” فإني أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات ” (مت5: 20).

بناء على ما سبق، فإن المسيح لم يشرح ببساطة ناموس العهد القديم وكَيّفه على المتطلبات التاريخية المعاصرة كما فعل الرابيون، لكن حقق وأعلن ناموس الله الجديد الذي ينضم إليه القديم أيضًا. المسيح لا يقدم تفسير جديد للناموس لكن يحدد من جديد علاقة الإنسان مع الله، علاقة تستند على أفضلية أو أولوية النقاوة والتواضع الداخلي. الناموس الجديد لم يعطَ في شكل وصية ناموسية.

لكن حُقِقَ في شخص وعمل المسيح كنعمة وحرية، كمحبة وإيمان، كرحمة وذبيحة. بهذه الطريقة وحّد المسيح في شخصه الناموس والإنجيل، النبوة والتحقيق، الوصية والنعمة. لذلك كل الناموس لا يكفي للكمال، إن لم يتبع الإنسان المسيح في علاقة حرة وشخصية معه: ” إن أردت أن تكون كاملاً فأذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني” (مت21:19). مطلب الناموس ينبغي أن يتمم على أساس الاستعداد الداخلي للإنسان، الذي يُشَّكل فقط في العلاقة الحية مع الله.

هذه العلاقة تبطل أي سلوك أخلاقي يستند على التحقيق الشكلي للوصايا وأيضًا على الأداء التعبدي الشكلي.. إن جدية الإنجيل تتطلب التجديد الجذري للناموس القديم، والولاء الكامل لنعمة ورحمة الله، لأنه لا أحد يضع خمرًا جديدة في زقاق قديمة (مت9: 16). كما أن التلمذة في ملكوت السماوات تتطلب من الإنسان ” أن يخرج من كنزه جددًا وعتقاء ” (مت13: 25).

 

هذا المطلب ليس هو مجرد مبدأ تفسيري، لكن هو دعوة للحياة أو للموت أمام أزمة الأوقات وحتمية الملكوت الجديد. إن إعلان يسوع المسيح لا يتقولب في شكل وصايا ناموسية وأوامر طقسية وتعبدية عقيمة سواء مكتوبة أو شفهية. إنه على العكس شركة روحية مع المسيح الذي يمنح لنا حياة جديدة. وفي النهاية نلخص كل ما سبق ونقول إن موقف المسيح من العهد القديم وبالطبع من طريقة تفسيره لم يعتمد في أي حالة على التقليد اليهودي أو هويته اليهودية لكن فقط على وعيه وإدراكه لشخصه وعمله أي على وعيه بهويته ورسالته أنه المسيا.

 

هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل تفسير يسوع للعهد القديم مختلف اختلافا جذريًا وغير مفهوم لدى معاصريه من اليهود. وليس السبب هو مجرد اختلاف في المنهج التفسيري. ووفق المقاييس التفسيرية التي طبقها اليهود على الناموس، أُتهِمَ المسيح من قِبل خصومه اليهود كخائن للناموس ومجدف على الله، لذلك كان يجب أن يموت (يو9: 7، اقتباس من اللاويين24: 16).

إن أسفار العهد القديم قد فُهِمت عند المسيح كإنجيل أول للخلاص، بينما فهمها اليهود كمبرر لموته!! في حالة اليهود نرى مدى مأساوية طريقتهم في التفسير التي تَصِّر على فهم الكتاب حرفيًا. أما المسيح فبإدراكه أنه المسيا وابن الله شعر بأنه مرتبط بالعهد القديم وأيضًا بأنه في حرية تامة أمام العهد القديم. لذا لجأ المسيح بلا تردد إلى التقليد المسياني للعهد القديم أي إلى الأسفار التي تتنبأ عنه “كمسيا”  ” عبد يهوه ” (إش53)، لكي يشرح عمله الماسياني (على سبيل المثال انظر مت8: 17).

ومن الناحية الأخرى كان المسيح يدرك أن العمل الذي يتممه هو في الواقع عمل أخروي كان مُنتظرًا أن يُتمم في العصر المسياني من المسيح نفسه. هذا يعنى أن المسيح يعمل ويتحدث باسم يهوه نفسه وبسلطانه. على سبيل المثال، يرسل الله ملاكه لكي يهيئ الطريق قدامه (مت11: 10)، يغفر خطايا (مر2: 5)، يتمم عمل يهوه في العصر المسياني (لو7: 22)، كلامه لا يزول (مت24:35) مثل كلام يهوه في وصايا الناموس.

يضع تشريع خاص بدلاً من، ” سمعتم أنه قيل للقدماء “.. فيقول ” أما أنا فأقول لكم “. إن المسيح في الإنجيل الرابع يعلن أو يكشف عن علاقته الفريدة بالآب، يشدد على ألوهيته ويتحدث بنفس سلطان الآب عن نفسه ” أنا هو”.

إن العهد القديم يُفَسر كنص للإعلان الإلهي، وله تطلع مسياني فقط داخل ملء المسيح وليس العكس، وهذه الحقيقة استند عليها الرسول بولس في (2كو3: 6ـ18) والآباء المفسرين عندما نادوا بأنه قبل المسيح لا يمكن لأحد أن يفهم العهد القديم. لذا مارست الكنيسة تفسيرها الكتابي على أساس الإيمان الصحيح والمستقيم عن شخص وعمل المسيح وهذا المبدأ يرجع بلا شك إلى المسيح نفسه والتقليد الإنجيلي والرسولي الأول.

 

[1] هذه سلسلة من المحاضرات أُعطيت في كورس الدراسات الآبائية الذي ينظمه المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية منذ عام 2002م في مادة الآباء والكتاب المقدس.

تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأولى (3) تفسير العهد القديم بواسطة العهد الجديد