آبائياتأبحاثالردود على الشبهات

النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية – د. جوزيف موريس فلتس

النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية - د. جوزيف موريس فلتس

النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية – د. جوزيف موريس فلتس

النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية - د. جوزيف موريس فلتس
النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية – د. جوزيف موريس فلتس

النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية – د. جوزيف موريس فلتس

المواجهة العملية للتيارات النقدية المعاصرة

والتي منها ”مدارس تفسير ونقد العهد الجديد”

د. جوزيف موريس فلتس

مقدمة

قبل أن نتحدث عن النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية والتي منها مدارس تفسير ونقد العهد الجديد، يجدر بنا أن نستعرض في إيجاز بعض آراء وأفكار هذه المدارس حتى يمكننا الحديث فيما بعد عن كيفية مواجهتها. نبدأ بمصطلحي ” التفسير “، و ” النقد “:

أولاً: مصطلح ” تفسير” ” `Ermhne‹a ”

من المعروف أن العهد الجديد قد كتب باللغـة اليونانيـة. ومصطلح “تفسير” في اليونانية هو “`Ermhne‹a” ويعنى أيضًا ترجمة. والمعنى الحرفى لهذا المصطلح اليونانى يرتبط باسم “هرمس” `Ermhj الذي هو إله المعرفة والكلام عند اليونانيين القدماء. ولهذا دعى أهل لسترة بولس الرسول بـ “هرمس” لأنه ” كان هو المتقدم في الكلام” (انظر أع12:14). بل كان الإله “هرمس” عند الغنوسيين هو الحامل للكلام الشفهى والمكتوب وأيضًا المساعد للبشر على المعرفة الصحيحة وفهم الأمور المعقدة ولهذا كان يعتبر “هرمس” أيضًا هو المفسر لإرادة ومشيئة الآلهة.

أما المعنى الأشمل لمصطلح “تفسير” “`Ermhne‹a” فيتحدد بشكل كامل في التعبير عن:

أ ـ فهم جوهر الأمور. ب ـ القدرة على عرض هذا الفهم بطريقة بسيطة وواضحة.

ج ـ تمييز وإفراز هذه الأمور بالمنطق والفكر.

ومن الصعب تحديد أى من هذه العناصر ليكون هو العنصر الأساسى في تعريف معنى مصطلح تفسير. وعملية “التفسير” كانت مرتبطة دائمًا بالأمور الدينية لدى اليونانيين، إذ كان من مهام التفسير بيان واعلان ما تريده الآلهة من البشر[1]. وفي العهد الجديد وخصوصًا عند القديس بولس نجد أن التفسير أو الترجمة `Ermhne‹a هى احدى المواهب الروحية إذ يقول “ولآخر ترجمة ألسنة” (1كو10:12ـ30). وهذه الموهبة كانت لازمة لبنيان الكنيسة ” لأن مَن يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة إلاّ إذا تُرجم حتى تنال الكنيسة بنيانًا” (1كو5:14). وأيضًا “مَن يتكلم بلسان فليتكلم لكى يُترجم” (1كو13:14). وهذا معناه أن الأمور غير المعلنة للكل والتي تُقال لشخص تحتاج إلى ترجمة أو “تفسير”.

ويمكن أيضًا لمصطلح “`Ermhne‹a” أن يعنى شرحًا للكتب وتفسيرًا لها وذلك كما جاء في (لو24) إذ ذكر أن السيد المسيح القائم قد وبخ تلميذى عمواس قائلاً لهما ” أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده“(لو25:24ـ26). ثم يكمل القديس لوقا روايته عما قام به السيد المسيح فيقول: ” ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر dierm»neusen لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” (لو27:24).

ويرد مصطلح تفسير ـ ترجمة “`Ermhne‹a” كمصطلح فنى في العلوم اللغوية وكعنوان لكتاب لدى الفلاسفة والكُتّاب القدماء. فلقد ألف أرسطو كتابان بعنوان “عن التفسير” وموضوعه هو الطريقة اللغوية للتعبير، كما أن أوفاليرياس ديمتريوس له كتابًا بعنوان “عن التفسير” أيضًا، يشرح فيه معنى التعبير الخطابى. كما أن لدينا كتبًا كثيرة قديمة عن فن التفسير أو الترجمة وكلها تنحصر في الفنون اللغوية.

أما في القرون الأولى للكنيسة فإننا نجد أن مصطلح تفسير ـ ترجمة “`Ermhne‹a”، قد أتى بمعنى “شرح” ™x»ghsh أو مذكرة شرح ÝpÒmnha. غير أن هذا المصطلح لم يكن يعنى بالمرة عند آباء الكنيسة المفسرين أن عملية الشرح هى عملية لغوية بل هى عملية تهتم بتوضيح أو “جلى الغموض” عن مفهوم النص وصياغته، بالنسبة لمشاكل عصرهم سواء كانت هذه المشاكل لاهوتية أو سلوكية.

ولهذا لم يكن آباء الكنيسة المفسرون علماء متعمقين في اللغة فقط بل ـ في المقام الأول ـ لاهوتيون عظماء. كما أننا نقرأ كتاباتهم التفسيرية اليوم لا من أجل مجرد ملاحظاتهم وتعليقاتهم اللغوية بل قبل كل شئ من أجل تجليهم في فهم المعنى الحقيقى لنصوص الكتاب المقدس.

غير أن اليوم نجد أن هناك تمييز واضح بين مصطلحى شرح ™x»ghsh ومصطلح تفسير ـ ترجمة `Ermhne‹a وذلك في إطار الحديث عن النصوص القديمة بصفة عامة. فاليوم عندما نقول إننا “نشرح” نصًا فإن هذا يعنى ـ في الأساس ـ المحاولة المبذولة لنقل النص القديم إلى الواقع اليومى المختلف جذريًا عن وقت كتابة هذا النص، بدون تغيير جوهرى في مفهوم النص وبوعى كامل من جانب القارئ المعاصر لمفهوم النص القديم وكل تبعاته بالنسبة للقارئ.

ونستخدم تعبير “اليوم” باستمرار لأنه بعد القرن الثامن عشر وعلى الأخص مع سيطرة الرأى القائل بأن كل الأمور لابد وأن تفسر حسب العصر التي حدثت فيها وبطريقة العصر التي جرت فيها. وأيضًا مع سيطرة الرأى القائل بإن كل أمر هو وليد عصره ويجب أن يُقَيّم حسب هذا العصر فقط، كانت نتيجة هذه الآراء أن نشأ الرأى القائل باعتبار أن هناك فجوة زمنية بين النصوص التي كتبت في القديم مثل نصوص العهد القديم والعهد الجديد، وبين الواقع اليومى الآن. بل أن هناك ـ على الأقل في السنوات الأخيرة ـ مشكلة ضخمة في إمكانية نقل الرسالة الإنجيلية إلى داخل المجتمع البشرى المعاصر بكل ما فيه من مشاكل وتحديات.

غير أنه من البديهى أن نقول إن الكتاب المقدس في كل عصر، هو كتاب ليس فقط للشرح prÒj ™x»ghsh حسب قواعد اللغة وآدابها، بل هو بالأخص كتاب للتفسير prÒj ™rmhgšia، أى أنه كتاب لديه شيئًا يريد أن يقوله ويقدمه للبشر من خلال المفسر في كل عصر يعيشه هذا المفسر. وهكذا فإن ما يقوم به الواعظ هو نوع من التفسير حيث أنه يحاول أن ينقل إلى المستمعين الرسالة التي يريد النص الإنجيلى أن يقدمها. والتحدى الحقيقى يكمن في الجدية التي نتعامل بها ليس فقط في محاولة الاقتراب من فكر مَن كتب تلك النصوص بل أيضًا في محاولة قارئ اليوم لفهم ما يقصده الكاتب وذلك بأن يجعل فكر الكاتب الأصلى هو فكره الحالى. وهذا ما حاول آباء الكنيسة عمله وهم يفسرون نصوص الكتاب المقدس.

 

ثانيًا: مصطلح ” النقد الكتابى ”: Biblical Criticism

في اللغة اليونانية Kritik». ويعنى هذا المصطلح “القدرة على التمييز والذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك رأى محدد وواضح في أمر ما”[2].

والنقد الكتابى بهذا المفهوم هو أمر إيجابى وذلك لأنه يوجد مفهوم آخر للنقد الكتابى نستطيع أن نوصفه بأنه نقد سلبى أو “نقض” وقد بدأ هذا التيار الموجه ضد نصوص العهد الجديد في الغرب في القرن الثامن عشر. غير أن النقد الكتابى بمفهومه الكتابى كما أوضحناه فيما سبق ليس بالأمر الحديث كـ النقد السلبى إذ كان آباء الكنيسة هم أول مَن مارسوا هذا التمييز عند قراءتهم لنصوص العهد الجديد التي كانت منتشرة في القرون الأولى. ولقد مارسوا هذا التمييز أو بمعنى آخر هذا النقد الكتابى الإيجابى لإفراز النصوص القانونية التي قبلتها الكنيسة عن تلك النصوص المزيفة التي كانت لا تعبر عن إيمان الكنيسة الذي تسلمته من الرب نفسه عن طريق الآباء الرسل أى ذلك الإيمان الذي حفظه التقليد أو كما عبّر عن ذلك القديس بولس الرسول بقوله “الإيمان المسلّم مرة للقديسين”.

وهكذا استطاع الآباء أن يقدموا لنا ما يعرف بقانون الكتاب المقدس أى الأسفار القانونية التى تؤمن بها الكنيسة وتعلم بها وتفسرها .

وعندما قدم تاتيانوس فى النصف الثانى من القرن الثانى انجيله الرباعى (الدياطسرون) فى محاولة منه لوضع رواية واحدة متجانسة تعتمد على الروايات الإنجيلية الأربع[3]، نجد أن الكنيسة قد مارست حق النقد الكتابى واعتبرت أن هذا العمل لا يمكن اعتباره عملاً الهياً- بشرياً كالأناجيل بل وثيقة من صنع بشرى، وهكذا تمسك الآباء بالأناجيل الأربعة التى تسلموها مع ما تسلموه من تقليد شفهى يعكس إيمان الكنيسة الحى.

بعد أن أوضحنا النقد الكتابى بمفهومه الإيجابى وكيف مارسته الكنيسة، نأتى الآن إلى النقد الكتابى بمفهومه السلبى حيث نجد أنه يعمل فى ثلاث محاور:

1ـ النقد التاريخى المتطرف: حيث ظهر فى القرن التاسع عشر تيار فى علم التاريخ المدنى وكان متأثراً بالعلوم الطبيعية وعلى صعيد الكتاب المقدس حاول المفسرون منهم أن يقتلعوا من الأناجيل كل ما يبدو أنه اسطورى للوصول إلى معطيات موضوعية يمكن اعتمادها اسساً علمية لمعرفة حقيقة يسوع الناصرى.

2ـ النقد الإيمانى المتطرف: لم يبغ هذا الإتجاه معرفة” يسوع التاريخ” لأنها مستحيلة بل كان المهم لديه معرفة المسيح الذى أعلنته الجماعة المسيحية الأولى أى “مسيح الإيمان”[4].

3ـ النقد النصى: وهى محاولة للبحث فى تكوين مراحل النص الإنجيلى. وعند البحث عن مصدر التدوين الأصلى للكتاب يسمى هذا النقد بـ النقد (الأعلى) High Criticism . وعندما يبحث ناقد النص فى أمور ذات علاقة بفترة مابعد كتابة الكتاب ونسخه وانتشاره فإن هذا النقد يسمى بالنقد (الأدنى).

ولقد استعار العلماء عبارتي (النقد الأعلى) و (النقد الأدنى) من صورة النهر، فالناقد (الأعلى) يسعى إلى التوغل فى أعالى النهر أقرب ما يكون من المنبع[5].

والآن سنحاول أن نوضح كيفية المواجهة العملية لمدارس تفسير ونقد العهد الجديد. وأول كل شئ لابد أن نتذكر جيداً بأننا كنيسة شرقية تقليدية بمعنى أن التقليد المقدس هو الذى يميز كنائسنا عن غيرها. هذا التقليد الحى هو الذى يضمن ويضبط ويحكم على كل محاولة لتفسير الكتاب المقدس أو نقده. ومن هنا كانت أهمية التشديد على علاقة الكتاب المقدس بالتقليد.

 

الكتاب المقدس والتقليد

لقد شهد آباء الكنيسة الكبار بأن كمال الإيمان معطى فى الكتاب المقدس لذلك نجد أنهم لم يترددوا فى التكلم عن “كفاية الكتاب المقدس”[6] فالقديس أثناسيوس على سبيل المثال يعلن أن الكتاب المقدس “كاف لإعلان الحقيقة” ونجده فى الرسالة الفصحية رقم 39 يحدد قانونية أسفار العهد الجديد الـ 27 ويؤكد على أن هذه الأسفار “هى ينابيع الخلاص فليقبل إليها كل ظمآن ليرتوى بكلامها. إن فيها وحدها أعلنت عقيدة التقوى فلا يزّدن أحد عليها ولا ينقّصن منها شيئاً”.

لكن الآباء لم يعتبروا أن الكتاب يفسر نفسه بنفسه لأن نظرتهم إلى الكتاب لم تكن تنفى بل بالعكس تؤكد الإرتباط العضوى بين الكتاب المقدس وبين الكنيسة وتقليدها. فالكتاب انبثق من التقليد والكتاب المقدس والتقليد كلاهما ملك الكنيسة وليس عهد جديد بدون الكنيسة ولا كنيسة بدون وحى الإنجيل وإعلانه. وما التقليد المقدس سوى تطبيق للكتاب المقدس فى حياة الكنيسة. وما يميّز شهادة الكتاب المقدس من كل الشهادات اللاحقة هو أنه فيه دوّن الإعلان الإلهى وهو المقياس الذى بموجبه تحكم الكنيسة على كل التعابير اللاهوتية اللاحقة للحقيقة اللاهوتية.

يحيا الكتاب المقدس فى التقليد وفيه يظهر معناه لأنه منه أتى لذلك لا يمكن للواحد أن يناقض الآخر أو يخضع له كما أنه لا يُستطاع عزل الكتاب عن حياة الكنيسة. فقد تعرّضت الكنيسة دوماً فى تاريخها لتجربة اعتبار الكتاب المقدس وكأنه قائم بذاته (سنتحدث عن هذه النقطة بالتفصيل فيما بعد) وبالتالى، النظر إلى النمو العقائدى والليتورجى كعلامات ابتعاد عن “صفاء الإنجيل ونقاوته” فى حين يأتى هذا النمو من بذور الإنجيل ذاته[7].

أيضًا كتب القديس ايريناوس فى أواخر القرن الثانى أن الأناجيل هى “ركيزة الإيمان وعاموده” التى بشّر بها الذين “أُلبسوا قوة من العلا عندما حل الروح القدس عليهم ملئوا بالمعرفة الإلهية”. لقد نقل متى ومرقس ولوقا ويوحنا الإيمان “بإله واحد صانع السماء والأرض الذى تكلم عنه الناموس والأنبياء وبمسيح هو ابن الله الوحيد”[8].

لقد اعتبر ايريناوس أن الهراطقة قد بشروا بآرائهم الخاصة فأفسدوا بذلك “قانون الإيمان”. لم يكن لديهم بشارة خلاصية فعارضوا التقليد واعتبروا ذواتهم أكثر حكمة من شيوخ الكنيسة ومن الرسل أنفسهم. وتابع القديس أيريناوس القول بأنهم حتى لو لم تكتب الأناجيل لكنا ملزمين بـ ” قانون التقليد ” الذى ” سلمه الرسل للذين جعلوهم مسئولين عن الكنيسة “[9].

لقد دافع ايريناوس عن تقليد الكنيسة ضد هجمات مؤلفى الأدب الأبوكريفى وكذلك ضد مركيون وتاتيانوس الذين لم يثقا كلياً بالأناجيل وأرادا الإنقاص من مواردها للوصول بها إلى المستوى المقبول منهما. ومن هنا يتضح أن الكنيسة قد التزمت بكتبها ودافعت عنها معتبرة إياها معبرة عن إيمانها وحياتها كذلك رفضت بحزم إنقاصها وحافظت عليها كاملة. فالأناجيل كتبت لإعلامنا عن طبيعة المسيح الإلهية وعن طبيعته البشرية وهى تستمد سلطتها من المسيح نفسه الذى وُجدت لتشهد له.

إن خطورة فصل الكتاب المقدس عن التقليد تكمن فيما وصل إليه الفكر الغربى من اعتبار أنه لا توجد مرجعية إلاّ الكتاب المقدس وحده أو ما يعبر عنه بـ Sola Scpitura الأمر الذى يعتبره دين اينج أنه هو خطأ الإصلاح البروتستانتى[10] إذ يقول عن المصلحين البروتستانت “وصفت عقيدتهم بأنها رجوع إلى الإنجيل بروح القرآن”[11] فعندما نعلن أن الكتاب مكتف بذاته نجعله عرضة لتفاسير غير موضوعية وكيفية ونفصله عن مصدره المقدس، فقد أعطيناه فى التقليد وهو مركزه الجوهرى والمتبلور. والواقع أن ما فعله الغرب بفصل الكتاب المقدس عن التقليد، كان هو السبب المباشر فيما نراه حتى اليوم من تفسيرات خاطئة ليس لها مرجعية أصيلة، وانحرافات لا علاقة لها بالفكر الأصيل والرسالة التي جاء السيد المسيح بها والتي بشّر الرسل كل العالم بمحتواها.

 

كيف واجه الآباء مسألة التفسير:

إن قناعة الآباء بأهمية تفسير الكتاب المقدس تفسيراً مستقيماً ” أرثوذكسيًا ” قد عبر عنها القديس إيلاريون أسقف بواتيه بقوله ” إن الكتاب المقدس ليس فى قراءته بل فى فهمه”[12]. ومن بعده أيضًا كررها القديس إيرونيموس[13].

ظلت مشكلة التفسير الصحيح للكتاب المقدس حادة حتى القرن الرابع الميلادى أثناء صراع الكنيسة مع الآريوسيين بل أن حدتّها لم تَخِفَ عمّا كانت عليه فى القرن الثانى أثناء مقاومة الكنيسة لهرطقات الغنوسيين وأتباع سابيليوس ومونتانوس. فكل أطراف النزاع احتكمت إلى الكتاب حتى أن الهراطقة جميعهم قد استشهدوا بفصوله وآياته واحتكموا إلى سلطانه وكان التفسير فى تلك الفترة أهم منهج لاهوتى ولعله كان المنهج الأوحد، وكان سطان الكتاب مطلقًا وساميًا

وعندها كان الآباء الأرثوذكس يميلون إلى طرح السؤال الحاسم حول التفسير: ماهو مبدأ تفسير الكتاب؟ والإجابة كانت تكمن فى أن الكتاب ينتمى إلى الكنيسة ولذلك يُفهم بشكل وافر ويُفسر بشكل صحيح فيها وضمن جماعة الإيمان القويم فقط[14]. أما الهراطقة أى الذين هم خارج الكنيسة ولم يملكوا مفتاح فكر الكتاب. لأنه لم يكن الإستشهاد بكلام الكتاب كافيًا إذ يجب على الإنسان أن يشرح المعنى الحقيقى للكتاب والقصد منه بشكل كلىّ وهذا لن يتحقق إلا بالرؤيا الإيمانية. فبالإيمان أُكدت بشكل صحيح وحدة الأناجيل الأربعة.

لكن هذا الإيمان لم يكن تأملاً فرديًا كيفّيًا بل كان إيمان الكنيسة المتأصل فى البشارة الرسولية أو الكرازة، أما الذين خارج الكنيسة فتعوزهم هذه الرسالة الأساسية التى هى قلب الإنجيل. فالكتاب عندهم حرف ميت ومجموعة من النصوص والسير غير المترابطة إنهم حاولوا ترتيبها وفق طريقتهم الخاصة التى استقوها من مصادر غريبة فأتى إيمانهم مختلفًا. هكذا كانت حجة ترتليان فى مقالته “معارضة الهراطقة”. لذلك أكد بشدة على أولوية “قانون الإيمان” الذى هو المفتاح الأوحد لفهم وتفسير معانى الكتاب فتقليد الإيمان الرسولى كان المرشد الضرورى لفهم الكتاب والضمانة الأساسية للتفسير الصحيح ولم تكن الكنيسة تمثل سلطة خارجية مهمتها أن تحكم على الكتاب بل أن تحفظ الحقيقة الإلهية المودعة فيه.

 

بنيّة الكتاب الداخلية وتآلفه:

لقد أساء الغنوسيين استعمال وفهم الكتاب المقدس. وفى دحضه لتعليمهم أورد القديس إيريناوس تشبيهًا رائعًا عندما كتب قائلاً: ” صنع فنان موهوب صورة جميلة لأحد الملوك من الجواهر الثمينة أو الفسيفساء، لكن شخصًا آخر فك هذه الحجارة وأعاد ترتيبها بأسلوب آخر ليقدم صورة كلب أو ثعلب ثم زعم أن هذه الصورة هى الصورة الأصلية التى صنعها الفنان وتعلل قائلاً إن هذه الحجارة أو الفسيفساء هى أصيلة والحق إن التصميم الأصلى قد تهدم وضاع نموذج الإنسان الموضوع “. هذا بالضبط ما يفعله الهراطقة بالكتاب المقدس فهم يتجاهلون ويمزقون “الترابط والترتيب” الموجود فى الكتاب ويقطعون أوصال الحقيقة. إن كلماتهم وتعابيرهم وامثالهم أصيلة ولكن قياسهم أو تصميمهم (Hypothesis ) كيفّى وخاطئ[15].

لقد أراد القديس إيريناوس أن يوضح أن للكتاب نموذجًا وبنيّةً داخلية وتآلف لكن الهراطقة ينكرون هذا النموذج أو بالحرى يستبدلونه بنموذجهم الخاص وبكلام آخر هم يعيدون ترتيب الشواهد الكتابية على أسس غريبة عن الكتاب.

 

علاقة التفسير بهدف وغاية الكتاب:

ركز القديس أثناسيوس فى صراعه مع الآريوسيين على أهمية فهم غاية skopÒj  الكتاب عند تفسيره. وذلك لأن الآريوسيون جاءوا بمجموعة كبيرة من النصوص ليدافعوا عن موقفهم العقيدى وأرادوا حصر البحث اللاهوتى فى المجال الكتابى وحده لذلك كانت مواجهتهم فى هذا الإطار من قبل القديس أثناسيوس ضرورية. لقد كان منهجهم التفسيرى مطابقاً لمنهج الذين انشقوا عن الكنيسة فى القرون الأولى، فهم اهتموا بالنصوص من غير أن يلتفتوا إلى السياق العام للإعلان لذلك لجأ الآباء إلى الإحتكام إلى فكر الكنيسة أى إلى الإيمان الذى أُعلن مرةً وحُفظ بصدق فيها. وهذا كان اهتمام القديس أثناسيوس الأساسى ومنهجه الإعتيادى فى التفسير. لقد استشهد الآريوسيون بمقاطع كبيرة من الكتاب ليقيموا الدليل على أن الابن مخلوق. وفى جواب القديس أثناسيوس كان الإحتكام إلى “قانون الإيمان” واضحًا عندما قال: لنعطى نحن الذين اقتنينا غاية الإيمان المعنى الصحيح لما فسروه بشكل خاطئ[16] وهكذا أكد القديس أثناسيوس أن “التفسير الصحيح ” لنصوص معينة يصبح ممكنًا من خلال المنظور الإيمانى فقط فيقول: “والآن فما قلناه يكفى لكى يبرهن على سوء فهمهم للآيات التى تعللوا بها وأن ما يتعللون به الآن من الأناجيل فهم بالتأكيد يعطونه تفسيرًا غير صحيح ويمكننا أن نرى هذا بسهوله إذا وضعنا أمامنا كهدف ذلك الإيمان الذى نمسك به نحن المسيحيون وأن نستخدمه كقاعدة”[17].

ومن ناحية أخرى شدّد القديس أثناسيوس على الإهتمام بالسياق المباشر لكل جملة وتعبير وبإبراز القصد الصحيح للكاتب بكل دقة وأكد فى رسالته إلى الأسقف سرابيون أن الأريوسيين يجهلون “غاية الكتاب المقدس”[18] وذلك لأنهم “يهتمون بما يقال ويتجاهلون معناه”.

 

الكنيسة وتفسير الكتاب:

الكنيسة هى المستودع الحقيقى الأوحد للتعليم الرسولى ولهذا فإن للكنيسة سلطان لتفسير الكتاب. لقد حُفظ التعليم الرسولى بطريقة حيّة فى الكنيسة، لأن الروح أُعطى لها والكنيسة تعلّم مشافهة وتودع كلمة الله فى النفوس وتوطدها داخلها. وصوت الإنجيل الحىّ ليس هو مجرد تلاوة لكلمات الكتاب بل إعلانًا لكلمة الله كما سُمعت وحُفظت فى الكنيسة بقوة الروح الذى يفعل فيها ويحيّيها. أما خارج الكنيسة وخارج خدمتها الكهنوتية القانونية من أيام الرسل فلم يتم إعلان صحيح ولا تبشير قويم ولا فهم حقيقى وتفسير لكلمة الله. فالتفتيش إذن عن الحقيقة فى مكان آخر أى خارج الكنيسة الجامعة الرسولية سيكون بلا فائدة. والكنيسة والكتاب لا ينفصلان ولا يتناقضان فالكتاب أى فهمه الصحيح وتفسيره السليم موجود فى الكنيسة فقط.

وهكذا نخلص إلى أن كل المشاكل وكل التعاليم الخاطئة وكل التطرفات الفكرية التى حدثت فى الألفى سنة التى لتاريخ المسيحية، حدثت بسبب هؤلاء الذين حاولوا فصل الكتاب المقدس عن الكنيسة وإيمانها وتقليدها الحى وبذلوا جهداً ضائعاً ـ وبدون فائدة ـ فى تفسير ونقد الكتاب المقدس بطريقة خاطئة.

 

نصائح آبائية:

وأخيرًا يهمس الآباء الكبار فى الآذان بنصائح مفيدة واضعين منهجًا عمليًا للاستفادة من الكتاب المقدس كلمة الحياة.

1ـ القديس الشهيد يوستينوس (+160م)

“إذ بدا لى أن هناك نصوصًا تتعارض مع أخرى فى الكتاب المقدس فالأفضل أن أعترف بأنى لم أفهم جيدًا ما هو مكتوب”[19].

2ـ القديس يوحنا ذهبى الفم:

ومن المعروف أنه من أكثر آباء الكنيسة الذين انشغلوا بالكتاب المقدس وتفسيره حسب فكر وإيمان الكنيسة وتقليدها بل أنه يعد نموذجاً فى فهمه وتفسيره للكتاب المقدس.

+ شبّه مرة الكتاب المقدس بالأنهار التى لا نعرف أعماقها ونصحنا قائلاً ” يكفينا أن نميل ونشرب منها ونرتوى ونبحر فيها عوض أن نفسد أوقاتنا فى قياس أعماقها ونحن نموت ظمأً”.[20]

+ ” من يعرف الكتب المقدسة كما ينبغى لا يتعثر فى شئ فإن علامة المعرفة الحقة ألا تكون محبًا للإستطلاع فى كل شئ ولا ترغب فى مجرد التعرف على كل شئ “[21].

3ـ القديس أثناسيوس الرسولى:

وأخيرًا نسمع صوت البابا اثناسيوس الرسولى الذى وضع لنا منهجًا وأساسًا قويًا لـ المواجهة العملية لـ كل تفسير خاطئ ونقد للكتاب، ليس فقط فى عصره بل أيضًا لمواجهة للتيارات المعاصرة عندما ينصحنا قائلاً “إن دراسة الكتب المقدسة ومعرفتها معرفة حقيقية تتطلبان حياة صالحة ونفسًا طاهرة وحياة الفضيلة التى بالمسيح ذلك لكى يستطيع الذهن باسترشاده بها أن يصل إلى ما يتمناه وأن يدرك بقدر استطاعة الطبيعة البشرية ما يتخص بالله الكلمة”[22].

ــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع: 

[1] انظر دائرة المعارف اللاهوتية والأخلاقية (باليونانية) مجلد رقم (5) ص847.

[2] See: Biblical Criticism. In the: Interpreter’s Dictionary of the Bible vol:2

[3] انظر يوسابيوس القيصرى : تاريخ الكنيسة 29:4

[4] انظر: مدخل إلى النقد الكتابى بقلم المهندس رياض يوسف داود. دار المشرق. بيروت .1997 صفحة17

[5] انظر: ف. كزيتش: المسيح فى الأناجيل أو الكنيسة والنقد الكتابى الحديث تعريب الأب ميشال نجم. منشورات النور. لبنان 1981ص100

[6] وهذا ليس هو ما عبّر عنه الفكر الغربى بمقولة أنه لا توجد مرجعية إلاّ الكتاب المقدس وحده أو Sola Scriptura ، كما سنتكلم فيما بعد.

[7] انظر: ف كيزيتش: المرجع السابق ص27.

[8] ضد الهرطقات 2،2

[9] ضد الهرطقات3،4

[10] برز هذا الرأى عندما قامت حركة الإصلاح البروتستانتى فى القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية التى اعتبروها كنيسة تقليدية فأرادوا فصل الكتاب المقدس عن التقليد ونادوا بأنه لا توجد مرجعية إلا الكتاب المقدس وحده

[11] Very Rev. W. R. inge, the platonic Tradition in English Religious Thought 1926.P.27

[12] إلى كونستانس 9،2 PL.10.570

[13] الحوار ضد لوكيفاروس 28PL. 23.190-191  

[14] وهنا نجد التطبيق الليتورجى لهذه الحقيقة فى طقس الكنيسة القبطية وذلك بإدخال القراءات الكتابية فى الطقس الليتورجى.

[15] ضد الهرطقات 1،8،1.

[16] ضد الأريوسيين 35:3

[17] ضد الأريوسيين 8:3

[18] الرسالة إلى سرابيون 7:2

[19] الحوار مع تريفو 1:65

[20] تفسيره للرسالة إلى تيموثاوس عظة 80

[21] المرجع السابق

[22] كتاب تجسد الكلمة: ترجمة عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس فلتس. نشر المركز الأرثوذكسى لدراسات الآباء القاهرة 2003 الفصل 57 ص 167.

النقد المعاصر وكيفية مواجهته مواجهة عملية – د. جوزيف موريس فلتس