أبحاث

الشعور بالعطش بجوار نافورة – فيليب يانسي

الشعور بالعطش بجوار نافورة - فيليب يانسي

الشعور بالعطش بجوار نافورة – فيليب يانسي

الشعور بالعطش بجوار نافورة - فيليب يانسي
الشعور بالعطش بجوار نافورة – فيليب يانسي

الشعور بالعطش بجوار نافورة – فيليب يانسي

 

“الكوميديا الإنسانية لا تجذب انتباهي بدرجة كافية، فأنا لست من هذا العالم… أن من مكان آخر. وهذا المكان يستحق البحث عنه خلف الأسوار. ولكن أين هو؟”.

يوجين يونسكو

عندما قمت بزيارة روسيا عام 1991 حضرت لأول مرة خدمة في كنيسة أرثوذكسية، والتي تعبر بصورة واضحة عن غموض وعظمة العبادة فيها. فالشموع المضاءة أضفت ضوءً هادئاً للكاتدرائية. واستمرت الخدمة ما بين ثلاث إلى أربع ساعات، بينما المتعبدون يدخلون ويخرجون متى شاءوا ذلك، ومثلما يحدث في الكنائس الأرثوذكسية فهنا لا أحد يتبادل معك السلام، أو يحييك بابتسامة، فهم يقفون – حيث لا توجد كراسي أو مقاعد – ويراقبون القساوسة الذي هم ومنذ ألف سنة لم يغيروا طقوسهم والتي تؤدى بشكل احترافي جداً.

وفي نفس اليوم اصطحبني كاهن، وممثل لجماعة خاصة تهتم بخدمة زيارة السجون، وزرت كنيسة صغيرة في بدروم أحد السجون القريبة. وفي عمل جريء قام موظف شيوعي في روسيا، الملحدة سابقاً، بالسماح بإقامة هذا السجن وبه الكنيسة، التي كانت سابقاً واحة للجمال في برج محصن مقيت. وقام السجناء بتنظيف الحجرة من قاذورات تراكمت عبر سبعين عاماً، وكسوا أرضية الغرفة رخاماً، وعلقوا الشمعدان النحاسي على الحوائط. وكانوا يفتخرون بكنيستهم تلك، لقد كانت الكنيسة الوحيدة، في ذلك الوقت، في كل سجون روسيا. كل أسبوع كان يسافر إليها الكهنة من أحد الأديرة ليقوموا بالخدمة هناك، وكان مأمور السجن يسمح للسجناء أن يتركوا زنزاناتهم لحضور الخدمة الروحية.

أمضينا دقائق قليلة ونحن محبون ومنجذبون لكل ما أنجزوه بأيديهم في هذا الغرفة، وأشار الأخر بونيفاتو إلى الأيقونة الموضوعة في كنيسة السجن “سيدتنا التي ترفع عنا أحزاننا” بهذه الكلمات علق رون بيكل أحد أعضاء المجموعة الزائرة، وأضاف قائلاً: لا بد وأنه يوجد الكثير من الحزن داخل هذه الحوائط، ثم تحول نحو الأخر بونيفاتو وسأله إذا كان في إمكانه أن يرفع صلاة من أجل السجناء. فنظر الأخر بونيفاتو والحيرة بادية على وجهه وقال: “هل بإمكانك أن تصلي من أجل السجناء”.

وسأل الأخ بونيفاتو “هل تريد صلاة؟” فأجبنا بالإيجاب. وإذا به يختفي خلف المذبح عند نهاية الغرفة، وأحضر أيقونة أخرى وأضاء حولها الشموع والبخور. وارتدى الزي الكهنوتي الخاص بالصلاة، وصليباً ذهبياً، استعداداّ لإقامة الصلاة.

تضمنت الصلاة سلسلة من الطقوس الرسمية، وبدأ الأخ بونيفاتو يقرأ مرتلاً لبعض الصلوات من كتاب خاص بالطقوس الدينية، وكان موضوعاً على طاولة. وبعد عشرين دقيقة طلب رون من بونيفاتو أن يصلي من أجل السجناء، وإذ به يقول: “آمين” وخرجنا من السجن إلى الهواء الطلق.

في أماكن أخرى بروسيا تقابلت مع مؤمنين غربيين، وهؤلاء انتقدوا بشدة الكنيسة الأرثوذكسية، فالاحترام، والتسليم، والخوف…. تلك الصفات التي ينقلها الأرثوذكس إلى المتعبدين أثناء فترة العبادة، حيث يظل الله بعيداً، متعالياً، ولا يمكن الاقتراب منه إلا بعد إجراء استعدادات كثيرة، ومن خلال وسطاء: مثل الكهنة والأيقونات. ومع ذلك؛ فقد خرجت وأنا مقتنع بأننا يجب أن نتعلم شيئاً من الأرثوذكس. حيث استمر الكنيسة الروسية، وتحت قمع جبروت حكومة لا تؤمن بوجود الله، وإن اتخذت مكان الله كمركز عبادتها، فقد تحملت أقسى هجوم إلحادي في التاريخ.

عرفت أن الأخ بونيفاتو لم يكن متعمقاً في الخدمة الروحية، لأنني شاهدت خدمته بين المجرمين في زنزانات السجن. فقد سيطرت عليه التقاليد، وساعدته الطقوس لأن ينتقل من روح الإلحاح والسرعة – وهذا ما تتطلبه خدمة السجون – إلى مكان هادئ حيث أنغام الأبدية.

يقول توماس ميرتون: “إذا وجدت الله بسهولة عظيمة، فربما لا يكون الذي وجدته هو الله”.

أشار العالم الفيزيائي “جون بولكينغورن John Polking Horne”، الذي استقال من وظيفته في جامعة كمبردج ليصبح قسيساً انجليكانياً، أشار إلى الفرق الكبير بين معرفة العلوم ومعرفة اللاهوت: حيث يمكن زيادة المعرفة العلمية بطريقة تدريجية: تدرس أولاً بطليموس، ثم جاليليو وكوبرنيكس ونيوتن وأينشتين. وكل واحد من هؤلاء العلماء بنى على الأساس الذي بناه الذين سبقوه، ولهذا فالعالم العادي اليوم لديه المزيد من المعرفة عن عالم الفيزياء أكثر مما كان لدى اسحق نيوتن. أما معرفة الله فتبدأ بطريقة مختلفة تماماً، فكل مواجهة مع الله هي فريدة في نوعها تماماً، مثل أي اجتماع بين شخصين. ولهذا فالمتصوف الذي عاش في القرن الخامس، أو المهاجر الأمي قد يكون لديهما معرفة عميقة بالله أكثر من اللاهوتي في القرن العشرين.

اعتاد كارل ساجان عالم الكوزمولوجيا (علم يبحث في مظهر الكون وتركيبه العام…) أن ينطق بما قد لا يعرفه: “الكون هو كل ما هناك وكل ما سيكون”. ومع ذلك فقد ظل ساجان محصناً من الرغبة في الاتصال بالآخر. وتحكي روايته “الاتصال Contact” عن حكومات ترغب في إنفاق نصف تريليون دولار لكي ترسل شخصاً لعالم آخر. وهذا الرسول، الذي لعبت دوره في السينما جودي فوستر، وقامت بهذا الاتصال فعلاً وعادت لتجد أن العلماء سخطوا على تقريرها بينما رجبت به الجماهير. وكشفت رواية ساجان أكثر مما كان يقصد أو يتوقع.

يدعي المؤمنون أنه هناك أوقات حدث فيها اتصال شخصي مع خالق الكون، فكتب مرة توما الأكويني عن مثل هذا المواجهة فقال: “رأيت أشياء جعلت كل كتاباتي تبدو كالقش”.

في فيلم “الاتصال” جلست جودي فوستر أمام أطباق الراديو الضخمة يوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة، حتى بدأ يصلها صوت واضح من خلال السماعات، وهي جالسة على الكرسي، وصاحت: شيء ما هناك! وبالنسبة للمؤمنين أيضاً فالاتصال أو التلامس قد يأتي بنوع من الصدمة. استمع لما يقوله س. إس. لويس:

“إنه أمر مروع أن نواجه الحياة ونحن نعتقد أننا بمفردنا، فنصرخ ونقول: “انظر إنه حي!”، ولهذا فإن هذه هي النقطة التي يتراجع عندها الكثيرون، ولا يتقدمون في حياتهم المسيحية. “الإله المجرد والمجهول” هو الأفضل. إله الجمال، والحق، والخير، في داخل أذهاننا، من الأفضل أن يظل كذلك. قوة حياة لا شكل لها ولا صورة تموج داخلنا، قوة هائلة يمكن أن نطلبها ونطرق بابها – هي الأفضل. أما الله نفسه الحي، والذي يجذب الحبل من طرفه الآخر، وربما يقترب بسرعة هائلة، الصياد، الملك، الزوج – فهذا أمر آخر تماماً. فقد يأتي لحظة يصمت فيها الأطفال الذين كانوا يلعبون معاً ويقولون: هل هناك وقع أقدام في الصالة؟ وقد تأتي لحظة يتراجع فيها أناس يبحثون عن الله بكل اجتهاد ويقولون: فلنفترض أننا وجدناه؟ لم يكن هذا قصدنا. وماذا لو وجدنا هو؟

لقد شعرت أنا أيضاً بهذه الجذبة العنيفة التي هزتني وأخرجتني من حالة الثورة، لقد كانت قوية لدرجة أنها وجهت حياتي نحو اتجاه آخر جديد. ومع ذلك؛ فقد ظللت لفترات طويلة جالساً في انتظار، وحاجة ماسة لرسالة من العالم الآخر، لتؤكد لي هذا الاتصال، ولكن لم يحدث شيء.

كيف يمكن أن شيئاً جوهرياً مثل الله الذي خلقنا لنعرفه، ونحبه، يصبح رقيقاً للغاية؟ وإذا كان الله، مثلما أخبر بولس جمهور الشكاكين، والفلاسفة في أثينا، “قد فعل هذا” حتى يمكننا أن نصل إليه ونجده، فلماذا لا يجعل نفسه في صورة أوضح بالنسبة لنا؟

إن الذين دوّنوا الوحي في الكتاب المقدس عاشوا في “الأرض المقدسة” حيث اشتعلت الشجيرات والصخور، والبراكين، وتدفقت منها استعارات مقدسة، والنجوم تحدثت عن عظمة ومجد الله. لم يعد يحدث ذلك الآن، ويبدو أن مثل هذا العالم الذي يفوق الطبيعة قد انزوى، تاركاً إيانا بمفردنا مع المرئيات. إن الشعور بالعطش إلى الله لكي نتواصل ونتلامس مع غير المرئي، والجوع إلى الحب من آب كوني والذي بإمكانه أن يصوغ المعنى لهذا العالم المتزاحم، شعور يحتاج إلى نوع من التحدي والمثابرة.

نحن الذين نعيش في عالم مادي في أجساد يكسوها الجلد نريد من الله أن يتصل بنا في عالمنا بطريقة نستطيع فهمها. قمت مرة بزيارة المزار المهيب لعذراء جوادلوبي Virgin of Guadelope خارج مدينة المكسيك. وفي غرفة بالمتحف توضح الإعلانات أن صورة العذراء ظهرت بطريقة معجزية لشخص هندي كان موجوداً بالموقع عام 1531 م تركت صورتها على معطفه، وكان المعطف عندما رأيته ممزقاً ومعلقً بالداخل. وقالوا أن عين العذراء كانت تحتجز صورة ذلك الهندي، وبدأ السياح يتفحصون بدقة وجه العذراء بحثاً عن صورة الرجل الهندي. ورافقني في ذلك اليوم آلاف السياح محملقين في تمثال العذراء بمساعدة بعض الأجهزة التي قادتنا إلى الجانب الآخر من السور الحديدي.

لست أدري ما إذا كان كارل ساجان زار هذا المكان، وبإمكاني أن أخمن رد فعله لو كان قد زاره، فسيقول: يتخيل الناس ما يريدون كشكل من أشكال الاسقاط أو الرغبة في تحقيقه. إننا نشتاق لما هو مرأي آملين أن نحضر ما هو فوق الطبيعة إلى مستوانا المادي.  وفي عام 1999م ظهرت  يسوع على زجاج مبنى إداري في فلوريدا، وتمكن البعض من رؤية هذا من زاوية معينة، وفي اليوم التالي تعطل المرور على مسافة ميل بسبب موكب السيارات في الشارع، والتي جاءت لترى الصورة. أيها الأحباء إننا نفقد الصبر مع أي شيء يُظهر نفسه لنا بالصورة التي نريدها نحن.

“ألن تيرنج” وهو أحد الرواد في عالم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، اقترح طريقة للإجابة على السؤال: “هل بإمكان الكمبيوتر أن يفكر؟” وهي وضع لوحة المفاتيح والشاشة إلى جانب من الحائط، وعلى الجانب الآخر شخص أو آلة (×). اسأل (×) عدة أسئلة وانتظر الإجابة حتى تظهر على الشاشة. من فضلك اكتب لي قصيدة عن الموضوع التالي [حدد الموضوع]. اجمع 34957 + 70764. هل تلعب الشطرنج [اطرح بعض ألغاز الشطرنج]. واقترح تيرنج أن الجهاز يمكنه أن يقول ما إذا كان السائل شخصاً أم آلة. وعندما كتب تيرنج هذا البحث عام 1950 عارض الكثيرون هذا الجهاز. أما الآن فقد تقدم الذكاء الصناعي إلى الدرجة التي يستطيع فيها الكمبيوتر أن يهزم أفضل لاعبي الشطرنج في العالم، كما أن المشورة التي تُعطيها البرمجيات Soft-Ware بإمكانها أن تدير حوارات ممتدة مع مستخدمي الكمبيوتر. والجهاز الذي يُدمج فيه برنامج جيد بإمكانه أن يُذهل ويربك من يسأله لفترة من الوقت.

ولأن الله سوف يظل غير مرئي، يميل الناس إلى رسم صورة له في أذهانهم. وكتاب “أحاديث مع الله” يشتمل على ثلاثة كتب، وهي من أفضل الكتب مبيعاً، والتي اقتناها ملايين القراء، والتي ادعى كاتبها أن الله أملاه إياها. لقد التقيت مرة بواحد من محبي قراءة الكتب وسألته أن يصف لي “الله الذي يؤمن به هو” فقال: “إن الله غير بعيد عنا. إنه خالق كل طاقة نافعة في العالم. نحن الذين نصور الله بحسب تفكيرنا”.

على النقيض من ذلك؛ يعتقد المؤمنون ان لله صفات عديدة: شخص لا يمكن التنبؤ عنه، يمكن إقامة علاقة معه، حر، ذكي، عاطفي، وأحياناً متعاون أو مقاوم. والمشكلة هي في كيفية وضع الله على الجانب الآخر من الحائط لكي يجيب على أسئلتنا. إنه لم يكتب شيئاً بمثابة جواب على الأسئلة. ويقول العلماء أن الله لا يمكن إثباته بالتجربة. ونحن يجب أن نؤمن بشيء ما – كقوى الغريزة مثل: الجوع، العطش – ولكننا لم نعد نعرف بماذا نؤمن. إن اللاهوت التقليدي يبدو لبض الناس كما لو أنك تقرأ وصفات طعام لأناس جوعى، ومثل ظمأ لا يمكن أن يُروى.

الفيلم الذي قدمه وودي ألن باسم “النائم Sleeper”، يقدم وودي وقد تجمد لفترة طويلة ثم استيقظ من سباته في القرن التالي، ومن خلال بعض الصور القديمة حاول أن يشرح لسكان العالم الفترة التي قضاها بعد مائة سنة. وبدأ يعلق على نورمان ميلر، وريتشارد نيكسون، وفي صورة أخرى تحدث عن المبشر المشهور بيللي جراهام، وادعى بأنه عرف الله شخصياً. وضحك كل من شاهد الفيلم، ومن يقدر على لومهم على ذلك؟ ومثل هذه الفكرة سخيفة ومضحكة، ومع ذلك لا شيء أفضل منها ليعبر عن الوعد الذي يحوم حولنا.

إن الله شخص؛ وأغلب اللاهوت المسيحي يطرق بشدة على جو الفلسفة اليونانية الخالصة، ويزيد من غموض هذه الحقيقة الواضحة باستخدام عبارات غير شخصية، مثل “أرض كل الكائنات”، و”استنتاجات لا يمكن تجنبها”، لكي يصف الله. ولكن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يصوّر الله الذي يؤثر فينا ويتأثر بنا “لأن الرب راض عن شعبه” (مز 149: 4). ويقول الأنبياء أنه في بعض المرات يتوقع الله الكثير من شعبه. وتظهر شخصية الله تقريباً في كل صفحة من صفحات الكتاب المقدس. يقول الرسول يوحنا: “الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه”. ومن الصعب ان نجد عبارات تعبر عن أن علاقتنا بالله شخصية أكثر من هذه الآيات.

لماذا إذا نجد أن الأمر صعب علينا في أن نتصل شخصياً بهذا الإله؟ وفي أوقات مختلفة يهتم الناس بالصلاة لقديسين محليين، والذين يبدو أنه من السهل الوصول إليهم ولا يخافونهم. ومع ذلك فالمصلحون البروتستانت والمتصوفون الكاثوليك يتحدوننا لكي نتصل بالله مباشرة، ودون أي وسيط. وتدعو الإنجيلية الحديثة لأن نعرف الله ونتحدث معه ونحبه كما نحب أصدقاءنا. استمع إلى الترنيمات في الكنائس الحديثة وستجد أنها تشبه أغاني الحب في الراديو، والفرق أننا نضع الله أو المسيح بدلاً من الحبيب.

نفس التقليد الإنجيلي الذي يحثنا على المزيد من الألفة والمودة أيضاً قد يسيء استخدام الكلمات: “لقد سألت الرب عن أي موضوع أتحدث فقال لي: لا تتحدث عن الكبرياء، بل تحدث عن الوكالة”، “أخبرني الرب أنه يريد مركزاً طبياً جديداً في هذه المدينة”، “إن الله يهمس في أذني الآن أنه يوجد الآن من بين المستمعين والمشاهدين شخص يعاني من زواج محطم”. وأعلم يقيناً أن البعض من مثل هذه الجمل خادع، ويتفوه بها متحدثون يتلاعبون بالألفاظ بطريقة غير دقيقة. إن مثل العبارات تتضمن نوعاً من الحديث المباشر بين الله والإنسان، وهذا لم يحدث، والتقرير الخاطئ يخلق نوعاً من عدم الاحترام والتقدير لاختبارات الآخرين.

القس مارتن مارتي، وهو خادم لوثري وكاتب مشهور اعترف قائلاً: “يمكنني أن أحسب على يد واحدة عدد المرات  في حياتي التي تمتعت فيها بعلاقة مباشرة مع الله بدرجة تستحق الحديث عنها، حتى للشخص الذي يجلس بجواري، ولا يمكنني أن أحسب ولا مرة واحدة تستحق الإعلان عنها  للجمهور” .بهذه الكلمات كان يتحدث عن فترة من تجلي الرب له، وعن الهجر والذي نزل عليه أثناء فترة طويلة من المرض لزوجته.

الكاتب فردريك بوتشنر الذي أقدره كثيراً في مهاراته والتزامه المسيحي. ترك هذا الكاتب وظيفته كروائي لكي يحضّر محاضرات وقابلاً العمل كخادم مشيخي، ولكي يعود للكتابة كمنبر، وعظه الأول. سجل في مذكراته عن منظر مدهش استلقى فيه تحت أشعة الشمس الدافئة ملتمساً ومتوسلاً من أجل معجزة، وليرى علامة محددة من الرب.

في أحد الأيام استلقيت على العشب وسيطرت عليّ توقعات جامحة. أحداها هو المعنى العظيم للثقة والإيمان بالله، وفي إمكانية حدوث المعجزة، ولظروف مختلفة كان لدي شعور قوي في تلك اللحظة بأن الوقت مناسب للغاية لحدوث معجزة، فأتمتع بحياة روحية ناضجة مستعدة لحدوثها. شيء ما سوف يحدث، شيء غير عادي يمكنني أن أراه وأسمعه، وازداد التأكيد داخلي حتى أنن عندما استعدت التفكير في الأمر اندهشت لأنني لم أتمكن بقوة الإيحاء الذاتي أن أجعله يحدث. ولكن أشعة الشمس كانت ساطعة والهواء نقياً، وخيط من شك في نفسي كان قوياً لكي يجعل من الممكن أن أتخيل أشباحاً بين أشجار التفاح، ولم يحدث شيء مما توقعت.

وكل الذي حدث بعد ذلك هو سماع الكاتب لصوت الرياح وحفيف الأغصان. هل تحدّث الله أم لا؟ لماذا لم يستخدم الله أسلوباً واضحاً لا يقودنا للشك؟ وهنا نرى أن الله يتحدث للكاتب بوتشنر كما كان يتوقع.

عندما كان في الخمسينات من عمرة أمضى بوتشنر مدة نصف عام في التدريب بكلية وايتون Wheaton حيث واجه ولأول مرة اللغة الحميمة والمنطلقة للإنجيليين، وعلق قائلاً: “أندهش عند سماعي الطلبة وهم ينتقلون بطريقة تلقائية، وعفوية من الحديث عن الطقس والأفلام السينمائية إلى الحديث عما  فعله الله في حياتهم. ولو أن واحداً تحدث بهذه الطريقة في المكان الذي أقيم فيه في بلدي لإنهار السقف واشتعلت النيران بالمنزل ولإتسعت عيون الناس دهشةً”. ومع أنه كان معجباً بحماسة الطلبة، كان يبدو له في البداية ان الله بالنسبة لهم كصديق كوني صالح.

هل نشبه نحن لوحة إعلانات تعلن عن مشروب البيبسي، وتثير عطشاً لا يمكننا أن نرويه؟ الأسبوع الماضي كانت كنيستي ترنم: “أريد أن أعرفك أكثر… أريد أن ألمسك… أريد أن أرى وجهك”، ولا يوجد مكان في الكتاب المقدس نجد فيه وعداً بأننا سنلمس الله، أو أن نرى وجهه، على الأقل ليس في هذه الحياة.

إنني هنا أموت عطشاً، بجوار النافورة.

ريتشارد ويلبر

تتحدث العقيدة الأمريكية الحديثة بكلمات تتسم بالصداقة مع الله، بالرغم مما يقوله س. إس. لويس في كتابه “أربعة أنواع من الحب  The four loves” يقول أ ن الصداقة هي صورة من صور الحب التي تصف بدقة حقيقة مواجهة المخلوق مع الخالق. كيف يمكننا إذاً أن تكون لنا “علاقة شخصية” مع الله الذي لا  نستطيع أن نراه ونحن غير متأكدين تماماً بأنه هناك؟

الشعور بالعطش بجوار نافورة – فيليب يانسي