أبحاث

الابن الأصغر والابن الأكبر الضالان – تيموثي كلر

الابن الأكبر في مثل الابن الضال

الابن الأصغر والابن الأكبر الضالان – تيموثي كلر

الابن الأصغر والابن الأكبر الضالان – تيموثي كلر
الابن الأصغر والابن الأكبر الضالان – تيموثي كلر

الابن الأصغر والابن الأكبر الضالان – تيموثي كلر

“إنسان كان له ابنان”

إقرأ أيضًا: مثل الابن الضال – مينا كرم

الأخ الأصغر

يمكن على النحو الأفضل أن تُعَنوَن هذه القصة التي حكاها السيد المسيح “مثل الابنين الضالين”. فهي مسرحية قصيرة في فصلين حيثُ الفصل الأول عنوان “الأخ الأصغر الضال”، والثاني عنوان “الأخ الأكبر الضال”.

يبدأ الفصل الأول بطلب قصير، لكن صاعق. فالابن الأصغر يأتي إلى الأب ويقول: “أعطني حصتي من الميراث”. ولا شك أن المستمعين الأصلين أذهلهم طلب مثل هذا. ليس أن ثمة خطأ ما كان في توقع الابن أن ينال حصة من ثروة العائلة. ففي تلك الأيام كان الابن، عند وفاة الأب، يحصل على نصيب مضاعف لما يرثه الأولاد الآخرون. فإذا كان لأب وارثان، يحصل أكبرهما على ثلثي الأملاك، فيما يحل الأصغر على ثلث واحد.

غير أن قسمة الملكية لم تكن تحصل إلا بعد وفاة الأب. أما هنا، فالابن الأصغر يُطالب بميراثه الآن، الأمر الذي كان علامة على عدم احترام شديد. فأن يطلب هذا، ولأب ما يزال حياً، هو أشبه ما يكون بتمني موت أبيه؛ إذ إن الابن الأصغر، جوهرياً، كان يقول إنه يريد ممتلكات أبيه، لا أباه. فطالما كانت علاقته بأبيه وسيلة لأجل غاية التمتع بثروة أبيه، وها هو الآن قد سئم تلك العلاقة. إنه يريد الخروج والابتعاد… الآن. ولذا يقول: “أعطني حصتي!”.

لكن ردّ الأب هو أكثر إذهالاً بعد من الطلب. فقد كان مجتمعاً أبوياً إلى أقصى حد، فيه كان احترام الشيوخ وتوقيرهم بكل التعبيرات السخية، ولا سيما من قبل المرء لأبويه، أمرين فائقي الأهمية. وكان من شأن الأب التقليدي في الشرق الأوسط أن يرد على طلب كهذا بطرد الابن من العائلة بلا شيء سوى الضرب الفعلي. غير أن هذا الأب لا يفعل أي شيء من هذا القبيل، بل “قسم لهما معيشته” فحسب.

ولكي نفهم أهمية هذا التصرف، ينبغي أن نلاحظ أن الكلمة اليونانية المترجمة “معيشة” هنا هي الكلمة “بيوس” (Bios)، وتعني “حياة”. وقد كان ممكناً أن تُستعمل كلمة محسـوسة أكثر للدلالة أكثر على رأس المال، ولكن لم تُستعمل أية كلمة أخرى. فلم لا؟

لا بد أن ثروة هذا الأب كانت بالدرجة الأولى بالعقارات أو الأملاك غير المنقولة؛ وللحصول على ثُلث ملكيته الصافي، كان عليه أن يبيع قسماً كبيراً من الأراضي التي يملكها. ونحن، في حضارتنا الحديثة المتحركة المدنية، ربما لا نفهم علاقة أهل الأجيال السالفة بأرضهم. تأمل البيت الشعري التالي في مغناة “أوكلاهوما” (Oklahoma) لرودحز وهمرشتاين (Rodgers and Hammerstein): “نحن نعلم أننا ننتمي إلى الأرض، والأرض التي ننتمي إليها عظمية!”

ولاحظ أن البيت لا يقول إن الأرض تنتمي إليهم، بل بالأحرى إنهم هم ينتمون إليها. فهذا يُلخص ببراعة كيف كانت هويات الناس في الماضي مرتبطة فعلاً ارتباطاً وثيقاً بمكانهم، أو بأرضهم. فأن تخسر جزءاً من أرضك كان يعني أن تخسر جزءاً من ذاتك وقسطاً كبيراً من مقامك في المجتمع. ونحن جميعاً قد سمعنا قصصاً عن أصحاب مناصب إدارية مهمة ناجحين، من الرجال والنساء على السواء، استقالوا من وظائفهم نهائياً كي يعكفوا على الاعتناء بولد ضعيف محتاج. فهذا هو ما يفعله الأب. وإن لم يكن موازياً دقيقاً له.

وهكذا، فإن هذا الابن الأصغر يطلب من أبيه أن يقسم حياته قسماً. ويفعل الأب ذلك، من أجل محبته لابنه. وما كان لمعظم مستمعي السيد المسيح قط أن يروا أباً من آباء الشرق الأوسط يستجيب على هذا النحو. فالأب يتحمل بصبر خسارة هائلة للكرامة، فضلاً عن ألم المحبة المرفوضة. وفي العادة، حين تُرفض محبتنا نفضي، وننتقم، ونفعل ما في وسعنا لتقليص مودتنا تجاه الشخص الرافض، حتى لا نتألم كثيراً. غير أن هذا الأب يُبقي على محبته لابنه ويتحمل الألم الشديد.

 

خطة الأخ الأصغر

ننتقل الآن إلى المشهد الثاني من الفصل الأول. إذ ينطلق الابن إلى “كورة بعيدة” ويُبذر كل ما له بنمط حياة جامح. وبعدما هوى فعلاً إلى الوحل مع الخنازير، “رجع إلى نفسه” ورسم خطة. فهو أولاً قال لنفسه إنه سيرجع إلى أبيه، ويعترف بأنه مخطئ، وبأنه قد حُرم حق أن يكون ابنه. ولكنه ثانياً نوى أن يطلب إلى أبيه أن “اجعلني كأحد أجراك”.

إن هذا طلب محدد جداً. فالخدام كانوا يشتغلون في الملكية ويُقيمون هناك. أما “الأجْرى” فكانوا أنواعاً شتى من أصحاب الحرف والمهن يُقيمون في القرى المحلية ويكسبون أجرتهم بالعمل. ويعتقد مُفسرون كثيرون أن استراتيجية الابن الأصغر كانت شيئاً من قبيل ما يلي: لقد أهان الابن الأصغر عائلته، وتالياً أهل بلده جميعاً. وكان “ميتاً” بالنسبة إليهم، كما يصف أبوه حالته.

وقد علم الحاخامون أن المرء الذي ينتهك معايير الجماعة لا يكفي أن يٌقدم اعتذاراً، بل عليه أيضاً أن يعوض عما أتاه. فالابن ينوي أن يقول: “يا أبي، أنا أعلم أني لا أملك حق العودة إلى العائلة. ولكن إذا جعلتني متدرباً عند واحدٍ من أجْراك حتى أتعلم مهنة وأكسب أجرة، فعندئذ على الأقل يمكنني أن أبدأ بوفاء ديني”. هذه كانت خطته. وهناك، في زريبة الخنازير، تمرن الابن الأصغر على خطابه. وعندما شعر بأنه مُستعد للمواجهة، نهض وباشر رحلة العودة إلى الديار.

والآن نصل إلى المشهد المسرحي الثالث والأخير من الفصل الأول. فها هو الابن الأصغر يصير ضمن نطاق الرؤية من البيت. ويراه أبوه فيركض…. يركض إليه! وكقاعدة عامة، فإن الآباء المميزين في الشرق الأوسط كانوا لا يركضون. كان للأولاد أن يركضوا؛ وللنساء أن يركضن؛ وللشبان أن يركضوا. أما رب الأسرة، ركن الجماعة المبجل ومالك الملكية الكبيرة، فما كان له أن يركض. ما كان أن يرفع أذيال ثوبه ويعري ساقيه مثل أحد الأولاد. غير أن هذه اب يركض فعلاً. إنه يركض إلى ابنه، ويُبدي عواطفه علناً إذ يقع على عنق ابنه ويُشبعه تقبيلاً.

لا شك – على الأرجح – أن هذا الاستقبال فاجأ الأخ الأصغر على نحو مدهش. وإذ حار وارتبك، حاول أن يبسط خطة العمل التي أعدها في سبيل التعويض. ولكن الأب قاطعه، لا متجاهلاً خطابه المحضر فحسب، بل مناقضا إياه مباشرة أيضاً. إذ يقول للخدام: “هيا! هاتوا الحلة الأولى وألبسوه!” فما هذا الذي قاله؟

إن الحلة الأولى في البيت لا بد أن تكون رداء الأب الخاص، العلامة الجلية على رد المقام في العائلة. فالأب يقول: “لن أنتظر حتى تكون قد وفيت دينك؛ لن أنتظر حتى تكون قد تذللت كفاية. إنك لن تكسب كسباً الرجوع إلى داخل العائلة، بل إني سأردك. سأكسو عريك وفقرك وثيابك الرثة بأثواب منصبي وكرامتي”.

ثم يأمر بأن يُعد الخدام وليمة احتفال، الطبق الرئيسي فيها هو “العجل المسمن”. وفي ذلك المجتمع، لم تكن معظم الوجبات تشتمل على اللحم. إذا كان طعاماً فاخراً غالياً. فقد كان اللحم أغلب الأحيان يُدخر للمناسبات والحفلات الخصوصية. ولكن ما من لحم كان أغلى من العجل المسمن. فأن تقام وليمة كهذه لا بد أنه كان أمراً لا يحدث إلا في المناسبات النادرة جداً، والأرجح أن القرية كلها دُعيت. وما إن ذاع الخبر سريعاً، حتى باتت وليمة كاملة الأوصاف جارية بمواكبة موسيقا ورقص، وكان هذا احتفالاً برد الابن الأصغر إلى الحياة والعائلة والمجتمع.

يا له من مشهد غاية في الروعة! لقد كان على الأب بعد أن يعالج حالة الابن الأكبر الروحية والأكثر تعقيداً وسميّة، في الفصل الثاني من المسرحية. ولكن الفصل الأول أصلاً تحدى عقلية الاخوة الكبار برسالة مُذهلة: إن محبة الله وغفرانه يستطيعان أن يصفحا عن أي نوع وكل نوع من الخطية أو الإثم، ويردّا المرتكب التائب إلى مقامه. فلا يهم من أنت، أو ماذا فعلت.

ولا يهم إذا كنت قد ظلمت الناس عمداً، أو حتى قتلتهم فعلاً، ولا كم تعسفت على نفسك. لقد علم الأخ الأصغر أن كثيراً من الطعام كان متوفراً وفائضاً في بيت أبيه، غير أنه اكتشف أيضاً أن هناك نعمة متفاضلة. فما من ذنب لا تستطيع محبة الأب أن تصفح عنه وتستره، وما من خطية تقوى على تحدي نعمته.

فالفصل الأول إذاً يبين “الإسراف السخي” لنعمة الله. إذ يصور السيد المسيح الأب هاجماً على ابنه في محبة ليس فقط قبل أن تتاح له فرصة كي ينظف حياته ويبرهن على تغير قلبه، بل أيضاً قبل أن يتمكن من تلاوة خطاب توبته. فلا شيء، ولا حتى الندم الذليل، يستحق رضى الله. إن محبة الآب وقبوله مجانيان تماماً.

ولكن الفصل الأول، على الرغم من كل جماله، لا يمكن أن يقوم وحده. وثمة مفسرون كثيرون، إذ يُركزون على الفصل الأول حصرياً، يستنتجون أن هذا المثل يناقض التعليم المسيحي التقليدي. فهم يقولون: “انظروا! لا ذكر هنا للتكفير عن الخطية. فلا حاجة إلى مخلص على صليب يؤدي عقاب الخطية ويفي دينها. إن الله هو إله محبة شاملة يقبل كل إنسان، مهما كان”.

لو كانت هذه هي الرسالة، لكان السيد المسيح ختم الحكاية هنا. ولكنه لم يفعل هذا؛ لأن الرسالة ليست هكذا. فبينما يُبين لنا الفصل الأول مجانية نعمة الله، سيُرينا الفصل الثاني كلفة النعمة وذروة القصة الصحيحة.

 

 

الأخ الأكبر الضال

عندما يسمع الأخ الأكبر من الخدام أن أخاه قد رجع، وأن أباه أرجعه إلى مقامه السابق، يستشيط غضباً. فالآن دوره في إهانة أبيه.

لقد رفض أن يدخل إلى ما يُرجح أنه كان أكبر وليمة وحدث عام أقامهما أبوه يوماً. فإنه بقي خارج الباب، مُدلياً علناُ بصوته حاجباً الثقة عن أفعال أبيه. واضطر ذلك الأب إلى الخروج لمحادثة ابنه الأكبر، الأمر الذي يحط من قدرك أن تفعله إذا كنت سيد الدار والحقول ومضيف وليمة عظيمة. ثم راح الأب يتوسل إلى ابنه الأكبر كي يدخل، غير أن هذا أصر على الرفض.

لماذا ثار غضب الابن الأكبر بشدة؟ لقد استاء كثيراً، ولا سيما من الإنفاق الذي كان جارياً؛ فهو يقول لأبيه: “إنك لم تعطني قط جدياً لإقامة حفلة، فكيف تجرؤ أن تعطيه العجل؟” غير أن العجل المسمن ليس سوى رمز؛ لأن الأب قد بذل نفقات تخطت العجل. فبإدخاله الأخر الأصغر من جديد إلى العائلة، جعله وارثاً من جديد، له حق في ثلث ثروة العائلة (وقد تضاءلت جداً الآن).

هذا أمر شائن لا يطاق في نظر الأخر الأكبر. وها هو يجمع الأمور بعضها مع بعض. “لقد اجهدت نفسي كثيراً بالعمل الشاق، وكسبت ما نلته. أما أخي فلم يفعل شيئاً قط كي يكسب أي شيء. وبالحقيقة كان يستحق الطرد فقط، غير أنك أنعمت عليه بالخيرات! فأين الإنصاف في هذا؟” لذلك يُشير الأخر الأكبر إلى سجله. “لم أعص لك أمراً قط! فإن لي حقوقاً! ومن حقي أن أستشار بشأن هذا الأمر! لا يحق لك أن تقرر هذه القرارات من جانب واحد”.

وهكذا، فإن حنق الأخ الأكبر جعله يتمادى في إهانة أبيه؛ فهو يرفض أن يخاطبه بالأدب والاحترام اللذين توجبهما تلك الحضارة على الصغار نحو الكبار، ولا سيما في العلن. إنه لا يقول “يا أبي الكريم”، بل يباشر كلامه متحدثاً عن نفسه: “ها أنا….” وفي حضارة تُضفي أهمية كلية على احترام الكبار وتوقيرهم، يُعد سلوك كهذا شائناً. وربما كان معادل عصري لهذا التصرف في كتابة أحد الأبناء سيرة حياة مُذلة تُدمر أبيه وحياته المهنية.

وأخيراً نصل إلى العقدة. كيف سيكون رد الأب على ثورة ابنه الأكبر السافرة؟ ماذا سيفعل؟ ربما كان من شأن رجل من أهل زمانه ومكانه أن ينكر في الحال. غير أنه يستجيب من جديد برقة مُذهلة، إذ يمضي قائلاً: “بني، على الرغم من أهانتك لي علناً، ما زلت أريد أن تحضر الوليمة. لن أقدم على إنكار أخيك، ولكني أيضاً لا أريد أن أنكرك أنت.

أدعوك إلى التراجع عن كبريائك، والدخول إلى الوليمة. الخيار بيدك. أتقبل أم لا؟” وهذه مناشدة دراماتيكية سخية على نحو غير متوقع.

وهنا تعتري المشاهدين دهشة بالغة. هل يلتئم شمل العائلة أخيراً بوحدة ومحبة؟ هل يتصالح الأخوان؟ هل يلين الأخ الأكبر بفضل هذه العرض الرائع ويتصالح مع أبيه؟

بينما تخطر في بالنا هذه الأفكار كلها، تُختم القصة! فماذا لم يُكمل السيد المسيح القصة ويخبرنا بما جرى؟ ذلك لأن جمهور هذه القصة الحقيقي كان الفريسيين، الأخوة الكبار. إن السيد المسيح يتوسل إلى أعدائه كي يستجيبوا لرسالته. وما تلك الرسالة؟

سيبرز الجواب عن هذا السؤال فيما نتمهل في الفصول التالية كي نفهم النقاط الرئيسية التي يبتغي السيد المسيح أن يجعلنا ندركها هنا. وبكلمة وجيزة، يُعيد السيد المسيح تعريف كل ما كنا نحسب أننا نعرفه بشأن التواصل مع الله. إنه يعيد تعريف الخطية، وما يعنيه كون المرء ضالاً، وما يعنيه كون الإنسان مخلصاً.

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!

 

الابن الأصغر والابن الأكبر الضالان – تيموثي كلر