أبحاثروحيات

عطية الروح القدس – الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس

عطية الروح القدس - الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس 

عطية الروح القدس – الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس 

عطية الروح القدس - الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس
عطية الروح القدس – الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس

عطية الروح القدس – الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس 

تدبير المسيح وتدبير الروح القدس:

لكى يكمل الله محبته وخلاصه العجيب لنا أرسل أولاً: ابنه الوحيد يسوع المسيح إذ صار إنسانًا كاملاً مولودًا من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم. وتمم الله أبونا الصالح مصالحتنا معه بتقديم يسوع المسيح ابنه ذبيحة على الصليب من أجل خطايانا. وبعد ما حمل خطايانا فى جسده على الخشبة ومات بسببها، قام من بين الأموات فى اليوم الثالث غالبًا الخطية والموت وإبليس الذى تسلط على البشرية بالخطية وبالموت.

وبقيامة المسيح اعلنت الحياة الأبدية فى جسد بشرى واعطانا الله بداية الحياة الجديدة، بداية الخليقة الجديدة فى شخص يسوع القائم من بين الأموات كما يقول معلمنا بطرس الرسول: ” الله حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات ” (1بط3:1).

وبعدما قام المسيح حيًا بمجد الآب صعد إلى السموات وجلس عن يمين الآب فى مجده الذى لا يُوصف الذى هو نفسه مجد الآب. وبهذا تم تدبير المسيح الابن بالجسد لأجل خلاصنا وتتميم مصالحتنا مع الآب.

ولكن قبل أن يمضى المسيح من العالم إلى الاب، قبل أن يُنهى أيام خدمته على الأرض لأجل الخلاص وعد التلاميذ أنه عندما يذهب إلى الآب سيرسل إليهم معزيًا آخر ليمكث معهم إلى الأبد.

” إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه يمكث معكم وسيكون فيكم. لا أترككم يتمامى إنى آتى إليكم ” (يو14:14،15).

ويؤكد الرب يسوع نفسه للتلاميذ أهمية مجيئ المعزى الروح القدس بقوله” لكن أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأن إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة.. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق.. ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم ” (يو7:16،8،13،14).

وهكذا يعلن لنا المخلص تدبير الروح القدس أو مجيئ الروح القدس المعزى لكى يكمل تدبير الخلاص الذى عمله المسيح بصلبه وقيامته ويقول عنه الرب إنه المعزى الآخر الذى يمكث معكم إلى الأبد، أى معزيًا مثل المسيح ولكنه معزى يمكث معنا ويكون فينا إلى الأبد، لا يتركنا كما فارقنا المسيح بإختفائه عن عيوننا الجسدية وصعوده إلى السماء. ولم يكن ممكنًا أن يبدأ تدبير الروح القدس أى يجيئ الروح القدس المعزى إلى الكنيسة قبل أن يتم تدبير المسيح نفسه أى تتميمه للخلاص بالصليب والقيامة، إذ يقول الرب “إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى”، إذ: “إنه بعد ما تمم التطهير بذبيحة نفسه حينئذ أشرق الروح القدس عليهم ولكن لماذا لم يأتِ الروح القدس والمسيح معهم؟. ذلك لأن الذبيحة لم تكن قد قدمت ولكن بعد ذلك حينما أُبطلت الخطية بذبيحته وكانوا مقبلين على مواجهة أخطار العالم صارت الحاجة إلى مجيئ الروح الذى يمسح” {القديس يوحنا ذهبى الفم}. وهكذا نجد أن الرب يسوع قد ترك لتلاميذه وعدًا صريحًا بإرسال الروح القدس أو بمحيئ المعزى. أى الروح القدس نفسه بعد صعوده وقد أسماه المسيح موعد الآب (يو49:14، أع4:1).

تحقيق الوعد يوم الخمسين:

واستمرار يوم الخمسين فى الكنيسة:

بعد صعود المسيح اعتكف التلاميذ مع العذراء القديسة مريم فى العلية مواظبين معًا بنفس واحدة على الصلاة والطلبة فى انتظار مجيئ المعزى حسب وعد المسيح الذى أوصاهم بأن ينتظروا موعد الآب. وفى اليوم الخمسين لقيامته أرسل المسيح الروح القدس من عند الآب وحلّ على الرسل وعلى الجماعة التابعة ليسوع، مثل ألسنة نار منقسمة على كل واحد منهم. وملأهم من كل معرفة وكل فهم وكل حكمة روحية كوعده الصادق.

ومنذ ذلك اليوم ـ يوم الخمسين ـ جاء المعزى الروح القدس وأقام فى الكنيسة وسكن فيها سكناه وإقامته الأبدية تتميمًا لوعد المسيح إنه “يمكث معكم إلى الأبد ـ يمكث معكم ويكون فيكم” لذلك فإن يوم الخمسين لا يزال مستمرًا أى حضور المعزى الروح القدس، ولا تزال الكنيسة تعيش وتحيا وتصلى وتخدم وتبشر وتعمد وتقيم سر الإفخارستيا وكل أوجه حياتها وأعمالها بالروح القدس الذى حلّ يوم الخمسين، إذ لا يزال هذا المجيئ مستمرًا ولا يمكن أن ينقطع أو يتوقف لأن المسيح قال إنه “يمكث معكم إلى الأبد” ولهذا نجد أن كنيستنا الأرثوذكسية تطلب حلول الروح القدس فى كل عمل من أعمالها وفى كل صلاة من صلواتها وكل طقس من طقوسها وكل سر من أسرارها، تطلبه لكى يتجدد فعله وقوته ويتجدد حضوره فى كل مؤمن اعتمد للمسيح وتطلب حلوله على كل مادة للتقديس سواء كانت ماءًا أم زيتًا أم خبزًا وخمرًا.. إلخ. فروح يوم الخمسين ـ الروح القدس المعزى ـ هو الذى تحيا به الكنيسة الأرثوذكسية فهو روحها، الذى يعلن لها وفيها سر المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات وهو الذى يعلن شخص المسيح المخلص لكل عضو يتحد فيها بالمعمودية والذى يعلن للمؤمنين معرفة الآب والابن “لأنه لا يستطيع أحد أن يقول أن يسوع رب إلاً بالروح القدس” (1كو3:12).

ولا يستطيع أحد أن يعرف الآب إلاّ الابن يسوع المسيح ومن أراد أن يعلن له. ويسوع يعلن الآب فى قلوب الذين يؤمنون به يعلنه بالروح القدس حتى بروح التبنى ينادون الآب أبًا لهم” وبما أنكم أبناء (بالإيمان والمعمودية) أرسل ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب (غل6:4). فالروح القدس هو روح الاعلان الذى يعلمنا ويعلن لنا سر الثالوث القدوس الذى يفوق الفهم. والكنيسة الأرثوذكسية بسبب أصالة إيمانها الرسولى تعلم المؤمنين أن يطلبوا حلول الروح القدس يوميًا فى الصلاة: فى صلاة الساعة الثالثة (التاسعة صباحًا) وهى ساعة حلول الروح القدس على التلاميذ يوم الخمسين “أيها الملك السمائى المعزى روح الحق.. هلم تفضل وحلّ فينا”. وتكرر الكنيسة طلب حلول الروح القدس الذى حل على التلاميذ يوم الخمسين فى كل ليلة 3 مرات فى صلاة نصف الليل. ونفس هذه الصلاة “أيها الملك االسمائى المعزى” نجدها عند إخوتنا الروم الأرثوذكس يفتتحون بها جميع الصلوات فى الكنيسة.

وكل من يعيش عبادة الكنيسة الأرثوذكسية بقلبه وروحه وعقله فإنه يدرك على الفور أن الكنيسة الأرثوذكسية هى كنيسة الروح القدس بلا منازع، التى يحتل فيها الروح القدس صميم القلب وصميم العمق فى كل شئ تمارسه الكنيسة.

وهى التى تؤمن فى أسرارها وممارستها باستمرار إنسكاب الروح الذى بدأ يوم الخمسين، فعّالاً ومتجددًا فى كل يوم إلى أن يأتى العريس المسيح فيكون الروح القدس قد جهز العروس أى الكنيسة بكل تبررات القديسين لتزف العروس أى المؤمنين المنتظرين لمجيئ الرب ـ إلى العريس السماوى فنتحد به فى عرسه الأبدى فى مجد لا يوصف، هو مجد لاهوته غير المنطوق.

المعمودية ونوال عطية الروح القدس:

بعد أن حلّ الروح القدس يوم الخمسين وقف بطرس الرسول مع الأحد عشر فى وسط الجمع الذى تجمهر وصار يكلمهم عن آلام الرب يسوع وقيامته من الأموات وعن ارتفاعه إلى يمين الله ” وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذى أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه ” (أع33:2). فلما سمعوا عظة بطرس نُخسوا فى قلوبهم وسألوا ماذا يفعلون فقال لهم بطرس ” توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس لأن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بعد…” (أع28:2،29).

فهنا نرى أن موعد الروح القدس الذى أخذه المسيح بصعوده إلى يمين الآب وسكبه يوم الخمسين على الرسل هو نفسه الذى يناله كل من يتوب ويعتمد على اسم يسوع المسيح إذ يقول بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم.. فتقبلوا عطية الروح القدس. ويستمر فى حديثه ليوضح أن عطية الروح القدس التى تعطى لمن يعتمد باسم يسوع هى نفسها موعد الروح القدس الذى سكبه المسيح فى يوم الخمسين إذ يقول لهم ” لأن الموعد هو لكم ولأولادكم… ” وواضح أن الموعد هنا هو عطية الروح القدس إذ يقول قبلها ” فتقبلوا عطية الروح القدس لأن الموعد ” أى تقبلون عطية الروح لأن موعد الروح القدس هو للجميع لكل من يتوب ويعتمد باسم يسوع وليس فقط للرسل والتلاميذ يوم الخمسين.

لهذا فالرسل عندما كانوا يكرزون بالمسيح، كانوا يعمدون الذين يؤمنون ويتوبون باسم الرب يسوع وكانوا يضعون أيديهم عليهم بعد المعمودية مباشرة لينالوا عطية الروح القدس وهذا نراه بكل وضوح عندما ذهب بطرس ويوحنا إلى السامرة إذ صليا لأجهم لكى يقبلوا الروح القدس بعد أن اعتمدوا باسم الرب يسوع حينئذ وضعا الأيادى عليهم فقبلوا الروح القدس (أع15:8ـ17).

وفى حادثة رجال أفسس الذين عمدهم بولس باسم الرب يسوع ثم وضع اليد عليهم فحلّ الروح القدس (أع5:19،6)

وهكذا فإن المعمودية باسم المسيح ارتبطت بعطية الروح القدس فالذى يعتمد للمسيح أى يدفن مع المسيح ويقوم معه فى المعمودية إنما يتم له هذا بفعل الروح القدس وعمله لنوال غفران الخطايا وتطهير الحياة وتجدديها بالروح القدس ولهذا نرى الرسول بولس يقول لأهل كونرنثوس ” لأننا جميعًا بروح واحد أيضًا اعتمدنا إلى جسد واحد.. وجميعنا سقينا روح واحد ” (1كو13:12).

وهكذا نرى ان المعمودية بالروح القدس ليست شيئًا آخر غير المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس التى فيها ندفن ـ بالتغطيس فى الماء مع المسيح أى نعتمد لموته بالروح القدس الذى يشركنا فى موت المسيح وصلبه وينقل إلينا ـ بخروجنا من الماء ـ شركة قيامة المسيح. فالروح القدس هو الذى يجعلنا متحدين مع المسيح فى موته وقيامته والمسيح نفسه هو الذى يرسل الروح القدس فى المعمودية لكى يعمدنا المسيح بالروح القدس إذ هو وحده الذى يعمد بالروح القدس (يو33:1).

وبعد أن نعتمد بالروح القدس فننضم إلى جسد المسيح ونصير أعضاء فيه فإن المسيح يسقينا نفس الروح القدس الواحد الذى به نعتمد فى المعمودية. فالروح القدس يحلّ من المسيح ليسكن فى كل مؤمن يعتمد لموت المسيح وقيامته ويصير المؤمن المُعمد هيكلاً للروح القدس باتحاده بالمسيح فى المعمودية.

الروح القدس ووضع اليد:

ومن بعد عصر الرسل وحتى الآن لا يزال المسيح المرتفع والمُمجد فى يمين الآب يعمد بالروح القدس ويعطى الروح القدس بوضع اليد الرسولية عن طريق الأساقفة خلفاء الرسل(1) وذلك بعد الخروج من مياه المعمودية إذ يُمسح المُعمد بمسحة الروح القدس على جبهته أولاً(2) ثم باقى أعضاء جسمه.

ولا يوجد فى سفر أعمال الرسل أن الروح القدس كان يُعطى

للمؤمنين بوضع أيدى رجال عاديين أو نساء إنما كان الروح القدس يُعطى بالصلاة ووضع أيدى الرسل وتلاميذ الرب. وهذا يتضح من حادثة إيمان أهل السامرة وتعميد فيلبس الشماس لهم باسم الرب يسوع، ولكنه لم يستطع أن يضع يديه عليهم ليعطيهم الروح القدس فلما جاء إليهم الرسولان بطرس ويوحنا مرسلين من قبل الرسل فى أورشليم صليا لأجلهم ليقبلا الروح القدس… ” حينئذ وضعا الأيادى عليهم فقبلوا الروح القدس ” (أع14:8ـ17). وهنا يقول القديس كيرلس الأسكندرى: إنه ليس لأحد ولا حتى الرسل السلطان الشخصى إعطاء الروح القدس فهذا هو سلطان الرب يسوع وحده ويقول إن الرسل عندما ذهبوا لأهل السامرة لم يعطوهم الروح القدس بسلطان شخصى ولكنهم صلوا أى طلبوا من المسيح أن يرسل الروح القدس على أهل السامرة وبعد ذلك وضعوا عليهم الأيادى فقبلوا الروح القدس.

 

لذلك فمن الخطا الشديد أن يتصور أحد رجل كان أو إمرأة أن فى سلطانه أن يعطى الروح القدس للآخرين بوضع يديه فهذا إدعاء خطر وكبرياء مكشوف إذ أن سلطان إعطاء الروح القدس هو خاص بالرب يسوع وحده الذى شهد عنه الآب قائلاً ليوحنا المعمدان ” الذى ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس ” (يو33:1) ولذلك فلا يحق لأحد مهما كان يظن أنه مملوء من الروح القدس أن يقول إنه يستطيع أن يسلم الروح القدس للآخرين فهذا حق مُطلق للرب يسوع وحده الذى يسكب الروح القدس حسب وعده على كل الذين يطيعونه (أع32:5).

 

 

التوبة والمعمودية وتجديد الروح القدس:

عندما تحدث بطرس الرسول يوم الخمسين إلى الجموع التى نخسها مناخس الروح القدس قال لهم أنهم لكى ينالوا عطية الروح القدس يلزم أن يتوبوا ويعتمد كل واحد منهم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا (أع38:2). والتوبة وتغير الحياة أمر ضرورى ولازم فى جميع الأحوال لأجل تطهير الحياة من الخطية وتجديد عمل الروح القدس فى القلب ففى حالة الذين يعتمدون كبارًا لابد من توفر الإيمان الحي بالمسيح وقبوله والاعتراف به وكذلك لابد من توفر التوبة وتغير الفكر وتغير إتجاه الحياه من محبة الخطية ومحبة العالم والرجوع بقلب صادق إلى المسيح المخلص لنوال نعمته وخلاصه ونوال عطية الروح القدس. حتى أن القديس كيرلس الأورشليمى يحذر الموعوظين من التصور الخاطئ الذى قد يطرأ على عقولهم وهو التصور بنوال النعمة وقبول الروح فى المعمودية بدون التوبة ” لقد أُعطيت لكم أربعين يومًا فرصة للتوبة: وصار لكم فرصة كاملة لكى تخلعوا شكلكم السابق وتغتسلوا من كل نجاسة وتلبسوا ثوب العفة البهى. ولكن إن ظللت على قصدك الشرير، فالذى يكلمك ليس مسئولاً، إنما لا ينبغى أن تنتظر الحصول على النعمة: لأنك حينئذ ستنزل فى الماء ولكن الروح لن يقبلك، وإذا اتخذت دور المرائى فبالرغم من أن الناس سيعمدونك الآن لكن الروح القدس لن يعمدك. وأى واحد منكم يشعر بجرحه فليسرع إلى تضميد جرحه وإذا كان أحد ساقطًا فليقم… فإن اقتربت بإيمان فإن الروح القدس يهبك ما هو غير منظور رغم أن الناس يخدمون فيما هو منظور ” (3).

 

أما فى حالة كل من اعتمد فى طفولته فإن الروح يدعوه ويناديه بلسان بطرس الرسول ولسان آباء الكنيسة وكهنتها وخدامها أن يتوب ويرجع بكل قلبه إلى المسيح الذى صلب من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا ـ يناديه أن يقبل المسيح المخلص المصلوب لأجله قبولاً شخصيًا ويتوب مسلمًا قلبه وحياته للمخلص المحب الذى باسمه اعتمد فى طفولته ودفن معه فى المعمودية لكى يعيش بعد ذلك فى جدة الحياة. إن الروح القدس الذى عمل فى المعمودية هو الذى يعمل فى القلب للتوبة فيبكت على خطية كما قال الرب يسوع نفسه ” ومتى جاء المعزى يبكت على خطية ” (يو8:16). وهكذا فإن الروح القدس يكشف للنفس محبة المسيح الفادى على الصليب ويوبخ القلب على ابتعاده وعدم إيمانه. والذى يسمع نداء الروح ويقبل فإن الروح القدس يجدد حياته بالتوبة. وبالإيمان يكشف له مجد الرب يسوع فيتعرف على المسيح ويعرفه معرفة شخصية ويصبح المسيح بالنسبة للإنسان التائب ليس إلهًا قديمًا كان يعيش فى الماضى البعيد على الأرض بل يصير المسيح بالنسبة إليه شخصًا حيًا حقيقيًا يستطيع الإنسان أن يحبه ويثق برعايته ومحبته وقدرته ويستطيع أن يسلّم له كل الحياة لكى ” لا يعيش هو فيما بعد بل يحيا المسيح فيه “. أو باختصار فإنه يعرف تمامًا وبطريقة يقينية وأكيدة أن يسوع هو الرب، وهذا من عمل الروح القدس فى المؤمن لأنه ” لا يستطيع أحد أن يقول أن يسوع رب إلاّ بالروح القدس” (1كو3:12). وكما قال المسيح نفسه ” متى جاء المعزى… روح الحق فهو يشهد لى ” (يو26:15). ويكون هذا هو اختبار المعمودية والإيمان اختبار الموت والقيامة مع المسيح. هو نفس الاختبار ولكنه يتحقق بطريقة محسوسة نشعر بها فى قلوبنا بالتوبة والإيمان والصلاة. ولهذا وجدنا بعض الآباء القديسين يتكلمون عن التوبة ” كمعمودية ثانية “ وهذا ما قاله أيضًا مجمع قرطاجنة فى القرن الرابع إذ بالتوبة يتجدد فعل الروح القدس الذى حصلنا عليه أولاً فى المعمودية. يقول القديس أنطونيوس ” لأن الروح القدس المعزى المأخوذ فى المعمودية يعطينا العمل بالتوبة ليردنا ثانية إلى رئاستنا الأولى ” (4). لذلك فعندما تحدث التوبة الصادقة والرجوع القلبى إلى المسيح تنسكب فى القلب عطية الروح القدس من جديد، الروح القدس نفسه الذى حلّ فينا بالمعمودية وكان متعطلاً لعدم التوبة فعندما يستجيب القلب لنداء التوبة ويرجع الإنسان ويتطهر يظهر فيه تجديد الروح القدس الكامن فيه ويبدأ الإنسان يعيش حياة جديدة بقوة الروح القدس، هى حياة المسيح القائم من الأموات.

هذا هو الروح القدس نفسه الذى حلّ على التلاميذ فى يوم الخمسين وسكن فينا نحن بالمعمودية والمسحة، لذلك تعلمنا الكنيسة أن نصلى كل يوم إلى المسيح فى صلاة الساعة الثالثة طالبين أن لاينزع من روحه القدوس الذى أرسله على تلاميذه القديسين ” لكن جدده فى أحشائنا، قلبًا نقيًا أخلق فىَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدده فى أحشائى “. وتكرر الطلب مرة أخرى فى القطعة الثانية: ” روحك القدوس هذا الذى أرسلته على تلاميذك القديسين… لا تنزعه منا أيها الصالح لكن نسألك أن تجدده فى أحشائنا… روحًا مستقيمًا ومُحييًا روح البنوة والعفة. روح القداسة والعدالة والسلطة أيها القادر على كل شئ… “.

وهكذا تعلمنا الكنيسة أن نسعى بالإيمان ونصلى بالقلب الخاضع التائب طالبين تجديد الروح القدس فينا لأننا بدون قوة الروح القدس وفاعليته

المحيية فينا لا يمكننا أن نعيش فى جدة الحياة وفى القداسة التى تليق بأولاد الله الذين اعتمدوا للمسيح.

لذلك فبكل اتضاع ومحبة من المسيح نتوجه إلى قلب وضمير كل قارئ. إلى كل أخ وكل أخت من أبناء المعمودية ونتوسل إلى كل واحد أن يراجع نفسه ويسألها هل تعيش الآن متمعًا بعطية الحياة الجديدة التى وهبها لك المسيح فى المعمودية. أم انت تعيش متغربًا عن موعد المسيح أى عطية الروح القدس، رغم أنك قد تكون بحسب الشكل والظاهر موجود فى الكنيسة وقد يكون لك عمل أو نشاط فيها؟

ولكن الظاهر والشكل لن يفيد شيئًا إن لم نعش بإيمان حى ونعرف المسيح بالحق فى قلوبنا ونسلم له حياتنا وقلبنا وكل ما فينا ولنا واثقين من حبه وفدائه لنا الذى تبررنا به، ونعيش ممسكين بشخص الرب يسوع بإيمان قلوبنا. فيسكب فينا الحياة الجديدة وسلام أبناء الله العميق، السلام الذى تركه المسيح لنا عندما قال قبل أن يبارح العالم بالجسد: “سلامى أترك لكم سلامى أعطيكم ليس كما يعطى العالم اعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب ” (يو27:14).

وهكذا عندما تعيش الحياة الجديدة التى فى المسيح فإنك تستطيع أن تشترك مع الكنيسة الحية بالمسيح فى الوليمة السماوية التى يقيمها المسيح لأحبائه إذ يعطيهم جسده ودمه لكى يتحدوا به ويحيوا، لأنك حينما تختبر التوبة وتسلك فى جدة الحياة فإن الكاهن حينما يراك ويعرف توبتك ويسمع اعترافك فإنه سيدرك صدق توبتك واستعدادك للشركة فى مائدة الرب فتدخل لتتذوق عربون عرس الحمل ويمتلئ “فمك فرحًا ولسانك تهليلاً بسبب تناولك من الأسرار غير المائتة” (أنظر صلاة الشكر التى يقولها الكاهن بعد التناول)، ويفيض الروح القدس عليك وعلى كل الكنيسة بسبب اتحادك بجسد المسيح الحي الذى لا يكف الروح عن التدفق منه على كل الذين يفتحون قلوبهم ليقبلوه، ويمتلئوا منه. وهذا التدفق هو ما تشير إليه الكنيسة برش المياه فى ختام القداس الإلهى بعد التناول من الأسرار المقدسة.

الروح القدس وعطية البنوة:

المسيح ابن الله بسبب مجيئه فى الجسد واتحاده بالبشرية ” الكلمة صار جسدًا وحلّ فينا ” (يو14:1)، وهب للإنسان بالإيمان به أن يصير ابنًا لله “جميعكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ” (غل26:3). ويوضح الرسول أننا نصير أبناء الله بالإيمان، فبعمل الروح القدس وحلوله علينا فى المعمودية، نلبس المسيح ابن الله “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح ” (غل27:3). وكل من يلبس المسيح ابن الله فإنه يصير باتحاده بابن الله ابنًا لله. وهذه العطية أى عطية البنوة تُوهب بفعل الروح القدس الذى يعطيه المسيح للمؤمنين به إذ هو روح التبنى ” أخذتم روح التنبى الذى به نصرخ يا أبا الاب، الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولادًا فإننا ورثة أيضًا ورثة الله وشركاء المسيح فى الميراث “(رو15:8ـ17). ” أرسل الله ابنه مولودًا من إمرأة… ليفتدى الذين تحت الناموس لننال التبنى، ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا ياأبا الاب. إذًا لست بعد عبدًا بل ابنًا وإن كنت ابنًا فوارث الله بالمسيح ” (غل4:4ـ7).

ويشهد القديس أثناسيوس لحقيقة نعمة البنوة العظيمة التى وُهبت للإنسان بمجيئ المسيح وعطية الروح القدس قائلاً ” الكلمة صارجسدًا لكى يجعل الإنسان مؤهلاً للاهوت.. فنحن لسنا أبناء الله بحسب الطبيعة ولكن الابن الذى هو ساكن فينا هو ابن الله بالطبيعة وكذلك أيضًا فإن الله ليس أبانا بالطبيعة ولكنه أب بالطبيعة للكلمة الذى فينا، الذى فيه (أى فى الابن) وبسببه نصرح يا أبا الآب. وهكذا بنفس الطريقة فإن الآب ينادى كل من يرى فيهم ابنه الخاص ويدعوهم أبناء ويقول لكل منهم ” أنا ولدتك ” لأن الولادة هى الأمر الذى يميز الابن، وأما الخلق فهذا خاص بالمخلوقات.. ولذلك فإننا لا نولد أولاً بل نُخلق أو كما هو مكتوب ” لنخلق الإنسان ” ولكن فيما بعد ـ أى بعد خلقتنا ـ حينما نقبل نعمة الروح القدس يقول عنا الكتاب حينئذ إننا مولودون أيضًا (5) “.

وهكذا فإن كل من يؤمن بالمسيح ويعرفه بالحق يعرف أنه لابس للمسيح بالمعمودية وبالتالى فإن المسيح فيه ولذلك فهو ابن حقيقى لله والروح القدس يصرخ فى قلبه بدالة ابن ويعلمه أن ينادى الآب أبًا له.

أيها العزيز، هذه العطية ـ عطية البنوة ـ هى هبة المسيح لك بالروح القدس فى قلبك فهل تعيش فيها وتتمتع بها وتمارسها بالصلاة ؟  

هذه البنوة التى وهبها لنا الآب بالمسيح بعمل الروح القدس وسكناه فينا هى ما يسميه الكتاب شركة الطبيعة الإلهية. لأن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما للحياة والتقوى بمعرفة المسيح الذى دعانا بمجده وفضل نعمته لكى بواسطة المواعيد العظمى والثمينة التى وهبها لنا نصير شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة (انظر2بط3:1ـ4).

ويعلمنا القديس أثناسيوس اننا ننال هذه الشركة بالروح القدس إذ يقول: [إننا بالروح القدس نشترك كلنا فى الله لأنه يقول ” أما تعلمون أنكم هيكل 

الله وروح الله يسكن فيكم “… وإن كنا بالاشترك فى الروح القدس نصبح شركاء الطبيعة الإلهية فإنه من الجنون أن نقول إن الروح القدس له طبيعة مخلوقة لا طبيعة الله، لأن الذى فيهم الروح القدس تصبح لهم الطبيعة الإلهية على هذا الأساس. وإن كان الروح القدس يجعل الناس شركاء الطبيعة الإلهية فلا شك طبيعته طبيعة إلهية ] (6).

ولكن الشركة فى الطبيعة الإلهية التى هى نوال البنوة بالمسيح لا تعنى كما قد يُظن أن الإنسان المؤمن المُعمد أصبح من نفس جوهر الله، فهذا لا يصدق على أحد إلاً ابن الله الوحيد يسوع المسيح الذى هو من ” جوهر الآب مولود غير مخلوق ” كما نعترف فى قانون الإيمان. أما نحن كما يقول القديس اثناسيوس فإننا لسنا أبناء الله بالطبيعة. وهذا هو الفرق بين الأبناء الكثيرين الذين أتى بهم الآب ليصيروا إخوة للمسيح، وبين المسيح نفسه ابن الله الوحيد.

ولكن كما يقول القديس أثناسيوس إن الله يدعو كل مؤمن يرى فيه المسيح ابنًا له ويقول له “أنا ولدتك”، إذًا فبالمسيح ابن الله الذى فينا نكون نحن أبناء الله. ويصير لنا كل ما للمسيح. وكل ما للمسيح الابن بالطبيعة يوهب لنا بالنعمة. ونستطيع أن نقول مع يوحنا الرسول “أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أبناء الله.. والآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم إذا أُظهر نكون مثله (أى مثل المسيح) لأننا سنراه كما هو وكل من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر” (1يو1:3ـ3).

أيها الجبيب إن كنت تعيش بالإيمان الحي فى المسيح المُعطى لك بمقتضى المعمودية التى اعتمدتها باسم المسيح فإنت ابن لله أو ابنة لله.

ليس فى هذا أى كبرياء بل هذا هو الميراث الذى وهبه لنا المسيح بالروح القدس فى المعمودية. وبدون يقين البنوة والأحساس بالبنوة فإننا لا نستطيع أن نقترب إلى الله كآب لنا. ولا نستطيع أن نصلى صلاة البنين لأن العبد لا يبقى فى البيت كما يقول المسيح وبدون نعمة البنوة لا يحق لنا أن نشترك فى قداس القديسين أى قداس المتناولين فهؤلاء هم أبناء الله فقط. كما يعلن الكاهن فى القداس قبل التناول ” القدسات للقديسين “. وأبناء الله هم الذين بسبب اشتراكهم فى الطبيعة الإلهية أى فى طبيعة المسيح الحي المُمجد الغالب الخطية والموت، بسبب اشتراكهم فيه ونوالهم طبيعته الظافرة المنتصرة فإنهم كما يقول الرسول بطرس يهربون من الفساد الذى فى العالم بالشهوة (2بط4:1).

إن عطية البنوة بالروح القدس لا تجعلنا نتكبر بل إن فضل نعمة الله الفائقة وعطيته المجانية التى لا نستحقها تجعلنا نتضع جدًا شاعرين بنعمته السخية المتفاضلة جدًا التى لا نستحقها بالمرة. وحتى فى تعاملنا مع الناس لا نستطيع أن نتعالى عليهم بسبب نعمة البنوة والشركة فى الطبيعة الإلهية فهى فضل ونعمة من الله وليست استحقاقًا وجدارة. ولكننا لا نستطيع أن ننكر النعمة التى أعطيت لنا بل لابد أن نشهد للإله الذى أحبنا وأعطانا أن نصير أولاد الله مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذى فينا بوداعة وخوف (1بط15:3). وبسبب رجائنا الذى نشهد له ونجاوب عنه هو المسيح الذى فينا بالروح القدس.

الروح القدس والارشاد:

من علامات البنوة لله الإنقياد بروح الله ” لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله” (رو14:8). فالذى يعيش بروح الله ويسلك بالروح فهو من أبناء الله. فالروح القدس كما وعد المسيح يرشدنا إلى جميع الحق لأنه يأخذ مما للمسيح ويخبرنا (يو13:16،14). أى يرينا ويكشف لنا حتى نسلك ونفكر ونتصرف بحسب إرشاد الروح. والروح القدس يعلّم أولاد الله ويرشدهم لمعرفة أسرار المسيح، أسرار ملكوت الله، يعلن لهم الآب ويعطيهم معرفته ومعرفة المسيح أيضًا. هذه المعرفة التى هى نفسها معرفة الثالوث القدوس، معرفة الآب والابن والروح القدس. هى ليست معرفة مادية نظرية، بل معرفة الاختبار الحي بارشاد الروح القدس وإعلانه للقلب إذ يأتى الآب والمسيح بالروح القدس ويصنعون فينا منزلاً(7). هذه هى معرفة الروح القدس الحقيقية التى أنعم بها المسيح علينا كما نصلى فى القداس الغريغورى. هذه المعرفة التى يقول عنها يوحنا الرسول ” وأما أنتم فالمسحة التى أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ وهى حق وليست كذب، كما علمتكم تثبتون فيه ” (1يو27:2).

فالروح القدس يعلن لنا ربوبية المسيح فى قلوبنا فنعلنه ونعترف به ربًا وإلهًا ومخلصًا، مصلوبًا ومقامًا لأجلنا، وهذا هو أساس الإيمان بالمسيح. وهو الذى يرشدنا إلى جميع الحق أى إلى كل ما يتصل بالخلاص والحياة الأبدية وكل أمور ملكوت الله وعمل الله فى كنيسته وفى الخليقة كلها.

والروح القدس لا يرشد فقط إلى الحق المتعلق بأمور الإيمان وأسراره ولكنه يرشد إلى الحق فى السلوك أيضًا. وهذا ما قصده الرسول فى رومية14:8 عندما قال ” لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله “. لأنه يتحدث عن السلوك والحياة حسب الروح، وإماتة أعمال الجسد بقوة الروح القدس. ” لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” (رو13:8). فالروح القدس يرشد المؤمن ويحثه لكى يسلك حسب المسيح ـ أى بحسب وصايا يسوع ـ أى حسب الإنسان الجديد الذى لبسه فى المعمودية خالعًا الإنسان العتيق. وكون الروح القدس يرشدنا ويعلمنا ويقودنا فى الإيمان والسلوك، فهذا لا يعنى أننا لا نحتاج إلى ارشاد المرشدين وتوجيه الآباء الروحيين لأننا فى أمور كثيرة يمكن ان ننخدع بدوافع جسدية ذاتية ويختلط علينا الأمر: هل الصوت الذى فى قلوبنا هو من ذواتنا أم من الروح القدس. ونحتاج بكل تأكيد إلى المرشد أو الأب الذى يرشدنا بالروح القدس ويساعدنا على السير بلا عثرة ـ بحسب وصايا الإنجيل ـ فى الطريق الروحى وهنا تظهر أهمية الاعتراف والارشاد الروحى الذى استلمناه فى تقليد الكنيسة منذ عصور قديمة حسب وصية الإنجيل ” أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابًا لكى يفعلوا ذلك بفرح لا آنين لأن هذا غير نافع لكم ” (عب17:13).

مواهب الروح:

حينما انسكب الروح القدس على الكنيسة يوم الخمسين وسكن فيها حسب وعد المسيح وشح الكنيسة بالمواهب المتعددة للعبادة وللكرازة وهذا كان تحقيقًا لوعد الرب الذى أعطاه للتلاميذ عندما أوصاهم أن ” يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها “.. فبعدما أوصاهم بالكرازة أعلن لهم وعده الصادق قائلاً: ” وهذه الآيات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمى ويتكلمون بألسنة جديدة يحملون حيات وإن شربوا سمًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون ” (مر17:16،18). فهذا الوعد تحقق بمجيئ الروح القدس يوم الخمسين على التلاميذ والكنيسة كلها. ويخبرنا سفر أعمال الرسل والرسائل المختلفة عن المواهب التى ظهرت فى الرسل وفى كثيرين من المؤمنين غير الرسل، نتيجة سكنى الروح نفسه وعمله فيهم، وعمله بهم لتمجيد اسم يسوع فيهم، والاعلان عن شخصه الفادى المخلص، وإظهار مجده وسلطانه وتمجيد الآب وتسبيحه وتعظيم اسمه وذلك فى وسط الكنيسة وأيضًا أمام العالم غير المؤمن خارج الكنيسة لأجل إجتذاب النفوس البعيدة وإدخالها إلى حظيرة ملكوت الله بقوة الروح القدس.

وهكذا منذ يوم الخمسين وعلى مر العصور أعطى الروح القدس الساكن فى الكنيسة مواهب متنوعة لأعضائها قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء (الروح). فالبعض أعطاهم الروح كلام حكمة، والبعض أعطاهم كلام علم ومعرفة واستنارة، والبعض إيمان فائق وثقة شديدة، والبعض موهبة النبوة أى الوعظ الروحى بسلطان فائق، كاشف للضمائر والقلوب، أو الإنباء بمشيئة الله وقصده. وفى بعض حالات موهبة النبوة أعطى لبعض القديسين نبوات عن المستقبل. وتاريخ الكنيسة القديم والحديث فيه عينات كثيرة من هذه الموهبة.

وأعطى الروح للبعض أن يكونوا مبشرين، وأعطى البعض أن يكونوا رعاة ومعلمين، والبعض موهبة التدبير، والبعض الآخر مواهب شفاء، والبعض إخراج شياطين، والبعض عمل قوات. كما أعطى البعض موهبة تمييز الأرواح. والبعض أعطاهم أنواع ألسنة والبعض ترجمة ألسنة… هذه المواهب كلها أعطاها الروح الساكن فى الكنيسة لأجل بنيان جسد المسيح، لأجل عمل الخدمة. فتزداد المواهب أو تنقص من عصر إلى عصر بحسب قوة الكنيسة أو ضعفها روحيًا، أو بمعنى آخر بحسب مقدار تجاوبها مع روح المسيح عمليًا وإنقيادها له وإخلاصها لقصده ومشيئته. ولكن المواهب لم تنقطع حتى إن كانت قد نقصت فى بعض العصور أو شحت جدًا فى عصور كثيرة. لأن الروح فى جميع الأحوال ظل ويظل سكانًا ومقيمًا فى الكنيسة أى فى مؤمنيها الذين هم هيكل الله الحي.

 

والروح عندما يُظهر المواهب فى بعض المؤمنين فلا تكون الموهبة عن استحقاق أو قداسة أكثر. إذ أن المواهب هى هبات مجانية يهبها الروح لمن يشاء أن يعطيه: ” قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء ” (1كو11:12)، أى كما يشاء الروح لا كما يشاء الإنسان أو يستحق. فوجود المواهب فى الشخص ليس دليلاً على القداسة الفردية. ولكن هذا ليس معناه أن الروح يعطى مواهبه لأشخاص ليس لهم إيمان بالمسيح وليس لهم صلة أو ارتباط به. فنحن نرى فى أهل كورنثوس مثالاً واضحًا لوجود المواهب رغم أنهم لم يكونوا كاملين فى أذهانهم. والرسول يوبخهم كثيرًا بسبب وجود الخصام والحسد والانشقاق فيهم.

فالهدف الذى من أجله يعطى الروح القدس، المواهب الروحية هو بنيان الجماعة ونمو المؤمنين فى النعمة وتكميلهم فى الإيمان، وامتداد إنجيل الخلاص بالمسيح وانتشاره فى وسط العالم. لذلك فلا يحق لأى إنسان نال موهبة خاصة من الروح القدس أن يفتخر على غيره أو يتعالى على إخوته، لأن الموهبة إنما أعطيت له لأجل خدمة الآخرين وبنيانهم بالمحبة وتعزيتهم. ومن يفتخر بموهبة نالها، إنما يسئ إلى المسيح الذى يعلمنا أن ننكر ذواتنا ونجحدها ونخدم الآخرين ونغسل أرجلهم. وقد نبهنا الرب يسوع نفسه أن فرحنا وسعادتنا لا تكون بالمواهب التى يعطيها لنا لتمجيده، بل أن يكون فرحنا بكتابة أسمائنا فى السموات. فعندما رجع السبعون إليه بفرح قائلين: ” يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك ” قال لهم: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شئ. ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحرى أن أسماءكم كتبت فى السموات ” (لو19:10،20).

لذلك فالسعى لطلب المواهب الروحية ينبغى أن يكون هدفه الوحيد هو تمجيد المسيح فى كنيسته وليس لأجل مجد شخصى ولا للافتخار الذاتى وإرضاء رغبات النفس. لذلك فالسعى والإلحاح الشديد لنوال المواهب وخصوصًا من الأشخاص الذين لم يدعهم الروح لحمل مسئولية الخدمة والكرازة، يمكن أن يكون انحرافًا خطيرًا قد يُفسد الإيمان ويوقع الإنسان فى خطر الكبرياء والتباهى.

ينبغى أن يكون عطش المؤمن الشديد هو إلى إرضاء الرب وتمجيده بالسلوك فى الطاعة الكاملة وقداسة الحياة والتواضع والمحبة من قلب طاهر بشدة بحسب وصية المسيح. وحينما تكون غاية الإنسان وشهوته الوحيدة هى تمجيد إلهه ومخلصه فى كل شئ، وليس تمجيد ذاته، فيمكنه أن يطلب أن يهبه الله مواهب الروح حسبما يشاء الروح نفسه. ويطلب المواهب التى تبنى إخوته وتكون لخيرهم ونموهم، وليس لمجرد أن يتعزى هو ويفرح بنفسه أو بموهبته.

تعريف الذات مع ابن الإنسان

يسوع هو الله لفظاً

انجيل توما

مختصر تاريخ ظهور النور المقدسهل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) يقول القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة (200 ـ 258م) ” الرسولان بطرس ويوحنا صليا لأجل اهل السامرة وطلبا إنسكاب الروح القدس عليهم، ووضعا عليهم الأيادى، هكذا الذين يعتمدون فى الكنيسة، يحضرون إلى كهنة الكنيسة وبواسطة صلواتنا ووضع أيادينا ينالون الروح القدس ويختمون بختم الرب ” (رسالة 73).

(2) قرر آباء مجمع القسطنطينية المسكونى الثانى (سنة381) ” أننا نقبل الذين يرجعون إلى الأرثوذكسية بأن يختموا أى يُمسحوا بالزيت المقدس أولاً على جباههم، وعيونهم وأنوفهم وأفواههم وآذانهم “، وعندما نختمهم نقول ” ختم موهبة الروح القدس ” القانون السابع للمجمع المسكونى الثانى.

(3) كيرلس الأورشليمى ـ تعاليم للموعوظين ـ المقدمة فقرة 4 وعظة 36:17.

(4) القديس أنطونيوس الكبير الرسالة السابعة.

(5) أثناسيوس ضد آريوس 95:2.

(6) رسائل القديس أثناسيوس عن الروح القدس ص 62،63.

(7) يقول القديس أثناسيوس أن ” الثالوت يكون فينا. فعندما يعطى لنا الروح القدس يصبح الله فينا،… فعندما يكون الله فينا يكون الابن أيضًا فينا لأن الابن نفسه قال ” الآب وأنا نأتى وعنده نصنع منزلاً ” (رسائل أثناسيوس عن الروح القدس الرسالة الأولى فصل 19،20).

عطية الروح القدس – الصليب والمعمودية والامتلاء من الروح القدس