مؤلفات يوستينوس الشهيد – الأب جورج رحمة
مؤلفات يوستينوس الشهيد – الأب جورج رحمة
المؤرخ “أوسابيوس القيصري” الذي أطلع على معظم مؤلفات القديس يوستينوس، يقول، في كتابه “التاريخ الكنيسي”، 4،18،1 – 6، مما يلي: “لقد ترك لنا يوستينوس عدداً كبيراً من المؤلفات المفيدة التي تبرهن عن عمق تفكيره، وسعة علمه، وحماسه للأمور الالهيه.
أولها خطابه الموجه للأمبراطور “انطونيوس بيوس” ولأولاده، ولمجلس الشيوخ، والذي يدافع فيه عن عقيدتنا.
وثانيها خطابه الموجه لخلفه “انطونيوس فيروس”، والذى يدافع فيه عن أيماننا.
وثالثها خطابه لليونانيين حول طبيعة الشيطان التي كانت مجال أُخذ ورد من قبلنا ومن قبل فلاسفة اليونان.
ورابعها كتابه الموجه ايضاً الى اليونانيين الذي أسماه “الرد”، ويتناول فيه سلطة الله، مستنداً في ذلك على الكتب المقدسة وعلى كتب فلاسفة اليونان.
وخامسها كتابه “المزامير”.
وسادسها كتابه عن “النفس”، الذي يفند فيه تعاليم فلاسفة اليونان ليصل بعدئذٍ الى التعاليم لمسيحية ورأيها في ذلك.
وسابعها كتابه “الحوار مع اليهودي تريفون”، أحد مشاهير اليهود في ذلك الزمان، والذي حصل في مدينة أفسس، مؤكداً فيه على النعمة التي نالها قبل الله، والتي فتحت عينيه على الأيمان الحقيقي بعد أن فتش عن الحقيقة في المدارس الفلسفية المنتشرة في ذلك الوقت” (راجع آباء الكنيسة، مجموعة مين، م 20، عمود 373 ب – 376 أ).
ولكن هذه المؤلفات التي يذكرها “اوسابيوس” لم تكن كامله. فيوستينوس نفسه يذكر في كتابه “الدفاع الاول”، 26، 8، كتاباً بعنوان “ضد الهرطقات”. كذلك القديس “ايريناوس” يستشهد بكتاب له ضد “ماركيون” ويعود اليه، مستنداً الى ما جاء فيه، ويعتبره من أهم ما كتب في هذا الموضوع. ورغم ان هذه المؤلفات لم يصلنا منها سوى “الدفاع الأول” و “الدفاع الثاني”، و”الحوار مع اليهودي تريفون” كامله، غير أن أباء الكنيسه قد قد نقلوا إلينا بعض مقاطع من هذه المؤلفات الضائعه. وهناك مؤلفات اخرى قد نسبت إليه، وسنأتي على ذكرها في دراستنا هذه.
أ – الدفاع الأول.
يذكر يوستينوس نفسه أنه كتب “الدفاع الأول” بعد مرور مائةً وخمسسين سنه على ولادة المسيح، وهو موجه الى الإمبراطور “ماركوس أوريليوس” الذي اعتلى العرش سنة 147 مسيحية. والدافع لكتابة هذا الدفاع ما تعرض له المسيحيون في الإمبراطورية من عذاب وتنكيل وتشريد وأضطهاد وقتل، خصوصاً وإن أتهامهم بالملحدين والكافرين والمجرمين قد أحزن يوستينوس وجميع القيمين على شؤون الكنيسة في ذلك الوقت، الأمر الذي دفع به لرفع هذا الخطاب الى الإمبراطور الذي كان يعتبره رجل حكمه وعلم ورجل عدل وأنسانيه.
ففي الفصول الثلاثة الأولى، التي تعتبر كمقدمه، يتوجه يوستينوس الى الإمبراطور باسم المسيحيين جميعا، طالباً منه التدخل شخصياً لينظر في الأمر، دون الركون الى اقاويل الحساد، والأستماع الى الأصوات المغرضة والمشوشة التي تتحامل على ابناء دينه، محتجاً ضد لا شرعية مطاردة المسيحيين، وظلمهم ونعتهم بالكافرين، واعداء الدوله، والمجرمين.
اما القسم الأول، وهو الفصل الرابع ولغاية الفصل الثالث عشر، فيبدأ بالتأكيد على ألوهة المسيح وتعاليمه الحقيقية: “هذه التعاليم” التي تسلمناها من المسيح ومن الأنبياء الذين سبقوه، وهي وحدها الحقيقية، وهي أقدم من تعاليم كتابكم… فالمسيح يسوع هو حقاً ابن الله، وكلمته، وبكره، وقوته… وقبل ان يظهر بين الناس، فإن البعض، وتحت تأثير الشياطين، وبواسطة الشعراء، قد أعتبروا أساطيرهم المختلقه حقيقيه، وعلموها للناس”.
ثم يشدد يوستينوس على الموقف السلبي الذي تتخذه السلطه بالنسبه الى المسيحيين، متسائلاً: وهل كلمة “مسيحي” أو كلمة “فيلسوف”، تعني حضراً الأجرام أو البراءه؟ فالعقاب يجب ان لا يفرض إلا على الذين يذنبون أو يقترفون الجرائم. والمسيحيون ليسوا كافرين أو ملحدين، ولكنهم يرفضون عباد’ الآلهه لأنهم يعرفون أن الإله الحقيقي هو إلههم، وإيمانهم بالآخره، وخوفهم من العقاب الأبدي، يمنعانهم من ان يفعلوا الشر لأي انسان، وبالتالي يدعمون السلطة المدنية لكيلا يكون هناك خلل في المجتمع. لذلك، إنه من الظلم بمكان ان يؤخذ بافتراءات بعض الناس المشبوهين الذين لا هم لهم سوى ملاحقة المسيحيين وتقديمهم للموت.
واما القسم الثاني من الدفاع، وهو من الفصل الرابع عشر الى الفصل السابع والستين، فهو تبرير للديانه المسيحية. إنه يؤكد، بنوع خاص، على العقيدة والطقوس الليتورجيا والأسس التاريخية والأسباب التي تفرض اعتناقها والعمل بها. فالنبؤات الالهيه تبرهن على أن يسوع المسيح هو ابن الله ومؤسس الديانة المسيحية حسب أرادة الله الذي أحب ان يصلح الإنسانية ويجددها.
ولقد حاول الشياطين ان يمثلوا بأنبياء العهد القديم في طقوسهم الوثنية السرية. من هنا نجد بعض الشبه بين الديانة المسيحية وبعض الشعائر الوثنية، وبنوع خاص عن أفلاطون الذي أخذ كثيراً عن العهد القديم حيث نجد أفكاراً مسيحية في أفلاطونية. ثم ينتقل يوستينوس الى شرح سر العماد وسر الإفخارستيا والحياة المسيحية الاجتماعية.
أما الخلاصة، وهي الفصل الثامن والستون، فهي تنبيه مباشر للإمبراطور نفيه، بحيث أنه يعود الى البراءة التي بعث بها الإمبراطور “أدريانوس”، سنة 125، الى والي آسيا “مينوسيوس فوندانوس” (Minucius Fundanus) يعلن فيها القواعد الأربع التي من خلالها يجب ان يحاكم المسيحيون. وهذه القواعد هي التاليه:
اولاً: لا يحاكم المسيحيون إلا امام محكمه جزائيه وحسب الأصول القانونيه المتبعه.
ثانياً: لايصدر الحكم إلا اذا تأكد ان المتهمين قد أخطأوا ضد الشرائع الرومانيه.
ثالثاً: يجب ان يكون العقاب متناسباً مع طبيعة الجرائم ودرجاتها.
رابعاً: وكل اتهام خاطئ وفيه تحامل على المسيحيين يجب ان يعاقب صاحبه بشده.
هذه القواعد، او بالاحرى هذه الوثسقه التاريخيه، قد اتخذها يوستينوس مستنداً مهماً لينذر الإمبراطور وينبهه الى خطورة ما يتعرض له المسيحيون. ويعلق المؤرخ “أوسابيوس القيصري” في كتابه “التاريخ الكنسي”، 4، 8، 8، على ذلك قائلاً: ان يوستينوس كان يعرف ما ينتظره، لكنه كلمة الحق في وجه الإمبراطور.
ب- الدفاع الثاني.
يبدأ يوستينوس كتابة “الدفاع الثاني” بتذكير الرومانيين بما حدث أيام ولاية “أوربيكوس” في روما، فيقول: “ايها الرومانيون، لقد وقعت اخيراً، في مدينتكم، أحداث غريبه، أيام حكم اوربيكوس، كما وقعت أحداث اخرى في أماكن عديده من الامبراطوريه تبرهن عن ظلم الحكام، وهي غير عادله” (1، 1).
وفي الواقع، فان المؤرخين يؤكدون على أن يوستينوس تأثر جداً عندما عرف بان “أوربيكوس” قطع رأس ثلاثة مسيحيين، وذلك لأنهم مسيحيون وحسب، ولم تجد الهداله شيئاً ضدهم بالنسبه الى القوانين الرومانيه.
لذلك توجه الى الرأي العام الروماني محتجاً ضد العنف غير المبرر ورافضاً جميع الانتقادات التي كانت توجه الى المسيحيين. ورداً على بعض الرومانيين الذين كانوا يطلبون بهزء من المسيحيين الانتحار للقاء ربهم بسرعه، يجيب يوستينوس: “”ان ننتحر فذلك ضد ارادة الله. اما امام الحكام فاننا لا ننكر اننا نشتهي الموت لملاقاة الله وبالشهاده لأننا لسنا مخطئين، وبالتالي فاننا نعتبر عدم قول الحقيقه نوعاً من الزندقه والكفر” (2، 4). ثم يؤكد في مقطع آخر على ان الاضهادات ليست سوى عمل الشياطين التي تكره الحقيقه.
وكذلك في العهد القديم فان الابرار كانوا عرضه للاضهاد من قبل الوثنيين. ولكن ليفهم الجميع أن أحداً من هؤلاء الحكام لم تكن له سلطه على المسيحيين إن لم تعط له من الله، وذلك لكي يصلوا الى الفضيله والمكافأه بواسطة العذابات، والى الحياه والسعاده بواسطة الموت وإبادة الحياه. وكذلك ايضاً فان الإضطهادات تسمح للمسيحيين بان يبرهنوا، بطرق واضحة ومدهشه، عن تفوق ديانتهم وتساميها بالنسبة الى الوثنية. ثم ينهي دفاعه بالتوسل الى الإمبراطور لكي يكون عادلاً وشفوقاً ورحوماً ومحباً للحقيقه وهو يحكم على المسيحيين.
في هذا “الدفاع الثاني”، الذي حدده المؤرخون حوالي سنة 161 مسيحية، نرى ان يوستينوس لم يتطرق الى الفلسفة الرواقية كما في ” الدفاع الاول” بل طرح فلسفه افلاطون وتحدث عنها مسهباً. ففي “الدفاع الاول” عرض فلسفة “زينون” بكل ابعادها ومعطياتها، وناقشها وفندها، مستفيداً من المبادئ التي تلتقي مع المسيحية ليدعم طلبه امام الإمبراطور الذي كان اعتنق الفلسفة الرواقيه.
ولكن في “الدفاع الثاني” فاننا نلحظ موقفاً جديداً بالنسبه لوصول “ماركوس أوريليوس” الى السلطه رغم ان يوستينوس يعود دائما الى “الدفاع الاول” مذكراً بما قاله للإمبراطور سابقاً، مستشهداً بمقاطع عديده، الأمر الذي دفع المؤرخ “أوسابيوس القيصر” لاعتبار الدفاعين دفاعاً واحداً. فيوستينوس لم يرد ان يدافع عن المسيحية ومبادئها وتعاليمها في هذا “الدفاع الثاني” كما فعل في ” الدفاع الأول” بل كان هدفه الرد على بعض الوثنيين المتهتكين الذين كانوا ينصحون المسيحيين بالأنتحار للقاء ربهم كما ذكرنا، وبالتالي الرد على الذين كانوا يقولون لهم: لماذا لا يخلصكم ربكم من الأضطهاد. والأمر الظاهر بوضوح في هذا الدفاع هو افتخار يوستينوس بمسيحيته علناً اذ يقول: “انا مسيحي، وهذه عظمتي. وكل رغبتي هي ان اظهر ذلك.
وهذا لا يعني ان فلسفة أفلاطون هى غريبه عن تعاليم المسيح وحسب، بل هي بعيده كل البعد عنها، وكذلك فلسفة الرواقيين والشعراء والكتاب. واذا كان أحدهم قد عبر عن الحقيقه بطريقه أو باخري، فان ذلك يعود الى النعمه التي اعطاها لهم الله، ولكن حقيقتهم هي جزئيه. إنهم لا يملكون العلم المعصوم ولا المعرفه المتعذر دحضها. وكل ما قيل من حقيقه من قبلهم فهو ملك لنا نحن المسيحيين” (13، 2 – 4).
إذن “الدفاع الثاني” هو تكمله “للدفاع الأول”، وموقف مسيحي جريء في وجه الإمبراطور ووجه الحكام والمتطاولين على المسيحيين. إنه شهادة جرأه من قبل يوستينوس الذي يعتبر بحق من الآباء العظام الذين دفعوا دمهم ثمن جرأتهم. ولكن الكنيسه لم تثبت ولم تتشعب جذورها ولم تنمو لو لم يكن فيها امثال هذا الرجل الذي اعطاها دفعاً كبيراً في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي. فموقفه كان مثلاً جليلاً بالنسبه الى الأجيال اللاحقه، ومدرسته خرَّجت العظام الذين وقفوا سداً منيعاً في وجه الوثنية والوثنيين فيما بعد.
ج- الحوار مع اليهودي تريفون.
يُعتبر كتاب “الحوار مع اليهودي تريفون” أقدم منافحه مسيحية ضد اليهود. فالمؤرخون يؤكدون، وفي مقدمتهم “أوسابيوس القيضري” في كتابه “التاريخ الكنسي”، 4، 18، 6، على أن هذا الحوار قد دار بين يوستينوس ويهودي مثقف لا يبعد ان يكون الحاخام “تارفون” حسب “الميشنا”، إحدى المدارس التفسيرية اليهودية للكتاب المقدس، وذلك في مدينة إزمير.
ولقد وضعه يوستينوس كتابةً ما بين سنة 150 و160 مسيحية، في روما، بعد كتابة “الدفاع الثاني”، وهو مؤلف من مئه واثنين وأربعين فصلاً أو باباً، وقد أهداه الى صديق له يُدعى “ماركوس بومبيوس” (Marcus pompeius).
وفي مقدمة الكتاب (2 – 8) يروي يوستينوس بالتفصيل نسأته الفكريه، مروراً بالمدارس الفلسفيه التي اطلع عليها، حتى يصل الى لقائه مع الشيخ المجهول على شاطئ البحر، ومن ثم ارتداده الى المسيحية.
وفي القسم الاول (9 – 47) يعرض الأفكار الرئيسيه وهى: بطلان العهد القديم وتعاليمه، والتأكيد على ألوهية المسيح الذي تكلم عنه الأنبياء ومن ثم تجسده في أحشاء مريم العذراء، وأخيراً دعوة الأمم ليصبحوا شعب الله المختار بعد ان بطلت الشريعه القديمه وابتدأت الشريعه الجديده مع المسيح. اما في القسم الثاني (48 – 108) فيبين، بواسطة تعاليم الأنبياء، ان عبادة المسيح لا تعاكس الايمان بالأله الواحد الحقيقي، ومن عبادة إله أبراهيم واسحق ويعقوب.
واما في القسم الثالث (109 – 142) فيبرهن على ان المسيحيين هم اسرائيل الحقيقي الذي ورث مواعيد العهد القديم. وفي النهايه يقول يقول يوستينوس: “إنني لا أهتم بعرض حجج وبراهن تستند الى المنطق وحسب، ولكن نعمه سماويه كانت لي من الله كي أفهم الكتب المقدسة” (الحوار، 58، 1).
الكتاب له قيمه تاريخيه مهمه. فاليهود، في منتصف القرن الثاني المسيحي، كانوا قوه لا يستهان بها، ولقد سعوا، بجميع الوسائل، للوقوف في وجه المسيحية والمسيحيين على السواء. ورغم ان يوستينوس يعرض عن ذكر ذلك، فانهم كانوا المحرضين الاساسيين على اضطهاد المسيحيين، نظراً للحقد الذي كانوا يضمرونه لهم. ولم يكن “تريفون” سوى صورة اليهودي التقليدي الذي كان يشدد على عودة اليهود، الذين اعتنقوا المسيحية، الى احضان اليهودية، وبالتالي يشدد على تعاليم التلمود والمدارس الربانيه التي كانت متبعه في ذلك الزمن.
إن يهوديته كانت يهوديه متزمته، بعكس يهودية “فيلون الأسكندري” التي كانت يهوديه منفتحه ومتسامحه، نظراً لانفتاح “فيلون” على الفلسفه اليونانيه التي أثرت عليه وأعطته بعداً فكرياً متحرراً. و”تريفون” هو تلميذ “موسى” بكل معنى الكلمه. إنه كان يقبل بان الوثنيين بامكانهم الوصول الى الخلاص، ولكن من خلال التزامهم بشريعة “موسى”، وهذا ما يذكره يوستينوس على لسانه: “أختن نفسك اولاً، ومن ثم التزم بالسبت وبالاعياد التي نحتفل بها، وبكلام آخر، اعمل بشريعة موسى، هكذا يكون لك الخلاص” (8، 4).
كما يقول عنه يوستينوس ايضاً: إنه كان يتقن العهد القديم بدقه، وبنوع خاص تعاليم التلمود. ولكن موقف يوستينوس من “تريفون” كان موقفاً صارماً، مؤكداً فيه على سمو المسيحية وتخطيها العهد القديم في كل شئ. وبينما نرى “ماركيون” يعيد المسيحية والكنيسة الى الاله الرحوم التي بشرت به اليهودية المتأخرة من خلال العهد الجديد، رافضاً الاله العادل التي بشرت به التوراة، إذا بيوستينوس لا يقبل إلا بتعاليم المسيح والرسل كما هى حرفياً.
إنه يؤكد على ان العهد القديم لم يكن سوى تهيئه للعهد الجديد، ويشدد على ان اليهود لا خلاص لهم إلا إذا تبعوا المسيح وتركوا شريعة “موسى” وكما في كتابيه “الدفاع الاول” و”الدفاع الثاني” حيث أكد على أن الفلاسفه بأمكانهم أن يوصلوا الوثنيين الى الأيمان، كذلك في الحوار مع اليهودي “تريفون” يبرهن على أن الأنبياء الذين نالوا الوحي من الله كانوا مقدمه وتهيئه للعقيدة المسيحية. ورغم أن جهوده لم تكلل بالنجاح، و”تريفون” لم يعتنق المسيحية، فان كتابه قد أثر بكثيرين من بعده، وربما كان سببا لأرتداد عددٍ كبير من اليهود.
كذلك، فان كتاب يوستينوس هو وثيقة تاريخيه مهمه ايضاً بالنسبة الى اليهود الذين اعتنقوا المسيحية وبقوا يمارسون الشعائر الدينية اليهودية. هؤلاء اليهود كانوا يعبدون المسيح ويؤمنون به الهاً، ومع ذلك كانوا يراعون شريعة موسى. من هنا نرى يوستينوس يعلن: “انا لست من رأيهم، وكثيرون من الذين يفكرون مثلي لا يوافقون على موقفهم. فالمسيح لم يأمرنا بان نخضع لتعاليم بشرية.
بل لتعاليم الانبياء الطوباويين الذين أعلنوا عن مجيئه” (الحوار، 48، 4). وفى الفصل الثمانين، العدد الخامس من الحوار، يقول: “أما بالنسبه لى والى المسيحيين الحقيقيين فان قيامة الجسد ستكون في اورشليم الحقيقيه كما أكد ذلك الأنبياء، وفي مقدمتهم “حزقيال واشعياء”. واذا تصفحنا الكتاب كله بدقه نرى ان الأستشهادات التي يوردها فيه هي استشهادات المقصود منها التذكير بان الله رفض أسرائيل واختار شعباً جديداً من الأمم.
فهاجس كنيسة المسيح كان يلاحقه في كل كلمه قالها او كتبها، والتأكيد على ان الشريعه الجديده هي شريعة المسيح الاله المخلص الذي يجب ان يؤمن به اليهود والوثنيون على حد سواء لكي يحصلوا على الخلاص. هذا باختصار موضوع الحوار.
د – القيامه (البعث)
القديس “يوحنا الدمشقي” يذكر في كتابه “المقارنة المقدسة” ان القديس يوستينوس قد كتب كتاباً عن القيامه، ويستشهد ببعض مقاطع منه. كذلك “بروكوبيوس القيصري” يذكر ايضاً ان يوستينوس الفيلسوف والشهيد له كتاب عن القيامه، وقد شرح فيه ما ورد في الانجيل، معلقاً على قيامة المسيح وقيامة الموتى والمجد الذي ينتظرهم. وفي القرن الثالث المسيحي كتب “ميتوديوس الأولمبي” كتاباً بعنوان “الأصوات الشجية” ذكر فيه كتاب يوستينوس عن القيامه حيث يعلق هذا الأخير على الفصل العاشر من رسالة القديس بولس الأولى الى القورنثيين.
ورغم ان المؤرخ “اوسابيوس القيصري” لم يذكر هذا الكتاب بين الكتب التي تحدث عنها عند يوستينوس، فان جميع المؤرخين الآخرين يؤكدون على ذلك. اما الآن فانه لا يوجد بين ايدينا مقطع واحد من هذا الكتاب.
هـ – ضد الهرطقات والبدع
هذا الكتاب يذكره يوستينوس في كتابه “الدفاع الأول” وكان قد ألفه سابقاً. ولكنه لم يصل إلينا. لكن “ترتوليانوس القرطاجي” يستشهد ببعض مقاطع منه، معتبراً يوستينوس أقدم مدافع عن العقيدة المسيحية ضد الهرطقات والبدع. ويذكر المؤرخون ان هذا الكتاب كان أداه مهمه في يد الذين وقفوا في وجه هذه الهرطقات والبدع في القرنين الثاني والثالث المسيحيين.
و ــ ضد ماركيون
القديس “ايريناوس”، أسقف مدينة ليون، يستشهد مرتين بهذا الكتاب في كتابه “ضد الهرطقات”، 4، 6، 2. ويؤكد ايضاً على ان كتاب يوستينوس “ضد ماركيون” هو أهم ما كُتب ضد هذه البدعه التي ضربت الكنيسه وأثرت عليها في القرنين الاول والثاني. كذلك المؤرخ “اوسابيوس القيصري” يذكر ما ذكره القديس “ايريناوس” لا أكثر ولا أقل. لذلك تساءل الباحثون أنه فصل من كتاب وليس كتاباً منفرداً على كل حال الكتاب لم يصلنا ولا نعرف عنه الآن سوى ما ذكره القديس “ايريناوس” وحسب.
زــ الخطاب إلى اليونانيين.
هذا “الخطاب الى اليونانيين” الذي يذكره المؤرخ “أوسابيوس القيصري” في لائحة مؤلفات يوستينوس نسب خطأ إليه، ولقد وصلنا بترجمه سريانيه مع بعض الحواشي والتعليقات والشروحات. والمترجم السرياني الذي يدعى “أمبروسيوس” نقله عن اليونانيه، ولكن ليس عن نصٍ كامل كما يذكر ذلك في المقدمة، ولكن عن بعض مقاطع تحمل اسم يوستينوس الروماني كما كان معروفاً في ذلك الزمان.
والعالم “بويش” (Puech) يعتقد ان هذا الخطاب كُتب ما بين سنة 180 و210 مسيحية، وهو مقاله نقديه أكثر منها مقاله دفاعيه (راجع بويش: المدافعون اليونان في القرن الثاني المسيحي، باريس، 1912، ص 299). اما العالم “هارناك” (Harnack) فينفي كلياً ان يكون هذا الخطاب من يوستينوس نظراً الى أن لغته الأدبيه هي بعيده كل البعد عن لغة يوستينوس، وبالتالي فان الموضوع الذي يطرحه الخطاب لا يتوافق مع نفسية القديس الشهيد. على كل حال كان من الضروري ذكر ذلك لأن هذا الخطاب لم يزل يعرف باسم يوستينوس لغاية الآن رغم تأكيدات العلماء ونفيهم انتسابه إليه.
ح ــ الأرشاد الى الوثنيين
” الارشاد الى الوثنيين” او “الارشاد الى اليونانيين”، الذي ذكره المؤرخ “اوسابيوس القيصري” في لائحة مؤلفات يوستينوس، هو عباره عن دراسته مقارنه بين الديانة الوثنية والديانة المسيحية يحاول من خلالها المؤلف ان يدحض تعاليم الوثنية، مبرهناً على ان الديانة المسيحية هي الديانة الحقيقية، وإن تعاليم المسيح هي بحق تعاليم ابن الله الذي نزل الى الأرض ليخلص البشرية ويعيدها الى الفردوس بعد خطيئة آدم.
ورغم ان المؤرخين يتكلمون عن هذا الكتاب من خلال كلامهم عن مؤلفات يوستينوس، غير أن الدراسات العلمية الأخيرة التي قام بها العالمان “بويش” و”هارناك” تنفي ان تاريخ تأليفه يعود الى مابين سنة 260 وسنة 300 مسيحية، والمؤلف هو، حسب تقديرهما، “أبوليناريوس اللاذقي” الذي عاش في تلك الفتره والفه ونسبه ليوستينوس الروماني. وبذلك يكون اعتقاد “أوسابيوس القيصري” اعتقاداً خاطئاً. وبانتظار ان تتم اكتشافات جديده حول هذا الكتاب، فانه يبقي من ضمن مجموعة مؤلفات يوستينوس، ونحن مضطرون لذكره في سياق دراستنا هذه.
ط ــ السلطة
هناك كتاب آخر حول سلطة الله ووحدانيته يذكره ايضاً المؤرخ “أوسابيوس القيصري” في لائحته عن يوستينوس. وهذا الكتاب يؤكد على وحدانية الله بواسطة إستشهادات من الآداب الوثنية نفسها التي تتكلم عن وحدة الله، والتي عرضها يوستينوس ليعيد الوثنيين الى المسيحية. ولكن الدراسات الحديثة التي قام بها بعض اللاهوتيين أمثال “شورر” (Schurer) و”بويش” (Puech) قد اثبتت ان النصوص نفسها منحوله، وان الكتاب قد نسب عمداً الى يوستينوس.
ولقد كتبه مؤلف مغمور في نهاية القرن الثاني المسيحي ليدعم فكرة يوستينوس نفسه، وليؤكد على وحدانية الله في وجه تعدد الآلهه في العالم الوثني. اما تأكيد المؤرخ “اوسابيوس القيصري” في لائحته فلم يكن له اساس، رغم ان البعض من العلماء يدرجون هذا الكتاب تحت اسم يوستينوس لغاية الآن. لذلك نحن ندرجه ايضاً هنا عملاً بالتقليد حتي تتوضح نهائياً حقيقة مؤلفه والغايه التي توخاها من استعارة اسم يوستينوس لهذا الأمر.
ى ــ كتاب المزامير
هذا الكتاب الذي هو تفسير للمزامير قد ذكره ايضاً المؤرخ “أوسابيوس القيصري” في لائحته، ولكن الأجيال اللاحقة لم تطلع عليه، وبقي مفقوداً لغاية الآن.
ك ــ كتاب النفس
هذا الكتاب قد ذكره ايضاً “اوسابيوس القيصري” في لائحته، واعطى خلاصه عن فحواه. ولكنه فقد في ما بعد، ولم يتوصل اللاهوتيون لغاية الآن الى معرفة شئ عنه.
ل ــ تفسير رؤيا يوحنا
القديس “إيرونيموس” يذكر في الفصل التاسع من كتابه “الرجال العظام” ان يوستينوس قد ترك لنا كتاباً مفصلاً هو كنايه عن شرح وتعليق على رؤيا القديس يوحنا الرسول. ولكن هذا الكتاب لم يصلنا ايضاً.
هذه الكتب، وغيرها من الكتب المنحوله التي يذكرها التاريخ تحت اسم يوستينوس، والتي لا مجال لذكرها هنا لأن الدراسات العلميه لم تجزم بعد في مدى نسبتها اليه، كانت مرجعا مهماً في القرون الأولى للكنيسة، استعملها المدافعون عن العقيدة للرد على المتحاملين على المسيحية والطاعنين بتعاليمها. وان دلت على شئ، فانها تؤكد لنا على قيمة هذا الرجل العظيم الذي نفذَ بعقله الى جوهر الكنيسه التي أقام بانيها في اعماقه، وأحاط كفيلسوف بكل ما يدور حولها وما يحاك لها.
والحقيقه ان ما من أحدٍ كان معداً مثله لتلك المجابهه الكبرى. فلقد توغل في افكار الفلاسفة، وزاول الفلسفة وأحبها الى أبعد الحدود، وعرفها من الداخل، ولم يبحث عن الحقيقة إلا لكي يعيشها. عانى الكثير في سبيلها، فقام برحلات بعيده واحتمل المشاق في سعيه الى المعرفة المثلى.
ولكونه تعذب في الطريق، نكتشف عنده زهداً مذهلاً، زهداً هو بعينه الشهاده التي لا تخدع ولا تكذب. سما باخلاقه، ومال الى الدقه التاريخيه، وتأثر بلين الجدليه عند الهلينيين، وبالتدقيق في فن الحوار الذي يرتفع بالعقل من المحسوس الى المعقول، حتي وصلت به الحكمه الى الحقيقه التي تنتهي عند قدمي الله. لم يرفض فكر افلاطون، بل أدخله الكنيسه، ولطالما أعلن ان الفلاسفه مسيحيون دون علم منهم. فكلمة الله هي التي تنير العقول، مما يفسر وجود اجزاء من الحقيقه عن كلٍ من هؤلاء الباحثين والمفكرين، فيما يمتلك المسيحيون كلمة الله كامله غير منقوصه.
وهنا يجدر التوقف عن حقيقة نوه بها المؤرخون، وهي ان تعليم الفيلسوف المسيحي أرغم السلطات والمفكرين على ان يقيموا للمسيحية وزناً كبيراً، فاكتسب الفكر الانجيلي بفضله حق الحضور الفاعل في عاصمة الامبراطورية روما.
ولقد جاء استشهاده ليثبت بالدليل القاطع ان نشاطه أرهب حكام روما فتخوفوا من امتداد نفوذه وانتشار تعاليم المسيح في ارجاء الأمبراطوريه، اذ حصر جهوده كلها في اثبات صحة الايمان المسيحي، متسلحاً بالمجادله خلال محاربته الهراطقه إذ كانت دائرة الهراطقه قد اتسعت وبدأت تشكل خطراً أكيداً على العقيدة الصحيحة. ألم يعبر القديس “ايريناوس” أسقف مدينة ليون، بعد خمسين سنه على أستشهاد يوستينوس، عن اعجابه واجلاله لمن هو حقاً رائداً في هذا المجال؟ ويهمنا التأكيد هنا على ان يوستينوس لم يُعن يوماً بالاسلوب الأدبي، بل كان همه شرح العقيدة وايصالها الى سامعيه. خطته في الكتابة فضفاضة، ومسيرته في شرح أفكاره تعيقها الاستطرادات الكثيره والرجوع الدائم الى الوراء.
ورغم هذه الشوائب فان كتاباته لها علينا سحر عجيب تصعب مقاومته عندما نكتشف نفسه المنفتحه، المستقيمه، الساميه باستمرار الى تفهم الخصم. فلقد آمن دائماً بأن “كل انسان يمكنه قول الحقيقه، واذا لم يفعل ذلك فان الله سيحاسبه يوم الدينونه” (الحوار مع اليهودي تريفون، 82). ولا يفوتنا هنا أنه اول كاتب مسيحي مد الجسور بين المسيحية والفلسفة والوثنية.
فاستقامة نفسه وشفافيتها حركت شعور الكثيرين من حوله، وطرافته ارتكزت على التجديد في المجهود اللاهوتي مما جعله يقنع محاوريه بان الدين الجديد هو دين الحق الذي بشر به الانبياء، قد وحد العهدين القديم والجديد.
وهكذا بقي يوستينوس، من خلال مؤلفاته، المرجع المهم لمرحله من أهم مراحل المسيحية، كان فيها الرائد لكثيرين أتوا بعده وتمنطقوا بالحكمه والعلم والشجاعه والجرأه والخلقيه والرؤيا التي كانت جميعها مناره لكل من وقف سداً منيعاً في وجه المسيحية، والتي وضع اسسها هو في منتصف القرن الثاني المسيحي.
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان