أبحاثإلحاد

برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 – لي ستروبل

برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 - لي ستروبل

برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 – لي ستروبل

برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 - لي ستروبل
برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 – لي ستروبل

برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 – لي ستروبل

استعد، صوب، سدد!

هناك مفاهيم قليلة توسع الذهن كمفهوم تعديل الكون. فمثلاً، قال فيزيائي جامعة أكسفورد روجر بنروز إن معياراً واحداً، وهو “الفراغ الفضائي الأصلي” استلزم تعديلاً لدقة مقدارها جزء من عشرة بلايين مضروبة في نفسها 123 مرة. وأشار بنروز إلى أنه سيكون من المستحيل حتى كتابة هذا الرقم كاملاً، لأنه سيتطلب أصفاراً أكثر من عدد الجزيئات الأولية في الكون بأكمله! وقد أوضح هذا، كما قال “مدى الدقة المطلوبة لضبط الكون في مساره”[1].

وكما تعجبت مجلة Discover: “الكون عجيب. عجيب جداً. عجيب بدرجة عميقة ومذهلة”[2].

في ضوء الأرقام ن غير المجدي محاولة تفسير كل هذا التعديل على أنه مجرد نتاج الصدفة العشوائية.  الشاذة متناهية الصغر للحصول على كل الأوضاع الصحيحة للوحات بالنسبة لثوابت الفيزياء، وقوى الطبيعة، والقوانين الفيزيائية الأخرى، والمبادئ الضرورية للحياة، يبدو أنه م

قال كولينز: “طالما أننا نتحدث عن الاحتمالات، فلا يمكنك نظرياً أن تعلن إمكانية، مهما كانت بعيدة، أن هذا يمكن أن يحدث بالصدفة”.

“ومع ذلك، فإنني إذا راهنتك على ألف دولار بأنني أستطيع أن أقلب عملة وأحصل على صورة الملك خمسين مرة. وأبدأ في فعل هذا، فلن تقبل مني ذلك. فسوف تعلم أن الشواذ ضد ذلك غير محتملة جداً – حوالي فرصة واحدة في مليون بليون – وهذا غير محتمل حدوثه. وحقيقة أنني كنت أستطيع أن أقوم بهذا ضد مثل هذه الشواذ الضخمة ستكون دليلاً قوياً لك بأن اللعبة قد ضُبطت لمصلحة اللاعب. ونفس الأمر صحيح بالنسبة لتعديل الكون – فقبل أن تستنتج أن الصدفة العشوائية كانت مسؤولة، ستستنتج أن هناك دليلاً قوياً على أن الكون قد ضبط. أي إنه قد صمم”.

“سأعطيك توضيحاً آخر. تخيل أنني كنت أتجول في الجبال، وصادفت صخوراً مرتبة بطريقة مكنتني من أن أقرأ العبارة “مرحباً بك يا روبين كولينز على الجبال”. فرضية ستكون أن الصخور تصادف فحسب أن تكون مرتبة بهذا الشكل، ربما نتيجة زلزال أو تدحرج صخري. لا يمكنك استبعاد هذا تماماً. لكن فرضية أخرى ستكون أن أخي، الذي كان يزور هذه الجبال من قبلي، قد نظم الصخور بهذه الطريقة”.

“من الطبيعي جداً أن معظم الناس سيقبلون نظرية زيارة أخي على نظرية الصدفة. لماذا؟ لأن الأمر يدهشنا باعتباره غير محتمل بدرجة كبيرة أن تترتب الصخور بالصدفة هكذا، ولكن ليس بنفس قدر عدم الاحتمالية أن يكون أخي قد وضعها هكذا. وهذا افتراض معقول تماماً”.

“وبالمثل، من غير المحتمل على الإطلاق أن تعديل الكون من الممكن أن يكون قد حدث بطريقة عشوائية، لكنه ليس من غير المحتمل على الإطلاق أن يكون عمل مصمم ذكي. ولهذا فمن المعقول جداً أن نختار نظرية التصميم أكثر من نظرية الصدفة. إننا نفكر في الأمر طوال الوقت. هل كانت بصمات المتهم على المسدس بسبب تكون كيماويات بالصدفة، أم بسبب أنه لمس المسدس؟ المحلفون لا يترددون في الاستنتاج الواثق بأنه لمس المسدس إن كانت الأرقام الشاذة ضد الصدفة أرقام فلكية للغاية”.

بينما كانت نظرية الصدفة العشوائية غير كافية لتفسير “التزامنات” الإنسانية، فربما كانت هناك بدائل أخرى تؤدي للاستنتاج بأن الكون كان عمل مصمم. وقد حان الوقت لاختبار بعض هذه البدائل.

“ماذا يحدث إن كان هناك مبدأ غير مكتشف يجعل الكون على ما هو عليه؟ فربما نظرية كل شيء المراوغة التي كان الفيزيائيون يبحثون عنها لمدة طويلة سيتضح أنها تتطلب معايير الفيزياء كي تكون لها تماماً القيم التي للفيزياء”.

فلم يرتبك كولينز إزاء هذه الفكرة. فأجاب: “هذا لا يزعجني على الإطلاق. فببساطة سيحرك مؤشر عدم احتمالية التعديل درجة واحدة”.

“ماذا تعني؟”

“سيكون الأمر مدهشاً حقاً لو أن هذه “النظرية الموحدة الضخمة Grand Unified Theory” قد تمكنت – خارج إطار مدى الاحتمالات المذهل – من إجبار كل لوحات التعديل للانتقال إلى المكان الذي تصادف وخلقت فيه كوناً داعم للحياة. وسوف يشبه ذلك قانوناً معد سابقاً في بداية الكون تسبب في وضع كل شيء في مكانه، ولهذا عندما وصلت إلى الجبل، رأيت الصخور موضوعة بطريقة مكنتني من قراءة هذه الجملة “مرحباً بك يا روبين كولينز على الجبال”.

“ولذل فإن هذا لن يقضي على حجة التصميم الذكي؟”

“العكس تماماً. إنها ستضخمها، لأنها ستوضح أن المصمم كان مبدعاً أكثر مما اعتقدنا أولاً. وكما أنه من الصعوبة تعديل كون بضبط كل اللوحات الفردية، فسوف يكون من الأصعب خلق قانون ضمني للطبيعة أجبر كل اللوحات آنذاك على هذه الأوضاع المحددة. وكل ما سيفعله هذا هو أن يجعلني حتى أكثر إحساساً بالرهبة بوجود الخالق”.

هاجم بعض المتشككين حجة التعديل من اتجاه آخر، وأثاروا ما أصبح معروفاً بـ “المبدأ الإنساني الضعيف Weak Anthropic Principle”. وطبقاً لهذه الفكرة، إن لم يكن الكون معدلاً للحياة، فالبشر لن يكونوا موجودين لملاحظة ذلك. ونتيجة لهذا يؤكدون ان التعديل لا يتطلب تفسيراً.

“يجب أن تعترف أن هناك جاذبية بديهية لهذا الأمر”.

“أعتقد أن جون ليزلي لديه أفضل إجابة على هذا الموضوع. افترض أنك كنت واقفاً أمام مجموعة مدربة على إطلاق النار مكونة من خمسين قناصاً مدرباً على أعلى مستوى كانوا جميعاً يصوبون بنادقهم إلى صدرك من مسافة قصيرة. وسمعت الأمر: “استعد!، صوب!، سدد!”، لكنك لم تشعر بأي شيء تتخلص من العصابة التي على عينيك، وترى أنك ما زلت حياً. ولم تصيبك حتى رصاصة واحدة”.

“والآن لن تسمح للمتشكك برفض الموقف قائلاً: “حسناً لو كانوا قد أطلقوا عليك النار، لما كانت هنا للتعليق على الموقف”. كلا – فالظروف ما زالت مدهشة ولا تزال تتطلب تفسيراً. هل اتفقوا معاً على ألا يضربونك؟ هل كان إعداماً ساخراً؟ ونفس الشيء ينطبق على تعديل الكون. فهو لا يزال يتطلب تفسيراً وفي تقديري أن أفضل تفسير هو وجود مصمم”.

ومع ذلك، رغم ثقة كولينز، أثار علماء تهديداً أكثر حدة على حجة تعديل الكون في السنوات الأخيرة. يقول علماء كثيرون إن ما يُسمى بـ “فرضية الأكوان الكثيرة” تلوح كما لو أنها أكبر تحدي للاستنتاج القائل بأن الكون قد صنع بدقة فائقة بواسطة مصمم فائق. فقررت أن هذا سيكون استفساري التالي.

 

 

 

باب الهروب الميتافيزيقي

المتشكك الروحي مارتن ريز – الذي أصبح أستاذاً للفلك في جامعة كامبردج عندما كان في الثلاثينات من عمره، وأطلقت عليه الملكة إليزابيث في العام 1995 لقب “الفلكي الملكي” – لم يستطع أن يتجاهل كيف أن المعيارات الكونية متناغمة بدرجة مذهلة لخلق كون تتلاءم فيه الحياة. وقال إن كانت الأرقام الستة التي تُشكل أساس الخواص الفيزيائية الأساسية للكون قد تبدلت “حتى ولو إلى أدنى درجة، فلن تكون هناك نجوم، ولا عناصر معقدة، ولا حياة”[3].

وصرح: “إن سرعة الامتداد، والمحتوى المادي للكون، وقدرات القوى الأساسية، يبدو أنها قد كانت متطلباً أساسياً لظهور هذا الموطن الكوني الملائم الذي نعيش فيه”[4].

لخص مؤلف ببراعة هذا المثال من ريز:

“لكي يوجد الكون، يستلزم الأمر أن يتحول الهيدروجين إلى هيليوم بطريقة دقيقة ولكن مدهشة؛ أي بطريقة تحول نسبة 0,007 من كتلتها إلى طاقة خفّض هذه القيمة قليلاً من 0,007٪ إلى 0,006٪ مثلاً، ولن يحدث أي تحول: فالكون سيتكون حينئذٍ من هيدروجين فقط. ارفع القيمة قليلاً جداً إلى 0,008٪، وسوف تكون الوصلة قوية جداً حتى أن الهيدروجين سيتزود بمخزون كبير منذ أن أستهلك. وفي كلا الحالتين، فمع أدنى تغيير للأرقام، فإن الكون الذي نعرفه ونحتاجه لن يكون موجوداً[5].

قال ريز إنه عندما نأخذ في الاعتبار الأعداد الخمسة الأخرى التي تمثل ” القوة العميقة التي تُشكل الكون”، فسوف تصبح بنية الكون “غير محتملة لدرجة كبيرة”[6].

هل ما زال ريز مندهشاً بفعل توازن الكون المتقن للغاية والمشكوك فيه؟ لا. هل يومن أن التعديل يشير إلى مصمم؟ لا على الإطلاق. لماذا؟ يُجيب على ذلك باستخدام توضيح متجر ملابس كبير للمقاسات الخاصة.

قال: “إن كانت هناك مجموعة مكدسة من الملابس، فليس عليك أن تندهش إذا وجدت فيها بذلة تناسبك. وإن كانت هناك أكوان كثيرة، كل منها تحكمه مجموعة مختلفة من الأرقام، سيكون واحد منها فيه مجموعة خاصة من الأرقام الملائمة للحياة. ونحن موجودون فيه”[7].

يمكن تلخيص هذه الحجة هكذا: “كان من الممكن أن تكون هناك ملايين وملايين من الأكوان المختلفة، خُلق كل منها بأوضاع رقمية مختلفة من النسب والثوابت الأساسية، كثير جداً في الواقع لدرجة أن الوضع الصحيح قد ظهر بالصدفة البحتة. وقد تصادف أن نكون الأوضاع المحظوظة”[8].

وبمعنى آخر، إن كان كوننا هو الكون الوحيد في الوجود، فسوف يكون التعديل دليلاً قوياً – أو دليلاً حاسماً كما يقول كثيرون – على أن ذكاء قد تدخل بالأرقام. ولا يبدو أن هناك إمكانية معقولة أخرى. لكن هذا الرأي يتلاشى إن كانت هناك أكوان كثيرة، أو عدداً محدداً منها. ومع دوران رقمي عشوائي، ستكون الشواذ أنه على الأقل واحداً – كوننا نحن –  سيربح اليانصيب الكوني، وسيصبح موطئاً ملائماً للحياة.

ريز ليس المتشكك الوحيد الذي يهرب من التضمنيات الإيمانية للكون المعدل بالتأمل في وجود عوالم أخرى. في الواقع، هذا هو المدخل الذي اتخذه وينبيرج بعدما عبّر عن دهشته إزاء الشكوك غير المتوقعة للثابت الكوني[9].

يؤيد فيزيائيون كثيرون فكرة الكون المتعدد، أو بما يُسمى بنظرية “multiverse”، مع أن آخرين يسخرون منها، متهمين بأنها أكثر من مجرد هروب ميتافيزيقي لتجنب دليل التعديل المؤيد لوجود مصمم. قال كاتب:

لقد اقترحت فرضية العوالم الكثيرة في الأصل لأسباب علمية بحتة كحل لما يُسمى بمشكلة قياس الكم في علم الفيزياء. ورغم أن تأثيرها كتفسير داخل إطار الفيزياء الكمية ما زال مثيراً للجدل بين الفيزيائيين، إلا أن استخدامها في هذا المجال له أساس تجريبي. ومع ذلك، تم توظيفها في الفترة الأخيرة لتكون بديلاً لا إيماني لتعديل الثوابت الفيزيائية. وهذا الاستخدام [للفرضية] لا يبدو أنه يخدع التهور الميتافيزيقي.

في لقاء مع ويليام لين كريج[10]، الذي اشترك في تأليف كتاب الإيمان بالله، علم دراسة الأكوان الانفجار الكبير والإلحاد Theism, Atheism and Big Bang Cosmology، قال لي: “إنها مفهوم بحت، فكرة بحتة، بلا برهان علمي. انظر، إنها ميتافيزيقا بحتة.[11] فلا يوجد سبب حقيقي لتصديق وجود مثل هذه العوالم المتوازية. وحقيقة ان المتشككين عليهم الخروج بنظرية غريبة كهذه هو أن تعديل الكون يشير بقوة إلى مصمم ذكي – وهناك بعض الناس سيفترضوا أي شيء لتجنب الوصول إلى هذا الاستنتاج”[12].

بالمثل دعا بولكنجهورن – أستاذ سابق للفيزياء الرياضية في كامبردج – هذه الفرضية “علماً كاذباً”، و”تخميناً ميتافيزيقياً”[13]. وقال في كتابه “العلم واللاهوت Science and Theology”: “إن مسألة العوالم الكثيرة تقدم أحياناً كما لو كانت علمية تماماً، ولكن في الواقع، فإن مستنداً كافياً لأكوان مختلفة يمكنه أن ينشأ بعمليات تأملية تتخطى ما يمكن أن يؤكده العلم بأمانة”[14].

استنتج ديفيز أن “نظرية الأكوان الكثيرة يمكنها في أفشل الأحوال أن تفسر مجرى مدى محدود من السمات، هذا إن أضاف المرء بعض الافتراضات الميتافيزيقية التي لا تبدو أنها أقل مغالاة من التصميم”[15]. وقال كليفورد لونجلي: “إن منظر الملحدين العلميين وهم يتعلقون بمثل هذا القش اليائس قد وضع وثبة جديدة في طريق المؤمنين”[16].

اعترف ريز بالطبيعة الهشة لنظرية الأكوان المتعددة في مقابلة مع صحفي علمي في العام 2000. فقد صرح بأن الحسابات “تحكمية بدرجة عالية” (رغم أنه يقترح أنها ستكون غير ذلك يوماً ما)، وأن النظرية نفسها “معلقة على افتراضات”، وتبقى تأملية، وغير مهيأة للبحث المباشر. وقال: “إن الأكوان الأخرى غير متاحة لنا، تماماً كما أن داخل حفرة مظلمة غير متاح”. وأضاف أننا لا يمكننا حتى أن نعرف ما إذا كانت الأكوان نهائية أو لا نهائية في العدد. ومع ذلك، قال إن نظرية الأكوان المتعددة “تقع أصلاً في نطاق العلم”[17].

كان كل هذا يدور في ذهني بينما كنت أتهيأ لسؤال كولينز عن إمكانية أن سيناريو الأكوان المتعددة يمكنه القضاء على دليل وجود مصمم لكوننا. كنت أشعر حقاً بحب الاستطلاع: هل يمكن أن تكون هذه الفرضية ملاذاً معقولاً للمتشككين الذين يُصدمون بفكرة الله؟ أم أن الحجة الإنسانية ستواجه هذه التحدي؟

فكرة الهوكي الكوني

لا بد أن أعترق بأنني اندهشت من إجابة كولنز المبدئية حين سألته عن قابلية فرضية الأكوان الكثيرة للتطبيق.

قال: “حسناً، إن معظم هذه الافتراضات تأملية تماماً، ولها أساس ضعيف في الفيزياء. إنها لا تستحق التفكير. ومع ذلك، فإن أكثر نظرية شيوعاً – وهي الكوزمولوجيا التضخمية – لها مصداقية أكثر. لا بد أن أقول إنني على الأقل متعاطف معها. فأنا أحاول أن يكون ذهني مفتوحاً”.

كان كولنز يشير إلى نموذج “الكون التضخمي ذاتي الإنتاج” الذي اقترحه أندريه ليندي من جامعة ستانفورد، وهو مبني على مبادئ متقدمة من فيزياء الكم. وقد كانت هذه هي النظرية التي استشهد بها وينبيرج عندما حاول تفسير التعديل الظاهر للثابت الكوني. وفي مثال مذهل، قال كاتب علمي إن مفهوم ليندي “تتحدى التصور السهل”[18]. ومع ذلك، مع خطورة السهولة المفرطة، يمكن استخدام توضيح أساسي.

يفترض ليندي وجود فضاء خارق قبل الوجود يتمدد بسرعة. وجزء صغير من هذا الفضاء الخارق ينفجر بمجال تضخمي نظري، انفجر بحسب نظرية التضخم، تماماً كفقاعات الصابون التي تشكل محيطاً لا نهائياً مليئاً بمنظف أطباق. وكل فقاعة تصير كوناً جديداً. وهذا ما يُعرف باسم “نظرية التضخم الفوضوي”، وعدد ضخم من هذه الأكوان تولد عشوائياً بفضل التذبذبات الكمية، عبر نقاط مختلفة من الفضاء الخارق. وهكذا، فإن كل كون له بداية، وحجمه محدود، في حين أن الفضاء الخارق الأكبر لا متناه في الحجم، ويبقى إلى الأبد.

ذكرت لكولينز أنه في لقاء سابق عن الكونيات، استخدم وليم لين كريج هذه النظرية استخداماً محدوداً. فقال كولينز: “موافق، إنها تأملية بدرجة عالية. وفيها قدر مرعب من النهايات غير الدقيقة. ولكن طالما إنها النظرية الأكثر شيوعاً اليوم – وأعتقد أنه لابد من اتخاذها بجدية – دعنا لا ننتقدها الآن. لنفترض أنها حقيقية”.

فقلت وأنا أومئ: “حسناً. هذا جيد”.

“والآن، إليك فكرتي المهمة جداً: حتى إن كانت نظرية ليندي استطاعت أن تفسر وجود أكوان كثيرة، فهذا لن يقضي على الدفاع عن التصميم. بل إنها ستغير المسألة قليلاً. في الواقع، أعتقد أنها تشير إلى التصميم”.

كانت هذه لفتة مذهلة! فسألته: “لماذا تعتقد ذلك؟”

فقال: “سأستخدم مثالاً من الحياة اليومية. لديّ مع زوجتي آلة لصنع الخبز. وهي الآن عاطلة عن العمل، لكننا اعتدنا على استخدامها. ولعمل خبر جيد كنا نحتاج أولاً إلى هذه الماكينة جيدة التصميم، التي كانت بها الدارة الكهربائية الصحيحة، والعنصر الحراري الصحيح، والمؤقت الصحيح، إلخ. ثم كان علينا أن نضع المكونات الصحيحة بالنسب الصحيحة وبالترتيب الصحيح – ماء، ولبن، ودقيق، زبدة، وملح، وسكر، وخميرة. كان يجب أن يحتوي الدقيق على الكمية الصحيحة من مادة البروتين التي تسمى الجلوتين، وإلا كان المطلوب أن تُضاف[19]. كل شيء يجب أن يكون مضبوطاً لإنتاج رغيف من الخبز – وإلا ستحصل على قص هوكي محترق”.

“والآن دعنا نواجه النظرية: فمسألة كون أكثر تعقيداً من رغيف خبز. أقصد أنه إذا كانت آلة تصنيع الخبز تستلزم معاير محددة مرتبة لعمل الخبز، فلا بد أيضاً أن تكون هناك عملية أو تقنية عالية التصميم لعمل أكوان عملية. أي أنه بغض النظر عن أية نظرية تعدد أكوان تستخدمها، ففي كل حالة ستحتاج إلى “مولد اكواناً متعددة”؛ وهذا ما يستلزم البنية الصحيحة، والتقنية الصحيحة، والمكونات الصحيحة لإخراج أكوان جديدة”.

“وإلا سينتهي بك المطاف بقرص هوكي كوني!” قالها ضاحكاً.

آلة الأكوان المتعددة

دفع كولينز مقعده للخلف متجهاً نحو سبورة على الحائط، وقال وهو يرسم رسماً كارتونياً غريباً لآلة تصنيع بها مدخنة متكتلة، وسير يُدخل المواد الخام ثم يخرج أكواناً جديدة طازجة من الجانب الآخر: “عندما أرسم “مولد أكوان متعددة” يندهش طلابي”.

وقال وهو يضع اللمسات الأخيرة على رسمه: “هذه الآلة يمكنها فقط أن تنتج أكواناً داعمة للحياة إن توفرت لها التقنيات والمكونات الصحيحة”.

التفت وتفحصت رسمه، وسألته: “ما الذي ستحتاج إليه مثلاً في ظل نظرية ليندي؟”

فقال كولينز فيما استعاد نظام جلسته: “أولاً، ستحتاج إلى تقنية لمد الطاقة المطلوبة للأكوان الفقاعية. وسوف يكون هذا هو مجال التضخم الذي افترضه هو، والذي يعمل بفعالية كمستودع طاقة غير محدودة. ثانياً، سيحتاج إلى تقنية لتكوني الفقاعات. وسوف تكون هذه معادلة اينشتين عن النسبية العامة. فبسبب شكلها المتميز، فمن المفترض أن يتسبب هذا في تشكيل الأكوان الفقاعية واستمرار المحيط في التمدد”.

“ثالثاً، سيحتاج إلى تقنية لتحويل طاقة مجال التضخم إلى الطاقة/ الكتلة العادية التي نجدها في كوننا. رابعاً، سيحتاج إلى تقنية للسماح بالتنوع الكافي في ثوابت الفيزياء بي الأكوان المتعددة. وبمعنى آخر، سيحتاج إلى طريقة لتنويع ثوابت الفيزياء حتى يمكنه بالصدفة العشوائية أن ينتج بعض الأكوان، مثل كوننا نحن، الذي ينعم بالتعديل الصحيح لتدعيم الحياة”.

“هل هناك مرشحاً لهذه التقنية؟”

“نعم؛ نظرية الخيط الفائق Superstring Theory. قد تنجح في ذلك رغم أن الوقت ما زال مبكراً جداً للحكم عليها”.

وعندما سألته لماذا ذكر الخيوط الفائقة، قال: “طبقاً لنظرية الخيط الفائق، فإن المكونات النهائية للمادة هي خيوط من الطاق تخضع لاهتزازات الكم في 10 أو 11 بعداً من الزمن الفضائي. ستة أو سبعة من هذه الأبعاد “تصل” إلى حجم متناهي الصغر. وبلغة نظرية الخيط الفائق، يُقال إنها مندمجة. وشكلها يحدد طرق اهتزازات الخيوط. وهذا بدوره يحدد أنواع وكتل الجزيئات الأساسية، وصفات القوى بينها. ولهذا ستكون لها ثوابت مختلفة من الفيزياء والقوانين التي تحكم القوى”.

“هذا يبدو مشكوك فيه تماماً”.

“كل من علم الكونيات التضخيم ونظرية الخيوط الفائقة تأمليان إلى حد كبير. في الواقع، قال الفيزيائي النظري ميشيو كاكو مؤخراً إنه ولا حتى “جزء من دليل تجريبي” قد اكتشف لتأكيد الخيوط الفائقة[20]. إن علماء الفيزياء على مسافة بعيدة من حتى عمل معادلات. والآن فهي مجرد نظرية مزاياها الوحيدة هي أنها رائعة رياضياً، وتحتوي على وعد توحيد ميكانيكيات الكم والنسبية العامة، وهما فرعان في الفيزياء ناضل علماء الفيزياء للتوفيق بينهما لما يزيد على خمسين عاماً”. لخصت كل ما قاله كولينز حتى الآن، وقلت: “ولهذا فإن مولد الأكوان المتعددة سيتطلب كل هذه العوامل إن كان يرجو أن يُنتج كوناً عملياً”.

فأجاب: “هذا صحيح، فمثلاً إن لم تعمل معادلة اينشتين مع مجال التضخم بانسجام، فلن تعمل. ولو خضع الكون لنظرية نيوتن في الجاذبية بدلاً من نظرية اينشتين، فلن يعمل. ولكن لي هذا هو كل شيء”.

“لا بد أيضاً أن تكون لديك القوانين الخلفية الصحيحة في مكانها. فمثلاً، بدون ما يسمى بمبدأ الكم، فإن كل الالكترونات في ذرة ستمتص في نواة ذرة. وهذا ما يجعل الذرات مستحيلة. والأهم من ذلك، كما قال فيزيائي برنستون اللامع فريمان دايسون إنه بدون مبدأ استثناء بول Pauli-exclusion prinicile، فسوف تشغل الالكترونات أكثر مدار انخفاضاً حول النواة، وهذا سيجعل الذرات المعقدة مستحيلة[21]. وأخيرً، فإنه لا يمكن أن تتكون النجوم أو الكواكب. وإن كان واحد فقط من هذه المكونات مفقوداً أو مختلفاً، فمن غير المحتمل بدرجة كبيرة إمكانية إنتاج أية أكوان تسمح بوجود حياة.

وأضاف: “وتذكر أنك ستكون بحاجة أن تضع تريليونات فوق تريليونات فوق تريليونات من الأكوان ليك تُزيد الشواذ التي سيخرجها الثابت الكوني مرة واحدة على الأقل، وطالما أنها معدلة لدرجة مذهلة. وهذا مجرد معيار واحد”.

“ما استنتاجك إذاً؟”

من غير المحتمل بدرجة كبيرة أن نظام مولداً للكون كهذا ستكون فيه المكونات والمقادير الصحيحة في مكانها بالصدفة العشوائية، تماماً كما أن الصدفة العشوائية لا يمكنها تفسير كيف تستطيع ماكينة الخبر إنتاج خبز جيد. ولهذا، إن كان نظام توليد أكوان متعددة موجوداً، فسوف يكون أفضل تفسير له هو وجود تصميم”.

فقلت: “وهذا معناه أنه عندما تروق للعلماء فكرة الوجود النظري لأكوان كثيرة لتجنب تضمينات تعديل كوننا، فهم لا يزالوا عاجزين علو الهروب من التصميم”.

“تماماً. فالمؤمنون ليس لديهم ما يخشونه من فكرة أنه ربما تكون هناك أكوان متعددة. ستكون هناك حاجة مستمرة لوجود مصمم ذكي كي يجعل العملية المولدة للكون تستمر في العمل. ولتعديل جملة من الفيلسوف فريد دريتسكي: فإن هذه أزمنة تضخمية، وثمن الإلحاد قد ارتفع”.

العقل الفائق

فكرت للحظات في تفسير كولينز. وبالتأكيد كان من المعقول أن الأكوان المتولدة سوف تستلزمن التقنيات الصحيحة، والمقادير الصحيحة، والدقة السليمة – وكلها علامات مميزة لوجود تصميم ذكي. لكني كنت لا أزال أتصارع ذهنياً مع شيء آخر. فبالنسبة لي، وأعترف أنني لست بفيزيائي، كانت فكرة الأكوان المتعددة بأكملها تبدو سخيفة.

وجدت نفسي متفقاً مع الناقد جرج ايستربورك – محرر مساعد في الأطلسي الشهري ِAtlantic Monthly، الذي بحث اكتشافات ونظرات العلم الحديث. كان حاداً بصفة مميزة في تقريره. فقد كتب: “إن فكرة الأكوان المتعددة تقوم على افتراضات تدعو للسخرية إن كانت قد جاءت من نص ديني. [فالنظرية] تتطلب تأجيلاً طويلاً من عدم الإيمان كأية ديانة. انضم للكنيسة التي تؤمن بوجود أشياء غير منظورة عرضها 50 بليون مجرة!”[22]

كما ذكرت تشككي أما كولينز، استمع باهتمام، وقال: “هناك سبب ما يجعلك تشعر هكذا. فمع تساوي كل شيء آخر، نميل لتفضيل الفرضيات التي هي استقراءات طبيعية لما نعرفه فعلاً”.

لم أدرك ما كان يقصده، فسألته: “هل يمكنك أن تقدم توضيحاً على ذلك؟”

فقال: “بكل تأكيد. لنفترض أنك عثرت على بعض عظام ديناصور. واعتبرتها بتلقائية دليلاً قوياً جداً أن الديناصورات قد عاشت في الماضي. لماذا؟ لأنه حتى إن كان لا أحد قد رأى ديناصورات، فلدينا خبرة عن حيوانات أخرى تركت ورائها بقايا متحجرة. وبهذا يكون تفسير الديناصور استقراء طبيعي من خبرتنا العامة. وهكذا يصير الأمر له معنى”.

“ومع ذلك، لنفترض أنه كان هناك متشكك من وجود الديناصورات. وكان يحاول تفسير وجود العظام التي عثرت عليها. ولنفترض أنه ادعى أنه استطاع تفسير وجود العظام باقتراح أن “مجال إنتاج عظام ديناصور” تسبب ببساطة في اخراج هذه العظام من الهواء المتباعد”.

“هذا أمر سخيف”.

“وهذا تماماً ما ستقوله للمتشكك. ستقول له: “مهلاً؛ ليست هناك قوانين معروفة في الفيزياء تسمح لهذا المجال بإنتاج عظام من العدم”. لكنه سيكون مستعداً للرد عليك. سيرد قائلاً: ” إننا لم نكتشف هذه القوانين بعد.  امنحنا المزيد من الوقت، يا لي Lee، ويقيني أننا سنتوصل إليها”.

“أخمن أن لا شيء يمكنه أن يمنعك عن استنتاج أن الديناصورات كان موجودة، لأن هذا سيكون استقراء طبيعياً مما تعرفه. ومن الناحية الأخرى، يحتاج المتشكك أن يخترع مجموعة كاملة جديدة من التقنيات التي ليست استقراء طبيعياً من أي شيء نعرفه أو اختبرناه. وأنت لن تقبل قصته. مستحيل”.

“تقصد إذاً أن مصمماً ذكياً هو استقراء طبيعي لما نعرفه حقاً”.

“نعم. فكر في الأمر، يا لي Lee، نحن نعلم أن العقول الذكية تنتج وسائل معدلة. انظر إلى مكوك الفضاء. انظر إلى جهاز تلفزيون. انظر إلى موتور احتراق داخلي. نحن نرى عقولاً تنتج أجهزة معقدة دقيقة طوال الوقت”.

“ولهذا فإن افتراض وجود عقل فائق – أو الله – كتفسير لتعديل الكون له معنى مقبول في العالم. وسوف يكون ببساطة استقراء طبيعياً لما نعرفه عما تستطيع العقول أن تفعله. والأهم، أنه على خلاف الفرضية القائلة بوجود أكوان كثيرة، لدينا دليل مستقل على وجود الله، كاختبار شخصي عن الخالق، والدليل الآخر الذي تتحدث عنه في كتابك”.

 

 

جمال الفيزياء

ارتشف كولينز آخر رشفة من الشاي في نفس الوقت الذي انتهيت فيه من شرب كوب الماء. وقال لي وهو يشير لي بأن أتبعه عبر البهو: “لنذهب لإحضار عبوات جديدة”.

كان المبنى هادئاً بصورة مخيفة كونه بلا طلاب أو كلية، وكانت أصواتنا تتردد صداها قليلاً بينما نزلنا الممر الفارغ. فقلت بينما وصلنا إلى مطبخ شخصي: “إن النهار جميل جداً بينما قضينا وقتاً طويلاً بالداخل”.

“نعم، إنه نهار مثالي للجري”.

ملأت كوبي بالماء بينما أعد هو مشروب الشاي. ساد الصمت للحظات، ثم قال كولينز: “إن الحديث عن الجمال يُذكرني باتجاه آخر من التفكير يشير إلى مصمم”.

“حقاً؟ أخبرني عنه”.

فأجاب ونحن عائدون إلى غرفة المؤتمرات: “فكر في الجمال الاستثنائي، والفخامة، والانسجام، والابداع الذي نجده في قوانين الطبيعة”.

“لقد كُتبت كتب كاملة عنه. كتب وينبيرج فصلاً كاملاً يشرح كيف أن معايير الجمال والفخامة استخدمت لإرشاد الفيزيائيين لصياغة القوانين الصحيحة.[23]قال الفيزيائي النظري آلان جوث إن البنية الأصلية لنظريات القياس في الفيزياء الجزيئية الأساسية “تحفزت أساساً بفخامتها الرياضية”[24].

“واحد من أكثر العلماء تأثيراً في القرن العشرين، بول ديراك، الحائز على جائزة نوبل من كامبردج نادى بأن: “أن يكون هناك جمال في معادلات شخص ما أهم من أن تناسب هذه المعادلات التجربة”[25]. وقال مؤرخ إن الجمال الرياضي كان جزءاً متكاملاً من استراتيجية ديراك. وقال إن ديراك كان يعتقد أن الفيزيائيين “كان عليهم أن يختاروا أولاً أجمل الرياضيات – ليست بالضرورة تلك المرتبطة بالأسس الموجودة لفيزياء النظرية – ثم يفسرونها بمصطلحات فيزيائية”[26].

هل ترى جمالاً في قوانين ومبادئ الطبيعة؟”

“نعم، بالتأكيد. إنها جميلة، وفخمة أيضاً في بساطتها. ومن المدهش أن يحدث هذا. عندما يحاول العلماء صياغة قانون جديد للطبيعة، يبحثون عن أبسط قانون يفسر البيانات بطريقة كافية”.

فقاطعته باعتراض: “أليس الجمال في عين الرائي؟ فما هو جميل يبدو أمراً ذاتي تماماً”.

“الذاتية لا يمكنها تفسير نجاح معيار الجمال في العلم. فلا يمكننا أن نتوقع ذاتية بحتة لتكون بمثابة أساس النظريات التي تقوم بتنبؤات عالية الدقة، كنجاح الديناميكا الكهربية الكمية في التنبؤ بالتصحيح الكمي لعامل g في الالكترون”.

“علاوة على ذلك، ليس كل الجمال ذاتياً؛ فهناك أيضاً ملامح موضوعية منه، على الأقل بالمعنى الكلاسيكي. في كتابه “تحليل الجمال The Analysis of Beauty” المكتوب في منتصف القرن الثامن عشر، قال وليم هوجراث إن الصفة المحددة للجمال أو للفخامة هي “البساطة مع التنوع”. وهذا ما وجده العلماء – عالم فيه البساطة الجوهرية تصل إلى تعقيد هائل المطلوبة للحياة”.

فطرحت بديلاً آخر قائلاً: ربما يكون مفهوم الجمال مجرد نتاج التطور. وربما تكون له قيمة باقية، ولهذا فإن إحساسنا بما هو جميل يكون قد تشكل بالاختيار الطبيعي”.

“هذا يمكن تطبيقه فقط على الأشياء التي يمكن أن نراها، أو نلمسها، أو نسمعها؛ الأشياء الموجودة في عالمنا اليومي والضرورية للبقاء. لكن التطور لا يمكنه تفسير الجمال الموجود في العالم المستتر للقوانين والرياضيات الفيزيائية”.

“في الفيزياء يمكننا أن نرى درجة ممتازة من التناغم، والتآلف، والتناسب. ونرى شيئاً أدعوه “إمكانية الاستكشاف”. وأقصد به أن قوانين الطبيعة يبدو أنها قد ترتبت بعناية لدرجة أنه يمكن اكتشافها من قبل كائنات لها نفس مستوى ذكائنا. وهذا لا يتفق فقط مع فكرة التصميم، لكنه يقترح أيضاً فكرة وجود قصد إلهي للبشرية حتى نتعلم عن مواطننا، وننمي العلم والتكنولوجيا”.

وقد ذكر كولنز أن ديفيز قد علق أيضاً على جمال الطبيعة في كتابه “القوة الفائقة Superforce”. وفيما بعد وجدت الفقرة:

أحد ردود الفعل الشائعة بين الفيزيائيين إزاء الاكتشافات الرائعة… هو مزيج من السرور تجاه رقة وفخامة الطبيعة، والاندهاش: “لم أفكر إطلاقاً في عملها بهذه الطريقة”. إن كانت الطبيعة “ماهرة” جداً حتى يمكنها استفلال التقنيات التي تدهشنا بإيداعها، أليس هذه دليلاً مقنعاً على وجود تصميم ذكي وراء العالم المادي؟ إن كانت أفضل عقول العالم يمكنها حل أسرار الطبيعة بصعوبة، فكيف يُفترض أن هذه الأسرار مجرد حادث غبي، نتاج صدفة بحتة؟ …… إن كشف قوانين الفيزياء يشبه تكملة [لغز] كلمات متقاطعة بعدة طرق…  ففي حالة الكلمات المتقاطعة، لن يحدث لنا أبداً أن نفترض بأن الكلمات قد سقطت فحسب في نموذج متداخل بالصدفة[27].

استطرد كولينز: “من وجهة نظر إلحادية، ليس هناك سبباً لتوقع أن القوانين الأساسية ستكون جميلة أو فخمة، لأنها بسهولة كان يمكن أن تكون غير ذلك. وحتى وينبيرج الملحد اعترف أنه “أحياناً ما تبدو الطبيعة أجمل من المطلوب”[28].

“ومع ذلك، فإن التعديل من أجل البساطة، والجمال، والفخامة يشكل معنى في فرضية الله. فكر في الإدراك الكلاسيكي عن الله؛ فهو الكائن الأعظم الممكن، ومن ثم فهو كيان يتمتع بحس مطلق من الجمال. ولن يكون من المدهش على الإطلاق بالنسبة لله أن يريد أن يخلق عالماً ذات جمال ورقة عظيمة في مستواه الأساسي”.

“كل النظريات الأخرى ناقصة”

عدنا إلى غرفة المؤتمرات، عالمين أننا على وشك الانتهاء. استند كولينز على الحائط، وكان كوب في يد، واليد الأخرى ممتدة عبر صدره، بينما جلست على طرف مقعد.

كانت نقطة الالتقاء بين الإيمان والفيزياء ملتقى رائع بالنسبة لي، وكنت مهتماً بمعرفة تأثير بحث كولينز على حياته الشخصية.

“ماذا أسهمت دراستك حول تعديل الكون لإيمانك؟”

فوضع كولينز كوب الشاي، وأجاب: “لقد شددته بالتأكيد. ومثل أي شخص آخر، اجتزت أوقاتاً عصيبة في الحياة، وكانت كل الدلائل العلمية على وجود الله مرساة مهمة بالنسبة لي”.

بدا في هذا أن العلم يحل محل الإيمان. فسألته: “أليس من المفروض أن يكون هذا هو دور الإيمان؟”

فأصر قائلاً: “إني أتكلم عن الإيمان. فالله لا يظهر عادة بطريقة فائقة للطبيعة في مكان ما، ويقول: “هاأنذا” لكنه يستخدم الوعاظ ليوصلوا للناس رسالة الفداء في المسيح. وأحياناً يستخدم وسائل طبيعية. تخبرنا رومية 1: 20 أن قوة الله السرمدية وطبيعته الإلهية يمكن رؤيتهما وفهمهما من خلال المصنوعات، ولهذا فالبشرية بلا عذر. إني أرى الفيزياء وكأنها تزيح الستار عن دليل بصمة الله في مستوى أكثر عمقاً مما كان يحلم به الأقدمون. لقد استخدم الفيزياء لتمكنني من رؤية حضوره وقدرته على الخلق. والسماء تعلن حقاً مجد الله، وهذا ما يلاحظه بمستوى أوضح متدرب الفيزياء بعيونه البشرية. وقد كان هذا تشجيعاً مذهلاً بالنسبة لي”.

“وبالطبع فإن التعديل في حد ذاته لا يمكنه ان يخبرنا ما إذا كان الله شخصياً أم لا. علينا أن نكتشف هذا بطرق أخرى. لكنه يساعدنا في استنتاج أنه موجود، وأنه خلق العالم، ومن ثم هناك قصد من وراء الكون. لقد خلقه بعناية فائقة وبدقة بالغة كموطن للحياة الذكية”.

“كيف تُقّيم إقناع الدليل الإنساني؟”

“إنه ليس حاسماً بنفس حسم الرياضيات بأن 2+2=4. ومع ذلك، فهو حجة تراكمية. فالتعديل الاستثنائي لقوانين وثوابت الطبيعة، وجمالها، وإمكانية اكتشافها، وذكائها، كل هذا يتحد معاً لجعل فرضية الله أكثر اختيار معقول لدينا. وكل النظريات الأخرى ناقصة”.

التقطت قصاصة صحفية من الطاولة، ثم قلت لكولينز: “نشرت صحيفة New York Times مؤخراً هذا الاقتباس الشهير للفيزيائي فريمان دايسون الذي بحث في دليل التعجيل وقال: “لا بد أن الكون بشكل ما قد علم أننا قادمين”. لكن المؤلف أضاف قائلاً: “هذه الفكرة ترعب بعض الفيزيائيين الذين يشعرون أن رسالتهم هي إيجاد تفسير رياضي للطبيعة لا يترك مجالاً للصدفة أو لهوى الخالق”. ومن الواضح أنك لا تنظر إلى مهمة الفيزياء هكذا، أليس كذلك؟”[29]

“كلا على الإطلاق. فهذا الاتجاه يعكس تحيزاً تناقضياً. وأنا لا أمانع العلماء وهم يحاولون إيجاد تفسيرات طبيعية، لكني لن أقول بأن مهمة الفيزياء هي تفسير كل شيء من الناحية الطبيعية. فمهمة الفيزياء هي تتبع تفسير طبيعي بقدر الإمكان، ولكن طالما أن الفيزياء يمكنها فقط تفسر مجموعة واحدة من القوانين باستدعاء مجموعة قوانين أكثر جوهرية، فلا يمكنها بنفسها أن تفسر القوانين الأكثر جوهرية. فتفسير هذه القوانين بمثابة انتقال الإنسان من الفيزياء [علم الطبيعة] إلى الميتافيزيقا [ما وراء الطبيعة]. ورغم أن الاستشهاد بفكرة الله ربما لا يكون جزءاً حاسماً من العلم، فإن العلم في جوهره هو تتبع الدليل وتضميناته حيثما تقودنا. ولا يجب أن نخشى من فرضية الله إذا كانت هي ما تناسبها الحقائق”.

لم يكن لوحده في منظوره هذا. فقد قال جنجريتش من جامعة هارفارد: أؤمن أن …. كتاب الطبيعة، بتفاصيله المذهلة – مسطحات عشبية، أو Conus cedonulli، أو رنين مستويات ذرة الكربون – يقترح وجود إله قصد وإله تصميم. وأعتقد بأن عقيدتي لا تجعلني بأقل من عالم”[30].

وآنذاك خطل سؤال أخير على ذهني، فقلت له: “بينما تتعمق أكثر فأكثر في الفيزياء، هل لديك شعور بالتعجب والرهبة لما تكتشفه؟”

فقال مبتسماً: “نعم، هذا صحيح. ليس فقط مع التعديل، بل أيضاً في مجالات كثيرة، مثل تقنيات الكم، وقدرة عقولنا على فهم العالم. فكلما نتعمق بحثاً، كلما نرى أن الله أكثر رقة، وأكثر ذكاءً، وأكثر إبداعاً مما كنا نعتقد. وأعتقد ان هذه هي الطريقة التي خلق بها الله الكون لنا – أن يكون مملوءً بالمفاجآت”.

ملك أم كتابة

أينما نظرت من حولي، كان استنتاج التصميم يبدو أنه لا يمكن الهروب منه. فإن كان كوننا هو الكون الوحيد في الوجود، وهذا استنتاج منطقي مبني على الدليل، فإن تعديله المتطور يعلن وجود مصمم. ومن الجانب الآخر، إن ثبتت صحة نظريات الفيزيائيين الغامضة، وصار كوننا واحداً من أكوان كثيرة، فإن الحاجة إلى تقنية مولدة لكون ستستلزم أيضاً وجود مصمم.

في كلا الحالتين يكسب الخالق.

لخصت فيرا كيستياكوفسكي – أستاذ فيزياء على المعاش في معهد ماساشوستس، والرئيس السابق لجمعية نساء العلم – تضمينات الدليل: “إن الترتيب الرائع الذي يعرضه فهمنا العلمي عن العالم المادي يدعو إلى السماويات”[31].

كان هذا الاستنتاج أيضاً هو الذي أزال إلحاد باتريك جلين. فقد قال إن الدليل الإنساني….

…. يقدم إشارة قوية في نفس قوة المنطق والعلم التي يمكنها إثبات وجود الله…. ومن المفارقة أن صورة الكون التي سُلمت لنا من خلال أكثر علوم القرن العشرين تقدماً قريبة في جوهرها من الرؤية المقدمة في سفر التكوين أكثر من أي شيء قدمه العلم منذ كوبرنيكوس[32].

حتى الآن، بعد لقائي مع كريج، وكولينز، كان الدليل يشير بوضوح إلى هذا الاتجاه. وفي الواقع، افتتن خيالي بتضمين مميز.

في “القضية…. المسيح” وصفت الدليل التاريخي لمعجزات يسوع الناصري، وخاصة قيامته من الأموات. فالقدرة على التدخل بطريقة فائقة للطبيعة في أمور العالم العادية، وذلك لإرجاء العمل الطبيعي للكون هو إثبات قوي حقاً على أنه ابن الله.

ومع ذلك، فيما سمعت عن التعديل بالغ الدقة لقوانين الطبيعة، أدرك الآن أن عمل الكون اليومي، في حد ذاته، نوع من المعجزة المستمرة. فـ “التزامنات” التي تسمح للخواص الأساسية للمادة أن تقدم بيئة صالحة للسكنى غير محتملة لدرجة بعيدة، وصعبة التصديق جداً، ومدارة ببراعة بالغة حتى إنها تحتاج إلى تفسير سماوي.

وبكلمات أخرى، فإن الإلغاء السريع لقوانين الطبيعة بطريقة فجائية، ومرئية، ومباشرة – وهو ما نسميه عادة “معجزة” – يشير بوضوح نحو إله كلي القدرة. ومع ذلك، حتى لو أن الله لا يتدخل بطريقة فائقة للطبيعة، فإن تعديل الفيزياء الذي يصعب تفسيره، الذي يعمل يوماً بعد يوم منذ بداية الخليقة، يبدو أنه يؤكد أيضاً كلمة “إعجازي”.

والمعجزات هي دائرة اختصاص الله.

كنت أتأمل في هذا التفكير بينما خرجت مع كولينز من المبنى، وتنفسنا الصعداء من هواء الخريف المنعش، واستمتعنا بأشعة الشمس. عندما رفعت عيني، رأيت الشمس المشرقة على جانب واحد من السماء الزرقاء، والقمر الباهت على الجانب الآخر. وتحول تفكيري من عالم الفيزياء النظري إلى الكواكب والأقمار والنجوم والمجرات التي تملأ الكون.

تساءلت عن أدلة التعديل الأخرى التي ربما تكون في الكون؟ هل يمكن أن يخبرنا وجودنا على صخرة داعمة للحياة على ضواحي مجرة الطريق اللبني شيئاً عن الخالق الذي اقترحه حتى الآن بقدر كبير علم الكونيات وعلم الفيزياء؟

وقد اتخذت قراري وأنا في طريق خروجي من المبنى: حان الوقت لمشاورة أحد الفلكيين عما يمكن أن نتعلمه من غموض وعظمة السماوات.

 

[1] Roger Penrose. The Emperors New Mind (New York: Oxford, 1989), 344, quoted in Stephen C. Meyer, “Evidence for Design in Physics and Biology” in Michael J. Behe, William A. Dembski, and Stephen C. Meyer, editors, Science and Evidence for Design in the Universe, 61.

[2] Brad Lemley,”Why Is There Life?” Discover (November 2002) imphasis added.

[3] Ibid. Also see Martin Rees, Just six Nnmbers: The Deep Forces That Shape the universe.

[4] Quoted in Larry Witham, By Design (San Francisce: Encounter, 2003), 55.

[5] Bill Bryson, A Short History of Nearly Everything, 16.

[6] Brad Lemley, “Why Is There Life?”

[7] Ibid.

[8] Clifford Longley, “Focusing on Theism,” London Times (January 21, 1989).

[9] Steven Weinberg, “A Designer Universe?”

[10] Michael J, Behe, William A. Dembske, and Stephen C. Meyer, Science and Evidence for Design in the Universe, 104, Referencing Clifford Longley, “Focusing on Theism”.

[11] Paul Davies offers this definition of metaphysics: “In Greek Philosophy, the term <metaphysics> originally meant <that which comes after physic. It refers to the fact that Aristotle’s metaphysics was found, unfilled, placed after hid treatise on physics. But metaphysics soon came to mean those topics that lie beyond physics (we would today say beyond science) and yet may have a bearing on the nature of scientific inquiry.

So metaphysics means the study of topics about physics (or science generally), as opposed to the scientific subject itself. Traditional metaphysical problems have included the origin, nature, and purpose of the universe, how the world of appearances presented to our senses relates to its underlying <reality> and order, the relationship between mind and matter, and the existence of free will. Clearly Science is deeply involved in such issues but empirical  science alone may not be able to answer them, or any <meaning – of – Life> questions.” (Paul Davies, The Mind of God, 31).

[12] Lee Strobel, The Case for Faith, 78, 79.

[13] John Polkinghorne, Serous Talk: Science and Religion in Dialogye (London: Trinity Press International, 1995), 6.

[14]John Polkinghorne, Science and Theology (Minneapolis: Fortress Press, 1998), 38.

[15] Paul Davies, The Mind of God, 220.

[16] Clifford Longley, “Focusing on Theism.”

[17]Brad Lemley, “Why Is There Life?” In a subsequent interview, Rees said it’s helpful for physicists to contemplate the possibility of other universes He added: “I don’t believe, but I think it’s part of science to find out.” See Dennis Overbye, “A New View of Our Universe: Only One of Many,” New Yord Times (October 29, 2002).

[18] Ibid.

[19] According to The Bread Factory Book, produced by Sanyo: “Bread flour made from Hard wheat is high in the Protein substance called gluten. When Mixed and Kneaded, the gluten stretches and incorporates air bubbles to produce a light, fine textured loaf.” In making whole – wheat bread, up to four tablespoons of gluten needs to be added to increase the Height of the loaves.

[20] Michio Kaku, Introduction to Superstrings and M-Theory (New York: Springer Verlag, Second edition, 1999), 17.

[21] Freeman Dyson, Disturbing the Universe (New York: Harper and Row, 1979), 251.

[22] Gregg Easterbrook, “The New Convergence,” Wired (December 2002) emphases added.

[23] See: “Chapter Six: Beautiful Theories,” in steven Weinberg, Dreams of a Final Theory (New York, Vintage Books, 1992).

[24] Alan Guth, The Inflationary Universe (New York: Helix, 1997), 124.

[25] Paul Dirac, “The Evolution of the Physicist Picture of Nature,” Scientific American (May 1963).

[26] Oliver Darrigol, From c-Numbers to q-Numbers: The Classical Analogy in The History of Quantum Theory (Los Angeles: University of California Press 1992), 304.

[27] Paul Davies, Superforce: The Search for a Grand Unified Theory of Nature (New York: Simon and Schuster, 1984), 235-36.

[28] Steven Weinberg, Dreams of a Final Theory, 250.

[29]Dennis Overbye, “A New View of Our Universe: Only one of Many”.

[30] Owen Gingerch, “Dare A Scientist Believe in Design?” in John M. Templeton, Editor, Evidence of Purpose (New York: Continuum, 1994), 32.

[31] Vera Kistiakowsky, “The Exquisite Order of the Physical World Calls for the Divine,” in Henry Margenau and Roy Abraham Varghese, Cosmos, Bios, Theos (Chicago: Open Court, 1992), 52.

[32] Patrick Glynn, God: The Evidence, 55, 56.

برهان الفيزياء: الكون في خطر جـ2 – لي ستروبل