آبائياتأبحاث

الفداء وموت الموت – أمجد بشارة

الفداء وموت الموت - أمجد بشارة

الفداء وموت الموت – أمجد بشارة

الفداء وموت الموت - أمجد بشارة
الفداء وموت الموت – أمجد بشارة

الفداء وموت الموت – أمجد بشارة

لقد صار الكلمة جسدًا وسكن بيننا لغرض واحد فقط، هو أن يعاني موت الجسد وبه ينتصر على الرئاسات والسلاطين ولكي يبيد ذاك الذي كان له سلطان الموت، أي إبليس، ثم لكي يرفع الفساد، ويقتنص معه أيضاً الخطية التي طالما اذلتنا، ويُبطل مفعول اللعنة القديمة التي قاست منها الطبيعة الإنسانية في آدم – باكورة جنسنا والجذع الأول لشجرة البشرية.

القديس كيرلس السكندري[1]

ليس الفداء عملية صدٍ للغضب الإلهي برؤية دم الابن يسفك عن الخطاة، أو ترضية عدالة الله لتتلاقي مع رحمته كمتخاصمين متضادين.. فليس الفداء هو أيٌ من هذه المعاني المشوهة، إنما أساس فهم الفداء هو موت المسيح الخلاصي وقيامته التي بها أمات الموت وأخذنا عربون القيامة والبنوة لله في المسيح ونلنا موعد الروح القدس الذي يسكن فينا ولا يفارقنا فيما بعد.

يقول الأب جون مايندروف: الفداء هو اجتماعُ الكل وضم الكل تحت رأسٍ واحدٍ أي recapitulation لكل ما هو في المسيح المُقام. هذا يلخص عموم الروحانية والنسك المسيحي الشرقي …

الفداء للطبيعة البشرية هو _ أساسًا_ أن شخصًا ذي طبيعة غير خاطئة أخذ بحرية الطبيعة البشرية في حالتها الفاسدة وبالاتحاد بها وبالقيامة أعاد لها علاقتها بالله. في المسيح اشترك الإنسان مرة أُخري في الحياة الأبدية المُعَدَّة له عند الله. لقد تحرر من عبودية الشيطان المفروضة بالموت. وكما فهم الآباء الشرقيون الفساد كمرض في الإنسان بإرادته هو، وليس كعقوبة مفروضة من العدالة الإلهية، كذلك فهموا أن الموت والقيامة في المسيح المتجسد هي:

مشاركة وتتميم للمصير المشترك (للإنسان والمسيح كبشري مثلنا) ثم خليقة جديدة، لم يكن من الممكن تحقيقها إلا بعد أن أصبحت طبيعة المسيح البشرية من نصيبنا نحن في الموت ذاته. ولهذا كتب أثناسيوس الرسولي: جسد المسيح كان من نفس طبيعة البشر كلهم… وقد مات بحسب مصير رفقائه… موت الجميع كان يتحقق في جسد الرب، وفي الوقت ذاته، قضي الكلمة الحال في الجسد على الموت والفساد[2].

ويقول اللاهوتي توماس تورانس: كشف تجسد الكلمة في داخل الوجود العرضي[3] أن المخلوقات البشرية قد أصبحت مصابه بفساد أخر ضارب في العمق، أكثر من الفساد الطبيعي الناتج عن طبيعتهم العرضية (الاعتمادية)، وهذا الفساد الأعمق يؤدي بهم إلى الفناء التام[4]. ولم يكن هذا الفساد الإضافي الذي أصاب البشر هو ذلك الفساد الطبيعي الذي في جميع الكائنات التي لها بداية ونهاية محددتان – بسبب قابليتها للموت – ولكنه هو فساد الشر والذي كان هناك حكم إلهي ضده، وهذا الفساد لا يُمكن التغلب عليه إلا من خلال العمل الفدائي والكفاري لله نفسه[5]. ويكمل قائلًا: وكانت عملية استعادة وتجديد الخليقة هي السبب وراء تجسد كلمة الله وابنه الأزلي، الذي بأخذه طبيعتنا الضعيفة العرضية الاعتمادية لنفسه – وهو الأصل والمصدر الواحد لكل الكائنات المخلوقة – فإنه نقل أصلنا إلى ذاته ليحفظ وجودنا من الفناء والعدم، وفي نفس الوقت أخذ لنفسه طبيعتنا المنحرفة والفاسدة بما في ذلك لعنة الخطية، حتى يفدينا (من الموت) ويجدد كياننا في ذاته (مُخلصنا من الفساد)[6].

فالفكر اللاهوتي المسيحي أدرك ان الكيان العرضي (غير الثابت) للخليقة قد فسد نتيجة اتجاه الخليقة نحو تدمير وجودها بالخطية، وهو ما كان لابد من التغلب عليه من أجل إنقاذ الخليقة وتوجيهها ثانية نحو الهدف الذي قد صورها خالقها لأجله. وبنقل وجودنا (الاعتمادي – العرضي) إلى ذاته – وهو الذي اتحد فيه بغير انفصال; الإلهي مع البشري، غير المخلوق مع المخلوق – فقد حفظ يسوع المسيح الابن المتجسد أصل وغاية وجودنا في كيانه الذاتي الأزلي[7].

وبالنسبة للموت ففي التعليم المسيحي الشيطان يسيطر بشكل طفيلي على الخليقة والإنسان بواسطة الموت (رومية 8: 20 – 22، عبرانيين 2: 14)، إذ أن أبناء الله ظلوا طوال حياتهم في العبودية مخافة الموت (عبرانيين 2: 15)، لأن حكم الشيطان يكمن في حقيقة الموت المادية. ولكن إبادته تتحقق بإقامة الجسد[8]. وهذا ما فعله المسيح إذ أباد بالموتِ الموتَ فأفقد الشيطان أهم أسلحته التي طالما قيد وحارب بها البشريةَ.

ويشرح موتَ الموتِ القديس غريغوريوس النيسي قائلاً: إذًاً طالما أنه لا يوجد شرّ في طبيعة ذاك الذي لم “يعمل ظلماً” كما يقول النبي: “ولم يكن في فمه غش“[9]، فقد أُبيدت فيه الخطية ونتائجها أي الموت (لأن الموت لا يأتي من أيشيء آخر سوى الخطية). لقد كانت البداية في تلاشي الشرّ وانحلال الموت، هي من المسيح، وبعد ذلك فأن ما حدث قد استوجب نظامًا مُعينًا وفقًا لتتابع محدد. هذا يعنى أن علاقة المرء بالصلاح، سواء وُجد على مسافة بعيدةٍ أو قريبةٍ من الأول (أي آدم الأول)، هي علاقة مرتبطة بالكائن الذي كان (أي الكلمة) من حيث القدرة والقوة التي له. حتى تكون حياة الإنسان فيما بعد بحسب المسيح، هذا الذي صار” باكورة طبيعتنا“[10]، بعدما اتحد ناسوته بلاهوته وصار “باكورة الراقدين“[11]، و”بكر من الأموات“[12]، الذي ” نقض أوجاع الموت“[13]، وبعد ذلك فإنه من جهة إنسانيته التي هي بلا خطية تمامًا، فهو الذي ” أباد سلطان الموت“[14] و” أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة“[15]، ولو أن هناك شخصًا – بحسب كلام الرسول بولس – اقتفى آثار المسيح على قدر ما يستطيع، من جهة بُعده عن الشر، فإن هذا الإنسان سيلحق بالباكورة (المسيح) في مجيء المسيح[16].

أيضًا يؤكد القديس كيرلس الإسكندري على إبطال الموت بواسطة الابن قائلاً: عندما سقط الإنسان بعصيانه واستُعبِد لقوة الموت وفقد كرامته القديمة، أعاده الآب وجدَّده إلى الحياة الجديدة بالابن كما كان في البدءِ. وكيف جدَّده الابن؟ بموته بالجسد ذبح الموت وأعاد الجنس البشرى إلى عدم الفساد عندما قام من الموت لأجلنا[17].

ويشرح بأكثر وضوح ايضاً قائلاً: لأن جميع الناس على الأرض بسبب انهم قد سقطوا في فخ الخطية (رومية 3: 12)، قد جعلوا أنفسهم تحت اتهام إبليس، وكانوا يعيشون حياة كريهة وبائسه. والصك يحوي كتاب ضدنا – أي اللعنة – التي بواسطة الناموس تقع على المتعدين والحكم الذي يسري على كل الذين اخطأوا ضد أوامر الناموس القديم، مثل لعنة آدم، التي سرت ضد كل جنس البشر، إذ أن الجميع كسروا وصايا الله. فإن غضب الله لم يتوقف بعد سقوط آدم، بل إن الذين أتوا بعده اغضبوا الله أيضاً بإهاناتهم لأمر الخالق، وأمتد اتهام الناموس ضد المتعدين باستمرار على الجميع. إذاً، فنحن كنا ملعونين ومُدانين، بحكم الله، بسبب تعدي آدم[18]، وبسبب كسر الناموس الذي وُضِعَ بعد آدم، ولكن المُخلص محا الصك الذي كان ضدًا، بأن سّمره في صليبه، وهو ما يُشير بوضوح تام إلى الموت على الصليب الذي تحمله لأجل خلاص البشر الذين تحت الدينونة[19] .

وكما أنه هناك في الحالة الأولى ـ حالة الخطية والسقوط ـ فإن الإنسان القديم قد لبس إنسان الفساد بكُلِيَتَه، أي لبس ثوب مملكة الظلمة، ورداء التجديف وعدم الإيمان، وعدم المبالاة والمجد الباطل والكبرياء والجشع والشهوة، وكل الفخاخ الأخرى الوسخة غير الطاهرة البغيضة التي لمملكة الظلمة، هكذا يحدث الآن، فإن كل الذين خلعوا الإنسان العتيق، الذى هو من تحت – من الأرض – كل الذين خلع عنهم يسوع رداء مملكة الظلمة – قد لبسوا الإنسان الجديد السماوي – أي يسوع المسيح – بكل عضو مقابل (العتيق): عيون مقابل عيون، آذان مقابل آذان، رأس مقابل رأس، ليكون الإنسان كله نقيًا بارتدائه الصورة السماوية.

القديس مقاريوس الكبير[20]

[1]من تفسيره لرسالة روميةP.G 74 , 781 D . دراسات في آباء الكنيسة للراهب باسيليوس المقاري ص 611

[2]الأب جون مايندروف. Christ in the eastern Christian thought p . 118, العدالة الإلهية حياة لاموت مغفرة لا عقوبة. د/ هاني مينا ميخائيل، مراجعة نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف. ص 120

[3]الذي تعتمد فيه الكائنات على الله خالقها لأنها من العدم وبطبيعتها قابله للعودة للعدم

[4]Athanasius , de inc ., 4ff

[5]الايمان بالثالوث، الفكر اللاهوتي والكتابي للكنيسة الجامعة في القرون الأولي. توماس ف.تورانس. ترجمة د/ عماد موريس اسكندر، مراجعة د/ جوزيف موريس فلتس، إصدار دار بناريون للنشر، ص 146 . Athanasius , de inc ., 3-10

[6]المرجع السابق. ص 147

[7]المرجع السابق. ص 147

[8]لاهوت الكنيسة عند القديس اغناطيوس الأنطاكي. للأب جون رومانيدس استاذ العقائد المسيحية في جامعة سالونيك اللاهوتية، ترجمة الأب ميشال نجم.إصدار مكتبة السائح بلبنان. ص 12

[9] إشعياء 9:53.

[10] 1كورنثوس 23:15.

[11] 1كورنثوس 20:15.

[12] كولوسي 18:1.

[13] أعمال 24:2.

[14] عبرانيين 14:2.

[15] 1كورنثوس 24:15.

[16]خضوع الابن للآب شرح المعني الصحيح للآية. مترجمة عن آباء الكنيسة إلىونانيين (ETTE) تسالونيكي 1973 ص 68 : 107 ترجمة وإصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية.ص 17 , 18

[17]قيامة المسيح، للقديس كيرلس عمود الدين، تفسير يوحنا20، ترجمة د. نصحى عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، القاهرة 2003، ص27.

[18]حكم الله على تعدي آدم هو الموت، والقديس كيرلس يقصد هنا اننا كان محكوماً علىنا مرتين مره بسبب حكم الموت الذي صدر ضد آدم و مرة أُخري بسبب تعدياتنا الشخصية وخطايانا التي تنتج موتاً.

[19]شرح إنجيل يوحنا، ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد، د/ جوزيف موريس، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ج2 ص 470 

[20]عظات القديس مقاريوس 2: 4

الفداء وموت الموت – أمجد بشارة