آبائياتأبحاث

دخول الموت إلى العالم وأثره – أمجد بشارة

دخول الموت إلى العالم وأثره – أمجد بشارة

دخول الموت إلى العالم وأثره - أمجد بشارة
دخول الموت إلى العالم وأثره – أمجد بشارة

دخول الموت إلى العالم وأثره – أمجد بشارة

إقرأ أيضًا للكاتب أمجد بشارة

بسبب الموت الطاغي أصبح الإنسان غير قادر على العيش وفق مصيره الأصلي في المحبة اللا أنانية. فهو يملك الآن غريزة حفظ الذات التي أصبحت متجذرة فيه منذ ولادته. وبما انه يعيش باستمرار خائفًا من الموت، فهو يسعي على الدوام نحو الأمان النفسي والجسدي فيصبح ميالاً الى أناه ونفعيًا في مواقفه. الخطيئة هي فشل الإنسان في العيش وفقًا لمصيره في الحب اللا أناني الذي لا يبتغي ذاته. وهذا الفشل متجذر في مرض الموت. وبما أن الموت بيد الشيطان الذي هو سبب الموت، فإن القضاء على مملكة الشر والفساد يكون بإزالة الموت.

الأب جون رومانيدس اللاهوتي الأرثوذكسي[1]

 

يجب أن نؤكد أيضًا لنفهم أن آدم أخطأ فمات. نحن نولد مائتين إذًا نحن عرضة للخطية. الله لا يحكم علينا بالموت الآن لأننا شركاءٌ في ذنبِ آدم وخطيئته الأولي أو الأصلية كما يفهمها لاهوتيو العصور الوسطى. بل لأننا نرث طبيعة خاطئة…
الله سمح بالموت كعمل رحمه حتى لا يكون الإنسان خالدًا في الخطية. كما يقول د/ عدنان طرابلسي[2]. ويكمل أيضًا قائلاً: عندما قال بولس (لأن أجرة الخطية هي موت .. رومية 6: 23 ) فإنه لا يعني أن الله يُجازي أعمال الإنسان بالموت، بل أن الخطية هي مرضنا القاتل. خطية آدم كانت إعلان بأنه ذاتي الاكتفاء… ويفصل نفسه عن الله الذي له وحده عدم الموت (1 تيموثاوس 6: 16) والمصدر الوحيد للحياة، أضاع آدم الروح القدس، الحياة الحقة[3].

وهذا يتفق تمامًا مع ما تسلمته الكنيسة من تعاليم الآباء، فيقول مار فليكسينوس: منذ التعدي الأول للوصية ساد الموت، وامتزج الموت مع الشهوة بالطبيعة، وصار كل من يدخل العالم بالزواج، من الطبيعي أن يولد مائتًا، وأن يكون خاضعًا للموت حتمًا، سواء أخطأ أو لا، وسواء أخطأ قليلاً أم كثيرًا، لأن الموت صار ممزوجًا بالطبيعة[4].

ويقول القديس كيرلس عمود الدين: الحكم من واحد للدينونة، أي للموت. وهكذا الذين لم يشتركوا في خطية آدم سرى إليهم الموت بسبب وحدة الطبيعة الإنسانية التي خُلقت مثل شجرة وأُصيب جذرها بالموت، فسري الموت للأغصان. وهكذا أخطأ الجميع لأنهم أخطأوا عندما أخطأ آدم، لأنه عندما أخطأ آدم لم يكونوا هؤلاء موجودين. ولكن، لأن الجميع من الطبيعة التي سقطت تحت سلطان الناموس والموت، قيل إن الجميع اخطأوا لأننا جميعًا تركنا الله عندما تركه آدم[5].

ويُضيف القديس مقاريوس إضافة في غاية الأهمية إذ يقول: ولكننا مع ذلك لا نقول إن كل شيء قد ضاع وتلاشى ومات.. بل أنه ماتعن الله، ولكنه ظل حيًا بالنسبة إلى طبيعته.. فها عالم البشر كله كما نراه، يسعى في الأرض، يشتغل ويعمل.. ولكن الله ينظر إلى أفكارهم وتصوراتهم فيصرف النظر عنهم وليس له شركة معهم، لأنهم لا يفكرون فيما يرضي الله، وكما أن الأتقياء إذا مروا أمام البيوت ذات السمعة القبيحة، والأماكن التي ترتكب فيها الفحشاء والفسق، فإنهم ينفرون منها ويرفضون مجرد النظر ناحيتها ـ لأن هذه الأمور هي موت في نظرهم ـ هكذا فإن الله يغض النظر عن أولئك الذين تمردوا على كلمته وعصوا وصيته فتعبر عيناه على هم ولكنه لا يكون في شركة معهم.. ولا يستطيع الرب أن يجد راحة في داخل أفكارهم[6]..

بعد أن خُدع الإنسان الأول بواسطة الحية، ونال مشورة الخطية، وبالخطية واجه الموت، وبالموت البؤس، لم ينسه الله. لم ينسانا صلاح الله بالرغم من جفافنا نحو حنو الله، ومقاومتنا صانع الخيرات بعنفٍ. مع هذا لن نقدر أن نطمس حبه لنا، فإننا قد قمنا من الموت، وصرنا أحياء بربنا يسوع المسيح نفسه….

هذا ولم يكفِه أن يدعونا إلى الحياة من جديد، بل يعدَّنا للراحة الأبدية، التي في عظمة فرحها تفوق كل فكر بشري.

القديس باسيليوس الكبير[7]

تشوه الصورة الإلهية واحتياج البشرية للفداء

احتاجت البشرية إلى ترياق ضد الموت (أغناطيوس الانطاكي). طبيعتنا المريضة احتاجت إلى شافٍ؛ إنساننا الساقط احتاج إلى من يقومه؛ من فقد نعمة الحياة احتاج إلى مانح الحياة (غريغوريوس النيصي)؛ ترياق هذه الحالة هو ناسوت الله (غريغوريوس النيزنزي)، خميرة وتخمر استنارتنا وتقديسنا: التجسد؛ إن جسد الكلمة المتجسد ودمه هما الترياق ضد الموت، دواء عدم الموت (أغناطيوس الأنطاكي)[8].

خلقنا الله على صورته في القداسة وحرية الإرادة والسيادة على الأرض كآلهة، وجعل كل الخليقة خاضعة لنا، يقول العلامة أوريجانوس: لاحظ كيف يوجد في خلق الإنسان أمر سامٍ جدًا لا نجده في خلق آخر، فخلق الله الإنسان على صورته ومثاله، الأمر الذي لا نجده في خلق السماء أو الأرض أو الشمس أو القمر… الذي صُنع على صورة الله هو إنساننا الداخلي غير المنظور، غير الجسدي، غير المائت ولا الفاني. بهذه السمات الحقيقية تتصف صورة الله وبها تُعرف[9]. ويقول القديس غريغوريوس النيصي: حيث إن إحدى الأمور الصالحة التي تخص الطبيعة الإلهية هي “الأبدية”، كان لابد ألاَّ تفتقر طبيعتنا إلى هذه الخاصية، بل تتسم بعنصر الخلود، حتى يستطيع (الإنسان) خلال قدرته الطبيعية أن يُدرك ما لا يُدرك، وأن يتوق إلى الأبدية الإلهية.

حقًا لقد أوضحت قصة الخليقة ذلك بتعبيرٍ واضحٍ مفهومٍ، باستخدام عبارةٍ واحدةٍ، إذ قيل إن الإنسان خُلق “على صورة الله ومثاله”… يوجد فردوس ثماره فريدة، لم تُشبع شهية من ذاقوها، بل تقدم لهم معرفة وحياة أبدية. هذا يتفق تمامًا مع ما سبق ملاحظته بخصوص الإنسان، وهو أن طبيعتنا البشرية كانت صالحة منذ البدء ومحاطة بالصلاح[10].

ويُكمل أيضًا في موضع آخر: هذا الإله (الصالح) ما كان يحرم الإنسان من أنبل الأمور الصالحة وأثمنها، أعني هبة الحرية والقدرة على اتخاذ القرارات بنفسه. فلو إن الضرورة هي التي تحكم حياة الإنسان، لكانت “الصورة” (التي له كصورة الله) زائفة، لأنها تكون بذلك بعيدة كل البعد عن الأصل، ولا وجه للشبه بينهما. كيف يمكن للطبيعة المُستعبدة لأي نوع من الضرورة أن تُسمَّى صورة الطبيعة الملوكية؟ … الله ليس مسئولاً عن الشرور الحاضرة، فقد أسس طبيعتك لتكون حرة غير مُستعبدة، إنما تقع المسئولية على الإرادة المنحرفة التي بها يختار الإنسان ما هو رديء عوضًا عما هو أفضل[11].

وبسقوطنا من نعمته لم نفقد كل هذا بشكل كامل كما لو أنه تلاشي في داخلنا، بل تشوهت صورتنا ومفاهيمنا لكل من هذه الأشياء: القداسة، الإرادة، الحرية، السيادة والسلطان. فأصبحت القداسة مستحيلة بدون سكنى الروح القدس داخلنا، والحرية أصبحت: أن تحيا بلا أي حدود أو خضوع، فتحولت لانفلات، والإرادة أصبحت مُقيدة بخطايا وعادات وتقاليد، والسيادة أصبحت هي بذاتها الاستبداد والديكتاتورية.

وقد أتى المسيح ليُعيد صورة الله فينا، أولاً بأن جعل طبيعتنا قابلة لسكنى الروح الإلهي بعد أنْ قدّسها باتحاده بها فأخذنا إمكانية حياة القداسة مره أُخري، وثانيًا أرانا معنى السيادة وهو في البذل والرعاية لا في التسلط، وأخيرًا أعطانا الحرية والعتق من حرف الناموس ومن تسلط الخطية بسلطانها الكامن في الموت.

يقول الأب دوروثيئوس: تجسد الرب يسوع المسيح ليعيد الإنسان إلى صورته الأولى. ولكن كيف نرجع إلى تلك الصورة الأولى؟ حين نتعلم من الرسول القائل: “لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح” (٢كورنثوس ٧: ١). لنتطهر، فيظهر الشبه (بالله) الذي نلناه. لنعزل عنه دنس الخطية، فيظهر بكل جماله خلال الفضيلة. يقول داود في صلاته من أجل هذا الجمال: “أعطيت جمالي قوة” (مزمور ٢٩: ٨). إذن فلنطهر أنفسنا لنعود إلى التشبه بالله، الأمر الذي أقامه فينا[12].

ويقول القديس كيرلس السكندري: لأنه في البداية خُلقَ الكائن الحي الذي صنعه الله وكرمه بطريقة ما عندما خلقه بيديه كما يقول الكتاب. وعندما جاء إلى الوجود، صار على صورة الله حيث أنه قبل في داخله نفخة الحياة. لكنه عندما رفض هذه العطية وانعطف نحو الشر، فإنه عاد مرة اخرى إلى وضعه القديم. وعندما جدد المسيح تلك الصورة التي فسدت، جاعلاً إياها إلهية وروحية استخدم نفس الطريقة الأولى لأنه نفخ في وجوه تلاميذه القديسين قائلاً (أقبلوا الروح القدس)[13].

[1]لاهوت الكنيسة عند القديس اغناطيوس الأنطاكي. للأب جون رومانيدس استاذ العقائد المسيحية في جامعة سالونيك اللاهوتية، ترجمة الأب ميشال نجم. إصدار مكتبة السائح بلبنان. ص 9. راجع رسائل أغناطيوس الأنطاكي إلىأفسس فقره 19

[2] د/ عدنان أديب طرابلسي ومجموعه من العلماء واللاهوتيين الأرثوذكس. سألتني فأجبتك الجزء الاول. ص 285

[3]سألتني فأجبتك ج1 ص 543

[4]مار فيلكسينوس أسقف منبج. الرسائل العقائدية الجزء الاول. ترجمة الراهب روجيه يوسف أخرس دير مار افرام السرياني. عن الرسالة إلى دير تلعدا محقق عن عدة مخطوطات فقره 27. ص 107

[5]القديس كيرلس السكندري، تعليقًا على رومية 5: 18. مترجم عن P.G . vol 74 , p. 788 , 789  .ترجمة د / جورج حبيب بباوي. الخلاص كما شرحه القديس كيرلس السكندري، ص 16

[6]عظات القديس مقاريوس 12: 2 

[7]. Regulae fusius tractatae 2: 3. الحب الالهي. للاب تادرس يعقوب. ص 177

[8]د/ عادل أديب طرابلسي ومجموعه من العلماء واللاهوتيين الأرثوذكس. سألتني فأجبتك الجزء الاول. ص 285

[9] In Gen. hom 1: 13.

[10] Oratione Cat. 5 ترجمة الدكتورة نورا العجمي

[11] Oratione Cat. 5.

[12] Com. on an Easter Hymn. . الاب دوروثيئوس أسقف غزه. عن كتاب الحب الالهي للاب تادرس يعقوب مالطي 

[13]القديس كيرلس السكندري. حوار حول الثالوث. ترجمة د / جوزيف موريس فلتس.  ج 6 ح 7 ص 20، 21

دخول الموت إلى العالم وأثره – أمجد بشارة