أبحاثإلحاد

إله الإعلان الكتابي – إله الكتاب المقدس – كوستي بندلي

إله الإعلان الكتابي – إله الكتاب المقدس – كوستي بندلي

إله الإعلان الكتابي - إله الكتاب المقدس - كوستي بندلي
إله الإعلان الكتابي – إله الكتاب المقدس – كوستي بندلي

إله الإعلان الكتابي – إله الكتاب المقدس – كوستي بندلي

في مسرحية الذباب أشار سارتر إلى الألوهة باسم “جوبيتر” وهذا ليس عبثاً، لأن اسم جوبيتر مرتبط بأسطورة بروميتيوس، ذلك الكائن الذي اختلس ناراً من السماء ليوجد منها البشر، فغضب عليه جوبيتر وأنزل به عقاباً أبدياً. تلك الأسطورة تصور العلاقة بين الألوهة والبشر علاقة عداء في الأساس حتى أن وجود الإنسان نتيجة اختلاس للقوة الإلهية. وكأن الإنسان لا يوجد إلا ضد الله. هذا هو بالضبط موقف سارتر. فقد كتب في “الكائن والعدم” إن المخلوق “لا يمكن أن يؤكد ذاته إلا ضد خالقه”.

1 – الله محبة

ولكن جوبيتر الذي نسب إليه الأقدمون – وسارتر من بعدهم – صفات التملك والحسد الكائنة في البشر ليس إله الإعلان الكتابي. إله الكتاب – وقد تجلى لنا تماماً في يسوع المسيح القائل “من رآني فقد رآى الآب” (يوحنا 14: 9) – ليس عنده تسلط وتملك. ذلك لأنه عطاء كله. لقد قال عن نفسه في العهد القديم: “أنا ينبوع الماء الحي”. وهتفت المزامير: “كما يشتاق الأيل إلى ينابيع الماء الحي، هكذا تشتاق نفسي إليك يا رب”، والينبوع فيض مستمر، هبة حياة دائمة. وفي العهد الجديد كتب الرسول يوحنا “الله محبة” (1يوحنا 4: 8 ،16) وكأنه يقول إن المحبة هي أفضل تعريف عنه لأنه في جوهره محبة عطاء. لقد قال جوبيتر “الذباب”: “إنني لا أحب أحداً” أي أنه قابع في عزلة وأنانية أبديتين. ولكن إله الكتاب ليس فقط بحب ولكنه المحبة عينها. إنه محبة منذ الأزل ولذلك فهو ثالوث، لأن علاقة المحبة لكي تقوم تفترض وجود أكثر من شخص واحد. إله الكتاب يظهر لنا علاقة حب تجمع الأقانيم حتى أن الأقنوم الأول لا يعرف عنه إلا بالنسبة للثاني (فالآب ليس آبا إلا بالنسبة للابن) والثاني لا يعرف عنه إلا بالنسبة للأول (فالابن ليس ابناً إلا بالنسبة للآب)، الله يظهر لنا في صميمه عطاء تاماً متبادلاً: “كل ما هو لي فهو لك وكل ما هو لك فهو لي” (يوحنا 17: 10). فالآب يعطي ذاته بالكلية للابن، يعطيه جوهره بكامله، ولذا فالابن صورة تامة عن الآب: “من رآني فقد رأى الآب” (يوحنا 14: 9). ولكنه بإعطائه جوهره أزلياً للابن فإنه يعطيه أن يكون عطاء، ولذا فالابن متجه إلى الآب كلياً. في العهد الجديد عندما يظهر الآب، لا يمجد ذاته إنما يمجد ابنه. فإنه عندما اسمع صوته حين معمودية يسوع وحين تجليه، اسمعه ليمجد ابنه قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (متى 3: 17، 17: 5) وكذلك الابن أتى إلى العالم ليمجد الآب: “انا مجدتك على الأرض” (يوحنا 17: 4).

هذه المحبة التي هي في صميم الله تعين نوع علاقته بالبشر. هذه العلاقة لا يمكنها أن تكون إذاً إلا علاقة حب وعطاء. الآب يجب العالم بالحب ذاته الذي يحب به ابنه: “…. إنك أحببتهم كما أحببتني” (يوحنا 17: 23). هذا ما يتجلى في العهد القديم عندما صور الأنبياء ونشيد الأنشاد علاقة الله بشعبه كعلاقة الزوج بزوجته والحبيب بحبيبته. ولكنه ظهر لنا خاصة في يسوع المسيح. فالحب الذي أظهره يسوع لنا كشف لنا كل عمق حب الآب، لأن الابن صورة الآب. بيسوع خاصة عرفنا أن علاقة الله بالبشر كلها سخاء وبذل. حياة يسوع كانت معطاة لنا كلها، معطاة لنا حتى الموت، معطاة لنا بدون قيد أو شرط، معطاة للخطأة والصديقين، للأشرار والصالحين، ففهمنا هكذا أن الله عطاء غير مشروط: “لا يكاد أحد يموت عن بار، وقد يقدم أحد على الموت عن صالح وأما الله فقد برهن على محبته لنا بأن المسيح قد مات عنا ونحن بعد خطأة” (رومية 5: 7، 8). رأينا يسوع يولد في مزود ويرفض الغنى والسلطة والمجد، رأيناه يغسل أرجل التلاميذ ويؤكد بأنه “لم يأت ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (متى 20: 28)، رأيناه “طالعاً حتى الموت” (فيليبي 2: 8)، وهكذا في يسوع الذي هو على حد تعبير الرسول بولس “صورة الله غير المنظور” (كولوسي 1: 15) أدركنا أخلاق الله وعرفنا بأن التسلط والتشامخ والتجبر والتملك، تلك الأخلاق التي نسبها سارتر لإلهه، بعيدة عن أخلاق الإله الحي بعد السماء عن الأرض.

بيسوع المصلوب عنا “ليس حب أعظم من هذا أن يضع الإنسان نفسه عن أحبائه” (يوحنا 15: 13) عرفنا أن الله مبذول لنا كله، وبأن طبيعته لا أن يتملك ويحتفظ لنفسه ويطلب ما لنفسه بل أن يعطي ويغدق بدون حساب. أدركنا بيسوع نوعية علاقة الله بخليقته. يقولون إن الله خلق الكائنات لمجده. ولكن ما هو مجد الله؟ “مجد الله، يقول أحد الكتاب المعاصرين الروحيين، ليس أن يأخذ بل أن يعطي. مجد المحبة أن تحب…. مجد الينبوع أن يملأ ويسقي ويروي ويغسل. مجد الشعلة أن تلهب وتضيء وتدفئ، مجد الأب أن ينجب ويربي ويشدد….”.

يقول لويس افلي في كتابه “أبانا….”: “ما هو مجد الله؟ الله يحب. مجده أن يكون الله، أي أن يكون محبة….” (ص 49). وأيضاً: “الله خلق الخليقة حباً، ليعطي وليهب ذاته، ليحيي كائنات أخرى بحياته، ليبهج كائنات أخرى بفرحه” (ص 48).

هذا ما عبر عنه الآباء الأقدمين ايريناوس، عندما كتب في القرن الثاني للميلاد: “مجد إله حياة الإنسان”. وكأنه يرد مسبقاً على تصورات سارتر الذي سمى إلهه جوبيتر “إله الأموات” كما رأينا وقال أنه يسر برؤية الأحياء شبيهين بالأموات، بينما سمعنا الرب يقول: “الله ليس إله الأموات بل إله الأحياء” (لوقا 20: 38)، وسمعناه يكشف لنا مقاصد الله بقوله: “أما أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة” (يوحنا 10: 10).

هكذا يتضح لنا أن هم الله ليس أن يزيل وجودي بل أن يمدني بوجوده، كل ما يريده الله مني هو أن أدعه يحبني ويجعلني في الوجود بحبه، هو أن أقبل بأن أتلقى منه الكينونة والخير. إنه ليس فقط لا يريد إلغاء وجودي بل إنه لا يرتضي لي بوجود ناقص، مبتور، إنه يريد لي كل الوجود، يريد أن يشركني في حياته كلها وأن يغنيني بملئه كله. ليس فقط لا يشاء الله الغاء وجودي، بل يريد أن يدفعني إلى مستوى وجوده، أن يمنحني كل غنى وجوده. وبعبارة أخرى يريد الله تأليهي. هذا ما عبر عنه القديس مكسيموس المعترف في القرن السابع عندما كتب: “الله متعطش إلى تأليه الإنسان”. الله لا يشاء تحقير الإنسان بل، كما أن الجدير بهذا الاسم يسر بأن يصبح ابنه مثله مكتمل الرجولة، هكذا شاء الله أن يجعلنا شركاء لاهوته وأن يعاملنا معاملة المثل للمثل. لذا كتب بطرس الرسول بأننا مدعون إلى أن نكون شركاء الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1: 4). وكتب الرسول يوحنا “أيها الأحباء، نحن من الآن أولاد الله، ولم يتبين بعد ماذا سنكون. غير أننا نعلم أننا، إذا ما ظهر، سنكون أمثاله، لأننا سنعاينه كما هو” (1يوحنا 3: 2). ويختتم تيموتي وار مقاله عن “تجلي الجسد” بقوله: “يقول مخطوط عبراني: إن أحد الملوك دخل بستان ليخاطب البستاني، فاختبأ البستاني، فقال له الملك: لماذا تختبئ مني ألست مثلك؟ هكذا سيسير الله مع الصديقين في الفردوس الأرضي وسيرونه وسيرتجفون منه، وسيقول لهم آنذاك، لا تخافوا أنا واحد منكم” (ص 144). في هذا الألفة التي يعتبر فيها الله نفسه واحداً من أحبابه، أين مكان الخوف الذي قال عنه سارتر على لسان جوبيتر الذباب “إن له ريحاً شهية في خياشم الآلهة”؟ وكأن الرسول الحبيب قد رد مسبقاً على سارتر عندما كتب: “لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تنفي الخوف…. والخائف لم يكتمل في المحبة” (1يوحنا 4: 17، 18).

قد نتساءل والحالة هذه: لماذا سقط آدم أذاً عندما شاء أن يحقق وعد الشيطان “ستصيران آلهة”؟ ألا يعني ذلك أن الله لا يشاء أن يتأله الإنسان؟

ولكن هل كانت خطيئة آدم بأنه أراد أن يتأله؟

فلنز جواب لويس افلي على هذه المسألة: “كل تاريخ البشرية انحرف وتحطم لأن آدم كون لنفسه فكرة خاطئة عن الله. لقد كان يريد أن يصبح مثل الله. أرجوا أنكم لم تعتقدوا لحظة أن خطيئة آدم كانت كامنة في ذلك. أي طموح آخر كان يمكن أن يكون له؟ ألم يكن هذا هو الهدف بالضبط الذي دعاه الله إليه؟ ولكن آدم أخطأ النموذج. فقد اعتقد أن الله كائن مستقل، مكتف بذاته ولذلك تمرد وعصى حتى يصبح مثله.

“ولكن الله عندما كشف ذاته، عندما أراد أن يظهر ما هو بالحقيقة، أظهر ذاته محبة، حناناً، عطاء ذات…. الله أظهر ذاته طائعاً، طائعاً حتى الموت.”

“هكذا عندما اعتقد آدم أنه يصبح مثل الله اختلف بالكلية عن الله. لأنه انفصل واعتزل بينما الله شركة كله”.

هكذا لم يسقط آدم لأنه أراد أن يصير مثل الله، ولكن لأنه لم يتمثل الله حقيقة، أي لم يشأ أن يكون مثله عطاء يقابل عطاء، بل فصم الشركة ورفض “عطية الله” (تلك العطية التي حدث يسوع السامرية عنها قائلاً: “لو كنت تعرفين عطية الله يوحنا 4: 10) أي أنه رفض أن يمتلئ من الوجود الذي كان الله يدفقه فيه وحبس على نفسه في اكتفائية قاتلة.

2 – الله يريد ويحترم حرية الإنسان

ولكن الله يحترم حرية الإنسان حتى عندما يريد الإنسان أن يفصم الشركة. يحترمها إلى حد أنه يسمح للإنسان أن يستخدم ذلك الوجود، الذي وهبه عطية حب، ضد معطيه. يحترمها إلى حد أنه يسمح للإنسان أن يذهب في تمرده إلى أبعد الحدود. هذا هو معنى الجحيم. إنها مظهر من مظاهر احترام الله الكلي لحرية الإنسان. “جهنم هي، كما يقول برناتوس، ألا يحب المرء”. وبعبارة أخرى يرتضي الله بأن يرفض الإنسان حبه، وبأن يرفضه، إذا شاء، إلى الأبد. ولكن الله لا يزال يحب ذلك الإنسان. يمكن للإنسان أن يرفض الله، ولكن لا يمكن لله أن يرفض الإنسان. يمكن للإنسان أن يكتفي بذاته ولكن الله عطاء كله. الله أمين على العهد الذي أقامه مع الإنسان مذ خلقه ولو لم يكن الإنسان أميناً. يقول لويس افلي: “يمكن أن ينكر الله وأن ينسى ولكن الله لا يمكنه أن ينكرنا وأن ينسانا. يمكن للإنسان أن يكون دون الله، ولكن الله لا يمكن أن يكون دون الإنسان. يمكن للإنسان أن يترك البنوة ولكن لا يمكن ألا يكون أباً”. لذا فجهنم ليست انتقاماً رهيباً يجريه إله سادي على إنسان عصى أوامره، ليست امتداداً لانتقام جوبيتر من بروميتيوس، ولكن الإنسان الذي رفض الله جذرياً ونهائياً يعذبه رفضه لأنه مخالف لمتطلبات طبيعته العميقة. جهنم هي أبعد المظاهر لاحترام الله حرية الإنسان وهي انعكاس سلبي لحبه.

احترام الله لحرية الإنسان يعني أن هذه الحرية لا تنتزع من الله عنوة واغتصاباً كما تصور مسرحية “الذباب”، إنما هي هبة من الله للإنسان. جوبيتر “الذباب” يناقض نفسه لأنه من ناحية أعطى الإنسان الحرية ومن ناحية أخرى يحاول أن يعمي الإنسان عن وجودها فيه وأن يخمدها في قلبه. أما إله الإعلان الكتابي فليس عنده هذا التناقض. لقد شاء الإنسان حراً لأنه شاء أن يكون مثله، على صورته. هذا ما علمه الآباء. فقد كتب غريغوريوس النصيصي: “بالحرية الإنسان على شكل الله مقدس، لأن الاستقلال والحرية هما من خصائص القداسة الإلهية” وأيضاً: “الإنسان، إذ خلق على صورة الله، يجب أن يتمتع بكل خيرات سيده. وبين هذه الخيرات، الحرية”. وأيضاً: “إن الحرية هي الشبه مع ذاك الذي هو سيد مطلق لا سيد له، وقد أعطي لنا هذا التشبه، نحن البشر، من الله، في البدء. إن كتاب أعمال الرسل (17: 28) يؤكد الأمر نفسه: “إننا من الذرية الإلهية”.

هذا ما نجد صداه عند مفكرين معاصرين. فقد كتبت سيمون فايل بأن الله شاء من أجل حبه لنا أن يجعل نوعاً من المساواة بيننا وبينه، لذا أعطانا الحرية المطلقة بأن نقبل إليه أو نؤله ذواتنا وهماً ونرفضه، لقد أعطانا سلطة الضياع اللانهائي في الوهم هذه لكي يتسنى لنا أن نتخلى عنها حباً: “الله هو…. الصديق بكل معنى الكلمة. فلكي يكون بينه وبيننا، رغم المسافة اللامتناهية، نوع من المساواة، شاء أن يضع في خلائقه مطلقاً ألا وهو الحرية المطلقة بأن نقبل أو لا بالاتجاه الذي جعله فينا نحوه…. لقد أعطانا سلطة الوهم اللامتناهي هذه لكي نستطيع أن نتخلى عنها حباً”.

وقد كتب غبريال مارسيل من جهته عن الله: “هذه الحقيقة هي نفسها حرة وتزرع بحرية حريات”.

الله يبتهج بحرية الإنسان ولا يرهبها كما يرهبها جوبيتر “الذباب”. يبتهج بها كما يبتهج الوالد ذو الأبوة الأصلية عندما يرى ولده أصبح يحبه لا بتبعية الطفل بل باستقلال البالغ. هذا ما قاله بيغي بعبارات رائعة وكأنه يرد مسبقاً على ذباب” سارتر:

“اسألوا هذا الوالد إن لم تكن أفضل لحظة عنده

تلك اللحظة التي يبدأ فيها أبناؤه يحبونه محبة رجال،

يحبونه كرجل،

بحرية،

مجاناً،

اسألوا هذا الأب الذي يكبر أولاده.

“أسألوا هذا الوالد إن لم تكن هناك ساعة سرية،

لحظة سرية،

وأن لم تكن

عندما يبدأ أبناؤه يصبحون رجالاً،

احراراً.

ويعاملونه هو كرجل،

حر،

ويحبونه كرجل،

حر،

أسألوا هذا الأب الذي يكبر أولاده.

“أسألوا هذا الوالد إن لم يكن هناك اختيار وحيد من نوعه

وإن لم يكن

عندما بالضبط يزول الخضوع وعندما يرى أبناءه وقد أصبحوا رجالاً بحبونه ويعاملونه كخبراء إذا صح التعبير

معاملة الرجل للرجل،

بحرية،

بمجانية….

أسألوا هذا الأب إذا كان لا يعرف إن لا شيئاً يساوي نظرة رجل تلاقي نظرة رجل.

“ولكنني أنا أبوهم، يقول الله، وأعرف وضع الإنسان.

فأنا الذي خلقته.

….. إنني لا أطلب منهم سوى قلبهم….

“خضوع العبيد كلهم، لا يساوي نظرة واحدة جميلة لرجل حر. أو بالأحرى خضوع العبيد كلهم تشمئز له نفسي وإني أهب كل شيء مقابل نظرة جميلة واحدة لرجل حر،

مقابل طاعة وحب وإخلاص جميل واحد صادر عن رجل حر….

“…. في سبيل هذه الحرية، في سبيل هذه المجانية ضحيت بكل شيء، يقول الله

في سبيل ميلي بأن يحبني رجال أحرار،

بحرية،

بمجانية،

رجال حقيقيون، ذوو رجولة، بالغون، أشداء.

شرفاء، رقيقون، ولكنهم ذوو رقة مقرونة بالشدة.

من أجل أن أنال هذه الحرية، هذه المجانية، ضحيت بكل شيء، لكي أخلق هذه الحرية، هذه المجانية،

لكي أفسح المجال لهذه الحرية وهذه المجانية”.

لذا فالحرية ليست فقط حقاً اوتيناه، إنما هي واجب يطالبنا به الله الذي لا يريد أن يقيم علاقة إلا مع بشر أحرار. بهذا المعنى كتب بردياييف: “إن الحرية في الحياة الدينية واجب. الإنسان ملزم بأن يحمل عبء الحرية وليس له الحق بأن يتخلص منه. الله لا يقبل إلا البشر الأحرار، إنه لا يحتاج إلا إلى بشر أحرار. عند دوستويفسكي، المفتش الأكبر، عدو الحرية وعدو المسيح، يوبخ المسيح هكذا:” لقد أردت هذه المحبة الحرة من الإنسان لكي يتبعك بحرية، مجذوباً إليك ومأسوراً منك”…. الدين المسيحي إنما هو الحرية في المسيح الخلاص القسري مستحيل وبدون جدوى”.

ليس صحيحاً ما يدعيه سارتر عندما كتب في كتابه “الوجودية فلسفة إنسانية” بأن علاقة الله بالإنسان شبيهة بعلاقة الصناعي بمقص الورق الذي يصنعه. ليس الإنسان شيئاً بالنسبة لأله الإعلان الكتابي، الله لا يريد “تشيئ” الإنسان. ذلك لأن الله لا يوجد الإنسان كما يوجد الصناعي مقص الورق. علاقته بالإنسان ليست علاقة خارجية كعلاقة الصناعي بالشيء الذي يصنعه. إنما خلق الله للإنسان يعني امداد الإنسان من وجوده، اشراكه في وجود الله، إذاً في حرية الله. يقول شارل ميللر مفنداً ذلك المفهوم السارتري للخلق: “إن هذا المفهوم للخلق يفترض إنه لا يمكن أن تكون للإنسان أية ذرة من الحرية والمبادرة، كما هو وضع مقص الورق الذي هو سلبي تماماً بين يدي من يصنعه أو يستعمله”، “إذا كان الخلق هو صنع أدوات، فلم يعد للإنسان سوى أن يدع نفسه “يُستخدم” من صانعه، في هذا الحال “لم يعد بوسعنا أن نرى…. في العالم سوى أمرين: إما السلبية المخزية، سلبية عبيد يزحفون أما إله طاغية، أو الاكتفائية المتكبرة، اكتفائية كائن يدعي أن لا اب ولا أم له”، ولكن العمل الخلاق ليس عملاً حرفياً، ليس الخلق تقنية… فإذا كان خلق العالم المادي نفسه لي بتقنية، فبالأحرى خلق الإنسان: الله يخلق الإنسان حراً، إنه يصنعه حراً، إنه يخلق الحرية فيه. ليس عمل الخلق “صناعة” حرفية، بل امداداً كيانياً بداعي الحب، إنه هبة الذات، إنه إرادة إشراك كائنات بالكائن. أما بالنسبة للإنسان، فالخلق يعني قصد جعله مساهماً في الطبيعة الإلهية، وذلك، بين أمور أخرى، بالحرية”. هكذا فللمخلوق كيان قائم بذاته مستمد من الله، “فمن هذا الكيان القائم بذاته بالضبط يستمد المخلوق قوة التمدد على الله، فيقبل الله بأن يستخدم المخلوق تلك الحرية التي وهبه إياها، لينقلب عليه، ليكون “إلهاً دون الله”.

قال أوريست لجوبيتر (الذباب): “إنك …. ملك الحجارة والنجوم، ملك أمواج البحر، ولكنك لست ملك البشر”. ولكن إله باغي كان قد أكد قبل ذلك بكثير أن علاقته بالبشر مختلفة بما لا يقاس عن علاقته بالأشياء التي في الكون (فضلاً عن أن علاقة الله بالمخلوقات الجامدة نفسها ليست من باب علاقة الصناعي بمصنوعه، كما أوضح ميللر). يقول إله باغي:

“غبطة عبيد، خلاص عبيد، غبطة عبودية، كيف تريدون أن يهمنى ذلك؟ هل يحب أحد أن يحبه عبيد؟”

“إن كانت القضية قضية إعطاء البرهان عن سلطاني، فسلطاني ليس بحاجة إلى هؤلاء العبيد ليظهر، سلطاني معروف كفاية، معروف كفاية بأنني القادر على كل شيء.”

“سلطاني يتجلى كفاية في كل مادة وفي كل حدث.”

“سلطاني يتجلى كفاية في رمال البحر ونجوم السماء.”

“ليس اعتراض عليه، إنه معروف، إنه يتجلى كفاية في خليقتي الجامدة….”

“ولكنني في خليقتي الحية، يقول الله، أردت ما هو أفضل من ذلك، ما هو أكثر من ذلك.”

“أفضل من ذلك بما لا يقاس. أكثر من ذلك بما لا يقاس. لأنني أردت هذه الحرية.”

“خلقت هذه الحرية عينها…”

“من اختبر مرة واحدة أن يحب بحرية، لا يعود يرى للخضوع طمعاً.”

“من اختبر أن يحبه رجال أحرار، لا يعود يرى معنى لسجدات العبيد”.

ألم يقل الرب: “لا أدعوكم بعد عبيداً…. إنما سميتكم أحباء” (يوحنا 15: 15).

هذا الاحترام الإلهي لحرية الإنسان يحدد بالضبط طبيعة الإيمان. فالإيمان يقين ولكنه يقين حر. ذلك أن الله يريد أن يقبل الإنسان اليه تلقائياً، لا مغلوباً على أمره، لذا فعوض أن يفرض وجوده علينا كما تفرض الحقائق الحسية أو العلمية ذاتها فرضاً، يحتجب لكي يتسنى لنا أن نقبل إليه بحرية الحب. هذا ما عبر عنه بردياييف بقوله: “الإيمان هو كشف الأمور اللامنظورة”، أي أنه عمل حر، عمل اختيار حر. فالأمور اللامنظورة لا تدخل إلينا عنوة، لا تكرهنا اكراهاً شأن الأمور المنظورة. إننا نكشف الأمور اللامنظورة بخطر، بمجازفة، لأننا نحبها وقد اخترناها بحرية…. العلم يختلف عن الإيمان بالضبط من حيث أنه قسري ومضمون، من حيث أنه لا يدع مجالاً للاختيار الحر ولا يحتاج لمثل هذا الاختيار. العلم ليس خطراً، إنه يكشف الأشياء المنظورة، تلك التي تكرهنا. أما في الإيمان فحرية ولذا ففيه شجاعة، ليس في العلم حرية ولذا فليس فيه من بطولة. المسيح الذي هو موضوع إيمان وحب لا يكره، لا يظهر بشكل يقسر الإيمان. إنه يظهر بشكل عبد يموت ميتة شائنة. لذا يلزم اختيار حر وحب مقدام ليرى المرء في صورة المسيح، العبد المهان، القدرة الجليلة التي لابن الله، المساوي للآب في الجوهر…. بنظر ذلك الذي آمن، الذي قام بعمل اختيار حر، المسيح قام من الأموات وبذلك أظهر قدرته الإلهية التي تنير وتخلص العالم. أما بنظر غير المؤمن، الذي لم يقم بالاختيار الحر، الذي لا يعرف إلا الأشياء المنظورة، المكرهة، فالمسيح مات على الصليب وانتهى الأمر. إن معجزة القيامة لا تنكشف إلا للحرية، إنها مغلقة للإكراه”.

3– الله يجعل نفسه رهن حرية الإنسان

الله ليس فقط يحترم الإنسان ولكنه جعل نفسه، على نوع ما، رهن هذه الحرية. الضابط الكل شاء أن يكون، على نوع ما، تحت تصرف الإنسان. لقد كتب لويس افلي: “الله يحبنا. هذا ليس مجرد عبارة…. هذا يعني أن لنا سلطة عليه.

“لنا سلطة على الذين يحبوننا. الأولاد يعرفون ذلك، رغم ضعفهم فيحردون ويرفضون الطعام لأنهم بهذا ينالون من والديهم ما يشاؤون. إنهم بذلك يعطونهم برهاناً معكوساً عن اقتناعهم بأنهم محبوبون، بأنهم هامون. نحن هامون بنظر الذين يحبوننا والله يحبنا.”

“…. أن نحب كائناً يعني لا محالة أننا علقنا مصيرنا بمصيره، يعني أننا أعطيناه سلطة علينا.”

“الله، لأنه شاء أن يحبنا، اختار بأن يعطينا سلطة عليه.”

“على الصحون، في نورمندينا، تقرأ هذه العبارة القاسية: “الأقل حباً، هو دائماً الأقوى”. الذي يقل حباً عن الآخر يستر دائماً عاشقه. الله، أمامنا، هو دائماً الأضعف، لأنه يحب”. أليس هذا المعنى العميق لحادثة صراع يعقوب مع الملاك حيث نرى الله، بشخص ملاكه، يجعل نفسه رهن إرادة الإنسان يعقوب الذي قال له: “لا أتركك إلا إذا باركتني”. ومن هنا اكتسب اسمه “إسرائيل” الذي يعني “القوي ضد الله” (تك 32: 29) الذي ورثناه نحن “إسرائيل الجديد”. أليست قوة الصلاة ناتجة من كون الله شاء أن يربط قوته بطلب الإنسان: “كل ما طلبتموه من الآب باسمي تنالونه” (يوحنا 15: 16). ولذا قال إله باغي، أن “لا سلاح له” أمام صلاة البشر. ألم يقل الرب “إن ملكوت الله يغتصب اغتصاباً” (متى 11: 12)؟ لقد كتب بول افدوكيموف في مقال له: “لقد تبنى سارتر عبارة الفوضوي الروسي باكونين: “إذا كان الله موجوداً، فلست بحر، أنا حر، فالله إذاً غير موجود”. ولكن ما ينبغي أن يقال هو أن الحقيقة أعجب من هذا بما لا يقاس: فإن “الأنا حر” عند الإنسان يفترض أن الله لم يعد حراً. يستطيع الإنسان أن يقول “لا” لله. أما الله فقد التزم إلى حد أنه لن يقول قط فيما بعد “لا” للإنسان. هذا ما يؤكده الرسول بولس: “في الله ليس إلا نعم”.

من دواعي الإلحاد السارتري، كما يبين فرنسيس جانسون تلميذ سارتر، أن محبة الله نفسها للإنسان لا يمكن أن تكون عبودية للإنسان، لأن الله يعطي ولا يأخذ فيما المحبة الأصلية تقتضي التبادل. هذا ما يلمح إليه سارتر على لسان الثائر كارك الذي يخاطب الفلاحين بهذه العبارات (من مسرحية الشيطان والله): “للذي يعطي قبلة أو صفعة أعطوا قبلة أو صفعة، ولكن للذي يعطي دون أن تستطيعوا الرد، أعطوا كل ما في قلبكم من حقد، لأنكم عبيداً وسيستعبدكم، لأنكم كنتم مهانين وسيزيد في اهانتكم” (171).

وقد كتب جانسون بهذا المعنى أيضاً: “من أراد أن يحب البشر، كان عليه أن يضع نفسه أولاً في متناولهم، ويكفي أن يكون وضع نفسه من متناول ضرباتهم”. ولكن إلهنا جعل نفسه في متناول البشر لأنه جعل نفسه بحاجة إليهم وجعل نفسه في يسوع المسيح عرضة ليس فقط لضرباتهم بل لقتلهم أيضاً. لذا دخل معهم في حوار حقيقي لا تفضل فيه ولا استعباد. وقد قال الأب جورج خضر بهذا المعنى في حديثه عن “مصير الله”: “…. إن الله جعل نفسه، بانعطاف منه، بحاجة إلى … خليقة، الله تخلى لنا عن شيء من قدرته عندما فطرنا أحراراً. وإذاً ارتضى أن تكون صورته في الأرض مرئية أو محجوبة، وقبل أن يرى أو أن يغلق عليه.

“الله منذ أن طرح هذا الوجود جعل نفسه في المصير، في تاريخ الوجود، ودل على ذلك بأجلى بيان عندما شلح نفسه في مزود، رهيناً لمريم وبالتالي عندما أضحى هو في قيضة الإنسان يحيا أو يمات…

“والله إذن ليس بمغتصب لا يتسلط إلا على ذاك الذي يسلطه، ولا ينحني إلا عند من يرحب به. الله جعل نفسه مدعو الإنسان ضيفاً على الإنسان الحر الذي يناديه أو الذي يباعده. الله هو الفقير للإنسان. نحن طبعاً بحاجة إلى ربنا ولكن منذ أن تخلى عن مجده في الخلق الأول وفي سر التجسد هو أيضاً صار فقيراً إلى حب الإنسان لأن الله جعل نفسه في حوار. ولا يمكن أن تعني المحاورة شيئاً ما لم تعن كائنين أصيلين يتواجهان بحرية… الله يرتفع عنا…. عندما نحن نطرده. الله طريد الإنسان كما هو ضيف الإنسان…”

“…. أنتم أسياد على الله. أليس هو القائل: “ما جئت لأُخدم بل لأَخدم وأبذل نفسي فدية عن كثيرين”؟ أليس هو راكعاً عند أقدامنا لكي يغسلها كما فعل في علية صهيون؟ أليس المسيح كله بين أيديكم تحيونه أو تميتونه”.

في مقال يعرض فيه بإيجاز بنود الإيمان، كتب الأب فرنسوا فاريون، أن الله، بما أنه محبة، فهو، كما تجلى لنا بالمسيح، فقر وتبعية وتواضع:

“الفقر أولاً، لا الاقتصادي، بل الروحي. المحب يقول للمحبوب: “أنت فرحي”، وهذا يعني: “بدونك أنا مفتقر إلى الفرح”. أو “أنت كل شيء لي”، وهذا يعني: “بدونك لست شيئاً”. الحب هو إرادة المرء بأن يكون بالآخر ومن أجل الآخر…. الأكثر حباً هو إذاً الأفقر. المحب لا نهائياً – الله – فقير لا نهائياً.”

“ثم التبعية، الروحية لا الحقوقية. المحب يقول للمحبوب: “أريد أن أكون تابعاً لك”. الحب وإرادة الاستقلال لا يتفقان إلا سطحياً. الأكثر حباً هو إذاً الأكثر تبعية. المحب لا نهائياً – الله – تابع لا نهائياً….”

“أخيراً التواضع. المحب يقول للمحبوب: “لا يمكن أن أترفع عليك دون أن أخطئ بحق الحب”. إذا كان المحب، بصورة ما، أعظم من المحبوب، فلا يكون حبه حباً إلا بالفعل الذي ينكر به تفوقه ويجعل نفسه مساوياً للمحبوب. الأكثر حباً هو إذاً الأكثر تواضعاً. المحب لا نهائياً – الله – متواضع لا نهائياً. لذا لا يمكن أن يرى الله في حقيقة كيانه إلا بالنظر إلى المسيح الذي يعبر عن التواضع الإلهي بعمل غسل الأرجل.”

“…. الله غني لا نهائياً، ولكنه غني بالحب لا بالامتلاك (والغني بالحب مرادف للفقر)…. الله هو اللامحدودية والقدرة اللامتناهية (ولكن حبه هو اللامحدود والمقتدر كلياً…. المقتدر أن يتنازل إلى حد الامحاء).

“وبعبارة أخرى، أن سر الحب المحتجز عن الإدراك، الذي هو الله في كيانه الأبدي، لا يمكن أن يترجم ويعبر عنه ويعلن إلا بفقر وتبعية وتواضع المسيح”.

ما أبعد جوبيتر “الذباب” وبصورة أعم ما يدعوه سارتر “الله” في كتاباته المختلفة، عن ذاك الذي يرينا إياه سفر الرؤيا في شخص يسوع المسيح يلتمس من الإنسان أن يقبله، لا ليتسلط عليه بل ليجعله مشاطراً حياته وخيراته: “ها أنا واقف على الباب وأقرع، إن فتح لي أحد أدخل وأتعشى معه وهو معي” (رؤيا 3: 20).

تقييم المستخدمون: 3.4 ( 1 أصوات)