آبائياتأبحاث

الخطاب اللاهوتي الثالث – في الابن الكلمة 1 – غريغوريوس النزينزي

الخطاب اللاهوتي الثالث – في الابن الكلمة 1 – غريغوريوس النزينزي

الخطاب اللاهوتي الثالث - في الابن الكلمة 1 - غريغوريوس النزينزي
الخطاب اللاهوتي الثالث – في الابن الكلمة 1 – غريغوريوس النزينزي

الخطاب اللاهوتي الثالث – في الابن الكلمة 1 – غريغوريوس النزينزي

1 – هذا ما لم يكن بد من قوله في مجال التصدي لميولهم وإسراعهم إلى النقاش، ولخطر التسرع في جميع الأمور، ولا سيما النقاشات في موضوع الله. وإذ كان التأنيب أمراً يسيراً وغير ذي بال – إنه شديد السهولة وفي متناول كل من أراده – وإذ كانت الاستعاضة عنه بإبداء الرأي الشخصي هي عمل رجل تقي وحكيم، فهلم بنا واثقين في الروح القدس الذي يتنكرون له هم، ونعبده نحن، ولنبرز للنور مذهبنا في اللاهوت، أياً كان ذلك المذهب، فسلاً مؤصلاً وقوياً، لا أننا كنا قبل صامتين – وهذا هو الأمر الوحيد الذي نضطرم له غيرة واندفاعاً – ولكننا الآن نقول الحقيقة بحرية أوفر، وذلك تجنباً لما يؤدي إليه النكوص مما لا نرتضيه، على حد ما كتب[1].

وإذ كان في كل خطاب قسمان: قسم لبسط المذهب الشخصي، وقسم لدحر المذهب المخالف كان علينا نحن أيضاً، بعد بسط مذهبنا العقائدي، أن نعمل على نقض ما يخالفوننا به، وسيكون القسمان موجزين قدر الإمكان لكي تسهل على النظر الإحاطة بما يقال – كما هو الحال في الخطة التمهيدية التي ابتكروها لتضليل السذج والمغفلين –[2] وكي لا يحول الإطناب في الخطاب دون الالتقاط ما فيه من أفكار، فتكون تلك الأفكار كالماء الذي لم تحتجزه السدود، فيجري ويتفرق في السهول.

2 – أقدم المذاهب في شأن الله ثلاثة: الأنرخيا، والبوليرخيا، والمونرخيا[3]. اللفظتان الأولى والثانية كانتا لأطفال اليونان[4] موضوع لهو وتسلية. فليقيمن على لهوهم. إذ إن الأنرخيا هي الفوضى، والبوليرخيا هي الخصام، وكذلك الأنرخيا، وذلك الفوضى، كلتاهما تفضي إلى الأمر الواحد: الفوضى، وهذه تقود إلى الخراب، إذ إن الفوضى تدرب على الخراب. أما نحن فتكريمنا للمونرخيا، لا المونرخيا المحصورة في شخص واحد – إذ قد يكون هذا الشخص الواحد في نزاع مع ذاته، فيصبح والحالة هذه متعدداً – بل المونرخيا القائمة على الكرامة المتساوية في الطبيعة، والاتفاق في الإرادة، والتطابق في الحركة، وعودة ما يصدر عنها إلى الوحدة – وهذا ما يتنافى والطبيعة المولودة – بحيث، وإن كان هنالك اختلاف في العدد، لا يوجد أي تفسخ في الجوهر. ولهذا فـ “منذ البدء”[5] كان التحرك من الوحدانية إلى الثنوية، وقد توقف عند الثلاثية. وهذا ما هو لنا الآب والابن والروح القدس: الأول يلد ويحدث، ولكن أقول إن ذلك في غير تأثر وتغير منه، وخارجاً عن الزمن والهيولى، أما الآخران، فالواحد منهما مولود، والثاني مبثوق، أو لا أدري كيف أسمي ذلك في غير استعانة بالمرئيات. ولن يكون لنا من الجرأة ما يجعلنا نتحدث عن فيض الصلاح، كما فعل أحد فلاسفة الإغريق الذي حملته الجرأة على القول: “كفوهة بركان فياضة”[6]، قال ذلك بوضوح وصراحة في غضون كلامه على العلة الأولى والعلة الثانية، فلا ننجرن إلى التسليم بولادة قسرية، وبنوع من الفيض الطبيعي الجارف الذي لا يليق بما نذهب إليه في شأن اللاهوت. ولهذا فإننا، في نطاق ما رسمناه وتقيدنا به من حدود، نقول بغير المولود، وبالمولود، “وبالمنبثق من الآب” على حد ما يقوله الله وكلمته في أحد المواضع[7].

3 – منذ متى توجد هذه الأشياء؟ إنها فوق الـ “منذ” والـ “متى” وإن كان لا بد من الكلام بشيء من الجرأة، قلنا إنها توجد منذ وجد الآب. ومتى وجد الآب؟ لم يوجد وقت خال من وجوده. وذلك شأن الابن والروح القدس. عد عليّ بالسؤال أعد عليك بالجواب. متى ولد الابن؟ عندما كان الآب غير مولود. ومتى انبثق الروح القدس؟ منذ كان الابن غير منبثق، بل كان مولوداً بمعزل عن الزمن وبطريقة تفوق الوصف. نقول ذلك، وإن كنا لا نستطيع التجرد من صورة الزمن عندما نريد معالجة ما هو فوق الزمن. فالألفاظ “متى”، و”قبل هذا”، و”بعد هذا”، و”منذ البدء” لا تخرج عن نطاق الزمن مهما غلونا في التخريج، ومن ثم فعلينا أن نعتمد لفظة الأبدية، وهي المدى الذي يقيس الأمور الأبدية، ولا يقبل التقسيم، ولا تقيسه حركة، ولا يخضع كالزمن لدورة الشمس.

فكيف لا يكونان مع الآب بغير مبدأ إذا كانا معه أزليين؟ فما لا مبدأ له أزلي. ولكن ما هو أزلي ليس بالضرورة بلا مبدأ، ما دام ذلك يتعلق بالآب الذي هو المبدأ. فليسا بلا مبدأ من حيث العلة، ولكنه من الظاهر أن هذه العلة غير سابقة لمن كانا معلولين عنها كما لا تكون الشمس سابقة لنورها. فهما بغير مبدأ من حيث الزمن، بالرغم من فزاعتك التي تعمل بها على ترويع السذج[8]، إذ لا يخضع للزمن من يصدر عنهم الزمن[9].

4 – فكيف تكون ولادة الابن بغير تغير؟ إنها غير جسدية، وإن كانت الولادة الجسدية لا تجري بغير تغير، فالولادة غير الجسدية لا تغير فيها ومعها. هأنذا بدوري أسألك: إذا كان الابن خليقة فكيف يكون الله؟[10] والمخلوق لا يكون الله. وليس لي أن أقول إن ما يكون جسدياً يكون خاضعاً للتغيرات والمؤثرات من مثل الوقت، والشهوة، والتخيل، والقلق، والأمل، والألم والخطر، والاخفاق، والإبلال، وكل ذلك، وأكثر من ذلك يعتري الخليقة، كما لا يخفى على أحد. وإني لأعجب من أن يذهب تجرؤك إلى القول بتواصل، وحمل، وتعرض للإسقاط، لكون الآب لا يمكنه أن يلد إن لم يلد هكذا! أو كأني بك تعدد صنوفاً من ولادات الطيور والحيوانات الأرضية والمائية، وتذهب إلى تشبيه الولادة الإلهية التي لا يمكن وصفها بإحدى هذه الولادات، أو إلى إنكار الابن، تمشياً وما توصلت إليه من تورط جديد! وإنك لا تستطيع أن تتصور فرقاً بين ولادة من يولد بالجسد وهذه الولادة الإلهية – وأين تراك أبصرت بين جماعتك العذراء والدة الإله؟ – ولهذا أيضاً ولادة روحية فذة، أو قل إن من كانت طبيعته غير طبيعتنا كانت ولادته غير ولادتنا.

5 – فمن يكون ذلك الأب الذي لم يكن بدءٌ لأبوته؟ إنه ذاك الذي لم يكن بدءٌ لكينونته: فمن كان لكينونته بدء كان لأبوته بدءٌ أيضاً. فلم تعقب أبوته الكينونة إذ لم يكن له بدءٌ. وهو أب بالمعنى الحقيقي. إذ ليس هو الابن أيضاً؛ وكذلك الابن فهو ابن بالمعنى الحقيقي إذ ليس هو الأب أيضاً. وليس لهاتين اللفظتين بالنسبة إلينا مدلول حقيقي لأننا في الوقت الواحد أب وابن: ولسنا من ثم هذا أكثر من ذاك؛ إننا من أبوين اثنين، لا من واحد، ولهذا كان فينا انقسام؛ ونحن لا نبلغ شأو الرجال إلا شيئاً فشيئاً، وقد لا نصير رجالاً، بل خلائق غير مرغوب فيه[11]ا، وإننا لننفصل عن أهلينا وينفصل عنا أهلونا، بحيث لا يبقى سوى علاقات خالية من الحقيقة. ولكنه يقول: أليس في اللفظتين “وَلَدَ” و “وُلِدَ” بدء في الولادة؟ وليس لنا إلا أن نقول إنه مولود منذ البدء، لكي ننجو بسهولة من اعتراضاتك اللولبية والتي لا تخرج عن نطاق الزمن. ألعلك تريد أن ترمينا بأننا نحرف الكتاب والحقيقة بعض التحريف؟ أليس من الواضح لدى الجميع أن أحداثاً كثيرة تذكر لزمن من الأزمان وتكون لغير ذلك الزمن – كما هي الحال في الكتابة الإلهية بنوع خاص – ولا ينحصر ذلك فيما هو من الماضي أو الحاضر، بل يتناول المستقبل أيضاً؟ من ذلك: “لماذا ارتجت الأمم”[12] وهي لم تكن بعد قد ارتجت، ومن ذلك: “وبالأرجل يعبرون النهر”[13] أي عبروا. ويطول الكلام لو أتينا على ذكر ما كان من هذا الباب وما وقع عليه من أرباب العلم والتحري[14].

6 – هذا، ولكن فيم يقوم اعتراضهم الآخر الحافل بالاستثارة والوقاحة؟ إنهم يقولون: هل ولد الآب الابن بإرادته أم بغير إرادته؟ وهم يفكرون بعد ذلك أنه يقيدوننا من الناحيتين، ولن بربط غير وثيقة وشديدة الهزال. فيقولون: إذا كانت الولادة بغير إرادته كان مكرهاً عليها، ومن ذا الذي أكرهه؟ وكيف يكون المكره إلهاً؟ وإذا كانت الولادة بإرادته كان الابن ابن الإرادة فكيف يكون ابن الآب؟ وهذا ابتكارهم الجديد: إن الإرادة أم الابن، في موضع الآب. ومع ذلك ففي كلامهم ما يروقنا، وهو أنهم يتجنبون القول بالتغير عندما يلجأون على الإرادة، إذ الإرادة غير التغير، ولننظر بعد ذلك في قوة ما يثبتون. والأفضل في ذلك أن نبدأ بالتضيق عليهم أقرب فأقرب. فإليك أنت أيها الذاهب في الكلام كل مذهب: هل ولدك أبوك بإرادته أم بغير إرادته؟ إذا لم تكن له في ذلك إرادة، كان إذن مكرهاً عليه. يا للعنف! من ذا الذي أكرهه؟ لن تقول إنه الطبيعة، فالطبيعة تتقبل التعفف. ولئن ولدك أبوك بإرادته فها هو ذا يضمحل في هذا المقاطع اللفظية، وكأني بك ابن للإرادة لا لأبيك. وانتقل إلى الله والخلائق، أتوجه بسؤالك إلى حكمتك: هل خلق الله كل شيء بإرادة منه، ام هل أكره بالعنف على ذلك؟ فإن كان الخلق بإرادة منه كانت خسارة الخليقة لخالقها، وكانت خسارتك انت قبل سواك، أنت الذي يختلق مثل هذه الحجج ويركب مثل هذه السفسطات، لأن الإرادة تقل حاجزاً وتفصل عن الخالق. ولكن من يريد هو، في نظري، غير الإرادة، ومن يلد هو غير الولادة، ومن يتكلم هو غير الكلام – هذا ما لم نكن سكارى – ههنا المحرك، وهناك الحركة. وهكذا فالمراد ليس للإرادة – إذ المراد لا يصدر عنها صدوراً كلياً[15] – والمولود ليس للولادة، والمسموع ليس للتصويت، بل للمريد، والوالد، والمتكلم. ومع ذلك ففي الله، وفوق ذلك كله، وقد تكون الولادة إرادة الولادة، ولكن بغير وسيط، هذا إذا سلمنا تسليماً كلياً بهذا، وإذا لم تكن الولادة فوق الإرادة.

7 – هل لي أن أمازح بعض الممازحة في شأن الآب؟ لقد أخذت عنك مثل هذه الجرأة. هل الآب هو الله بإرادة منه، أم بغير إرادة منه. هيا تفلت من مراوغة حذلقتك! إذا كان الله بإرادة منه، فمتى بدأ تلك الإرادة؟ أليس ذلك قبل وجوده، إذا لم يكن شيئاً قبل ذلك الوجود. هل فيه من يريد وما هو مراد؟ فهو إذاً قاب التقسيم، وكيف لا يكون هو أيضاً، وفي نظرك، ثمرة الإرادة؟ وإذا كان الله عن غير إرادة منه، فمن اضطره إلى إن يكون الله؟ وكيف يكون الله إذا اضطر إلى ذلك، ولم يضطر إلى غير ذلك، وبل إلى أن يكون الله؟ قل كيف وُلِدَ الابن إذن؟ كيف خُلق، إذا كنت ترى أنه مخلوق؟ إننا في هذا كله أمام الصعوبة نفسها. قد تقول إن ذلك بالإرادة والكلمة، إلا أنك لم تقل بعد كل شيء. فأنى للإرادة والكلمة القدرة الفاعلة؟ هذا ما بقي عليك أن تقوله، إذ ليس الأمر نفس الأمر في دنيا الإنسان.

8 – فكيف وُلد الابن؟ وما كانت ولادته أمراً ذا بال لو كان قريبة من فهمك، أنت الذي لا تعرف كيفية ولادتك نفسها، أو لا تعرف منها إلا شيئاً يسيراً، وبقدر يخجلك أن تأتي على ذكره، ثم تزعم أنك تعرف ذلك كله؟ إنه ليلزمك من العناء قسط وفير قبل أن تجد السبيل إلى اكتشاف كيف جُمعت، وصُورت، ووُضعت، وكيف ترتبط النفس بالجسد، والعقل بالنفس، والنطق بالعقل، وكيف تجري الحركة، والنمو، وهضم الطعام، والإحساس، والذكر، والتذكر، وسائر النشاطات التي بها قوامك، وكيف أن بعضها لكلا النفس والجسد مشتركين، وبعضها الآخر لكل منهما منفردين، وأن بعضها يساند بعضاً آخر؛ ذلك أن الأمور التي يتأخر اكتمالها تكون بواعثها مرافقة لمولدها. قل ما هذه البواعث. وحذار إذ ذاك من تفسير الولادة الإلهية: إن في ذلك لمغامرة خطرة. وإنك وإن عرفت حقيقة ولادتك فلن تعرف حقيقة الولادة الإلهية؛ وهكذا فإذا كنت تجهل حقيقة ولادتك، فكيف تعرف حقيقة الولادة الإلهية؟ وبقدر ما يكون الله أبعد من الإنسان عن أن يُدرك ويُتصور، تكون الولادة العلوية أعصى على الفهم من ولادتك. وإذا كنت تنكر ولادته لا لشيء إلا لأنك لم تفهمها فعليك أن تلغي كائنات كثيرة لم تفهمها، وأن تلغي الله نفسه قبلها كلها؛ إذ إنك لا تملك أن تقول ما هو، مهما تقصت جرأتك البحث ومهما غلا طغيانك في متاهاته. فاقلع عن جرجرتك، واعزف عن التقسيم والتقطيع، وعن ميلك إلى تصور الطبيعة غير الهيولية تصوراً جسمانياً، فقد نتمكن عند ذلك من تخيل شيء لائق بالولادة الإلهية. كيف وُلد؟ وإن لأصيح مرة أخرى في سخط وأقول: فلتكرم الولادة الإلهية في صمت. وإنه لأمر عظيم بالنسبة إليك أن تعرف أنه قد ولد. أما الـ “كيف” فلنعترف بأن الملائكة يجهلونه، فكيف بك أنت. هل تريد أن أبين لك الكيف؟ إنه كما يعرفه الآب الذي وَلَدَ والابن الذي وُلِدَ[16]، وما فوق ذلك محجوب وراء غمامة[17]، ومتوار عن عينيك الضعيفتين.

9 – وهكذا فهل وَلَدَ الآب شخصاً كان موجواً أو شخصاً لم يكن له وجود؟ يا للهذيان! مثل هذا القول يقال فيك وفيّ نحن اللذين كنا كلاوي موجودين “في صلب إبراهيم”[18]، واللذين ولدنا في قسم منا. وهكذا فمصدرنا الوجود والعدم، بخلاف المادة الأولى التي لا شك في كونها ذات بداية في الوجود، والتي يذهب البعض إلى أنها غير مولودة[19]. أما ههنا[20] فالولادة رفيقة الوجود، و”منذ البدء”[21]، فأين تجعل سؤالك الخدّاع؟ هل من شيء أقدم مما هو “منذ البدء” لكي نجعل فيه تاريخ وجود الابن أو عدم وجوده؟ في كلا الحالين يزول هذا الـ “منذ البدء”. وقد نتعرض، إذا عدنا وسألناك عن الآب هل هو صادر عن كائنات ذات وجود أو عن العدم، قد نتعرض لأن يكون لنا أبوان، أحدهما سابق الوجود، والآخر موجود، أو شأنه شأن الابن تأتي به من العدم أسئلتك السخيفة وتركيباتك الرملية التي لا تلبث في وجه أضعف الرياح. وألا أقر هذا ولا ذاك، وأثبت أن السؤال سخيف وأن الجواب غير عسير. وإن بدا لك، في عرف جدليتك، أن أحد الأمرين صحيح وثابت الحقيقة في كل حال، فهب لي أن أوجه إليك السؤال الصغير التالي: هل الزمن في الزمن، أم ليس الزمن؟ إن كان في الزمن، فما هو هذا الزمن؟ ولماذا يتميز عن الآخر؟ وكيف يحويه هذا الآخر؟ وإذا لم يكن الزمن في الزمن فأنى لهذه الحكمة الحاذقة أن تتقدم بزمن غير زمني؟ والمقولة “أنا الآن أكذب” تجري على هذا أو ذاك، فإما على حقيقة، وإما على خطأ، إذ إننا لا نوافق على الأمرين معاً. أجل إن ذلك غير ممكن. فإما أنني أكذب وهي عند ذلك تعبر عن الحقيقة، وإما أنن أقول الحقيقة وهي عند ذلك تعبر عن مكذوب، وهو أمر لا مفر منه[22]. ففيم التعجب من أن تتوافق هنا المفارقتان، وإن تكونا كلتاهما هناك على خطأ، وأن تكون سفسطتك والحالة هذه مظهراً من مظاهر الحماقة؟ وإلى ذلك فأتني بحل للألغاز التالية: هل كنت حاضراً لذاتك عند جرت ولادتك، وهل أنت حاضر لذاتك الآن، ام لم تكن هذا ولا ذاك؟ فإذا كنت حاضراً إذ ذاك، وإن كنت حاضراً الآن، فعلام حضورك ولمن كان هذا الحضور؟ وكيف كنت أحد هذين الأمرين؟ وإذا لم يكن فيما قلناه أي حقيقة لأي من الأمرين، فكيف انفصلت عن ذاتك، وما سبب ذلك الانفصام؟ وقد تقول إنه من الفضول والسخف أن يُبحث في شأن أحد الأشخاص هل هو حاضر لذاته أم غير حاضر، وإن هذا القول يقال في شأن الآخرين لا في شأن ذات الإنسان. فاعلم أنه أشد سخفاً وغباء أن يعرض لمن وُلد “منذ البدء” ويقال في شأنه: هل كان موجوداً قبل هذه الولادة أم لا. مثل هذا الجدل جدير بمن يعمل فيهم الزمان عوامل تمزيقه وتقسيمه.

10 – وهو يقول: ولكن غير المولود مختلف عن المولود، وإذا كان الأمر كذلك كان الابن أيضاً مختلفاً عن الآب. وهل من حاجة إلى القول بأن هذا الاستدلال يؤدي بوضوح إلى إخراج الابن أو الآب من الألوهة؟ فإذا كان غير المولود جوهر الله لم يكن المولود جوهره. وإذا كان هذه جوهره لم يكنه ذاك. أي قياس ينقض هذا القول؟ فاختر من هاتين المَعَرّتين أيهما تشاء، أيها الحديث، إذ إنك تبذل قصاراك في أن تكون كافراً. وبعد ذلك، كيف تقول بأن المولود وغير المولود يختلف أحدهما عن الآخر؟ إذا قلت ذلك في المخلوق وغير المخلوق ما كنت للقول رافضاً، لأن طبيعة من لا بدء له غير طبيعة المخلوق. أما أن تقول بأن الذي وَلَدَ غير الذي وُلِدَ فذلك كلام غير قويم. وإنه لمن الضرورة أن يكون هو إياه، لأن قوام طبيعة من يلد ومن يُولد في كون من يُولد ومن يلد واحد من حيث الطبيعة. أو نعيد القول على النحو التالي: ماذا تعني بقولك غير مولود ومولود؟ إذا كنت تعني اللاولادة نفسها والولادة، فالأمر مختلف، أما إذا كنت تعني المعنيين بهاتين اللفظتين فكيف لا يكون الأمر غير مختلف؟ كذلك شأن اللاحكمة والحكمة فهما أمران مختلفان، ولكنهما يتعلقان بواحد هو الإنسان، وهما لا يقسمان الجواهر وإن كانا منقسمين بالنسبة إلى الجوهر الواحد. كذلك اللازوال واللاخطيئة واللاتحول، فهل هي جوهر الله؟ إذا كان الأمر كذلك كان لله عدة جواهر لا جوهر واحد؛ أو كان الألوهة من مجموعة هذه الأشياء. ولا بد لهذه الأشياء من أن تكون غير مركبة في مجموعة إذا كانت جواهر.

11 – إنهم لا يقولون ذلك لما هنالك من أمور يشارك فيها آخرون[23]، أما ما يختص به الله وحده فهو جوهره. ولا شك في أن الذين يذهبون إلى أن المادة والصورة[24] أيضاً غير مولودتين، ينكرون أن تكون اللاولادة من شأن الله وحده دون سواه. أما ظلمات المانويين[25] فعلينا أن نطرحها بعيداً. ولنحسب أن اللاولادة من شأن الله وحده، فما القول في آدم؟ ألم يكن من صنع الله؟ تقول: بلى، لا شك في ذلك. وهل كان وحده إنساناً؟ كلا! لماذا؟ لأن إنسانيته لم تأته من كونه مصنوعاً، فالمولود إنسان أيضاً. وهكذا فليس الله وحده غير المولود، وإن كان ذلك من خصائص الآب وحدهز ألت تقبل أن يكون الله مولوداً أيضاً – لكونه يأتي من الله – وإن كنت شديد التمسك باللامولود. وإلى ذلك فكيف تعبر عن جوهر الله من غير أن تبين ما هو، فتكتفي بإسقاط ما ليس هو؟ أما ألا يكون له أي علاقة بالولادة فكلامك يُظهر ذلك، ولكنه لا يبين طبيعة ما لا ولادة له، كما لا يبين حاله. فما هو جوهر الله؟ إن ضلالك هو الذي يملي عليك هذا الكلام، أنت المنهمك في أمر هذه الولادة. وإنه لعظيم بالنسبة إلينا أن نتوصل إلى معرفة ذلك يوماً وفيما بعد[26]، عندما تنجلي عنا الظلمة[27] وكثافة الجسد[28] على حسب وعد “من لا يكذب”[29]. وليكن في ذلك تفكير المتطهرين ورجاؤهم! وليس لنا نحن إلا أن نتجرأ ونقول: إذا كان عظيماً بالنسبة إلى الآب ألا يصدر عن أحد، فليس بأقل عظمة بالنسبة إلى الابن أن يصدر عن مثل هذا الآب. فهو لا يشترك في مجد من لا علة له، لأنه يصدر عمن لا علة له، ويضيف إلى ذلك شرف الولادة، وهي حقيقة مجيدة وسامية جداً في نظر من لم ترتبط نفسهم بالأرض ارتباطاً وثيقاً، ومن لم تغرق في المادة غرقاً كاملاً.

12 – ولكنهم يقولون: إذا كان للابن والآب جوهر واحد، وكان الآب غير مولود، كان الابن غير مولود أيضاً. يصح هذا القول لو كانت اللامولودية جوهر الله، فيكون هنالك خليط جديد من مولود – لا مولود. ولكن إذا كان الاختلاف في موضوع الجوهر فأنى لك أن تقول هذا القول وكأنه لا يقبل الرد. أفتكون أباً لأبيك، ولا تكون دونه في شيء، لكونك واحداً معه في الجوهر؟ وهكذا فمن الواضح أننا إذا أردنا المباحثة كان لا بد من البحث فيما هو جوهر الله متحاشين عن انتقاص الميزة الخاصة[30]. فأن لا تكون اللاولادة والله أمراً واحداً لاقتضى لله وهو إله البعض أن يكون لا مولود البعض أيضاً، أو قل إن من ليس لا مولود أحد لا يمكن أن يكون إله البعض. تلك تعبيرات مترادفة ومدلولها واحد. والثابت هو أن الله ليس لا مولود البعض – ومن يكون أولئك البعض؟ – وهو إله البعض – بل إله الكل. فكيف يكون الله واللامولود أمراً واحداً؟ أضف إلى ذلك أن اللامولود والمولود من الأضداد مثل المِلْك والحرمان، وهو أمر يجملنا على إدخال الأضداد في جوهر الله، وحاشا الله من ذلك. وبكلام آخر: بما أن المِلْك يسبق الحرمان، وأن الحرمان يُجرد من المِلْك وينقضه، فليس أن جوهر الابن يصبح سابقاً لجوهر الآب وحسب، بل أن جوهر الآب ينقضه ويزيله: هذا ما ينتهي إليه افتراضك!

13 – ماذا بقي لهم من الحجج التي لا تُردّ؟ قد يكون موئلهم الأخير أن يقولوا: إذا لم يتوقف الله عن الولادة فولادته ناقصة، ومتى يكون توقفه عنها؟ ولئن توقف فمنى ذلك أنه ابتدأ. إنهم في ذلك أيضاً جسديون وأفكارهم جسدية. وأنا لن أقول هل المولودية عنده أزلية أم لا قبل أن أتعمق في استيضاح الآية “قبل التلال ولدت”[31]. إني لا أرى ما لهذه الحجة من تعجيز. فلئن كان، في نظرهم، لما ينتهي ابتداء، كان لما لا ينتهي عدم ابتداء، وأين هم والحالة هذه من حقيقة النفس ومن الطبيعة الملائكية؟ لئن كان لهما ابتداء كانت لهما نهاية أيضاً: وإذا لم تكون لهما نهاية، فمن الواضح في نظرهم أن ليس لهما ابتداء. ولكن الثابت أن لهما ابتداء وليس لهما انتهاء. وكأني بهم يرون أن ما ينتهي لم يبتدئ. أما رأينا فهو التالي: كما أن للفرس والثور والإنسان تعريفاً، وكذلك لكل ما هو من نوع واحد، فإذا طابقه التعريف عرف به تعريفاً عينياً، وإذا لم يطابقه لم يعرف به، أو لم يُعرف به تعريفاً عينياً، كذلك الأمر في شأن الله، فهناك جوهر واحد، وطبيعة واحدة، وتسمية مردها إلى واحد، وإن اختلفت الأسماء التي يُدعى بها اختلاف النظر والقصد: فالله هو الذي يدعى الله بالمعنى العيني، أو هو ما هو عليه في طبيعته، يسمى به تسمية حقيقية، هذا مع العلم بأن الحقيقة عندنا هي في الأشياء لا في الأسماء. أما هم، فكأني بهم يخشون أن يفوتهم شيء في زعزعتهم للحقيقة، فلا يعترفون بألوهية الابن إلا عندما تقرعهم الكلمة الإلهية وما تحمله من بينات، ومع ذلك فألوهيته عندهم ذات معنى لا يخلو من لبس، إنها مجرد تسمية جوفاء.

14 – عندما نعترض عليهم بقولنا: كيف؟ ألا يكون الابن إلهاً بالمعنى الحقيقي، كما لا يكون الحيوان في الرسم حيواناً؟ كيف يكون إلهاً إن لم يكن ذلك بالمعنى الحقيقي؟ فيجيبون: ما الذي يمنع أن تكون الألفاظ متجانسة، وألا يكون مدلولها واحداً بالنسبة إلى الآب والابن؟ وهم يستشهدون باللفظة “كلب”، فهو الحيوان الذي يعيش على اليابسة، وهو أيضاً كلب البحر، فاللفظة هي هي، ومدلولها هو المدلول العيني، وهكذا فللألفاظ المتجانسة امتداد خاص في الدلالة، فتكون الكلمة واحدة في اللفظ وتدل على شيئين مختلفين في الطبيعة. ولكن، أيها المفضال، عندما تطلق الاسم الواحد على كائنين مختلفين لا تعني أن أحدهما يفضل الآخر، أو أن أحدهما أقدم والآخر أحدث، أو أن أحدهما أكثر والآخر أقلّ؛ ليس فيهما ما يقضي بذلك. وهكذا فليس الكلب الأول أكثر كلبية من الثاني، والكلب الثاني أقل كلبية من الأول، أي ليس كلب البحر أكثر كلبية من كلب البر، أو بعكس ذلك ليس كلب البر أكثر كلبية من كلب البحر، لماذا، وكيف يكون الأمر غير ذلك؟ وليكن أن للأشياء ذات المنزلة الواحدة وذات الميزات المختلفة تسمية واحدة. وأنت في هذا المقام تعترف بأن من لازم الله أن يكون أهلاً للإجلال، وأن يكون فوق كل جوهر ولك طبيعة، وذلك أمر من شأن الله، وهو نوعاً ما الطبيعة الإلهية، وأنت تنعت به الآب، وتجرد الابن منه، وتجعل هذا الابن دونه رتبة بل في المنزلة الثانية إجلالاً وعبادة، وفيما تجعله في اللفظ مساوياً للآب، تجرده في الحقيقة من ألوهته، وتنتقل بدهاء من المجانسة اللفظية التي تدل على المساواة إلى المجانسة التي تجمع الأشياء غير المتساوية. وهكذا فالإنسان في الرسم والإنسان الحي هما في نظرك أقرب إلى الألوهة من الكلبين المضروب بهما المثل. وبكلام آخر امنحهما كليهما مع التسمية الواحدة المساواة في شرف الطبيعة، وإن كنت تحسب أن طبيعتهما مختلفتان، وهكذا يُنسج كلباك اللذان تخيلتهما لتقيم البرهان على اللامساواة. فما النفع من أن يكون الاسم واحداً، إذا كانت الأشياء التي تفصلها غير متساوية في المنزلة؟ إنك لم تلجأ إلى المجانسة وإلى الكلبين لتبين المساواة في المنزلة، بل لتبين اللامساواة. بأي طريقة أفضل يمكن إقناع من كان في خلاف مع نفسه وفي حرب مع الألوهة؟

15 – لئن قلنا إن الآب أعظم من الابن من حيث العلة، وزادوا على ذلك العبارة “والحال إن العلة هي بالطبيعة”، واستنتجوا بعد ذلك أنه أعظم بالطبيعة، فإنني لا أدري هل يغالطون بهذه السفسطة أنفسهم أم يغالطون من يوجهون إليهم الكلام. فليس كل ما يقال في كائن من الكائنات يقال في مبدأه. ولكن ينظر في القول إلى من يعني وإلى ماذا يعني، وإلا فما الذي يمنعني أناً أيضاً من الإدلاء بهذه المقولة فأقول: “إن الآب أعظم من حيث الطبيعة”، ثم أضيف: “والحال أن لا أحد أعظم من حيث الطبيعة بنوع مطلق، ولا الآب نفسه”، واستنتج بعد ذلك “أن الأعظم ليس أعظم بنوع مطلق” أو “أن الآب ليس آباً بنوع مطلق؟ أو إذا شئت فهكذا: “الله جوهر، والحال أن الجوهر ليس الله بنوع مطلق”، استخرج النتيجة أنت بنفسك: “الله ليس الله بنوع مطلق”. وأنا أرى أن هذا القياس الفاسد يتناول المقول نسبياً والمقول في غير تحديد[32]، على طريقة أولئك المتحذلقين المتمرسين بهذا الفن. وهكذا فعندما نلتقي على طبيعة العلة صفة “الأعظم”، يستدلون هو أنه “الأعظم” من حيث الطبيعة[33]، فيكون ذلك كما لو قلنا إن فلاناً إنسان ميت، فيقولون إن كل إنسان ميت في غير تحديد.

16 – وكيف نتجاوز المقولة التالية وهي كسابقاتها جديرة بالإعجاب؟ إنه يقول: “الآب هو اسم جوهر أو اسم فعل” وهم بذلك يحسبون أنهم قيدونا من الناحيتين: فإن قلنا إنه اسم جوهر جعلنا الابن من جوهر آخر، إذ إن جوهر الله واحد، وهذا الجوهر، في نظرهم، قد سبق الآب وحصل عليه، وإن قلنا إنه اسم فعل اعترفنا اعترافاً واضحاً بأن الابن مخلوق لا مولود، إذ حيث يكون الفاعل يكون من يقع عليه الفعل. ويقولون بتعجب كيف يكون المصنوع والصانع شيئاً واحداً؟ قد يكون في تفصيلك الدقيق ما يثير اهتمامي انا أيضاً لو كان الأمر يقضي بالوقوف عند هذين الافتراضين ولم يكن في الإمكان تجنبهما وعرض مقولة ثالثة أوفر حقيقة: الآب ليس اسم جوهر، أيها الحكماء، ولا اسم فعل، إنه اسم علاقة، اسم يدل على ما هو الآب بالنظر إلى الابن، أو ما الابن بالنظر إلى الآب. وكما أن هذه التسميات لدينا تبين صلة الدم والقرابة، فهي هنالك أيضاً تعني وحدة الطبيعة في المولود وفي الذي ولده. وليكن في معرض رضاك أن الآب جوهر: إن ذلك يشمل الابن، ولا يستبعده، وعلى الأمر إجماع، وفي الألفاظ ما يدل عليه. وليكن أيضاً اسم فعل، إذا شئت؛ وفي هذا الحال أيضاً لن تتمكن من تعجيزنا: فقد صدر عن الآب منهو من جوهره، هذا وإن كان رأيك في موضوع الفعل رأياً فطيراً. أثرى كيف استطعنا أن نفلت من حبائلك في الحرب الشنيعة التي أردت أن تثيرها؟ والآن وقد لمسنا صلابتك في التحذلق والمداورة هيا بنا نرى مقدرتك على اعتماد الأقوال الإلهية علك تجد فيها ما يقنعنا.

17 – فمن هذه الألفاظ العظيمة والسامية عرفنا ألوهية الابن وأشدنا بها. أي ألفاظ؟ الله، الكلمة، “الذي كان منذ البدء، وكان المبدأ مع المبدأ”: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”[34]، و “لك الرئاسة”[35] و “من فعل وصنع داعاُ الأجيال من البدء”[36]. وإذا كان الابن الوحيد، فـ “الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر”[37]. وهو “الطريق والحقيقة والحياة والنور”: “أنا هو الطريق والحق والحياة”[38]، و “أنا نور العالم”[39]. وهو “حكمة وقوة”: “فالمسيح قوة الله وحكمة الله”[40]، “وهو إشعاع، وطابع، وصورة، وختم”: ” وهو ضياء مجده، وصورة جوهره”[41]، “صورة صلاحه”، و “لأن هذا قد ختمه الآب الله”[42]. إنه “السيد، والملك، والكائن، والكلي القدرة”: “وأمطر الرب ناراً من عند الرب”[43]، و”صولجان ملكك هو صولجان استقامة”[44]، و “الكائن والذي كان والذي سيأتي”، و”القدير”[45]. من الواضح أن جميع هذه الأقوال قيلت في الابن كما قيل فيه جميع ما شابهها، ونحن لا نجد في ذلك شيئاً اكتسب أو أضيف فيما بعد إلى الابن أو على الروح القدس كما لم يضف إلى الآب نفسه. فالكمال الإلهي لم يكون بالإضافة. وهكذا لم يكن الآب يوماً بدون الكلمة، ولم يكن يوماً غير آب، ولم يكن يوماً بغير حقيقة، أو بغير حكمة، أو بغير قدرة، أو بغير حياة أو إشراق أو صلاح.

18 – ومقابل ذلك أورد الأقوال التي تتسلح بها جهالتك من مثل: “إلهي وإلهكم”، الذي هو “أعظم”[46]، والذي “حاز”[47]، والذي “جعل”[48]، والذي “قدس”[49]، وكذلك، إذا شئت، اللفظتين: “عبد”[50]، “يطيع”[51]، والتعبيرات: “أعطيت”[52]، “أعلم”[53]، “هذه الوصية قبلتها”[54]، “أرسلني”[55]، “الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً”[56]، لا الكلام[57]، ولا الدينونة[58]، ولا العطاء[59]، ولا الإرادة[60]، “وهذه أيضاً: اللا علم[61]، والخضوع[62]، والصلاة[63]، والسؤال[64]، والنمو[65]، والكمال[66]، وأضف إذا شئت كل ما هو أوضع وأحقر كالنوم[67]، والجوع[68]، والتعب[69]، والبكاء[70]، والارتياع[71]، والانهيار[72]. وقد تأخذ عليه أيضاً صلبه وموته. ويبدو لي أنك تغفل قيامته وصعوده لما فيهما مما يؤيد رأينا. وفي إمكانك أيضاً أن تلتقط مواد كثيرة إذا شئت أن تقيم لك إلهاً بالمعنى اللبسي والتمويهي، إلهاً نعده نحن إلهاً حقيقاُ مساوياً للآب في الكرامة.

وإننا إذا أنعمنا النظر في كل من هذا الأقوال، لم يصعب علينا شرحه في الخط السوي، وتجريده من العقبات التي تعترضك، هذا ما لم تكن من العاثرين الأشرار. فأرجع أولاً ما هو أسمى إلى الألوهة، إلى الطبيعة التي هي فوق الأهواء وفوق الجسد، وما هو دون ذلك إلى المركب التجسدي، إلى الذي من أجلك أخلى ذاته[73]، وصار جسداً[74]، وبكلام أوفى صار إنساناً[75]، والذي بعد ذلك رفع[76]، لكي تنتزع أنت من تعاليمك ما هو مادي وأرضي، ولكي تتعلم التعالي فوق ذلك الارتقاء مع الألوهة، فلا تظل في غمرة الأشياء المرئية، بل تصعد لكي تكون مع الروحيات، وتدرك ما قيل في الطبيعة الإلهية، وما قيل في “التدبير الإلهي”[77].

19 – فالذي هو الآن حقير في نظرك، كان قبلاً أرفع منك، الذي هو الآن كان حينذاك غير مركب. ما كان بقي عليه، وما لم يكنه صار إليه. كان في البدء[78] بلا علة – وهل يكون لله علة؟ –ثم وُلد لعلة. وكانت العلة أن تخلص، أنت المجدف عليه، ومحتقر الألوهة التي تحملت كثافتك؛ والإنسان الأرضي، الذي اتحد بالجسد بوساطة روح، صار إلهاً عندما امتزج بالله، وصار واحداً يغلب فيه الأفضل والأرفع، وبذلك أُصبح أنا إلهاً بقدر ما أَصبح هو إنساناً. لقد ولد[79]، ولكنه كان مولوداً[80]؛ ولد من امرأة[81]، ولكنها امرأة عذراء[82]. ظاهرات بشرية وأخرى إلهية. إنه ههنا بغير أب[83]، ولكنه هناك بغير أم[84]. إنه شأن إلهي. حمل في أحشاء أمه[85]، ولكن نبياً في أحشاء أمه أيضاً عرفه وارتكض[86] في حضرة الكلمة الذي لأجله كان. لقد لف في قمط[87]، ولكنه ألقى عن الأكفان[88] عندما قام. لقد وضع في مذود[89]، ولكنه لقي من الملائكة تمجيداً[90]، ومن الكواكب دلالة[91]، ومن المجوس عبادة[92]. كيف تتعثر فيما هو من معطيات العين، ولا تأخذ بمعطيات العقل؟ لقد هرب إلى مصر[93]، ولكنه هرّب المصريين[94]. لم يكن له “صورة ولا بهاء[95]” في نظر اليهود، ولكنه في نظر داود “أبهى جمالاً من بين آدم”[96]، وهو يتلألأ على الجبل كالبرق ويضيئ وجهه كالشمس[97]، مشيراً بذلك إلى المستقبل.

20 – لقد اعتمد[98] كإنسان، ولكنه رفع الخطايا[99] كإله، وذلك لكي يقدس المياه. لقد جُرب[100] كإنسان، ولكنه تغلب[101] كإله، وهو يطلب الثقة لكونه تغلب على العالم[102]. لقد جاع[103]، ولكنه أطعم الألوف[104]، ولكنه الخبز الحي والسماوي[105]. لقد عطش[106]، ولكنه صاح قائلاً: “إن عطش أحد فليأت إلي ويشرب”[107]، ولكنه وعد أيضاً بأن يصبح المؤمنون به ينابيع ماء حي[108]. لقد تعب[109]، ولكنه الراحة للمتعبين والمثقلين[110]. لقد أثقله النوم[111]، ولكنه كان على البحر خفيفاً[112]، ولكنه يأمر الرياح[113]، ولكنه عندما كاد بطرس يغرق جعله خفيفاً[114]. إنه يؤدي الجزية، ولكنه يستخرجها من فم السمكة[115]، ولكنه ملك[116] من يطالبونه بها. إنه يدعى سامرياً وشيطاناً[117]، ولكنه يخلص من كان منحدراً من أورشليم وواقعاً في أيدي اللصوص[118]، كما أن

الشياطين تعرفه[119]، وهو يطردها[120]، ويغرق جوقة من الأرواح الشريرة[121]، ويرى أركون الشياطين “ساقطاُ من السماء كالبرق”[122]. يُرجم بالحجارة ولكنه لا يقبض عليه[123]. إنه يصلي[124]، ولكنه يستجيب الدعاء[125]. إنه يبكي[126]، ولكنه يكفكف عن البكاء[127]. يسأل أي وُضع لعازر[128] لأنه إنسان، ولكنه يقيم لعازر[129] لأنه إله. لقد بيع وبثمن بخس، وبثلاثين من الفضة[130]، ولكنه يفتدي العالم، وبثمن باهظ، بذات دمه[131]. كشاة سيق إلى الذبح[132]، ولكنه راعي إسرائيل[133]، وهو الآن راعي الأرض كلها[134]. إنه كحمل صامت[135]، ولكنه الكلمة[136] الذي بشر به الصوت الصارخ في البرية[137]. لقد أخذ عاهاتنا[138] وجرح[139]، ولكنه يشفي “كل مرض وكل ضعف”[140]. لقد علق “على خشبة”[141]، وسمر عليها[142]، ولكنه يصالحنا بواسطة “شجرة الحياة”[143]، ولكنه يخلص اللص المصلوب إلى جانبه[144]، ولكنه ينشر الظلمة على كل ما يرى[145]. لقد سُقي خلاً[146] وأُشبع مرارة[147]، مَنْ؟ ذاك الذي يحول الماء خمراً[148]، الذي يزيل المرارة[149]، وهو “أعذب ما يكون وبجملته شهي”[150]. إنه يبذل نفسه[151]، ولكن له سلطاناً أن يأخذها أيضاً[152]، ولكن حجاب الهيكل ينشق[153] – إذ تظهر العلويات – ولكن الصخور تشقق[154]، ولكن الراقدين يقومون[155]. إنه يموت[156]، ولكنه “يُحيي”[157]، وبموته يبطل الموت[158]. لقد دفن[159]، ولكنه يقوم[160]. إنه ينحدر إلى الجحيم[161]، ولكنه يُخرج النفوس منها[162]، ولكنه يصعد إلى السماوات[163]، ولكنه سيأتي “ليدين الأحياء والأموات”[164]، ويمحص ما كان مثل ترهاتك من أقاويل. لئن كان في بعض الأقوال ما يقودك إلى الضلال فليكن لك في غيرك ما يمحق ضلالك.

21 – هذا ما نتوجه به إلى صانعي الألغاز، وما ذلك عن رغبة منا – إذ لا يطيب للمؤمنين أن يصطنعوا الثرثرة ومقارعة الجدل، ولهم في الخصم[165] الواحد كفاية – مع ذلك فكان لا بد من تسفيه المناوئين، إذ إن الأمراض تستوجب الأدوية، وذلك لكي يدركوا أنهم لا يحيطون بكل شيء، وأنه من الممكن التغلب عليهم في الأمور الباطلة والتي تبطل الإنجيل[166]. وهكذا فعندما نقدم سلطان التحليل العقلي ونهمل الإيمان، عندما نبطل سلطان الروح بتحرياتنا ويكون التحليل العقلي دون عظمة الموضوع – وسيكون كذلك على كل حال لأنه ثمرة أداة ضعيفة هي عقلنا البشري – فماذا يجري والحالة هذه؟ إن الاستدلال يبدو كالسر ضعيفاً. وهكذا فإن دقة التحليل العقلي تظهر “بطلان الصليب”[167] على حد ما يرى بولس. ذلك أن الإيمان يكمل عقلنا.

وفيما يتعلق بذاك الذي يحل ما عقد ويبين الألغاز[168]، ذاك الذي أوعز إلينا أن نحل بالقوة عقد العقائد، عسى أن يغير هؤلاء الناس، فيجعلهم مؤمنين لا أرباب تحذلق وتمنطق، ومسيحيين لا موسومين بالاسم الذي يطلق عليهم الآن[169]. إننا نحرض على ما يلي. نطلب لأجل المسيح أن “تصالحوا مع الله”[170]، و “لا تطفئوا الروح”[171]؛ أو بالحري عسى أن يصالحكم المسيح، وعسى أن ينيركم الروح ولو متأخراً. وإن لبثتم متمسكين بأسلوب المشاجرة فعسى أن ننقذ لنا الثالوث وأن ينقذنا الثالوث فنظل أطهاراً “لا عثار فينا”[172] إلى أن يتجلى لنا تجلياً أكمل ما نصبو إليه في المسيح نفسه ربنا الذل “له المجد إلى دهر الدهور”[173]. آمين.

[1] عب 10: 38.

[2] كان آريوس، مؤسس الأريوسية، قد اعتمد في تعليمه خطة السهولة والإيجاز، كما عمد إلى إدخال هذا التعليم في الأغاني الشعبية.

[3] هذه الألفاظ اليونانية الثلاث تعني: لا سيد، عدة أسياد، سيد واحد.

[4] يريد رجال اليونان وقد شبههم بالأطفال.

[5] يو 1: 1.

[6] أفلوطين: التاسوعات 5: 1، 6.

[7] يو 15: 26.

[8] كان أفنوميوس يذهب إلى أن الآب سابق للابن لأنه مبدأ له.

[9] عب 1: 2.

[10] انحصر هذا الرأي وأتباعه دون سائر الآريوسيين.

[11] لعله يشير بذلك إلى المسوخ والسواقط.

[12] مز 2: 1.

[13] مز 65: 6.

[14] ليس في التصريف الفعلي العبراني صيغ للدلالة على الماضي والمستقبل بدقة. من هنا الصعوبة التي اعترضت أصحاب الترجمة السبعينية.

[15] سيأتي في كلام الخطيب أن المراد شأن المريد، أي صاحب الإرادة.

[16] متى 11: 27؛ لو 10: 22.

[17] خر 14: 20، متى 17: 5.

[18] عب 7: 10.

[19] إشارة إلى أفلاطون وأرسطو.

[20] أي في الله.

[21] يو 1: 1.

[22] ينسب شيشرون هذه السفسطة إلى كريسيبوس.

[23] أي الملائكة الذين ينعمون باللازوال واللاخطيئة واللاتحول.

[24] إشارة إلى أفلاطون.

[25] كان المانويون يقولون بالظلمة غير المولودة.

[26] 1يو 3: 2؛ 1كور 13: 12.

[27] يو 1: 5.

[28] حك 9: 15.

[29] تيط 1: 2.

[30] أي الميزة التي تميز الشخص وتنحصر فيه. وهي الأقنومية.

[31] الأمثال 8: 25.

[32] فساد هذا القياس في الانتقال من مقولة محدودة الدلالة إلى مقولة غير محدودة.

[33] فساد هذا القياس في استعمال اللفظة “طبيعة” بمعنين مختلفين. هي أولاً طبيعة الآب الخاص، أي ميزته الخاص، على أنه العلة؛ وهي ثانياً بالمعنى العام الذي نجده في الطبيعة الإنسانية حيث لا يختلف الابن عن أبيه ولا يكون أقل منه إنسانية.

[34] يو 1: 1.

[35] مز 109: 3.

[36] أش 41: 4.

[37] يو 1: 18.

[38] يو 14: 6.

[39] يو 8: 12.

[40] 1كور 1: 24.

[41] عب 1: 3. اللفظة “جوهر” تعني هنا ما تعنيه في رسالة بولس إلى العبرانيين.

[42] يو 6: 27.

[43] تك 19: 24.

[44] مز 44: 8.

[45] رؤ 1: 8

[46] يو 14: 28.

[47] أم 8: 22.

[48] أع 2: 36.

[49] يو 10: 36.

[50] أش 49: 3، 5.

[51] فيل 2: 8.

[52] يو 18: 9.

[53] يو 15: 15.

[54] يو 10: 18.

[55] يو 9: 4.

[56] يو 5: 19.

[57] يو 12: 49.

[58] يو 8: 15.

[59] مر 10: 40.

[60] متى 26: 39.

[61] متى 24: 36.

[62] لو 2: 51.

[63] لو 6: 12.

[64] لو 2: 46.

[65] لو 2: 52.

[66] لو 2: 52.

[67] متى 8: 24.

[68] متى 4: 2.

[69] يو 4: 6.

[70] يو 11: 35.

[71] مر 14: 33.

[72] مر 14: 33.

[73] فيل 2: 7.

[74] يو 1: 14.

[75] طالع مر 15: 39، فيل 2: 7.

[76] فيل 2: 9.

[77] يجب التمييز بين ما هو الابن بطبيعته، وما أراد له الآب في تدبيره الخلاصي من تجسد وتقبل للألم والجوع وسائر ما يعرض للكائن البشري ما عدا الخطيئة.

[78] يو 1: 1.

[79] متى 1: 16.

[80] مز 2: 7؛ أع 13: 33؛ عب 1: 5؛ 5: 5. لقد وُلد من العذراء مريم إنساناً، ومن الآب ابناً لله.

[81] غلا 4: 4.

[82] طالع لو 1: 34-35؛ متى 1: 20.

[83] متى 1: 20.

[84] مز 2: 7.

[85] لو 1: 31.

[86] لو 1: 41.

[87] لو 2: 7، 12.

[88] طالع يو 20: 6-7.

[89] لو 2: 7، 16.

[90] لو 2: 13-14.

[91] متى 2: 2؛ 7: 9-10.

[92] متى 2: 11.

[93] متى 2: 13-14.

[94] خر 14: 27.

[95] أش 53: 2.

[96] مز 43: 3.

[97] متى 17: 2.

[98] متى 3: 16؛ لو 3: 21.

[99] يو 1: 29.

[100] متى 4: 1؛ مر 1: 13؛ لو 4: 2.

[101] متى 4: 11؛ لو 4: 13.

[102] يو 16: 33.

[103] متى 4: 2؛ لو 4: 2.

[104] متى 14: 20-21؛ 6: 42-44؛ متى 15: 38؛ مر 8: 9.

[105] يو 6: 41.

[106] يو 19: 28.

[107] يو 7: 37.

[108] يو 7: 38.

[109] يو 4: 6.

[110] متى 11: 28.

[111] متى 8: 24؛ مر 4: 38.

[112] متى 14: 25؛ مر 6: 48؛ يو 6: 19.

[113] متى 8: 26؛ مر 4: 39؛ لو 8: 24.

[114] متى 14: 31.

[115] متى 17: 24-26.

[116] يو 18: 37.

[117] يو 8: 48.

[118] لو 10: 30.

[119] مر 1: 24؛ لو 4: 34.

[120] متى 8: 16.

[121] مر 5: 13-19؛ لو 8: 30.

[122] لو 10: 18.

[123] يو 10: 31، 39.

[124] مر 1: 35.

[125] متى 8: 13.

[126] يو 11: 35.

[127] لو 7: 13؛ 8: 52؛ 23: 28.

[128] يو 11: 34.

[129] يو 11: 43: 44.

[130] متى 26: 15.

[131] 1كور 6: 20؛ 1بط 1: 19.

[132] أش 53: 7؛ أع 8: 32.

[133] مز 79: 2.

[134] يو 10: 11-16.

[135] أش 53: 7.

[136] يو 1: 1.

[137] يو 1: 23.

[138] أش 53: 4.

[139] أش 53: 5.

[140] متى 9: 35.

[141] 1بط 2: 24.

[142] مر 15: 24؛ طالع لو 23: 33؛ متى 27: 35؛ يو 19: 17.

[143] تك 2: 9؛ 3: 22؛ رؤ 2: 7.

[144] لو 23: 43.

[145] متى 27: 45؛ مر 15: 33؛ لو 23: 44.

[146] متى 27: 48.

[147] متى 27: 34.

[148] يو 2: 7-9.

[149] خر 15: 23-25؛ طالع حك 8: 16.

[150] نش 5: 16.

[151] يو 10: 17.

[152] يو 10: 18.

[153] متى 27: 38؛ لو 23: 45.

[154] متى 27: 51.

[155] متى 27: 52.

[156] متى 27: 50؛ مر 15: 37؛ لو 23: 46؛ يو 19: 30.

[157] يو 5: 21.

[158] 2تيم 1: 10؛ عب 2: 14.

[159] متى 27: 60؛ مر 15: 46؛ لو 23: 53؛ يو 19: 41-42؛ 1كور 15: 4.

[160] متى 28: 6؛ مر 16: 6؛ لو 24: 6؛ يو 20: 8-9؛ 1كور 15: 4:

[161] أف 4: 9.

[162] أف 4: 8.

[163] مر 16: 19؛ لو 24: 51؛ أع 1: 10-11؛ عب 9: 24؛ 1بط 3: 22.

[164] 2تيم 4: 1؛ 1بط 4: 5.

[165] طالع 1بط 5: 8.

[166] طالع 1كور 1: 17.

[167] 1كور 1: 17.

[168] طالع دا 5: 12.

[169] أي الاسم “أفنوميين” أو أتباع أفنوميوس.

[170] 2كور 5: 20.

[171] 1تسا 5: 19.

[172] أع 24: 16؛ فيل 1: 10.

[173] رؤ: 1: 6.