أبحاثإلحاد

الله يتكلم في مشكلة أيوب – مشكلة الشر

الله يتكلم في مشكلة أيوب – مشكلة الشر

الله يتكلم في مشكلة أيوب - مشكلة الشر
الله يتكلم في مشكلة أيوب – مشكلة الشر

الله يتكلم في مشكلة أيوب – مشكلة الشر

أيوب 32-41

في عام 1944، تم اعتقال صبي هنغاري في الرابع عشرة من عمره يدعى إيلي ويزل، مع أمه وأخته بواسطة جماعة الجيستابو، وتم حشدهم مع ثمانين آخرين في شاحنة للماشية. وسافروا بهذه الحال لمدة ثلاث أيام حتى وصلوا إلى معسكر تعذيب في أوشويتز، تم عزل الرجال عن النساء، وهكذا لم يرى الصبي أمه وأخته مرة أخرى. كتب إيلي قائلاً: «لن أنسى أبداً تلك الليلة، أول ليلة قضيتها في المعسكر، والتي حولت حياتي على ليلة واحدة طويلة ملعونة. لن أنسى مطلقاً ذلك الدخان، ولا تلك النيران التي التهمت إيماني إلى الأبد… كما لن أنسى مطلقاً تلك اللحظات التي قتلت إلهي ونفس وحولت أحلامي إلى تراب. كان البعض يتحدثون عن الله، وعن طرقه الغريبة الغامضة، وعن خطايا الشعب، وعن خلاصه المستقبلي، ولكني توقفت عن الصلاة، كم أتعاطف مع أيوب! فأنا لم أنكر وجود الله، ولكني شككت في عدله المطلق»[1].

معضلة مميتة

لقد كان من المعروف على مدى زمان طويل أن وجود الألم في العالم يمثل مشكلة بالنسبة للمؤمنين بالله، خاصة بالنسبة للمسيحيين. ويتم صياغة هذا الأمر في بعض الأحيان في شكل المعضلة التي فحصناها في بداية هذا الكتاب: إذا كان الله محب بالكامل فلا بد أن يزيل الشر. وإذا كان الله كلي القدرة فلا بد أنه يقدر على إزالة الشر. لكن الشر لا يزال موجوداً، لذلك، فلا يمكن أن يكون الله كلي الصلاح وكلي القدرة معاً في نفس الوقت. فكيف نستجيب تجاه هذا الأمر؟

كما رأينا، هناك العديد من الحلول البسيطة لهذه المشكلة، والتي من ناحية أو أخرى تنكر واحداً أو أكثر من تلك المعتقدات التي تجعل من الأمر معضلة في المقام الأول. لذلك فإن بعض الناس ينكرون أن الله كلي القدرة. أذكر أنني حضرت اجتماعاً للقسوس، حيث كانت إحدى الشماسات تؤمن بما أطلقت عليه “إلهاً ضعيفاً”. وكانت متعنتة في قولها ما يمنحها العزاء هو اعتقادها أن الله مشغول بالصراع مع الحياة مثل بقيتنا. ومن ناحية أخرى، ينكر بعض الناس وجود الشر، مثل طائفة “العلوم المسيحية” التي تعتبر الشر مجرد وهم عقلي. كما أن هناك آخرون يشككون في صلاح الله، وخاصة في عدله. وهذا هو ما كان يفعله إيلي ويزل، وهذا أيضاً هو ما وجد أيوب نفسه يقوم به. لقد كان يعرف أن الله كلي القدرة، وكان متأكداً من أن الألم شيء حقيقي وواقعي، لكننا كما رأينا في الفصل السابق، أثارت الأزمة التي كانت في ذهنه التشكك في صلاح الله، ففي العدد الأول من أصحاح 27، يذكر أيوب بوضوح أن الله قد تخلى عن عدله.

فما الذي دفع أيوب للوصول إلى هذه النتيجة؟ أيوب التقى، أيوب “المسيحي” الذي حتى في أحلك ساعاته رفض أن يلعن الله، لماذا يقول هذا الزعم الرهيب بأن الله ليس عادلاً؟ يبدو أن الإجابة هي أن أيوب أيضاً كان يفكر في نظرية عدالة القصاص. فيبدو أنه هو أيضاً اشترك مع أصدقائه في النظرة التي تقول أن الله من خلال الألم يقوم بتنفيذ أحكامه ودينونته في العالم، ولكن أيوب كان يختلف معهم في أن استنتاجهم أن أيوب يتألم بسبب خطاياه. وهكذا فبوجود نظرية أن كل الآلام هي دينونة من الله، فإن النتيجة الوحيدة التي استطاع أيوب التوصل إليها هي أن الله لا يمارس حكمه ودينونته بعدل. فقد كان أيوب يعرف أنه بار، فلا بد إذاً أن يكون الله هو المذنب.

لكن هناك لقاءات آخران يصححان أفكار كل من أيوب وأصدقائه الثلاثة، ويفتحان الطريق فهم مختلف لسبب سماح الله بالألم. اللقاء الأول هو مع معزي آخر، أصغر سناً بكثير، وهو أليهو، والذي حتى تلك اللحظة ظل صامتاً. أما اللقاء الثاني فكان مع الله نفسه.

الشاب الغاضب

عندما نلتقي بأليهو في أصحاح 32، نجد أنه شاب غاضب للغاية. فهو لم يتكلم حتى تلك اللحظة، لأنه كان يشعر أنه كشاب أصغر من رفاقه فإنه من الأحكم والأكثر احتراماً أن يسمح للشيوخ بأن يتكلموا أولاً: «فأجاب أليهو بن برخئيل البوزي وقال أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ. لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لك رأيي». ولكنه في النهاية وصل إلى النقطة التي لم يتمكن فيها أن يمسك غضبه أكثر من ذلك. فقد استمع إلى المعزين الثلاثة، كما استمع إلى أيوب، ووجد كلامهم جميعاً غير مقنع بالكامل. فالأصدقاء الثلاثة ببساطة لم يجيبوا على اعتراضات أيوب، كما أشار أليهو إلى ذلك في عدد 12، وقد تحدث أيوب كثيراً وحاصرهم بكلامه حتى أنهم استسلموا في النهاية ولم يقدروا على المزيد من الجدل، متخذين موقف «نحن على صواب وأنت على خطأ، وهذا هو الأمر». لكن أيوب أيضاً أغاظ أليهو، ليس بسبب اعتراضاته بأنه بريء، فقد كان أليهو يصدقه في هذا الأمر، لكنه غضب منه لأنه كان شديد اللهفة لتبرئة نفسه وسمعته الشخصية، على حساب سمعة الله:

«إنك قد قلت في مسامعي وصوت أقوالك سمعت. قلت إنك بريء بلا ذنب. زكي أنا ولا إثم لي. هوذا يطلب عليّ علل عداوة. يحسبني عدواً له. وضع رجلي في المقطرة. يراقب كل طرقي. ها إنك في هذا لم تصب. أنا أجيبك. لأن الله أعظم من الإنسان» (أيوب 33: 8-12).

ثم مرة أخرى في 34: 12، نقرأ: «فحقاً إن الله لا يفعل سوءًا والقدير لا يعوض القضاء». فهو يقول لأيوب «قد تكون بريئاً كما تقول، ولا يصح أن يقوم أصدقاؤك الثلاثة بالشك في هذا الأمر؛ لكن بنفس الطريقة، لا يصح لك أن تشك في بر الله وعدالته. ربما لم تخطئ خطية شنيعة عندما بدأت في الكلام، ولكنك على حافة القيام بهذا الأمر الآن. لذلك فأنت مخطئ».

السبب الأول الذي يعتقد أليهو لأجله، على صواب، أن أيوب مخطئ هو أن «الله أعظم من الإنسان» (33: 12). ليس مجرد أنه أكثر قوة، بل أن خططه وأهدافه هي على مدى أوسع بما لا يقاس، كما أنها أكثر تعقيداً بما لا يمكن أن تتخيله عقولنا المحدودة. كما يقول إشعياء 55: 9 إن طرقه ليست كطرقنا. وأن أفكاره أعظم من أفكارنا. فيقول أليهو «إن مشكلتك يا أيوب هو أنك ترى الله كما لو أنه مجرد إنسان كبير أو عظيم، كما لو كان ليس أكثر من طاغية متقلب المزاج يتصرف دون منطق. إن مجرد عدم فهمنا في الحال للسبب الذي يجعله يتصرف بتلك الطريقة، لا يعني أنه لا يوجد سبب. فمجال الزمن الذي يعمل فيه الله وتوقيتاته واهتماماته هي أعظم منا بكثير، ونحتاج أن نتذكر ذلك دائماً».

مشكلة الألم

ثانياً، يتتبع هذا الخط من التفكير، يفترض أليهو منظوراً مختلفاً تماماً لفهم الألم. فبدلاً من النظر للوراء لمحاولة معرفة سبب الألم، وطرح سؤال: «هل هذا الألم يرجع إلى خطية أيوب أو إلى ظلم الله» (بينما الإجابة ليست بهذا ولا بذاك)، يفترض أليهو أنه ربما من الأصلح أن نتطلع إلى الأمام لمحاولة التعرف على الهدف من الألم. بمعنى آخر، إذا كان الله صالحاً وكلي القدرة، فما نحتاج أن نسأله هو، ما الخير الذي يمكن أن نناله بسماحة لنا بالألم بهذه الطريقة؟ والإجابة التي يقدمها أليهو، هي أن الألم هو جزء من أسلوب الله لتقويمنا، ولمنعنا من تخطي الحدود والخروج عن القضبان، والانتهاء في الجحيم، «ليحول الإنسان عن عمله ويكتم الكبرياء عن الرجل، ليمنع نفسه عن الحفرة وحياته من الزوال بحربة الموت» (33: 17-18). وفي عدد 19 يتحدث أليهو عن إنسان «يؤدب بالوجع على مضجعه». وبعد ذلك يقول إن الله «يفتح آذانهم للإنذار»، «ويفتح آذانهم في الضيق» (أو بحسب الترجمة الإنجليزية «يتحدث إليهم في ضيقهم») (36: 10، 15)، كان أيوب يشكو بالفعل من أن الله لا يتحدث إليه، لكن أليهو يفترض أنه يتكلم «لكن الله يتكلم مرة وباثنتين لا يلاحظ الإنسان» (33: 14)، وأنه يتكلم مع أيوب من خلال ألمه. أصر أصدقاء أيوب الآخرين على أن الله يجب التفكير فيه أساساً كقاض وديان، بينما أليهو كان يعتقد أنه يجب التفكير فيه كمعلم: «من مثله معلماً؟» (36: 22). بمعنى آخر أنها نظرة ضيقة للغاية أن نعتقد أن كل ألم هو قصاص. أفليس من الممكن أن تكون بعض الآلام هي تهذيب وتعليم من الله؟

منذ سنوات قليلة مضت، كانت هناك سلسلة برامج تلفزيونية وثائقية تدعى “Commando”، وكانت برامج تعنى بالتدريب الذي يؤدي في النهاية إلى تخريج مشاة للبحرية الملكية. كانت ببساطة برامج مرعبة! فالمشاهد العادي الذي لا يعرف شيئاً عما يحاول المدربون أن يحققوه، قد يتوصل إلى نتيجة تقول إنهم ببساطة يكرهون المجندين. فيرى المشاهد المدربون وهم يضربون هؤلاء الشباب المتجندين جسدياً ويصرخون فيهم، أثناء قيامهم بالعدو عبر البلاد لمسافة 20 ميلاً، وهم يحملون على ظهورهم نحو سبعين رطلاً من الأثقال. وحتى لو عانى أحد المتجندين من التواء في الكاحل، أو كسرت عظمة من عظامه، لم يكن يتطلب هذا الأمر أكثر من مجرد أخذ بعض الحبوب المسكنة! كان الأمر يبدو كله وكأنه نوع من التعذيب السادي. لكن يقوم المدربون عندها بشرح ما يأملون تحقيقه، وأن هذا هو السبب الذي يجعلهم يعرضون هؤلاء الشباب لمثل هذا النوع من النظام القاسي، وهو أنهم يرغبون في الحصول على أفضل نوعية ممكنة من الجنود، عالمين أن حياتهم وحياة الآخرين قد تعتمد تماماً على هذا التدريب الذي يتلقونه. فليس ما يشتركون فيه هو نعم من القصاص، بل التدريب والتعليم.

يعلمنا الكتاب المقدس أن هذا هو هدف الله لشعبه وأبنائه الذين يحبهم، من أمثال أيوب. والحقيقة أنه كلما كنا مفضلين أكثر، كلما استخدم الألم أكثر لتسوية الحواف الحادة في حياتنا وتهذيبنا، لكي يجعلنا أكثر اتضاعاً لكي نكون بالنوعية التي يريدنا عليها. فنحن جميعنا معرضون للكبرياء، فإذ نعتقد أننا نستطيع أن ندير حياتنا بأنفسنا، حتى كمسيحيين، نكون في بعض الأحيان شديدي العناد أو بطيئين في التعليم، حتى أننا لا نسمع بجديه ما يرغب الله في أ، يقوله لنا من خلال الكتاب المقدس. ولذلك يتحدث لنا الله من خلال “بوق الألم”، كما يعبر سي إس لويس عن ذلك، لكي يلفت انتباهنا. فمن خلال الألم نتذكر بحق أننا معتمدون على الله في كل نفس من أنفاسنا؛ وأن الحياة والصحة ليس حقوقاً لنا بل هبات وعطايا من الله، ولكننا نتذكر أيضاً أننا لا يجب أن نكون شديدي الانشغال بالعطايا حتى أننا ننسى واهبها. وفي بعض الأحيان نحتاج أن نصحح أفكارنا الخاطئة عن الله، كما فعل أيوب، فأيوب على الرغم من كل تقواه، أظهرت الأحداث الضعف الموجود في تفكيره، بأنه كان مستعداً لتبني فكرة أن الله غير عادل، لكن الألم قد كشف هذا الأمر لكي يتم تصحيحه.

يقول كاتب العبرانيين:

«إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين. فأي ابن لا يؤدبه أبوه. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون. ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم. أفلا نخضع بالأولى جداً لأبي الأرواح فنحيا. لأن أولئك أدبونا أياماً قليلة حسب استحسانهم. وأما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته. ولكن كل تأديب في الحاضر لا يرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عبرانيين 12: 7-11).

لا بد أن نعترف أن هذه الفكرة غريبة على الآذان الحديثة، بما فيها آذان المسيحيين. فنحن نعيش في ثقافة يتم فيها تقدير وتمجيد المتعة فوق كل شيء آخر، ويتم فيها تجنب الألم بأي ثمن. فنحن نتوقع أن كل شيء يجب أن يأتي إلينا بأكبر راحة ممكنة وبأقل تكلفة وتعب ممكن. والنتيجة هي أننا نتوقع حياة مسيحية سهلة. لكن الفكرة الثمينة للغاية بأن تكون لنا علاقة شخصية مع الله، والتي تستحق تعرضنا لبعض المتاعب للحصول عليها، تزعج الكثيرين من المسيحيين، كباراً وصغاراً.

فلماذا نضايق أنفسنا بالذهاب إلى الكنيسة كل أسبوع، ولماذا نزعج أنفسنا بالدراسة الجادة للكتاب المقدس، أو بالاستماع إلى عظة، ولماذا نتحمل تكلفة التلمذة أو الصلاة للعثور على طرق لخدمة الله في كنيسته، الأمر الذي يكلفنا الوقت والجهد؟ قد لا نعلن ذلك كثيراً، لكننا إذ ننظر حولنا في الكثير من كنائسنا اليوم، هذه هي الرسالة التي تأتي إلينا واضحة وعالية. في هذا النوع من الجو الثقافي، يمكننا أن نتوقع أكثر أن يقوم الله بهزنا لكي نخرج من رضانا عن أنفسنا ومن كبريائنا، بأن يضعنا في المطحنة. يمكننا أن نعبر عن هذا الأمر بأن نقول أن الله يريد أطفالاً مدللين يعتقدون أن الله مدين لهم، بل يريد أبناء محبين طائعين يثقون فيه مهما كان الثمن. والسؤال الآن هو: أي من النوعين سنكون؟

يمكننا أن نكون مثل الأبناء العابسين، وننعزل في غرفتنا، ونطور اتجاهات من الاستياء نحو الله بسبب الطريقة التي يعاملنا به، رافضين أن نفتح له الباب استجابة له وهو يقرع. يحذر أليهو أيوب من أنه معرض لخطر الوقوع في هذا الأمر: «احذر لا تلتفت إلى الإثم لأنك اخترت هذا على الذل» (36: 21). أو يمكننا أن نكون مثل الأبناء الطائعين الذين، بينما يقومون بالتعبير عن جرحهم وألمهم، يسألون في وسط الصعوبات، «يا رب، ما الذي تعلمني إياه من هذا الأمر؟»

الله في فقص الاتهام؟

لكن حتى هذا ليس كافياً بالنسبة لأيوب. فهو يريد أن يسمع الله، وهذا بالتحديد هو ما حدث، لكن ليس بالطريقة التي كان أيوب يرجوها: «من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. اشدد حقويك كرجل. فإني أسألك فتعلمني» (38: 2، 3). مثل الكثيرين من الناس اليوم، كان أيوب يتوقع من الله أن يجيب على أسئلة قليلة بشأن الطريقة المريعة التي يدير بها الله عالمه. فكان الله هو الذي يجب أن يوضع في قفص الاتهام بحسب رأي أيوب. لكن الموقف تحول إلى عكس ذلك تماماً، فأيوب هو الذي تم وضعه في قفص الاتهام، وطلب منه أن يجيب الله على قليل من الأسئلة، التي تجعل أمهر العقول توهن:

«أين كنت حين أسست الأرض. أخبر إن كان عندك فهم. ومن وضع قياسها. لأنك تعلم. أو من مد عليها مطماراً… هل في أيامك أمرت الصبح. هل عرفت الفجر موضعه… أدخلت خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد التي أبقيتها لوقت الضر ليوم القتال والحرب… هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ربط الجبار… أترسل البروق فتذهب وتقول لك ها نحن…» (38: 4، 5، 12، 22، 31)

انهالت الأسئلة على أيوب الواحد تلو الآخر، «وماذا عن الحيوانات، هل توفر لها طعامها يا أيوب؟ هل لديك عقل كبير إلى الدرجة التي فيها يمكنك أن تخلق حيواناً غريباً مثل النعامة؟ هل تعتقد أنك شديد الحكمة يا أيوب، وأنني لا أفهم شيئاً؟» كان أيوب يريد لقاء مع الله كلي القدرة، وهذا تماماً ما حصل عليه.

لكن دفاع الله لم يكن تماماً ما توقعه أيوب. ففي أول وقفة، أجاب أيوب: «ها أنا حقير فماذا أجاوبك، وضعت يدي على فمي» (40: 4). في تلك الأيام لم يكن الهدف الأساسي للشخص المتورط في قضية في المحكمة أن يقنع القاضي ببراءته، بل أن يقنع المشتكي عليه، بحيث أنه يسحب قضيته ويعترف بهزيمته بوضع يده على فمه. وهذا هو ما حدث مع أيوب، فقضيته ضد الله قد انهارت مثل كومة من البطاقات.

لكن الله لم ينته بعد. «الآن شد حقويك كرجل، أسألك فتعلمني» (40: 7). ثم يأتي بعد ذلك السؤال القاسي الذي يكمن في قلب خطأ أيوب الفاحش وتمرده، وتمردنا نحن أيضاً:

«لعلك تناقض حكمي. تستذنبني لكي تتبرر أنت. هل لك ذراع كما لله وبصوت مثل صوته ترعد. تزين الآن بالجلال والعز والبس المجد والبهاء» (40: 8-10).

بمعنى آخر، يريد الله أن يقول لأيوب: «من تظن نفسك يا أيوب – هل أنت الله؟» فإن تعرض براءتك شيء، لكن أن تتصرف بكبرياء وتتهمني بالظلم، فهذا شيء آخر. فلكي تصدر حكماً سليماً على الله وما يفعله، لا بد أن تكون لك حكمة أكثر منه، ومعرفة أكبر مما لديك. لكنك لم تتمكن من الإجابة على سؤال واحد من أسئلتي، تلك الأسئلة التي أعرف أنا إجابتها جميعاً. ألم تفكر إذاً أنه يمكن أن تكون لدي الإجابة على سبب سماحي لك بالألم؟ فإن كنت لا تستطيع أن تفهم تعقيدات الخليقة التي يمكنك أن تراها، فهل يمكنك بأمانة أن تتوقع أن تفهم كل أسرار الألم المخفية؟ كلا بالطبع، فأنا الله وحدي الذي أستطيع ذلك».

فضلاً عن ذلك، لماذا نفترض أن الله مدين لنا بتفسير سبب سماحه لنا بالألم، أكثر مما ندين نحن له بتفسير سبب خلقه للنعامة؟ فرغم أننا قد لا نستطيع أن نفهم لماذا قام الله بتصميم وخلق طائر غريب مثل النعامة، فبلا شك أن لدى الله الكثير من الأسباب المقنعة لقيامه بذلك، رغم أنها معروفة له هو وحده. أليس من الممكن أن نقول نفس هذا الأمر عن الألم؟ بل الأكثر من ذلك، أليس من المنطقي أن نثق في الله الذي لديه كل من الحكمة والقدرة لخلق هذا الكون المذهل، حتى رغم عدم قدرتنا على فهم كل الأسباب والتفسيرات لما يحدث فيه؟

لقد أدرك أيوب أخيراً الخطأ الذي ارتكبه، فخطؤه، وخطؤنا. هو أن نظر أننا مطلعون على كل الحقائق، بينما الأمر ليس كذلك، وبذلك فإننا نقوم باستخلاص نتائج خاطئة من البيانات والمعطيات الخاطئة التي لدينا – بأن الله ليس صالحاً، أو أنه لا يهتم، أو أنه لا يتكلم، لكن يجب أن تكون استجابتنا مثل استجابة أيوب، ليس بأن نتكبر بعناد ونطلب أن يفسر الله لنا كل شيء، بل أن نتوب عن افتراضاتنا المسبقة بأننا نعرف أفضل من الله، ونسقط أمامه متعبدين لجلاله:

«قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر. فمن ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة. ولكني قد نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها… لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد.» (أيوب 42: 2-3، 6).

لي صديق يدرس في جامعة كنت أخدم في كنيستها. عندما وصل إلى الجامعة لأول مرة هو وزوجته، لم يكونا مسيحيين. فكان في كثير من الأحيان يأتي ويتجادل معي حول سبب عدم قدرته على الإيمان – وفي كل مرة كنا نناقش كل البراهين، وفي إحدى المرات ذهبت إليهما لكي أراهما وأوضح لهما أن وقت المجادلات قد انتهى، فهما يعرفان أن المسيحية حق، وكانا يعرفان ما عليهما القيام به. كان الشعور بحضور الله في تلك الغرفة جلي ولا يمكن أن يخطئه أحد. وحوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، بعد أن تركتهما، قاما كليهما بتسليم حياتهما للمسيح.

بعد ذلك بقليل، حبلت زوجته، وفي يونيو تمت ولادة الطفل، لكنه توفي بعد أسبوع – فقد كان لديه عيب خلقي في القلب. ولك أن تتذكر أن هذين الزوجين قد أصبحا مسيحيين منذ عدة شهور فقط عندما حدث ذلك. قمت بمراسم الدفن التي كانت موجعة للقلب، إذ دخل التابوت الأبيض الصغير. كان يمكن لصديقاي أن يصرا أن لديهما الحق في معرفة السبب فيما حدث، وإذ لا يتلقيا إجابة، كان يمكنهما أن يلقيا بالإيمان خلف ظهرهما، لكنهما لم يفعلا، فقد عرفا أن الإجابة لن تتاح لهما.

فالزوج عالم أحياء، كان يعرف بالتأكيد عظمة خليقة الله، وبينما كان يحمل طفله بين ذراعيه لآخر مرة، كان يعرف معجزة الميلاد. ولكنهما إذ فكرا في معنى أن يفقدا ابنهما، كانت معرفتهما بأن الله هو أيضاً قد ابنه، هي التي صنعت الاختلاف. فمن وجهة نظر أولئك الذين كانوا يقفون حول الصليب، لم يكن للجلجثة معنى، لكن خطط الله كانت أعظم بما لا يقاس مما يمكن لأي إنسان أن يتخيل، كما أثبتت الأحداث بعد ذلك.

فهل كان هذان الزوجان المسيحيان الشابان يعرفان أن الله كان يحبهما ويحب طفلهما؟ نعم، كانا يعرفان ذلك. وهل كانا يعرفان أن الله لديه الأسباب لجعلهما يجتازان بمثل هذا الحزن العميق؟ نعم، كانا يعرفان، لكن لماذا؟ لأنه في يسوع كان لهما سبب أكثر من كاف لكي يثقا في الله الذي كان يعرف لماذا.

[1] إيلي ويلز، Night (Penguin، 1981).

الله يتكلم في مشكلة أيوب – مشكلة الشر