الرد على محمود داود

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس
المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس

أطل علينا الأخ المسلم المولد محمود داود بفيديو جديد يناقش تناقضًا مزعوما بين بشارة القديس مرقس من جهة وبين بشارتي القديسين متى ولوقا من جهة أخرى، وكان التناقض المزعوم هذه المرة في قصة الارسالية الأولى، حيث يقول القديس مرقس أن المسيح منعهم من حمل العصا بينما يذكر لنا القديسان متى ولوقا أن المسيح سمح لهم بأخذ عصا، ما يعتبره محمود داود تناقضًا بسيطًا وواضحًا، يسهل على الجميع رؤيته وبالتالي معرفة أن الكتاب المقدس ليس بكتاب لله حيث أنه أخطأ، وكتاب الله من الخطأ براء.

وفي هذا الرد المختصر، سنغض الأعين عن عدد من الأخطاء المنطقية في كلامه وسنذكر البعض الأخر بشيء من التعليق، كما سنغض الطرف أيضًا عن الأسلوب التمثيلي الذي بدأ يتبعه في كلامه، حيث أنه يقوم بتمثيل حوار افتراضي بينه وبين أحد المسيحيين ليبيّن له خطأ الكتاب المقدس تارة وخطأ العقيدة المسيحية تارةً أخرى، في حين أنه لا يقول صراحة بأن هذا حوار تخيلي تمثيلي، بل يترك للبعض ممن لا يعرفونه فرصة للاعتقاد بأن هذا المشهد التمثيلي العبثي هو إعادة تصوير لما حدث فعلا على أرض الواقع، وهذا ما لم يكن. كما أنه يتعمد استخدام عناوين كاذبة ليشعر من لا يعرفونه أنه كان مسيحيًا ثم أسلم، أو أنه كان مسلما ثم شك ثم رجع عن شكه.

فبعيدًا عن هذا الأسلوب الصبياني في الطرح، وغير العلمي في التقديم، سنركز كلامنا دائمًا على فحوى اعتراضاته وبعض التعليقات الأخرى والتي نرى أنه لابد من التعليق عليها في وقتها، لكن بعد التعليق على الجزء الرئيسي من الفيديو الخاص به.

قدم لنا محمود داود التالي:

  1. اختلافا ظاهريًا بين بشارة مرقس الرسول من جهة وبشارتي متى ولوقا الرسولين من جهة أخرى.
  2. رد محمود داود (بحسب ما يرى هو) على رد صديقه الوهمي الذي قال له أن هذه القصة ليست تلك القصة، بل هم أكثر من قصة، وبالتالي فلا يمكن الجمع بينهما لاستخراج اختلاف او تناقض لأن هذه قصة وتلك أخرى.
  3. رد محمود على تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي.

وقبل أن نفحص هذه الاعتراضات الساذجة والتي تنم عن عدم وجود فكر نقدي لدى محمود داود، علينا أولا ان نضع الأسس المعرفية المنطقية للتفكير في أي اعتراض نجده مثل هذه الاعتراضات أو غيرها. وعلينا في البداية أن نقوم بتحرير الألفاظ المستخدمة، ألا وهي لفظ “تناقض” ولفظ “اختلاف”.

كلمة “تناقض” جاءت في أصلها من الأصل “نقض” والنقض في اللغة هو الهدم والتلاشي والإفساد. ونستطيع أن نشرح الكلمة بلغاتنا الدارجة الآن، أن التناقض في الكلام يعني ألا يمكن أن يجتمع كلاهما معًا. وبكلمات أخرى، هو الاختلاف بين جملتين الذي لا يجعلهما يبقيان سويًا، فيلزم لزوما حتميًا أن تكن إحداهما خاطئة والأخرى صحيحة. وبكلمات أخرى أيضًا، هو الكلام الذي لا يمكن الجمع بينه بأي حال من الأحوال.

أما كلمة “الاختلاف” فهي ما دون ذلك من الكلام غير المتطابق. بمعنى أنه كلاما ليس متطابقًا لكن يمكن الجمع بينه. فمثلا، إن قال أحد الأشخاص لصديقه أنه شرب الماء صباحا ثم قال له بعد حين أنه شرب الشاي صباحًا، فليس من المنطق أن يكون هذا تناقض، بل هو اختلاف، والسبب في ذلك أنه يمكن الجمع بين شربه للشاي وشربه للماء دون تعارض، فلا شرب الشاي ينفي شرب الماء ولا شرب الماء ينفي شرب الشاي، فمع أن كلا من العبارتين مختلفتين لأن كل منهما تَذكُر شيء مختلف عن الآخر (الشاي والماء) إلا أنهما ليستا متناقضتين.

وهكذا عندما يقول شخص: ذهبت اليوم إلى العمل. ويقول أيضًا: ذهبت اليوم إلى الطبيب. فلا تناقض بين كلامه، لكن الاختلاف في المذكور هو الموجود فقط، لأن ذهابه للطبيب لا ينقض ذهابه إلى العمل والعكس صحيح. فيتضح من هذا أن كل تناقض يستلزم وجود خلاف، لكن ليس كل خلاف يستلزم وجود تناقض. والآن علينا أن نحدد، هل المعلومات المذكورة في الروايات الإنجيلية مختلفة أم متناقضة؟

وللإجابة البسيطة على هذا السؤال يجب أن تسأل نفسك سؤال آخر، ألا وهو: هل هذه المعلومات متطابقة تمام الانطباق؟ هل إذا وضعت الأربعة بشائر جنبًا إلى جنب وقرأتهم كلمة بكلمة وحرف بحرف، فستجدهم أنهم عبارة عن تكرار حرفي أم لا؟ فإن كانت إجابتك “لا” فهذا يسمي اختلاف في المعلومات المذكورة.

لكن هل هذا يعني أنها معلومات متناقضة؟ بالطبع لا. لأن الاختلاف لا يعني بالضرورة التناقض. بينما يتحقق التناقض إذا لم يستطع أي شخص أن يجمع بين هذه المعلومات جمعًا لا يخالف المنطق ولا السياق ولا المعلومات المذكورة الأخرى نفسها، وهذا ما ستجده في هذا الموضوع.

وبعد أن تعرفنا سريعًا على سبب رئيسي من أسباب هذا النوع من الشبهات اليوم، نمر الآن إلى استعراض النصوص التي استخدمها هذا الفتى في كلامه ثم نعرض وجهة نظره وكيف فهمها ثم نبين عوار فهمه لها مع الرد، ليته يرد.

مرقس 6: 7 – 13

متى 10: 5-14

لوقا 9: 1 – 6

7 ودعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين. واعطاهم سلطانا على الارواح النجسة.

8 واوصاهم ان لا يحملوا شيئا للطريق غير عصا فقط. لا مزودا ولا خبزا ولا نحاسا في المنطقة.

9 بل يكونوا مشدودين بنعال ولا يلبسوا ثوبين.

10 وقال لهم حيثما دخلتم بيتا فاقيموا فيه حتى تخرجوا من هناك.

11 وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فاخرجوا من هناك وانفضوا التراب الذي تحت ارجلكم شهادة عليهم. الحق اقول لكم ستكون لارض سدوم وعمورة يوم الدين حالة اكثر احتمالا مما لتلك المدينة.

12 فخرجوا وصاروا يكرزون ان يتوبوا.

13 واخرجوا شياطين كثيرة ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم.

5 هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع واوصاهم قائلا. الى طريق امم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا.

6 بل اذهبوا بالحري الى خراف بيت اسرائيل الضالة.

7 وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين انه قد اقترب ملكوت السموات.

8 اشفوا مرضى. طهروا برصا. اقيموا موتى. اخرجوا شياطين. مجانا اخذتم مجانا اعطوا.

9 لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم.

10 ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا احذية ولا عصا. لان الفاعل مستحق طعامه

11 واية مدينة او قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق. واقيموا هناك حتى تخرجوا.

12 وحين تدخلون البيت سلموا عليه.

13 فان كان البيت مستحقا فليات سلامكم عليه. ولكن ان لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم اليكم.

14 ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجا من ذلك البيت او من تلك المدينة وانفضوا غبار ارجلكم.

1 ودعا تلاميذه الاثني عشر واعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء امراض.

2 وارسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى.

3 وقال لهم لا تحملوا شيئا للطريق لا عصا ولا مزودا ولا خبزا ولا فضة ولا يكون للواحد ثوبان.

4 واي بيت دخلتموه فهناك اقيموا ومن هناك اخرجوا.

5 وكل من لا يقبلكم فاخرجوا من تلك المدينة وانفضوا الغبار ايضا عن ارجلكم شهادة عليهم.

6 فلما خرجوا كانوا يجتازون في كل قرية يبشرون ويشفون في كل موضع.

 

مجرد قراءة عابرة للنصوص نستطيع معرفة أن هدف الكلام كله هو ألا يحمل التلاميذ أي همَّ في أثناء بشارتهم، لدرجة أن الرب يسوع المسيح يوصيهم بألا يفكروا في الطعام والشراب، فالفاعل مستحق أجرته. يتضح أن البشائر الثلاثة لا يذكر كل منها كل القصة، بل أن القديس متى يذكر التفاصيل الأكثر، فقد احتلت هذه القصة العاشر كله (42 نص)، بينما وقعت القصة في 6 نصوص فقط في بشارة القديس لوقا، وباختصار شديد أيضًا جاءت القصة في بشارة معلمنا مرقس، حيث وقعت في 7 نصوص فقط.

وهذا كله يوضح المعلومة التي يعرفها أغلب الأطفال المسيحيين وهي أن كل بشير من الأربعة يكتب بطريقته وأسلوبه وتفاصيله التي يريد أن يكتبها بالروح القدس وإلا لو كتب كل بشير ما كتبه البشير الآخر، فما لزوم وجود 4 بشائر؟

أولا: الرد على الشبهة

إن مجرد قراءة اصطيادية غير متعمقة للنصوص بغرض اخراج تناقض او مشكلة في الكتاب المقدس تدفع -وحدها- القارئ لعدم الفهم الدقيق للنص، حيث سيكون القارئ محملًا تلقائيًا ومسبقًا بمسئولية البحث عن مشكلة وليس كقراءة فاحصة للنص، وهذا يؤدي على عدم التفكير السليم سواء في فهم النصوص او حتى في فحص هل هذه تمثل شبهة حقيقية أم أنها فقط توضح عدم فهم المعترض. أضف إلى هذا أن يكون الإنسان لا يستطيع التفكير -ولو قليلاً- بشكل نقدي، فينتج ما نتج عن محمود.

لذا، لن يكون هدفي في هذا المقال أن أرد برد مباشر على الشبهة، فهذا بسيط، لكن سيتركز كل كلامي حول كيف يمكن حل هذا الاختلاف بأكثر من وجه وطريقة مقبولة بلا مشكلة، وهذا لأن كلما زادت الحلول المطروحة لهذا الخلاف، والتي لم يعرفها أو لم يفكر فيها المعترض، كلما كان ذلك ادانة لفكره الذي لم يستطع الوصول لأي من هذه الحلول، بالإضافة إلى بيان كيفية أن هذه الإعتراضات تتراوح بين السخافة والغرضية التي منعته من دراسة النص بشكل معتدل.

أول الحلول:

سأبدأ بالحل الذي قرأه محمود داود وحاول الرد عليه، لأن هذا الحل هو الذي توصل إليه بالفعل، فكان الأجدر به أن يفكر فيه بشكل متعمق أكثر بدلا من تقديم رد يؤدي إلى رسم ابتسامة على وجوهنا. يتلخص هذا الرد في أن هذه النصوص التي يراها محمود داود متناقضة، ما هي إلا أكثر من حدث يذكرها كل بشير، وبالتالي فمن المعقول والجائز جدا أن يكون المسيح قد طلب منهم في مرة عدم أخذ عصا، وسمح لهم في مرة أخرى أن يأخذوها. فطالما تعددت الأحداث فلربما تتعدد أيضًا السماحات المعطاة للتلاميذ، فتارة يأخذون العصا وتارة لا يأخذونها، وهنا لا يوجد تناقض.

هذا الحل سيفهمه كل شخص إذ أنه بسيط، لكن كان لمحمود داود رأي آخر، حيث حاول الرد عليه بطريقة مضحكة أكثر من كونها ملتوية، وما أظهر بعدها إلا فقره المعرفي بل والتحليلي، فماذا فعل؟ لكي ينقض محمود هذا الحل قام بمقارنة الأحداث المكتوبة بعد هذه القصص، ولما وجد أنها “متطابقة” -حسب ما يقول هو وليس الحقيقة- قال إذن طالما أن المذكور بعدها متطابق، فلا يمكن إلا أن تكون هذه القصص ما هي إلا روايات لنفس القصة في نفس الوقت في نفس الحادثة، وليس كما يقول الحل الأول. فما الذي غفل عنه محمود داود؟

إفتقر محمود لمعلومة بدائية جدا يعرفها كل من له حتى القليل من الوقت في قراءة الكتاب المقدس، فكم وكم وهو يطلق على نفسه أن الله منَّ عليه ببعض المعرفة والعلم؟ فقد إفتقر محمود داود إلى معرفة حقيقة أن ترتيب ورود الأحداث ليس هو ترتيب حدوثها بالضرورة. فليس معنى ورود حادثة في الأصحاح السابع مثلا أنها بالضرورة قد حدثت تاريخيا بعد الأحداث المذكورة في الأصحاح السادس والخامس وما قبلهما، فترتيب الذِكر لا يعني ترتيب الحدوث بالضرورة، فحتى إن ذكر كل بشير بعد هذه القصة أحداثا متطابقة حرفا بحرف وكلمة بكلمة (وهو الذي لم يحدث هنا).

فلا يعني هذا وحده أن ما ورد ذِكره بعدها قد حدث بعدها، فكاتب الإنجيل لم يشترط على نفسه أن يذكر كل الأحداث بالترتيب التاريخي لحدوثها، اللهم إلا لو جاءت أداة تبين هذا الترتيب مثل الكلمات: ثم، ثم بعد هذا، وفي الغد، ..إلخ. لكن حرف العطف “و” ليس حرف للترتيب بل حرف لعطف (دمج) الأحداث السابق ذكرها على تلك التالي ذكرها، وهو ما يعرفه الصغير والكبير في هذا العِلم.

فعندما يقول شخص “ذهبت إلى الجامعة وذهبت إلى النادي” فلا يعني هذا أنه ذهب أولا إلى الجامعة ثم ذهب إلى النادي بعد ذلك، بل يمكن أن يعني هذا أنه ذهب إلى النادي أولا ثم ذهب إلى الجامعة في اليوم التالي مثلا، فطالما لم يذكر أي حرف من حروف الترتيب فلا يمكننا معرفة الترتيب، ومجرد قوله عبارة “ذهبت إلى النادي” بعد عبارة “ذهبت إلى الجامعة” لا يعني أنه ذهب للنادي بعد ذهابه للجامعة. فهذه معلومة أولية لا تستلزم الجهد.

هل الأحداث التي تَلت الرواية في الثلاثة بشائر متطابقة فعلا كما قال محمود؟! بالطبع لا، فالقديس متى قد ذكر قصة إرسال التلاميذ في الأصحاح العاشر كما رأينا وذكر قصة هيرودس في الأصحاح الرابع عشر، بل وأنه أكثر البشائر الذي ذكر تفاصيل عن قصة الإرسالية، فكيف يكون كلام محمود صحيحًا؟ فحسب منطقه الذي لا منطق فيه تكون قصة الإرسالية لابد وأنها قد حدثت في الأصحاح الثالث عشر.

بل أن قصة هيرودس نفسها تفترض تلقائيًا وجود فترة زمنية بين الإرسالية وبين هذه القصة، حيث أن قصة هيرودس تذكر أن هيرودس لما سمع بما فعله المسيح عن طريق تلاميذه، تعجب وإعتقد أن يوحنا المعمدان الذي كان قد قطع رأسه ومات، قد قام مرة أخرى وهو الذي يفعل هذه المعجزات، فيتضح أن هيرودس لما إتسعت رقعة عمل المعجزات وطالت أناس كُثر، وصلت هذه الأخبار إليه، وما كانت لتصل إليه لو كان عدد المعجزات قليل، فما هو الوقت الذي تتطلبه مسألة إنتشار قصص المعجزات لتصل إلى هيرودس بهذا الكم والكيف؟

بالتأكيد أنه وقت كاف لحدوث أشياء أخرى بين قصة الإرسالية وقصة عِلم هيرودس، لكن محمود داود يعتقد أن هذه الحادثة قد حدثت مباشرة بعد الإرسالية، وهو ما يمكن نفيه نصيًا برواية القديس متى صراحةً عن طريق قراءة الأحداث الواقعة بين الأصحاح العاشر والرابع عشر.

يذكر القديس متى أسماء التلاميذ الإثنى عشر في ذات الأصحاح العاشر مع ذكره لقصة الإرسالية، بينما يذكر القديس لوقا والقديس مرقس أسمائهم قبل ذكرهم لهذه القصة بثلاث أصحاحات كاملة، حيث يذكرها مرقس في (مرقس 3: 16-19) ولوقا في (لوقا 6: 14-16) وبعض التفاصيل الأخرى التي ذكرها القديس متى في الأصحاح العاشر يذكرها القديس مرقس في الأصحاح الثالث عشر والقديس لوقا في الأصحاح الواحد والعشرين، وهذا كله يوضح لنا أن البشيرين لم يهتموا بأن تتطابق تفاصيل وترتيب التفاصيل التي يذكرونها معًا.

وعليه، فلا يوجد أي مشكلة في هذا الحل، ألا وهو أن تكون قصة الإرسالية نفسها هي أكثر من قصة واحدة، سمح في أحداها الرب يسوع المسيح بأخذ العصا، وفي الأخرى منعهم من أخذها، فلا تناقض بين قصتين مختلفتين.

ثاني الحلول:

بناء على ما ذكرناه في الحل الأول، نقول إن هناك احتمال آخر وهو أن تكون هذه القصة هي قصة واحدة فقط، ولكن يكون الرب يسوع المسيح قد قسَّمَ تلاميذه إثنين إثنين (مرقس 6: 7) وأعطى لكل مجموعة ثنائية منهم تعليمات تناسب ظروفهم، فسمح للبعض بأخذ العصا ومنع البعض من أخذها.

وهذا الحل يتضح عندما نعرف أن البشير مرقس وهو الوحيد الذي ذكر نهي الرب يسوع المسيح عن أخذ العصا مخالفًا ما ذكره متى ولوقا، هو الوحيد أيضًا الذي ذكر مسألة إرسال التلاميذ في مجموعات ثنائية العدد، ومن هذا يتضح أن التعليمات ربما كانت تختلف من مجموعة لأخرى حسب العُمر مثلا.

ثالث الحلول:

يمكن أيضًا أن تكون العصاة المنهي عنها في بشارة مرقس، تختلف عن العصا المسموح بها في بشارتي متى ولوقا. فعلى الرغم من استخدام ذات الكلمة اليونانية في الثلاثة بشائر (ῥάβδον)، إلا أن المقصود بها ليس واحد، فالعبرة ليست في اللفظ بل في الاستخدام، فكم من شيء له أكثر من استخدام، فيمكن أن تكون العصا المنهي عنها هي عصاة القتال للدفاع عن أنفسهم أو لإبعاد أي خطر من حيوان عنهم، لكن العصاة المسموح بها هي عصا السير التي يتكئ عليها الإنسان ذهابًا وإيابا إلى اليوم في بعض المناطق، وبالأخص في حالات السير لمسافات طويلة لأوقات كبيرة.

رابع الحلول:

يرتكز هذا الحل على المبدأ العقلي المعروف وهو مبدأ العام والخاص، فلربما منع الرب يسوع المسيح كل التلاميذ بشكلٍ عامٍ من أخذ عصا إن كانت غير ضرورية لكرازتهم، لكنه سمح لهم بأخذها إن كان أحدهم يحتاجها لسبب أو لآخر، فالأمر العام هو المنع والاستثناء هو الوضع الخاص وهو السماء بأخذها.

من هنا، وبعد تقديم تلك الحلول والتي لا أهدف منها إل الرد على شبهة محمود داود، فهي شبهة بسيطة، ولكني أضعها لأريكم كيف هو مستوى تفكير من يطرحون الشبهات، فكلما كانت الحلول المنطقية أكثر كلما أظهر ذلك ضعف المنطق لدى المعترض.

ثانيا: رد محمود داود على القمص تادرس يعقوب ملطي

قدَّم محمود داود تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي لهذا النص، والقمص تادرس يعقوب ملطي قدم تفسيران، وحاول محمود داود الرد عليهم بطريقة أظهرت كيف أنه لا يفكر فيما يقرأ، لكن قبل عرض كلام القمص تادرس ورد محمود داود ثم ردنا عليه، سنعرض أولا مشكلة نراها كثيرا فيمن يلقون الشبهات على الإيمان المسيحي، ألا وهي مشكلة إطراء بعض الأشخاص أو أعمالهم عندما تكون في صالح المعترض، وعدم الالتفات لهم أو -على أحسن تقدير- التشكيك بهم.

عندما أراد محمود داد الكلام عن تفسير القمص تادرس، قال عنه أنه “أهم التفاسير المعتمدة في الكنيسة المصرية”، فهل رأيتم كيف أن هذا التفسير أسماه “أهم التفاسير”؟ وكيف أنه أعطاه صفة “التفسير المعتمد”؟ وفي الحقيقة لا أعرف مَن الذي قال على هذا التفسير -أو غيره- أنه “أهم تفسير”! ومَن ومتى أُعتمد هذا التفسير -أو غيره- في الكنيسة المصرية!؟

هذه الصفات يتخيلها عدد كبير ممن يطرحون الشبهات، فهم يتوهمون أن طالما أن هذا الكتاب كاتبه “قس” أو “قمص” أو “أسقف” أو حتى “البطريرك” فهو كتاب معتمد وأن له السلطة على جميع المسيحيين وأن جميع المسيحيين يؤمنون بصحة كل ما فيه وأنه “حجة” عليهم إذ هو مصدر اعتمادهم! ولا يعلمون أن كل هذه مجرد أوهام صافية لا حقيقة فيها، فأي كتاب، كان ما كان، لأي كاتب، كان من كان، ليس له الحجة على أي مسيحي تلقائيا، إلا أن يعتبره المسيحي كذلك من نفسه على نفسه، هذا كله بعيدًا عن الكتاب المقدس.

فكل كتاب مهما بلغ، هو منتج بشري صرف، ويمكن ان يحتوي على الصواب والخطأ، فلا حجة فيه بذاته. فهذه الفكرة منبعها لدى نفس المجموعة الطارحة للشبهات هي فكرة سابقة، وهي تخيل ووهم أن من أصبح لديه لقبا في الكنيسة فهو “عالما” فأي “قس” أو “قمص” أو “أسقف” أو “بطريرك” هو عالم بمجرد أن ارتدى هذا الزي وتمت رسامته! فهم لا يعلمون أن كل هذه الرُتب الكنسية لا تشترط بالضرورة فيي الرسامة أن يكون الشخص عالمًا في مجال مسيحي معين، بل أن القس أو القمص يكون مثلي ومثلك فيرشحه شعبه في كنيسته لسبب أو لآخر وتتم رسامته لأجل أمور رعوية، بأن يخدم ويرعى خدمات منطقته الجغرافية وكنيسته، وليس بسبب أنه فذ في العلوم المسيحية، وقس على هذا كل الرتب الكنسية من أصغرها لأكبرها.

التفسير الأول للقمص تادرس يعقوب

قرأ محمود داود من تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي لإنجيل مرقس 6: 8 الآتي:

           لم تكن الوصايا حرفية لكنها تحمل مفاهيم روحية عميقة، فعندما أوصى تلاميذه ألا يحملوا عصا (مت 10: 10) يتكئون عليها في الطريق، أو يستخدموها للدفاع عن أنفسهم حتى ضد الكلاب التي تجول في القرى والحقول أراد أن يُعلن أنه عصاهم، يتكئون عليه بقلوبهم، ويختفون فيه ليسندهم على الدوام. لكنه هنا يسمح لهم بالعصا ربما إشارة إلى الصليب، إذ لا تقوم الكرازة ما لم يحمل الكارز عصا الصليب، مشاركًا سيده في آلامه وصلبه.

وبعد هذا قال أغرب جملة كنت أتخيل أنني يمكن أن أسمعها منه في حياتي، ألا وهي أن القمص هنا عندما “حوَّل” القصة من قصة حقيقية إلى قصة رمزية، وقع هو الآخر في تناقض، لماذا؟ لأنه يظل السؤال: هل أمر المسيح بحمل العصا كما في إنجيل متى ولوقا، أم بعدم حملها كما في مرقس؟ والمضحك هنا أن محمود لم يفهم أصلا -كعادته- ما يقرأه من كلام القمص يعقوب.

فالقمص تادرس يقول إن المسيح -له المجد – عندما منعهم أن يحملوا العصا كان يقصد ألا يحملوا العصا الحقيقية لأنه هو عصاهم الذي يجب أن يستندوا عليه وإليه فلا يكون رجاؤهم ولا طلبهم لشيء آخر إلا هو نفسه، بينما عندما أوصاهم أن يحملوا العصا فكان يقصد أنها عصا الصليب مشيرا لآلام الكرازة التي أنبأهم بها في نفس السياق من أنهم سيُطردون ويعذبون ويقتلون لأجل اسم المسيح.

فالرمزية هنا قد حولت العصاتان بمفهومهما الحرفي إلى عصاتان بمفهومهما الرمزي، فالعصا الممنوعة هي الحقيقية لأن المسيح هو العصا التي يجب الاتكاء عليها (رمزيا)، بينما العصا المسموح لهم بها هي الصليب وآلامه مع إلههم المسيح. المشكلة هنا أن كلام القمص تادرس كلامًا بسيطًا للفهم، لكن مع هذا لم يفهمه محمود داود.

التفسير الثاني للقمص تادرس يعقوب:

بعد هذا الاقتباس من القمص تادرس يعقوب ملطي، جاء الاقتباس التالي مباشرًا، والذي يقول فيه:

           يرى البعض أن السيد المسيح منع تلاميذه من حمل أي شيء حتى العصا من أجل الكمال، لكنه سمح بها من أجل الضعف كأن يكون الكارز مريضًا أو شيخًا ضعيف الجسم يحتاج إلى عصا يرتكز عليها.

وقرأ محمود داود هذا الاقتباس وقال إنه تفسيرًا غير صحيحًا، وليس بمنطقي، لماذا؟ لسببين، أولهما: أن كلام المسيح كان كلاما عاما لكل التلاميذ ولم يكن هناك استثناء، وثانيهما: أن بهذا الكلام فالقمص تادرس يعقوب ملطي يناقض نفسه (كما يدعي محمود) لأنه منذ قليل فسر النص بشكل رمزي، فإن كان النص رمزيا فلما الاستثناء الآن؟ وإن كان الاستثناء صحيحًا فلما الرمزية إذن؟

ولا يسعني هنا إلا أن أستشف الابتسامة على وجوهكم من هذا المستوى العبثي من التفكير، فالسبب الأول أن الوصية كانت عامة لا يوجد عليه دليل، فمحمود يتخيل أنه عندما يقول الكتاب أنه “دعا الإثني عشر” فإن المسيح قد نادى على الإثني عشر وأجلسهم أمامه وقال لهم تعليمات واحدة لجميعهم، ولو تفحص هو بنفسه البشائر الثلاثة سيجد أن كلامه هذا خاطئ، لماذا؟ لأن بشارة القديس متى -وحدها- تذكر تفاصيلاً كثيرا في هذا السياق لم يذكرها أي من البشيرين مرقس ولوقا، وهكذا لوقا، يذكر تفاصيل لا يذكرها الآخرين ..إلخ.

فيتضح من هذا كله، السبب البسيط الذي قلناه سابقًا وهو أن كل بشير من الأربعة يكتب روايته بإرشاد الروح القدس ولا ينقل أو يكتب نفس التفاصيل الذي يكتبها الآخرون وإلا لما كان هناك داعٍ لأربعة بشائر تقص قصة المسيح له المجد من أربعة زوايا مختلفة لتكتمل الصورة التي أراد الوحي إيصالها إلينا.

والدليل الآخر الذي يعضض كلامنا هذا أن رواية القديس مرقس وحدها التي نقلت لنا كلام المسيح له المجد بالنهي عن أخذ العصا قد ذكرة معلومة أن المسيح أرسلهم إثنين إثنين، وهذا يعني أن الدعوة كانت على مراحل عِدة وليست في مرة واحدة، فمن الجائز جدا عقلاً أن يكون المسيح عندما دعا التلاميذ الأصغر عُمرًا منعهم من استخدام العصا، لكن عندما جاء دور الكبار عمرًا كبطرس مثلا، سمح له بالعصا، فالاستثناء حاصل فعلا بسبب كلام مرقس الرسول الذي ينقل كلام المسيح بالنهي عن أخذ العصا.

أما عن السبب الثاني، وهو أن القمص تادرس قد تناقض مع نفسه، فهو يبين كيف حال من يطرحون الشبهات وكيف هم يتخبطون ولا يعرفون ما يقولون ولا يفهمون ما يقرأون، فالقمص تادرس يعقوب طرح تفسيره ورؤيته الرمزية للنص أولاً، ثم ذكر رأيا آخرًا وقال نصًا “يرى البعض”، فحتى من يجيد فقط القراءة سيفهم أن ه يتكلم عن أن هذا الرأي هو رأي “البعض” وليس رأيه الشخصي.

بل وحتى إن كان رأيه الشخصي، فلا تناقض، إذ أن التفسير الرمزي هو أحد أساليب التفاسير المعروفة منذ فجر المسيحية، فهناك التفسير الحرفي الذي يتعلق فقط بالنص وكأنه لا روح فيه، وهناك التفسير الرمزي الذي يسعى لكشف ما وراء النص من روحانية ربما لا تظهر للجميع مثلما تظهر لأشخاص آخرين. فما التناقض هنا؟

 

أخيرا: سنعرض مثال بسيط من القرآن الكريم، ونطلب من محمود داود أن يجيب عليه بنفس العقلية الخاصة به التي إستخدمها في طرح هذا التناقض الوهمي في الكتاب المقدس، ولنرى حيله وكيف سيلوي عنق النص ألف مرة.

يقول القرآن الكريم في سورة طه:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)

بينما يقول في سورة الأعراف:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

وأيضًا في سور البقرة:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

والأسئلة كالتالي:

  1. هل قال الله “اهبطا” أم “اهبطوا” حرفيًا؟ ولماذا هذا التناقض؟ فكلمة “اهبطا” تدل على المثنى وهما آدم وحواء، وكلمة “اهبطوا” تدل على الجمع، وهنا يدخل معهما الشيطان في النداء فيكونون ثلاثة وليسا بعد إثنين.
  2. لماذا يكرر الطلب لمرتين (على الأقل)؟ فمرة يقول لهما “اهبطا” ومرة أخرى يقول لهم “اهبطوا” هل عصا آدم وحواء الله فلم يستجيبا له في المرة الأولى فاضطر أن يكرر طلبه لهم؟ أليس الله هو الذي يقول للشيء “كن” فيكون؟

مع ملاحظة أن القصة هي ذاتها بحذافيرها، لكن بهذين السؤالين سيضطر محمود داود أو غيره إلى ذكر ما ليس منصوص عليه في القصة ونقل المعنى من مستوى الحديث الجمعي إلى الاستثناء، وهو ما إعترض عليه مقدمًا.

وإلى ردود أخرى قريبًا..

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس