الرد على أبي عمر الباحث

ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان

ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان

ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث - الجزء الثاني - عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان
ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

نص الشبهة ٢:

يقول السائل: ” هذه القصة فيها عدد من المصائب الأخرى، تخيل أن إبليس بيقول لإله هذا الكون (اللي هو رب العالمين حسب إعتقاد النصاري المسيحيين)، إبليس بيقوله: سأعطيك كل هذه الممالك، هو مش المفروض إن الكون ده كله مملوك لله رب العالمين؟ طيب كيف يقول الشيطان لرب العالمين هذا؟ تخيل بواب عمارة بيقول لصاحب العمارة، سأعطيك هذه العمارة إذا سجدت لي؟ هل هذا الكلام معقول؟… “

 

بالطبع هذا الكلام غير معقول! فكيف للشيطان أن يتجاسر ويطلب السجود من الله مقابل إعطاءه ما هو ملكه بالفعل!! لكن ما غفل عنه هذا “الباحث”، هو أن الشيطان لم يكن متأكداً من هوية المسيح الكاملة. فالذي أمامه كان شخصاً بشرياً يجوع ويعطش ويشرب وينام إلخ، ولكن في نفس الوقت له سلطان واضح على الشياطين ولشفاء المرضى وإقامة الموتى وغفران الخطايا إلخ، ولذلك كان متردداً كثيراً حول ماهية المسيح الحقيقية، أهو الإله أم مجرد إنسان.

فالشيطان كل ما كان يعرفه هو أن يسوع هو المسيا المنتظر، المُرسَل من الله. فالمسيح حينها لم يكن قد أعلن عن مجده بصورة كامله، رغم أنه في كثير من المواضع صرح بلاهوته.

 

يقول الأنبا بيشوي: لقد أُصيبَ الشيطان بالارتباك، فكلما شعر أن المسيح هو ابن الله أو قدوس الله، يعود فيحتار من تواضعه العجيب… ففكرة إخلاء الذات [أي التجسد] في حد ذاتها، كانت بعيدة جداً عن حسابات الشيطان الممتلئ غروراً وكبرياءً. وحقيقة أن السيد المسيح يخفي مجده المنظور عندما تجسد آخذاً صورة عبد؛ كانت فوق تصوره، لهذا ارتبك الشيطان عند ميلاد المسيح… “.[1]

 

يقول القديس الأنبا ساويرس: “وكما أخفى إبليس روحه عنهم [أي عن آدم وحواء] في حية، واحتال عليهم حتى أخذهم، كذلك أخفى ابن الله لاهوته عن إبليس في جسد إنسان، وفعل كل ما يفعله الإنسان ما خلا الخطية، حتى يظن إبليس انه إنسان حقيقي…”. [2]

 

يقول العلامة أوريجانوس: ” لم يعرف [إبليس] أن “ابن الله” صار بشراً، لأن الله أخفى عنه تجسده الفائق الوصف…”[3]

 

إذن الخلاصة هي: الشيطان كان متردداً ومتشككاً في هوية المسيح الحقيقية، فتارة يراه إنساناً كاملاً يجوع ويعطش، وتارة أخرى يرى سلطانه وتصريحاته عن لاهوته.

 

يكمل هذا ” الباحث” ويقول: ” وهل من الممكن أن إبليس يأخذ خالقه ليطوف به أربعين يوماً ويأخذه من هنا إلى هنا؟! “.

وبعدما نقضنا هذا السؤال الساذج، إذ أن إبليس لم يكن متأكدا من هوية المسيح، فكيف يكون إبليس عارفًا أن المسيح هو الله ثم يحاول إغراؤه بالممالك الأرضية التي خلقها الله نفسه؟ فالمعترض يفتقد لأبسط درجات المنطق الحواري، إذ أن إبليس لو كان يعلم تمام العلم أن المسيح هو الله، فما كان له أن يجربه، وكيف يجربه وهو متأكدا من هويته؟ بل كيف يتقدم لصلبه وهو يعلم أنه الله وأن بصلبه ستُهزم مملكة إبليس رأسًا على عقب؟، نأتي الآن لنقطة هامة وهي: هل كان يطوف إبليس بالمسيح (أي يأخذه من مكان لأخر) غصباً عنه؟!

بالطبع الوحي المقدس لم يقل هذا مطلقًا، بل على العكس؛ الإنجيليان يقولان إن المسيح ذهب إلى البرية مُقتادً من الروح القدس ليَجَرب من إبليس (مت ٤: ١؛ لو ٤: ١)، أي أن المسيح هو من ذهب بكامل إرادته ليجربه إبليس كنائب عن البشرية. فالتجربة التي أخطأ فيها آدم الأول في جنة عدن، يصححها الآن آدم الثاني (المسيح) بانتصاره على الشيطان في ثلاث تجارب.

أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ ٱلْأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا. وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللهِ، فَقُلْ لِهَذَا ٱلْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا». (لوقا ٤: ١-٣).

 

ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزًا». (متى ٤: ١-٣).

 

أما عن قول القديس لوقا “ثم أصعده إبليس… ” (لو ٤: ٥)، فكلمة “اصعده” جاءت في اليونانية ” ἀναγαγὼν”، وهي تعني: قاده، أرشده، قاد المسيرة. [4] أما عن قول القديس متى “ثم أخذه إبليس…” (مت ٤: ٥)، فكلمة “أخذه” جاءت في اليونانية “παραλαμβάνω”، وهي تعني: يرافق، يأخذ، يقبل، يزامل. ففي الأناجيل تعني هذه الكلمة في العموم أن يأخذ أحد شخصاً معه، أي يصطحبه.[5]

وهي نفس الكلمة التي استخدمها القديس متى نفسه في وصفه ليسوع عندما أخذ التلاميذ لجبل التجلي:

وبعد ستة أيام أخذ “παραλαμβάνει” يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين. (مت ١٧: ١)

فهل من المنطقي أن نفهم أن يسوع أخذ التلاميذ غصباً عنهم، وهم مسلوبي الإرادة؟! بالطبع لا، ذهبوا معه بكامل إرادتهم، ولكن يسوع هو من حدد المكان والطريق.

 

يقول “Vincent”: هذا الفعل هو نفسه الذي تستخدمه الأناجيل الثلاثة وهي تتحدث عن يسوع عندما أخذ تلاميذه وصعد بهم إلى جبل التجلي (مت ١٧: ١، مر ٩: ٢، لو ٩: ٢٨) وهذا يدعونا إلى القول بأن المسيح كان يذهب إلى المكان الذي يختاره إبليس ويحدده للتجربة. مع ذلك فالسيد المسيح يذهب إلى المكان ليس إضطراراً بل بمحض إرادته وكامل حريته من قِبَل مشيئته.[6]

 

يقول “Barnes”: ثم أخذه إبليس – هذا لا يعني أنه حمله في الهواء، أو أنه أجبره على الذهاب ضد إرادته، أو أنه بمعجزة بأي طريقة وضعه هناك. لا يوجد أي دليل على أن الشيطان لديه القدرة على القيام بأي من هذه الأشياء، حيث أن الكلمة المترجمة هنا تدل على أنه لا يعني أي شئ من هذا القبيل. فهي تعني يوَّصل شخصاً، يقود شخصاً؛ لحضور أو يرافق شخصاً؛ أو لحث شخص على الذهاب. إنها تستخدم في الأماكن التالية بنفس المعنى: (مت ١٧: ١)، (مت ٢٠: ١٧)…. من هذه العبارات، وأكثر بكثير، يبدو أن المقصود هنا هو، أن إبليس وصَّل يسوع، أو رافقه؛ ولكن ليس أن هذا قد تم ضد إرادة يسوع.[7]

 

نص الشبهة ٣:

يكمل المشكك بقوله: ” وفي مصيبه كمان، الشيطان عندما كان يُري يسوع الممالك، قال له: ” لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن، لأنه إلىَّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد “. خد بالك، الشيطان بيقول ليسوع، إن هذا السلطان “إليَّ قد دُفعَ”. طيب من الذي دفع هذا السلطان إلى إبليس؟ هل الله الآب هو من دفع هذا السلطان كله لإبليس؟! أم أن يسوع هو الذي أعطي هذا السلطان لإبليس؟… “

 

بغض النظر عن السفسطائية الواضحة في طرح هذا الشخص، فهو هنا بنى إفتراضه على أن قول الشيطان هو حقيقة مطلقة مُصدَّق عليها! وهو ما لا ينطلي على طفل يعرف من هو الشيطان! وبالطبع هذا الكلام غير صحيح. ومن المفترض ألا نتجادل كثيرًا في هذه النقطة بالتحديد. فالشيطان معروف أنه كذاب وأبو كل كذاب!! فهل يصدق أبو عمر الشيطان؟ فهنيئًا له به، نِعم الصديق والرفيق.

 

أما بالنسبة للمسيح، فهو لم يصدِّق على قول الشيطان وفي نفس الوقت لم ينكره، بل أهمله تماماً منتهرًا إبليس وكان رده مُقتبساً من الوحي المقدس بالتحديد من سفر التثنية:

أذهب يا شيطان! إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. (لو ٤: ٨)

 

بدون شك، الشيطان ذُكر عنه في الكتاب المقدس أنه “رئيس هذا العالم” (يو ١٢: ٣١)، فالشيطان بالفعل أصبح رئيساً لهذا العالم بعد أن اغتصبه من آدم بعد سقوطه. فالله قد وضع العالم تحت سلطة آدم أولاً لكي يمجد الله في السلطان المُعطى له، بالطاعة، ولكن أثبت آدم أنه غير جدير بهذا السلطان وبالسقوط فقد سلطانه، وأصبح الشيطان صاحب السلطة على العالم حتى دُعي إلهاً عليه بفعل استعباد البشر له.[8]

 

إذن، سلطان إبليس وتسلطه على العالم، تم اغتصابه ولم يُدفَع له من الله. فالله – حاشا له – لا يمكن أن يعطيه مثل هذا السلطان، بل كل ما أعطاه كان سلطان ملائكي مثله مثل باقي الملائكة قبل سقوطه. فالمشكلة هنا ليست في هذا السلطان الملائكي في حد ذاته بل في طريقة استخدامه! لذا يجب أن نفرق بين إرادة الله وإعطاءه السلطان لإبليس، وبين مجرد سماح الله لإبليس بأن يمارس سلطته المؤقتة والمحدودة على البشر.

 

يقول تعليق ESV: إبليس يدَّعي أن ” كل هذا السلطان ومجدهن ” قد أُعطي إليه، وعلى الرغم أن في بعض المواضع، إبليس هو “رئيس هذا العالم ” (يو ١٢: ٣١؛ ١ يو ٥: ١٩)، إلا أن هذا الادعاء لا يجب الموافقة عليه كحقيقة كاملة. فالشيطان “كذاب وأبو كل كذاب” (يو ٨: ٤٤)، وفي الأخير، كل السلطان هو لله فقط (انظر رو ١٣: ١-٤؛ مز ٢٤: ١؛ دا ٤: ١٧).[9]

يقول تعليق NET: إبليس يفترض بطريقة خاطئة أن الله قد أعطاه سلطان مثل هذا مع القدرة الإضافية على مشاركة هذا المجد.[10]

يقول “walter”: في هذه التجربة، إبليس يدَّعي أنه يملك العالم. يسوع لم يرفض الادعاء (انظر يو ١٢: ٣١)، ولم يُسلِّم به.[11]

 

يقول الدكتور وليم إدري: لم يذكر قول الشيطان هذا إلا لوقا وهو دعوى ذُكرت أيضاً في غير هذا الموضع (يو ١٢: ٣١؛ ٢ كو ٤: ٤؛ أف ٢: ٢). وهذه دعوى كاذبة لأن الله لم يدفع إلى الشيطان مثل ذلك السلطان وهي مما ينُتظَر ممن هو “أبو الكذب” (يو ٨: ٤٤) وكذبه على آدم الثاني ككذبه على آدم الأول وزوجته بقوله لن تموتا ” (تك ٣: ٤).[12]

 

يقول كريج كينر: معظم اليهودية المبكرة فهمت أن الشيطان سيطر على عصيان عصر الإنسان الحالي، لكن في الأخير، ظلت لله السيادة. العالم لا ينتمي للشيطان فعلياً (دا ٤: ٣٢)، الذي مَلَكَ القلوب والمجتمعات البشرية كمغتصب فقط، يتصرف من خلال سلطان خاضع لله. فما كان يمكنه فعله على الأكثر هو أن يجعل يسوع نوعاً من المسيا السياسي العسكري الذي كان ينتظره غالبية الشعب اليهودي الذين ترقبوا المسيا.[13]

 

يقول تعليق النسخة اليسوعية: يفتخر الشيطان بأن له “السلطان” السياسي على العالم، فيعرضه على يسوع لكي يكون المشيح الدنيوي الذي ينتظره معاصره. لكن سلطان الشيطان مهدد (لو ١٠: ١٨) ومدته قصيرة (لو ٢٢: ٥٣) أما سلطان يسوع، فإنه لا يستمده إلا من أبيه (راجع ١٠: ٢٢؛ ٢٢: ٢٩).[14]

 

يقول القمص تادرس يعقوب ملطي مخاطباً إبليس: كيف تَعِد بأن تهب ما ليس لك؟ من الذي نصَّبك وارثاً على مملكة الله؟! إنك إغتصبت هذه الممالك غشاً وزوراً، فرُدَ ما إغتصبته إلى الابن المتجسد رب العالم بأسره، واسمع ما يصرح به النبي إشعيا ضد إبليس وجنوده: ” لأن «تفتة» مرتبة منذ الأمس، مهيأة هي أيضا للملك، عميقة واسعة، كومتها نار وحطب بكثرة. نفخة الرب كنهر كبريت توقدها. (اش ٣٠: ٣٣)”.[15]

 

تقول الموسوعة الكنسية: في جسارة وخداع، أعلن إبليس تسلطه على كل الأرض، وقدرته أن يعطيها لمن يريد، مع أنه لا يسيطر إلا على الأشرار، ولكنه كذاب منذ البدء، ويخدعنا ليهز إيماننا إن صدقنا أكاذيبه… ولكن لم يناقش السيد المسيح إبليس في أكاذيبه بإدعاء سلطانه على الأرض… .[16]

 

يقول “Ellicott”: إنه [أي الكتاب المقدس] يؤكد أن ” للرب الأرض وكل الساكنين عليها ” (مز ٢٤: ١)، إدّعاء المجرِب هو تفاخر كاذب، مبني فقط على النشاط المسموح والهيمنة المؤقتة للشيطان في تاريخ العالم الفعلي. [17]

 

يقول “Coffman”: يمارس الشيطان حقاً سلطة كبيرة على الأرض، لكنها سلطة غير شرعية ومُغتصَبة، وهذا يتعارض بشكل كبير مع ما قاله هنا ليسوع…. فالله هو من يحكم في ممالك البشر (دا ٢٦: ٤)، أما الشيطان، فكذاب وأبو كل كذاب (يو ٤٤: ٨)، وعلى الرغم من حقيقة أن هناك مغزى شهواني يكون فيه الشيطان هو ” رئيس هذا العالم “، إلا أن تفاخره المتغطرس هنا خاطئ تماماً. إجابة السيد المسيح دون إعتبار لحقيقة أو زيف وعد الشيطان، لأنه في الواقع ليس له أهمية قوية.[18]

 

يقول الأب متى المسكين: لقد فات على العلماء هنا مقدار الصدق والكذب في كلام الشيطان، فاعتبروه أنه كاذب وملفق وأنه لا يملك ولم يعط ولا هو قادر أن يعطي، فالله وحده المالك وصاحب المجد. والخطأ الذي وقع فيه العلماء ضيع قيمة التجربة ومعناها، بل وضيع علينا أيضاً إدراك التجربة… فالشيطان هو رئيس العالم المنظور وصاحب المجد الدنيوي ويعطي ويكافئ منها اتباعه…[19]

 

لاحظ هنا أننا إقتبسنا هذا القول، فقط حتى لا يقول قائل إننا تغاضينا عن كلام الأب متى. ولكن توضيحاً للعقول الضئيلة، فالأب متى لم يقل نهائياً أن الله هو من دفع هذا السلطان إلى الشيطان، بل كل حديثه هو عن طبيعة سلطان إبليس ومقدار قدرته.

 

يقول القديس إيريناؤس: فكما كذب إبليس في البدء، هكذا كذب أيضاً في النهاية، حينما قال:” كل هذه قد دفعت لي، وأنا أعطيها لمن أريد” (مت ٤: ٣؛ ٤: ٦). فليس هو الذي عين ممالك هذا العالم بل الله، لأن” قلب الملك في يد الله” (أم ٢١: ١).[20]

وآخيراً وليس أخراً، يختتم هذا “الباحث” سؤاله بقول فكاهي آخر كما عودنا في فيديوهاته.

 

يقول: “ولو قلنا إن الآب هو الذي أعطى السلطان لإبليس، الآب عندما أعطى السلطان أعطاه لإبليس أم أعطاه ليسوع؟! فإنجيل لوقا ١٠: ٢٢ يقول: “كل شئ قد دفع إلي من أبي”، إنجيل متى ٢٨: ١٨ يسوع يقول: ” دفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض”. والسؤال يطرح نفسه بقوة: السلطان حينما دُفعَ، دفع إلى إبليس أم دفع إلى يسوع؟! أم يسوع هو إبليس بحسب إنجيل لوقا؟”

هل رأيتم كم الضحالة والسفسطائية في كلام هذا الشخص؟ فبفرض أن الآب هو من أعطى هذا السلطان للشيطان، سيصعب عليه أن يعطيه أيضاً للمسيح في آن واحد! لكن بحسب أبو عمر، هذا يقتضي أن يكون المسيح هو إبليس في إنجيل لوقا وتكون تجربة المسيح مع إبليس بها كائن واحد، لأن أبو عمر افترض ان ابليس والمسيح هما شخصية واحدة!! حقيقي مهزلة فكرية!!!

 

نص الشبهة ٤:

يقول أبو عمر: وهناك مشكلة أخرى، إبليس عندما يقول ليسوع: ” لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك ” كان وقتها إبليس بيقتبس نبوءة من مزمور ٩١، ويسوع لم ينكر على إبليس هذا الاقتباس، ماقلوش: لا يا إبليس، هذا الاقتباس ليس عني. يعني يسوع أقر أن المزمور بيتكلم عنه ولم ينكر هذا. وهذا المزمور يقول: ” لأنك قلت: «أنت يا رب ملجأي».

جعلت العلي مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس. «لأنه تعلق بي أنجيه. أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده. “. خد بالك بيقول: لأنه تعلق بي أنجيه وأرفعه وأنقذه في يوم الضيق.

 

ثم يتسائل هذا الباحث: ما هو يوم الضيق في حياة المسيح؟! أليس هو يوم الصلب؟!…. فالنبوءة في المزمور تقول أن الله سينقذه وينجيه ويرفعه، والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن: “وما قتلوه وما صلبوه” والآية التي تليها تقول: ”بل رفعه الله إليه”“.

 

مرة أخرى، يحتكم إلى قول إبليس وكأنه حقيقة مطلقة. فهل هذا بسبب سذاجة هذا الباحث أم ربما بسبب اتخاذه إبليس قدوةً يحتذى بها في الخداع واقتطاع النصوص من سياقها؟!!

 

ففي الحقيقة، إبليس اقتطع آيات من مزمور ٩١ ولكنه لم يكملها، فالباقي ليس في مصلحته، إذ أن بقية الآيات تقول: “على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس.” وفيها كناية عن الانتصار على إبليس. وفي نفس الوقت تلاعب في تفسير الآيات، حيث أن المقصود من المزمور هو إظهار حماية الله لشعبه وليس أن الشخص يحاول أن يجبر الله على حمايته.[21] ولذلك، كان رد السيد المسيح أيضاً مُقتبساً من الوحي الإلهي وبالتحديد من سفر التثنية: “لا تجرب الرب إلهك” (تث ٦: ١٦).

 

فهنا يفترض هذا الباحث وللمرة الثانية، أن إبليس اقتبس نبوة صحيحة عن المسيح، بدليل أن المسيح لم ينكر، فهو بذلك أقر بصحة اقتباس إبليس!! فبفرض أن إبليس كان يقتبس النص كنبوة في الأصل عن المسيح (حيث هناك رأي يقول بأن كل ما قصده إبليس هو أن الله سينقذ كل من هم له وبالتالي سينقذ ابنه[22])، فهي في الحقيقة ستكون محاولة اختلاق نبوة غير صحيحة عن المسيح.

 

حيث يقول القمص تادرس يعقوب: انظر كم هو مخادع حتى في اختياره للعبارات، فإنه يريد أن يقلِّل من مجد الرب، كما لو كان يسوع محتاجًا إلى معونة الملائكة؛ كما لو كان يمارس عملًا خاطئًا ما لم تسنده الملائكة. هكذا يقتبس إبليس عبارة من الكتاب لا تناسب المسيح ويطبِّقها عليه، إنما تناسب القدِّيسين بوجَّه عام… المسيح ليس بمحتاج لمعونة الملائكة، إذ هو أعظم منهم، ويرث اسمًا أعظم وأسمى: “لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟!” (عب ١: ٥-٧؛ مز٢: ٧)… فهذه الآية التي وردت في المزامير لا تشير إلى المسيح، لأن المسيح ليس في حاجة إلى ملائكة.[23]

 

يقول العلامة أوريجانوس: أنظر كم هو ماكر في اختيار الشواهد. إنه يريد أن يُضعِف شأن مجد المخلص، كأن يسوع بحاجة إلى مساعدة الملائكة، كما وكأنه سيتعثر بدون سند أيديهم. إن الشيطان يتذرع بشاهد ويطبق على المسيح آية لا تخصه بل تخص القديسين بوجه عام.[24]

 

يقول أيضاً القديس جيروم: إننا نقرأ تلك الكلمات في مزمور ٩١، لكن هذه النبوة لا تخص المسيح، بل الإنسان الصالح. فالشيطان يُسئ إذاً تفسير الكتب. وبكل تأكيد، لو عرف تماماً أن هذا المزمور قد كُتب عن المخلص، لأكمل الجزء الباقي من المزمور نفسه الموجه ضده: تطأ الأسد والأفعى، تدوس الشبل والتنين. إنه يتكلم عن مساعدة الملائكة وكأنه يتوجه إلى شخص ضعيف ولكنه، وهو الماكر، لا يقول إنه سيُداس.[25]

 

ويؤكد هذا القديس كيرلس السكندري: إن نص المزمور لا يتعلق بالمسيح، لأن المعلم ليس بحاجة إلى الملائكة… إن الكذاب والمخادع الذي هو الشيطان ينقل ما قيل عنا إلى شخص المسيح.[26]

 

وهنا يجب أن نوضح أن عدم إنكار المسيح لاقتباس إبليس لا يعد موافقة على كلام إبليس، فلو كان كلام ابليس صحيحًا لما رد عليه المسيح فهو كلام صحيح، بل أن المسيح رد على ابليس شاملًا كلامه الخاطيء، فقد رد عليه بوجه عام كما لو كان يقول له: حتى إن كان كلامك صحيحًا، فالقاعدة الأعم هي ألا تجرب الرب إلهك، فإن كان الله سيحميني فهذا لا يعني أن ألقي بنفسي لأجرب الرب. فحتى إذا أشار ابليس للنص كنبوة عن المسيح، فعدم إنكار المسيح لاقتباسه لا يعني إطلاقاً موافقته!! فالسُنَّة التقريرية [27] التي يؤمن بها هذا الباحث لا وجود لها في كتابنا المقدس.

 

ومع ذلك، سنفترض جدلاً أن الآية التي اقتبسها إبليس هي بالفعل نبوة عن المسيح (حيث أن البعض يرى فيها ملامح عن كمال المسيح؛ الذي هو بلا خطية). فهل إذا افترضنا أنها نبوة، هل بالضرورة ستعني أن المسيح لم يُصلب بل رفعه الله، بدليل قول المزمور “لأنه تعلق بي أنجيه وأرفعه وأنقذه في يوم الضيق”؟؟! بالطبع لا؛ لأن نص المزمور يقتضي تطبيقه على شخص متورط في حادثة معينة، ولذلك يصلي إلى الله لينجيه من لحظة الضيق.

فهنا يفترض الباحث أن يوم الصلب كان هو يوم الضيق الذي كان يصلي فيه المسيح لله الآب لكي ينجيه من الصلب والموت! وهذا بالطبع غير حقيقي، فلم يحدث أبداً أن صلى المسيح لكي ينجيه الآب من الصلب، بمعنى عدم الموت. فكيف يحاول المسيح – حاشا له – الهروب من الصليب، وهو ما جاء من أجله في الأساس؟!!

  • كَمَا أَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ. (متى 20: 28)
  • كَمَا أَنَّ ٱلْآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلْآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ. (يوحنا 10: 15)
  • وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كَلَامِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لَا أَدِينُهُ، لِأَنِّي لَمْ آتِ لِأَدِينَ ٱلْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ ٱلْعَالَمَ. (يوحنا 12: 47)
  • من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليمويتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم. 22 فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلا: «حاشاك يا رب! لا يكون لك هذا!» 23 فالتفت وقال لبطرس: «اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». (متى 16: 21 – 23)
  • وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم يسوع قائلا: «لا تعلموا أحدا بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات». (متى 17: 9)
  • ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم». (متى 17: 12)
  • وفيما كان يسوع صاعدا إلى أورشليم أخذ الاثني عشر تلميذا على انفراد في الطريق وقال لهم: 18 «ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلمإلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت 19 ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه وفي اليوم الثالث يقوم». (متى 20: 17 – 19)
  • ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه: 2 «تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يسلم ليصلب». (متى 26: 1-2)
  • ولكن بعد قيامي اسبقكمالى الجليل. (متى 26: 31)
  • وابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبةويقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم. (مرقس 8: 31)
  • فأجاب: «إن إيليا يأتي أولا ويرد كل شيء. وكيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أن يتألم كثيراويرذل. (مرقس 9: 12)
  • لأنه كان يعلم تلاميذه ويقول لهم إن ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونهوبعد أنيقتل يقوم في اليوم الثالث. (مرقس 9: 31)
  • فيهزأونبه ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم». (مرقس 10: 34)
  • قائلا: «إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم كثيراويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم». (لوقا 9: 22)
  • ولكن ينبغي أولا أن يتألم كثيراويرفض من هذا الجيل. (لوقا 17: 25)
  • وأخذ الاثني عشر وقال لهم: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان 32 لأنه يسلم إلى الأمم ويستهزأ به ويشتم ويتفل عليه 33 ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم». (لوقا 18: 31)
  • قائلا: إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم». (لوقا 24: 7)
  • أما كان ينبغي أن المسيح يتألمبهذا ويدخل إلى مجده؟» (لوقا 24: 26)
  • وقال لهم: «هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. (لوقا 24: 46)
  • وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائهأن يتألم المسيح قد تممه هكذا. (أعمال 3: 18)
  • موضحا ومبينا أنه كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأمواتوأن هذا هو المسيح يسوع الذي أنا أنادي لكم به. (أعمال 17: 3)

 

فالرب يسوع بنفسه قال إنه جاء خصيصًا لأجل الفداء. ألم يصرح المسيح في مواضع كثيرة بهذه الحقيقة، أنه ينبغي أن يسلم ليصلب ويموت وفي اليوم الثالث يقوم؟! فكيف إذن يصلي لكي ينجيه الله من الصلب الذي جاء خصيصًا له؟ وكيف يصلي ليمنع عن نفسه الصلب وهو الذي وصف بطرس بالشيطان عندما حاول منعه عن الصلب بمجرد الكلام؟

أليس الصليب هو الكأس التي أعطاه إياها الآب؟ فكيف يصلي له ليرفع عنه هذا الكأس؟

نص المزمور يقول: ” يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده. ” فهل أصبح الهروب من الصليب هو المجد الذي سيعطيه الله للمسيح؟! لكن الصحيح هو أن قيامة الرب يسوع من الموت في اليوم الثالث وصعوده للسماء [28] ليجلس عن يمين الآب هم المجد الحقيقي، وليس الهروب من الصليب. (كما سنوضح) فأبو عمر يعتبر الهروب من المواجهة، هو مجد ونصرة.

 

يُكمِل هذا الباحث: ” ما هو يوم الضيق في حياة المسيح؟ أليس هو يوم الصلب؟! أليس هو اليوم الذي كان يصلي فيه ويطلب من الله الآب أن يعبر عنه هذا الكأس؛ كأس الموت؟! “.

إعتقد المشكك هنا، أن “الكأس” المقصود بها مجرد الصلب والموت، وبالتالي فالمسيح يصلي هنا طالباً الهروب من الصلب والموت. فلماذا تجاهل السائل أكثر من ٦٠ نصاً إنجيلياً يشهد فيه المسيح عن عمله الكامل، بكل أحداث رسالته التي يستوجبها بالصلب والقيامة من الموت والصعود للسماء؟!! فكل شئ كان واضحاً أمام المسيح وأعلنه أكثر من مرة.

وكأمثلة لمعرفة المسيح بكل أحداث صلبه قبل حدوثها:

 

  • ” وفيما كان يسوع صاعدا إلى أورشليم أخذ الاثني عشر تلميذا على انفراد في الطريق وقال لهم: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم». ” (مت ٢٠: ١٧-١٩)

 

فهل هناك وضوح أكثر من ذلك؟

  • ” ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر. وفيما هم يأكلون قال: «الحق أقول لكم: إن واحدا منكم يسلمني». فحزنوا جدا، وابتدأ كل واحد منهم يقول له: «هل أنا هو يارب؟» فأجاب وقال: «الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني! إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد!». فأجاب يهوذا مسلمه وقال: «هل أنا هو يا سيدي؟» قال له: «أنت قلت». “. (مت ٢٦: ٢٠-٢٥)

 

بل وعلْم تفصيلي للأحداث والأشخاص والأماكن! وكل هذا قبل حدوثها.

لاحظ أيضاً قول المسيح ” كما هو مكتوب “، أي كما تنبأ الأنبياء قديماً عن المسيح في الوحي المقدس.

 

  • ” وقال لهم: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم: أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير». حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم: «هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مبتدأ من أورشليم. ” (لو ٢٤: ٤٤-٨٨)

 

لاحظ قول المسيح ” هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي… “، فهذا لا يؤكد علمه فقط بما سيحدث، بل وإصراره على أن يتمم رسالته التي جاء من أجلها وهي الموت صلباً ثم القيامة من بين الأموات في اليوم الثالث.

والذي قد تنبأ عنها موسى والأنبياء والمزامير.

 

لاحظ قول المسيح “والمزامير”، فالمسيح بفمه القدوس يقول أن سفر المزامير تنبأ عن صلبه وموته بل وقيامته أيضاً.

فلا عذر الآن لأي محاولة اختلاق نبوات كاذبة عن عدم صلب المسيح وموته.

 

  • ” فقال لهما:«أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء! أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟» ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب. ” (لو ٢٤: ٢٥-٢٧)

 

مرة أخرى يشدد المسيح على نبوات صلبه وموته في العهد القديم والتي ينبغي أن تُكمَّل. فهذه فقط لمحة سريعة عن أقوال المسيح نفسه – تبارك اسمه – لكن هناك عشرات الآيات الأخرى، والتي صرَّح فيها المسيح عن أهمية عمله من خلال الموت على الصليب، قبل حتى أن يُسلَّم ويُصلَب!

 

إذن، يأتي السؤال الأهم: في وسط هذا التأكيد من المسيح على حتمية صلبه وموته؛ ما معنى صلاته في البستان ” يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت ” (مت ٢٦: ٣٩).

 

وما المقصود بالكأس؟

” فقال يسوع لبطرس: «اجعل سيفك في الغمد! الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟ ” (يو ١٨: ١١)

هنا المسيح يستخدم نفس المصطلح وهو ” الكأس “. فلاحظ أنه لم يقل ” الكأس التي قدمها لي يهوذا بخيانته أو رؤساء الكهنة بغيرتهم “!! فبحسب عقيدة المشكك، فإن عملية الصلب، هس من تخطيط بشري محض من قِبَل اليهود والرومان لقتل المسيح، ولا يوجد فيه أي تدخل إلهي إلا عند نجاة المسيح المزعومة.

 

بل المسيح يقول هنا: ” الكأس التي أعطاني الآب “. فالمسيح يعلن بوضوح أن هذه الكأس (التي سنفترض أنها مجرد الصلب والموت مبدئياً) هي مشيئة الآب (التي لا يمكن أن تختلف عن مشيئة الأبن) وليس مجرد مشيئة بشرية!

فأين هذا الباحث من كل هذه القرائن التي توضح حتمية موت المسيح؟! فالمسيح يقول: ” من منكم يبكتني على خطية؟! ” (يو ٨: ٤٦) مشيراً إلى نفسه بالصلاح والكمال والقداسة.

والوحي المقدس يقول عنه: ” وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا، وليس فيه خطية. ” (١ يو ٣: ٥)

فالكأس هي أن هذا الطاهر المطلق القدوس الذي لم يعرف خطية، الآن سيتجرع الكأس الرهيبة؛ أن يحمل خطية العالم كله وأن يتحمل دينونة الآب المرعبة نيابةً عن كل العالم في جسده البشري المطلق في قداسته.[29] فالكأس ليس مجرد الصلب والموت!

 المسيح الذي قال لبطرس أثناء تسليمه من قِبَل يهوذا (بعد صلاته في البستان):

” «رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون! ٥٣أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة؟ ٥٤فكيف تكمل الكتب: أنه هكذا ينبغي أن يكون؟». ” (مت ٢٦: ٥٢-٥٤).

فالمسيح إذن لم يخاف – حاشا له – من الصلب أو الموت، بل حتى بعد حادثة صلاته، يصرح لبطرس هنا بأنه ينبغي أن تكمل الكتب بموته.

يقول وليم ماكدونالد: لذلك عندما صلّى يسوع لكي تعبر عنه الكأس لم يكن يطلب من الآب أن يُنقذه من الصليب. فالصّليب كان الغرض الأساسي من مجيئه إلى العالم! كانت صلاة يسوع بيانيّة في أسلوبها، أي أنّ الهدف منها لم يكن الحصول على الاستجابة بقدر ما كان تعليمنا درسًا روحيًّا. فكأنّ المسيح كان يقول، ”يا أبتاه، لو كانت لديك طريقة أخرى لخلاص الخطاة الفجّار تغني عن ذهابي إلى الصليب فأعلنها الآن لي!

لكن ليكن معلومًا في كل هذا الأمر أنّي لا أرغب في أيّ شيء يتعارض مع مشيئتك”. ماذا كانت الإجابة لصلاة يسوع تلك؟ لا شيء فقد بقيت السّماء صامتةً. وعرّفنا هذا الصمت البليغ بأنّه ليس عند الله من طريق آخر لتبرير الخطاة المذنبين سوى موت المسيح المخلّص البارّ بديلاً منّا.[30]

يقول الأب متى المسكين: ماذا حدث؟ ألم يذكر المسيح الصليب والآلام والجلد والبصاق والموت مرات ومرات؟ فهل لما أتت الساعة تغيرت حساباته؟! أمر مستحيل! هل ظهر أمر في الصليب كان مخفياً عليه ثم عرفه؟! هذا أيضاً أمر مستحيل!… إذن ماذا حدث؟ الأمر جلل حقاً… فالكأس الذي ظهر بهذه الصورة غير المحتملة… هو كأس اابشرية الذي ليس فيه سبب ولا مشاركة، كأس خطايا البشرية وعارها… أن يصبح القدوس الطاهر الذي لم يعرف خطية ولا صار في فمه غش، قاتلاً وزانياً نجساً شريراً…[31]

يقول الدكتور وليم إدري: هذه الكأس أي كأس الكفارة والموت (قابل هذا مع ٢٠: ٢٢) وهي تشمل على الآلام التي يجب أن يحتملها ليكفر عن آثام البشر، وينبغي أن نعلم أنه آشار بذلك إلى آلام نفسه لا إلى آلام جسده؛ لأن كل ما قاله لتلاميذه سابقاً في شأن موته ينفي ظن خوفه من الموت الجسدي… فكأس آلام المسيح هي كأس خلاصنا، شرب كل ما فيها من المر وملأها لنا إبتهاجاً…[32]

يقول كينر: الكأس قد تشير إلى صورة العهد القديم لكأس الدينونة الممنوح للأمم.[33]

يقول فيليب شاف: كل معاناته بما في ذلك الحزن في تلك الساعة، لايزال أمل الإغاثة في آلامنا، لكنه سبق أن علم الجميع. كل النبوات التي قالها ربنا من قبل والأحداث التي وقعت في نفس هذا المساء، تبين أنها لم تكن مجرد خوف من الموت.[34]

يقول القمص تادرس يعقوب: أما سر حزنه فهو ليس الخوف من الآلام الجسدية، إنما ثقل الخطية التي لا يقبلها السيد ولا يطيقها، لكنه من أجل هذا جاء، ونيابة عنا خضع في طاعة للآب ليحمل موت الخطية فيه.[35]

يقول التفسير التطبيقي: لم يكن يسوع يتمرد على إرادة أبيه عندما طلب أن تعبر عنه الكأس، بل بالحري أكد رغبته في إتمام مشيئة الله قائلاً: “لكن، لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت”. وتكشف لنا صلاته عن معاناته الرهيبة، فقد كانت معاناته أشد هولاً من الموت، حين كفَّر هو بذاته عن كل خطية. لقد كانت الكأس هي المعاناة والانفصال عن الآب، لقد حمل ابن الله القدوس، الذي بلا خطية، خطايانا على نفسه ليخلصنا من العذاب والانفصال عن الله.[36]

يقول “Carson”: الكأس لا تشير إلى المعاناة والموت فقط، بل أيضاً إلى دينونة الله كما هو في العهد القديم.[37]

يقول “France”: المسألة ليست ما إذا كان ينبغي أن يقبل يسوع غرض الآب أو لا، ولكن ما إذا كانت الحاجة لهذا الغرض تشمل الكأس المرعبة من المعاناة غير المباشرة، أو ما إذا كانت هناك طريقة أخرى. ومن هنا المزيج الرائع في هذه الآية من طلب واضح مع قبول أنه قد لا يتم منح هذا الطلب. القضية الوحيدة التي تهم هي حدود إرادة الله. صلاة يسوع هي إستكشاف لتلك الحدود، لكنها لا تحاول الخروج منها.[38]

 

 

تفسير الآباء لصلاة المسيح: [39]

يقول العلامة أوريجانوس: من المستحيل أن ابن الإنسان كان يقول هذا تحت إحساس بالخوف!… فالرب يسوع لا يستعفي من ذبيحة الموت حتى تصل نعمة الخلاص للجنس البشري كله.[40]

يقول القديس كيرلس السكندري: كيف خاف الموت ذاك الذي قال للذين فتشوا عنه وذهبوا ليقبضوا عليه: أنا هو (يو ١٨: ٦)، كيف خاف الموت ذاك الذي قال: لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً، وقال أيضاً: ليس أحد يأخذها مني، بل أنا أضعها من ذاتي وأنا آخذها أيضاً (يو ١٠: ١٨).[41]

ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: ولكن إن كان حسب رأيكم أن الكلمة كان خائفاً، فلماذا إذاً وهو قد تكلم عن مكيدة اليهود قبلها بوقت طويل، لم يهرب، بل حينما جاءوا للقبض عليه قال: أنا هو.[42]

يقول القديس أوغسطينوس: صوته وحده الناطق: “أنا هو” بدون أسلحة، ضرب الجمع الغفير، أثبطهم وأسقطهم أرضاً مع كل وحشية كراهيتهم ورعب أسلحتهم.[43]

وأخيراً، يقول أيضاً القديس كيرلس السكندري: أي إنسان ذو فهْم لن يقول إن الرب قدم هذه التوسلات كأنه في احتياج إلى قوة أو عون من آخر – لأنه هو نفسه قوة واقتدار الآب الكلي القدرة.[44]

 

وهنا يُنهي أبو عمر أسئلته قائلاً: وفي الرسالة إلى العبرانيين ٥: ٧ تقول: ” الذي، في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه، “ والترجمة العربية المبسطة تقول: ” وَأثنَاءَ حَيَاةِ يَسُوعَ عَلَى الأرْضِ، قَدَّمَ تَضَرُّعَاتٍ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ للهِ القَادِرِ أنْ يُنقِذَهُ مِنَ المَوْتِ، وَسُمِعَتْ صَلَاتُهُ بِسَبَبِ تَقوَاهُ.” “.

 

ثم استنتج من هذا: ” يعني يسوع في يوم الضيق، كان يدعو أن ينقذه الله من الموت، واستجاب الله ليسوع لأنه كان تقياً.

 

لذا سنقسم الرد كالتالي:

أولاً، المسيح في رسالة العبرانيين:

أخطأ هذا الباحث حين أخذ من رسالة العبرانيين، معتقداً أنها ستشفع له. لذا سنقدم منها لمحة بسيطة عن المسيح ورسالة الخلاص التي قدمها على الصليب..

 

حيث نجد فيها:

  • تجسد المسيح وحتمية موته؛ ليُميت الموت بالقيامة.

” فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين­ خوفا من الموت­ كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية.” (عب ٢: ١٤-١٥)

 

  • موت المسيح كان بالآلام لخلاص كل واحد.

” ولكن الذي وضع قليلا عن الملائكة، يسوع، نراه مكللا بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد. لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.” (عب ٢: ٩-١٠)

 

  • قيامة المسيح من الموت.

” وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع، بدم العهد الأبدي “. (عب ١٣: ٢٠)

 

  • المسيح أبطل مفعول الخطية؛ بتقديم نفسه ذبيحة.

” فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مرارا كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه. وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضا، بعدما قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه. “. (عب ٩: ٢٦- ٢٨)

إذن، هذه هي رسالة العبرانيين التي يقتطع منها هؤلاء المشككين، عبارة واحدة من سياقها، راغبين في إثبات عدم صلب المسيح من الكتاب المقدس القائم بأكمله على فكرة الخلاص بدم ربنا يسوع المسيح.

 

ثانياً، تحليل النص:

وسط هذا الزخم، الذي تقدمه رسالة العبرانيين عن حتمية موت المسيح على الصليب وقيامته من الموت لإبادة سلطان الموت، يصبح من العار أن يتم فهْم أي آية فيها، ضد أو حتى خارج هذا السياق الواضح.

بدايةً، النص لا يقول، أن المسيح طلب أن لا يموت، بل أن يخلصه من الموت. والمعنى واضح في بقية السياق الذي اقتطعه، حيث يقول الوحي الإلهي عن المسيح:

 ” الذي، في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص أبدي ” (عب ٥: ٧-٩)

 

ونلاحظ الآيات التي اقتطعها تقول: ” مما تألم به ” وأيضاً ” وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي “. والعجيب أن أبو عمر نفسه استشهد بترجمة أخرى للنص وهي الترجمة العربية المبسطة، لسهولة توصيل معنى النص. ومع ذلك، اقتطع عن عمد باقي السياق، الذي هو أوضح بكثير من الترجمة السابقة (الفانديك). حيث يقول النص (في نسخة الترجمة العربية المبسطة):

 

وَأثنَاءَ حَيَاةِ يَسُوعَ عَلَى الأرْضِ، قَدَّمَ تَضَرُّعَاتٍ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ للهِ القَادِرِ أنْ يُنقِذَهُ مِنَ المَوْتِ، وَسُمِعَتْ صَلَاتُهُ بِسَبَبِ تَقوَاهُ. وَرُغْمَ أنَّهُ كَانَ ابنًا، فَقَدْ تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِنْ خِلَالِ الآلَامِ الَّتِي عَانَاهَا. وَبَعْدَ أنْ كُمِّلَ بِالآلَامِ، صَارَ مَصْدَرَ خَلَاصٍ أبَدِيٍّ لِكُلِّ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ. (عب ٥: ٧-٩)

 

لاحظ أن النص في الترجمة المبسطة يقول بكل وضوح: “فقد تعلم الطاعة من خلال الآلام التي عانها”، وتقول أيضاً: ” وبعد أن كمل بالآلام، صار مصدر خلاص أبدي لكل الذين يطيعونه”. فهي كلمات واضحة عن الخلاص “الأبدي” الذي قدمه المسيح حينما أكمل كل الفداء على الصليب. فلا أجد أي عذر أو معنى لما يفعله هذا الباحث، إلا أنه إصرار واضح على فبركة معنى النصوص..

 

يقول تعليق النسخة اليسوعية: يقول الكاتب في آنٍ واحد أن تلك الصلاة استُجيبَت وأن المسيح تألم وأطاع. فالاستجابة هي تحول يتم عبر الموت نفسه.[45]

 

يقول وليم باركلي: وما يريد كاتب العبرانيين أن يقوله هو أن كل الاختبارات والآلام التي جازها يسوع أعطته الصلاحية الكاملة ليصير فادي ومخلص الناس… فإن الخلاص الذي جاء به يسوع للناس هو خلاص أبدي….[46]

 

يقول الدكتور موريس تاوضروس: على الرغم من أنه ابن الله، فقد أظهر الطاعة في أسمى صورها وأكمل تعبير لها. وكلمة “تعلم” لا تعني أن الابن كان يجهل الطاعة قبل الآلام وإنما تعني أن هذه الطاعة ظهرت في أقوى تعبير لها في تحمل السيد المسيح آلام الصليب… فإن كمال عمل المسيح الخلاصي تحقق بالآلام التي تحملها، أي أن الكمال المنسوب إلى المسيح يقصد به أن ما تحمله المسيح من آلام، وما أظهره من طاعة، كل هذا قد أهله لأن يصير كاملاً في عمله كمخلص وكرئيس كهنة، فالآلام إذن كانت ضرورية لكي يعمل المسيح كمخلص.[47]

 

يقول “Donald Guthrie”: يُنظَر إلى كمال المسيح كأساس لخلاصنا. في الواقع، لقد أصبح مصدر الخلاص الأبدي.[48]

يقول “William Lane”: نتيجة هذا الفعل [أي الطاعة من خلال الآلام]، يسوع قد أصبح مصدر الخلاص الأبدي لكل الذين يطيعونه… باعتباره الشخص الذي اختبر معنى الطاعة في معاناة الموت استجابةً لإرادة الله… فالخلاص الذي يقدمه “أبدي” ليس فقط لأنه يمتد إلى ما وراء الزمن ولكن لأنه حقيقي، سماوي، وليس من صنع الإنسان.[49]

 

ثالثاً، تفسير النص:

نأتي الآن لمعنى النص الذي اقتطعه.

وهنا يجب أن نسأل بكل بساطة: هل بقي المسيح في الموت، أم سحق الموت بقيامته؟! فالآية هنا تتحدث عن خلاصه من بقائه تحت سلطان الموت.. وفي ضوء القرائن من آيات الكتاب المقدس، نقرأ في نبوة عن صلاة المسيح هذه، حيث يقول الوحي الإلهي:

” لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادا. ” (مز ١٦: ١٠)

 

وقد شرح سفر أعمال الرسل هذه النبوة حيث يقول:

أيها الرجال الإخوة، يسوغ أن يقال لكم جهارا عن رئيس الآباء داود إنه مات ودفن، وقبره عندنا حتى هذا اليوم. ٣٠فإذ كان نبيا، وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، ٣١سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح، أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فسادا. ٣٢فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعا شهود لذلك. (أع ٢: ٢٩-٣٢)

 

فداود قد مات وقبره موجوداً وقد رأى جسده فساداً، وبذلك فإن داود قائل هذه النبوة، لم يكن يقصد نفسه، بل المسيح الذي أتى من نسله، والذي لم يرَ جسده فساداً، حيث أنه قام من الموت في اليوم الثالث.[50]

 

ولمزيد من التوضيح، نضع الآيات في مطابقة..

رسالة العبرانيين

سفر المزامير

سفر أعمال الرسل

الذي، في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص أبدي

لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادا.

أيها الرجال الإخوة، يسوغ أن يقال لكم جهارا عن رئيس الآباء داود إنه مات ودفن، وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبيا، وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح، أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فسادا. فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعا شهود لذلك.

 

وبحسب رأي العلامة أتريدج أنه لو كان القصد أن يخلصه من موت الجسد للزم أن يكون الحرف “مِنْ” في قوله ” القادر أن يخلصه من الموت “، ليس έκ بل άπό.[51] فالحرف “έκ” يشير إلى الانفصال أو الانبعاث خارج شيء – كان هناك ارتباط وثيق معه مسبقاً.[52] فالمقصود هنا أن هذا الحرف έκ يعني من داخل، أو: من وسط، فالقصد هو أن يخلصه من داخل الموت، وهذا الذي حدث بالقيامة، فالمسيح مات فعلا لكنه من داخل هذا الموت قام بعدما مات.

وهو لا يراد به النقل من موضع في الخارج إلى آخر في الخارج، بل من موضع في الداخل إلى آخر في الخارج. ولذلك يَرِد في بعض الترجمات الإنجليزية التعبير “out of” بدلاً من “from” لتأكيد المعنى السابق (وهو المعنى الحرفي للكلمة). وهو ما تم استخدامه في (رو ٦: ١٣)، للإشارة إلى الحالة التي يخرج منها الشخص، الذي كان ميتاً وأصبح حياً.

إذن، الخلاصة هي: قول الوحي الإلهي ” القادر أن يخلصه من الموت ” يُقصَد به قيامة رب المجد يسوع المسيح، أي عدم بقائه تحت سلطان الموت، وليس المقصود منها عدم صلبه وبالتالي عدم موته.

 

يقول تعليق نسخة ESV: الكاتب على علم بوضوح بحقيقة موت يسوع (عب ٩: ١١-١٤)، فهو يتكلم عن قيامة يسوع كتخليصه من الموت.[53]

 

يقول القمص أنطونيوس فكري: هذه لا تفهم إطلاقاً أن الآب استجاب له فلم يمت بل أن الآب استجاب له بأن تركه يموت ومن داخل الموت تعامل مع الموت، قوة الحياة التي فيه ابتلعت الموت فخلص نفسه من الموت بلاهوته، وقام وخلص البشرية معه فقامت البشرية من الموت. بالموت داس الموت. والله استجاب له بالقيامة التي صارت حياة جديدة له ولكل الكنيسة.[54]

 

يقول هنري أيرونسايد: فلا بد أن نلاحظ هنا أنه لم ينجُ من الموت ولا صلى أو تضرع لكي يتخلص من الموت، ولم يخشَ الموت. لقد جاء إلى العالم ليموت، لأجل ذلك الهدف نفسه؛ ولكنه أُنهض من الموت، إذ أقامته قوة الله.[55]

 

يقول وليم ماكدونالد: كان يصلّي حتى يُنقذ من الموت بمعنى ألا تبقى نفسه في الهاوية. لقد استُجيبت هذه الصلاة عندما أقامه الله من بين الأموات فسُمع له من أجل تقواه.[56]

 

يقول كريج كينر: أكدت الديانة اليهودية على أن الله يسمع للأتقياء، فقد استجاب الله لصلوات يسوع بأن أقامه من الموت وليس بأن أفلته من الموت.[57]

وأخيراً، يقول الوحي المقدس: لكنه أخلى نفسه، آخذا صورة عبد، صائرا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضا، وأعطاه اسما فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب. . (في ٢: ٧-١١)

 

لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الآبد آمين. يا ربى يسوع المسيح.

«إِلَى هُنَا أَعَانَنَا الرَّبُّ»

 

 

[1] الأنبا بيشوي، كتاب المسيح مشتهى الأجيال، الطبعة الثانية، ص ٦٥٤-٦٥٥.

[2] الأنبا ساويرس، الدر الثمين في إيضاح الدين، إصدار أبناء البابا كيرلس السادس، ص ٣٧.

[3] FC 94: 165-166.

[4] W. D. Mounce (2006), Mounce’s Complete Expository Dictionary of Old & New Testament Words, p.395.

[5] Ibid, p. 705.

[6] Vincent, Marvin R., Vincent’s Word Studies in the New Testament, Charles Schribner’s Sons, New York, USA. 1887,(electronic ed.), Mt 4:5.

[7] Barnes, Albert, Albert Barnes’ Notes on The whole Bible, (electronic ed.) , Mt 4:5.

[8] هلال أمين، تفسير إنجيل يوحنا، (نسخة إلكترونية)، يو ١٢: ٣١-٣٣.

[9] Crossway Bibles. (2008) The ESV Study Bible Notes, (Lk 4: 5-8).

[10] Biblical Studies Press. (2006) The NET Bible, Second Edition Notes, (Lk 4:6).

[11] L. Liefeld, Walter, “Luke” In Expositor’s Bible Commentary. Edited by Frank E. Gaebelein, J. D. Douglas, and Walter Kaiser, vol. 8. (Grand Rapids: Zondervan, 1984.), p. 864.

[12] وليم إدري، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، الجزء الثاني: شرح إنجيلي مرقس ولوقا، إصدار مجمع الكنائس في الشرق، بيروت ١٩٧٣، ص ١٨٣-١٨٤.

[13] S. Keener, Craig. The IVP Bible Background Commentary: New Testament, second edition, p. 189.

[14] الكتاب المقدس: نسخة الرهبنة اليسوعية، الطبعة الثالثة، تعليق على لو ٤: ٦.

[15] تادرس يعقوب ملطي، إنجيل لوقا، سلسلة تفسير وتأملات الآباء الأوليين، (نسخة إلكترونية)، لو ٤: ٦.

[16] مجموعة من كهنة وخدام الكنيسة، الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد، شرح لكل آية، الجزء الثاني؛ بشارتي لوقا ويوحنا، الطبعة الأولى ٢٠٠٤، ص ٥٢.

 

[17] Ellicott, Charles, John, Ellicott’s Commentary For English Reader, (Electronic ed.), Lk 4:6.

[18] Coffman, James Burton. Coffman Commentaries on the Old and New Testament, Abilene Christian University Press, Abilene, Texas, USA. 1983-1999. (Electronic ed.), Lk 4:6.

[19]  الأب متى المسكين، الإنجيل بحسب القديس لوقا: دراسة وتفسير وشرح، الطبعة الأولى ١٩٩٨، ص ١٩٠.

[20] القديس إيرينيوس، ضد الهرطقات، الجزء الثاني: الكتاب الخامس، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية ٢٠١٩، ص ٣٣١.

[21] Crossway Bibles. (2008) The ESV Study Bible Notes, (Lk 4: 9-12).

[22] Carson, D. A. “Matthew.” In Expositor’s Bible Commentary. Edited by Frank E. Gaebelein, J. D. Douglas, and Walter Kaiser, vol. 8. Grand Rapids: Zondervan, 1984, p. 113.

[23] تادرس يعقوب ملطي، إنجيل لوقا، سلسلة تفسير وتأملات الآباء الأوليين، (نسخة إلكترونية)، لو ٤: ١٠-١١.

 

[24] كتاب تجارب المسيح في البرية، ترجمة نهاد فرح، الطبعة الأولى ٢٠٠٩، ص ٩١.

[25] نفس المرجع السابق.

[26] نفس المرجع السابق، ص ٨٣.

[27] السنة التقريرية في الإسلام: هي أن يسكت النبي عن إنكار قول أو فعل صدر أمامه، أو في عصره وعلم به، وذلك إما بموافقته أو استبشاره أواستحسانه، وإما بمجرد عدم إنكاره.

أنظر: فتوى إسلام ويب بعنوان: ” أنواع السنة النبوية “، رقم الفتوى: ٣٨٩٣٨.

[28] وليم ماكدونالد، تفسير الكتاب المقدس للمؤمن: العهد القديم، المزامير، (نسخة إالكترونية)، مز ٩١: ١٥.

[29] الأخ وحيد، كتاب شهود الصليب، الطبعة الثانية: يناير ٢٠١٦، ص ١٧٥.

[30] وليم ماكدونالد، تفسير الكتاب المقدس للمؤمن: العهد الجديد، إنجيل متى، (نسخة إلكترونية)، مت ٢٦: ٣٩.

[31]  الأب متى المسكين، الإنجيل بحسب القديس متى: دراسة وتفسير وشرح، الطبعة الأولى، ١٩٩٩، ص ٧٥٩.

[32] وليم إدري، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، الجزء الأول: شرح بشارة متى، إصدار مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت ١٩٧٣، ص٤٧٢.

[33] S. Keener, Craig. The IVP Bible Background Commentary: New Testament, second edition, p.115.

[34] Schaff, Philip, A Popular Commentary on The New Testament. Vol. I, New York: Charles Scribner’s sons, 1879, p. 217.

[35] تادرس يعقوب ملطي، إنجيل متى، سلسلة تفسير وتأملات الآباء الأوليين، (نسخة إلكترونية)، مت ٢٦: ٣٩.

[36] التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، مت ٢٦: ٣٩.

[37] Carson, D. A. “Matthew.” In Expositor’s Bible Commentary. Edited by Frank E. Gaebelein, J. D. Douglas, and Walter Kaiser, vol. 8. Grand Rapids: Zondervan, 1984, p.543.

[38] France, R. T. “Mattew” In Tyndale New Testament Commentaries, Vol 1, 2008, p. 474.

[39] أمجد بشارة، صلاة المسيح؛ لماذا؟ في تعليم آباء الكنيسة.

[40] Ad Martyra.4.

[41] الكنوز في الثالوث المقدس، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ترجمة د. جورج عوض، ص ٣٦١.

[42] ضد الآريوسيين ٣: ٥٤.

[43] St. Augustine: On the Gospel of St. John, Tractate, 112:3.

[44] تفسير إنجيل لوقا، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ص ٧١٦.

[45] الكتاب المقدس، نسخة الرهبنة اليسوعية، الطبعة الثالثة، تعليق على عب ٥ : ٧.

[46] وليم باركلي، تفسير العهد الجديد، الرسالة إلى العبرانيين، الطبعة الثانية، ترجمة القس جرجس هابيل، ص ٧٦.

[47] موريس تاوضروس، تفسير رسالة العبرانيين، ص ٩٣.

[48] Guthrie, Donald, “Hebrews” In Tyndale New Testament Commentaries, Vol 15, 2008, p. 166.

[49]L. Lane , William, “Hebrews 1-8” In Word Biblical Commentary, Vol 47A, (Zondervan: 2017), p. 650.

[50] الأخ وحيد، كتاب شهود الصليب، الطبعاة الثانية: يناير ٢٠١٦، ص ٢٤٥

[51] Attridge, Harold, W., A Commentary on the Epistle to the Hebrews: A Critical and Historical Commentary on the bible, (Fortress press: 1989), p. 150.

[52] Thayer, Joseph Henry, A Greek-English lexicon of the New Testament, being Grimm’s Wilke’s Clavis Novi Testamenti, p. 189-191.

[53] Crossway Bibles. (2008) The ESV Study Bible Notes, (Heb 5:7).

[54] القمص أنطونيوس فكري، تفسير رسالة العبرانيين، (نسخة إلكترونية)، عب ٥: ٧.

[55] هنري إيرونسايد، تفسير رسالة العبرانيين، (نسخة إلكترونية)، عب ٥: ١-١٠.

[56] وليم ماكدونالد، تفسير الكتاب المقدس للمؤمن: العهد الجديد، رسالة العبرانيين، (نسخة إلكترونية)، عب ٥: ٧.

[57] S. Keener, Craig. The IVP Bible Background Commentary: New Testament, second edition, p.646.

ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان