سؤال وجواب

موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟

موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟

موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟

موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟
موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟

 

27- ما هو موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما هو مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟

ونختتم حديثنا في هذا الفصل عن موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد.

ج- للأسف انقسم الكاثوليك فمنهم من هاجم مدارس النقد، ومنهم من أيدها وهم الأغلبية الساحقة. أما الآن فللأسف الشديد فإننا نعاين الكنيسة الكاثوليكية وهي تبنى أفكار مدرسة النقد الأعلى وتبشر بها.

أولا: تمسك بعض الكاثوليك بقدسية الكتاب المقدَّس، وأقروا الوحي الإلهي في الكتاب كله، واعترفوا بالتقليد الذي أوصل لنا الكتاب بهذه الصورة.

ومن أهم الذين كتبوا يؤيدون هذا الاتجاه البابا لاون الثالث عشر (1878- 1903 م.) في الرسالة العامة التي أصدرها في 18 نوفمبر 1893م باسم “الله الكلى العناية ” وتؤكد على الآتي:

1- التنديد بأضاليل مدرسة النقد الأعلى التي ترفض الوحي الإلهي، وتعتبر الكتب المقدسة كتب بشرية محصنة تنقصها الحقيقة التاريخية، وتنكر المعجزات فتنسبها إلى قوى طبيعية مجهولة أو تعتبرها بقايا خرافات وأساطير شعبية، فتقول الرسالة “ونظرا لأن الكثيرين منهم متشبعون بأضاليل الفلسفة الباطلة، والمبادئ العقلية الفاسدة، فإنهم لا يخجلون من رفض النبوءات والمعجزات، وكل ما يفوق الوضع الطبيعي في الكتب المقدسة”(1).

2- صرحت الرسالة بأن خير وسيلة للدفاع عن الكتب الموحاة هو الارتقاء بدراسة الكتاب المقدَّس في المؤسسات الكنسية، مع الاستعانة بالوسائل الضرورية النافعة، ولا يغيب عن ذهن المفسر قول القديس أغسطينوس إن المهم هو إعلان ما يعنيه الكتاب المقدَّس وليس ما يريده المفسر.

3- حضت الرسالة على دراسة اللغات الشرقية القديمة التي كتبت بها الأسفار القانونية.

4- شجعت الرسالة على النقد الأدبي الصحيح فقال “ينبغي أيضًا على الأساتذة أن يكونوا متضلعين في علم النقد الأدبي الصحيح، ومتمرسين فيه عمليًا”(2) وشجبت النقد الأدبي الناقص الذي يعتمد على الأدلة الداخلية للنص فقط، فتقول الرسالة “وقد أقام البعض، بدون حق، وعلى حساب الدين، منهجا يدعونه (النقد الأعلى) يستند فقط على الأدلة الداخلية، كما يدعونها، من أجل احكم على أصل الكتاب، وسلامته، وسلطته (فلابد من الأدلة الخارجية وشهادة الوثائق التاريخية، وتعاليم الآباء) من الواضح، بعكس ذلك إن شهادات التاريخ تتمتع بقيمة أكبر من قيمة سائر الدلائل، وذلك في المواضيع التاريخية، حتى أصل الكتب، وحفظها، وسلامتها. لذا يجب البحث بعناية عن هذه الشهادات التاريخية، وفحصها بكل دقة. أما أدلة النقد الداخلى فلا تتمتع في أغلب الأحيان، بقوة كافية للاستناد إليها، إن كانت قد تنفع أحيانا في تدعيم البحث ومساندته”(3).

وأوضحت الرسالة الضرر الناشئ من النقد الأدبي الناقص فتقول “وبغير ذلك سوف تنجم أضرار جسيمة، وتزداد جرأة أعداء الدين، فيتجاسرون على الطعن في صحة الكتب المقدسة، وسوف يقودهم مبدأ “النقد الأعلى ” الذي ينادون به إلى عواقب وخيمة. فلن يحصلوا على ذلك النور المنشود لفهم الكتب المقدسة، ولك يجنوا فائدة من آرائهم وتعاليمهم، وإنما ستتكشف فقط تلك العلامة الأكيدة على خطاهم وضلالهم، ألا وهي تضار الآراء والأقوال، كما هو واضح منذ الآن لدى أصحاب تلك النظرية”(4).

5- تؤكد الرسالة أن العلم الصحيح لا يمكن أن يتضارب مع كلمة الله الموحاة، وأي اختلاف أو تضاد ظاهري بين الكتاب المقدَّس والعلوم يمكن حله، وإن بقيت بعض المشاكل بلا حل فقد تكون ناشئة من خطأ النساخ فتقول الرسالة “أجل، من الممكن أن يكون النساخ الذين نقلوا المخطوطات، قد أخطأوا في كتابة بعض النصوص، ولكن يجب في مثل هذه الحالة، أن يكون الحكم ناضجا، وأن لا نسلم به إلا في النصوص التي يثبت فيها خطأ النساخ بوضوح”(5) ويؤكد نفس المعنى الأب أنطوان نجيب فيقول “أما بالنسبة إلى النصوص التي قد تظهر مخالفة للحقيقة، فيجب القول مع القديس أوغسطينوس بأنها لا تعدو أن تكون خطأ في النسخ، أو خطأ في التفسير، أو عدم فهم من جهتي”(6) (ملاحظة: لا أحد ينكر أن هذا التصريح البابوي بإمكانية خطأ النساخ قد شجع البعض على الطعن في بعض نصوص الكتاب المقدَّس، وهذا ما أصبحت تعانى منه الكنيسة الكاثوليكية الآن).

6- هاجمت الرسالة فكرة الوحي الجزئي فقالت “ولكن من الخطأ البين حصر الوحي الإلهي في بعض أجزاء الكتاب المقدَّس فقط، أو التسليم بوقوع الكاتب الموحى (إليه) في الخطأ، ولا يمكن الإقرار برأي الذي لا يترددون في التسليم بأن الوحي الإلهي يقتصر على أمور الإيمان والأخلاق، دون سواهما، رغبة منهم في التخلص من الصعوبات”(7) وتؤكد الرسالة على الحي الكامل فتقول “لأن الكتب التي تقبلها الكنيسة كمقدسة وقانونية، قد كتبت كلها، في جميع أجزائها بإملاء الروح القدس، فلا يمكن أبدا أن يقع أي خطأ في الوحي الإلهي، فهو بطبيعته ينفى كل خطأ، بل هو ينفيه ويستبعده بنفس الضرورة التي يمتنع معها أن يكون الله تعالى، الحقيقة العليا، مصدرًا لأي خطأ”(8) ويعلن الأب أنطوان نجيب موضحا طبيعة الوحي فيقول “وبهذه المناسبة تحدد الرسالة طبيعة وحى الكتب المقدسة، فتعلن أن الروح القدس، المؤلف الأول والأساسي، استخدم بعض الأشخاص كأداة للكتابة، فإن الروح القدس بقوته الفائقة الطبيعية، حركهم وساقهم إلى الكتابة، وساعدهم عند الكتابة، بحيث أنهم أدركوا إدراكا صحيحا كل ما أمر بكتابته، ولا شيء غيره، وأرادوا كتاباه بأمانة، وعبروا عنه تعبيرا صحيحًا، معصوما من كل خطأ، وبخلاف ذلك لن يكون الله تعالى مصدر الكتاب المقدَّس كله”(9).

وقد ألف العلامة الفرنسي الأب “فيجوركس” F. Vigourowx كتابًا(10) سنة 1884م رد فيه على مدرسة النقد الأعلى، كما وضع هذا الأب قاموس الكتاب المقدَّس الذي أستغرق منه نحو عشرين عاما (1891- 1912م)، وأيضًا العلامة “كورنيلي ” R. Cornely سار في ذات الدرب، وألف كتابًا سنة 1887م.(11) كشف فيه أخطاء مدرسة النقد، وناقش نظرية المصادر ورد عليها، وأعلن تمسكه بصحة الكتاب المقدَّس لأنه موحى به من الروح القدس، والتقليد هو الذي أوصل لنا الكتاب بهذه الصورة كما اشترك كورنيلى مع مجموعة من الدارسين في وضع مجموعة تفسيرية باسم “دروس في الكتاب المقدس” حيث اعتمدوا في كثير من الأحيان على أقوال آباء الكنيسة الأوائل.

ثانيا: قبل معظم الكاثوليك أفكار مدرسة النقد الأعلى، وشجعوا نظرية المصادر،

ولاسيما تحت تأثير الراهب الدومينيكاني الأب “ماري جوزيف لاجرانج ” M. G. Lagrange الذي أسس “مدرسة أورشليم للدراسات الكتابية ” وفي سنة 1909 أنشأ معهد الكتاب المقدس البابوي في روما، وأن كان هذا المعهد لا يتبع الفاتيكان إلا أنه معتمد منه رسميا، كما استعان ببعض الدارسين الذين يوافقونه ميوله في وضع مجموعة “الدراسات الكتابية ” وكان “لاجرانج ” متأثرا بأفكار وآراء “ليسنج ” Lessing الذي يدعو للفصل بين الدين والكتاب المقدَّس، حيث يعتبر أن الدين ينبع من عقل الإنسان وقلبه، ولا يحتاج إلى كتاب معين ليحدد له طريق الإيمان بالله.

وأنكر “لاجرانج ” الوحي الإلهي بمفهومه التقليدي، وقال أن الوحي نابع من العقل والإرادة، فالله يستغل من عقول الناس وإرادتهم سبيلا للكشف عما في عقله وإرادته هو، وذلك بأن يحرك هؤلاء الكتاب إلى دراسة الحفريات واستنطاق الأرض دون الحاجة إلى الإيمان بكل ما جاء في الكتاب المقدَّس من تعاليم السماء، وتجرأ “لاجرانج ” على الكتاب المقدَّس فحذف ما شاء من الأحداث، واعتبرها أساطير خرافية، وقال “لاجرانج ” أن هناك ثلاثة مصادر للتوراة هم الإيلوهى E، واليهوي J، والكهنوتي P، والمصدر الأيلوهي وجد قبل موسى، واستعان به موسى في تدوين الجزء التاريخي السابق عليه، أما المصدر اليهوي فقد كتبه أحد أتباع موسى بموافقته أو بناء على توجيهات شخصية من موسى، والمصدر الكهنوتي يمثل مؤلف وجيز كتب بعد موسى، وأن هذه المصادر الثلاث جرى عليها تعديل وتصحيح وتنقيح في عصور متلاحقة (وهذا ما تنقله لنا مدرسة المدعين التحريف نقلا عن العلماء المسيحيين كما يدعون).

وللأسف فإن الأغلبية الساحقة من الكاثوليك سقطوا في فخ مدارس النقد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولاسيما أن البابا بيوس الثاني عشر (1939- 1958م) وأعلن سنة 1943م عن تشجيع حرية البحث في جراسات الكتاب المقدَّس، والبحث عن معلومات عن واضعي العهد القديم، فقال للباحثين الجديد لتحديد الشكل الخاص والظروف التي عمل فيها المؤلف المقدس، والفترة التي عاشها، والمصادر المكتوبة أو التي بلغ بها شفهيا، وصوروا التعبيرات التي استخدموها(12)، وأيضًا للأسف الشديد أن مدرسة “لاجرانج” الذي مات سنة 1938م ظلت مستمرة، والأمر المدهش أنها وجدت طريقها إلى مجمع الفاتيكان الثاني (1962- 1965م) الذي وضع تعريفا جديدا للوحي، كما وضع بعض القواعد اللازمة لمفسري الكتاب المقدَّس في قراراته الصادرة في 18 نوفمبر 1965م، وفي سنة 1968م نشرت مجلة من جروم بييليكال كومنترى “الكاثوليكية التصريح التالي: “ليس سرا أن الخمس عشرة أو العشرين سنة الأخيرة كانت تتميز بالتحول والتغير في كل ما يتعلق بالبحث الكاثوليكي للعهد القديم -التغير الذي أبدته السلطة في الخطاب البابوى Divino Afflante Spiritu للبابا بيوس الثاني عشر، فإن نقد الأسس الأجبية والتاريخية التي كانت محل شك لفترة طويلة أصبحت اليوم مقبولة، بل ويقوم بها متخصصوا العهد القديم من الكاثوليك(13) وقد تكون الكنيسة الكاثوليكية شجعت على النقد الكتابي بدافع جمع شمل الأسرة المتفرقة إلى واحد ولم شمل الشعوب الأوربية المنشقة عنها، ولكن كيف نضحي بالإيمان مقابل الوحدة؟ وكيف نطرح ما تسلمناه من تراث ثمين مقدس لمجرد إرضاء المسيحيين بالاسم، وضمهم للخضوع للرئاسة الدينية..؟! إن أي مسايرة لأصغر مذهب منحرف تخرج الإنسان من دائرة الإيمان الصادق المسلم مرة للقديسين وتدخله دائرة هذا المذهب المنحرف.. وفيما هم يوسعون الأبواب ليدخل الذين في الخارج فإذ بالذين في الداخل يتسربون من حظيرة الإيمان؟!، ولكيما تتصور يا صديقي ما آلت إليه الكليات اللاهوتية في الغرب أضع أمامك اللقطة الآتية التي سجلها “ريشار وورمبراند ” الذي تحمل عذابات لا تطاق في سجون رومانيا الشيوعية من أجل الإيمان، ولم يكف عن الكرازة باسم المسيح، إذ يقول “ومنذ أن جئت إلى الغرب زرت عددا كبيرا من الكليات اللاهوتية.. اكتشفت أن الطلاب في هذه المعاهد اللاهوتية يتعلمون عن الكتاب المقدَّس إن قصة الخلق ليست صحيحة، كذلك ولا قصة آدم، أو الطوفان، أو معجزات موسى. وإن النبوءات قد سجلت بعد إتمامها. وإن ولادة المسيح العذراوية لهى من نسيج الخيال وكذلك قيامة المسيح من بين الأموات. وإن عظامه بقيت في قبرها. وإن الرسائل في العهد الجديد ليست واقعية، وإن سفر الرؤيا هو سفر أحد البلهاء…”(14).

ثالثا: ما جاء في مقدمة الطبعة اليسوعية التي صدرت سنة 1988م ومقدمات الأسفار التي احتوتها فإنه يحتاج إلى وقفة عميقة، ليدرك الجميع مدى تأثر الكنيسة الكاثوليكية بآراء مدرسة النقد الأعلى، بل قل تبنيها هذه الآراء، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1- ما جاء في الجدول التاريخي بمقدمة الطبعة “400- 350 ق. م إنجاز بعض الكتب منها ملاخي وأيوب والمزامير ويونان وأخبار الأيام وعزرا ونحميا”(15).

2- في مقالة “مدخل إلى التوراة ” وتحت عنوان: التقليد. تناول الكاتب نظرية المصادر الأربعة للتوراة كما أقرها أصحاب مدرسة النقد الأعلى، وهم المصدر اليهوى “ى ” – J، والألوهيمى “أ ” -E، وللكهنوتى “ك ” -P، والتثنوى اليهوى “ت ” -D،، وقال الآباء اليسوعيين بما قاله أرباب مدرسة النقد الأعلى بأن الصيغة النهائية للتوراة تمت في أيام عزرا فيقولون “في أصل هذا التاريخ الأدبي تقاليد (يقصد مصادر) يرقى عهدها إلى أيام موسى وقد تكون قد انتقلت مشافهة مدة طويلي من الزمن، قبل أن يجمعها ويحررها كتاب ملهمون، في مختلف العصور… ونجد في نهاية هذا التاريخ التوراة كما نعرفها اليوم، والتمعن في تأليفها الأجبى يكشف لنا أن ذلك التحرير النهائي (على الأرجح في أيام عزرا خلال القرن الخامس) راعى باحترام مختلف التقاليد (المصادر) الدينية لدى الشعب الإسرائيلي”(16).

3- يؤيد الآباء اليسوعيين نظرية المصادر بسبب تكرار بعض الأحداث في التوراة، فقالوا “فالقارئ المنتبه إلى وحدة التوراة يفاجأ أحيانًا ببعض مظاهرها الأدبية (يقصد التكرار) فالوصايا العشر ترددت مرتين (خر 20، تث 5).. فهناك رواية مزدوجة تورد تفاصيل الخلق (تك 1: 1- 2: 4- 2: 4-25) وطرد هاجر (تك 16، 21).. إلخ وليس الأمر أمر تكرارات فحسب، فكل رواية من روايات الحدث الواحد لها كابع مبتكر. وهذا واضح بنوع خاص في قصة الأب الذي يعلن أمام أحد الملوك أن امرأته هي أخته، فهذه الحكاية ترد ثلاث مرات، في تك 12: 20 فالكلام عن سارة وإبراهيم، وفي تك 26 عن إسحق ورفقة، وقد ترد رواية مزدوجة، لا في شكل قصتين منفصلتين، بل في شكل قصة واحدة يختلط فيها التقليدان (يقصد المصدران) مثل رواية الطوفان (تك 6: 5، 9: 17) فلهذا النص طابع مختلط يظهر بوضوح، لأن فوارق الإنشاء ملحوظة فيه، حسبنا أ نشير إلى الاختلاف في المعلومات العديدة. هناك حيوانان من كل جنس (6: 19) أو سبعة (7: 2) وأربعون يوما من الطوفان (7: 17) أو مئة وخمسون (7: 14)(17).

4- أيد الآباء اليسوعيين نظرية المصادر بسبب استخدام أكثر من اسم للذات الإلهية، فيقولون “ونلاحظ أبرز هذه الفوارق في استعمال أسماء إلهية مختلفة، وفي الروايات المتوازية خاصة، فإحدى روايتي طرد هاجر تتكلم عن الرب “يهوه” (تك 16: 13- 14) بينما يستعمل الأخرى الاسم الشائع لله “ايلوهيم” (تك 21: 9- 19) فقد اتخذ النقاد هذين الاسمين الإلهيين لتسمية تقليدين أدبيين مختلفين، يشيرون إليها بالحرف الأول من هذين الاسمين” (ي) للتقليج اليهوى، و(أ) للتقليد الإيلوهيمى، غير إن هذين التقليدين لا يكفيان لتحليل كل ما في التوراة من غنى أدبي، فاقترح النقاد تمييز تقليدين آخرين، الأول يقال له التقليد الكهنوتي (ك) والآخر خاص بتثنية الاشتراع (ت)”(18).

5- أقر الآباء اليسوعيين ما في كل مصدر من تمايز عن المصادر الأخرى كما تصور ذلك أصحاب مدرسة النقد الأعلى، مؤكدين أن فهم نظرية المصادر يساعدنا على قراءة التوراة بعمق، فقالوا “ولكل من هذه التقاليد (يقصدون المصادر) ميزات خاصة، فإنشاء (أسلوب) اليهوى (ى) واقعي وتصويري وغنى بالاستعارات ويكاد يكون ساذجا. إنه إنشاء راوي قصصي.. لا يتردد في الكلام عن الله بألفاظ كثيرة الصور، كأنه إنسان “فسمعا (آدم وحواء) وقع خطى الرب الإله وهو يتمشى في الجنة عند نسيم النهار” (تك 3: 8) و”أغلق الرب على نوح” (تك 7: 16) وبالمقابل نلاحظ أن الإيلوهى (أ) أشد إبرازا للبعد القائم بين الله والإنسان، ويجب الكلام على ملاك، بل على إنسان (تك 22: 11- 18، 32: 23- 33) تجنبا لإدخال الله نفسه في نشاط بشرى، ويظهر الله أحيانا في مظهر رهيب. إن التقليدين (ى، أ) يحتويان خاصة على روايات قصصية، ونادرا على نصوص تشريعية.

أما التقليد الكهنوتي (ك) فجوهره قائم على أمور قانونية، فسفر الأخبار مثلا لا يحتوى على غير ذلك. لكن التقليد الكهنوتي يتضمن أيضًا روايات (الخلق تك 1، وشراء مغارة مكفيلة تك 23) ويمتاز إنشاؤه بالتكرار وببعض التصلب وحب الإيضاحات العديدة والميل إلى كل ما يتعلق بالعبادة والليترجية، والجمود الإنساني الذي يتصف به التقليد (ك) ساعد على خلق إطار مستوعب للتقليدين (ى، أ) هما أشد مرونة منه.

أما التقليد التثنوي (ت) وهو يقتصر في الواقع على تثنية الاشتراع، فإنشاؤه خطابي وتكثر فيه العبارات القولية كهذه “اسمع يا إسرائيل ” و”بكل قلبك وكل نفسك ” و”أرض تدر لبنًا حليبًا وعسلًا” و”الرب إلهك “.

يساعدنا هذا التحليل الأدبي (يقصد نظرية المصادر) على قراءة التوراة بمزيد من العمق… وها هي رواية الخلق الكهنوتية تنوه بسيادة الله على العالم كله، في حين أن الرواية اليهوية تبرز بوجه خاص العلاقة القائمة بين الله والإنسان”(19).

6- وافق الآباء اليسوعيين أصحاب مدرسة النقد الأعلى في تحديد أزمنة المصادر فادعوا أن المصدر اليهوي يرجع إلى نحو القرن العاشر قبل الميلاد، والإيلوهى إلى القرن الثامن قبل الميلاد، والتثنوى إلى القرن السابع قبل الميلاد، والكهنوتي إلى زمن السبي الذي انتهى سنة 538 ق. م فيقولون “التقليد (ى) اليهوي الذي باستعماله التشبيه يلفت النظر إلى قرب الحضور الإلهي، وهذا التقليد ينسب تمامًا زمن الملكية في يهوذا.. للتفكير الديني الإيلوهى صلة بالتيار النبوي في مطلع القرن الثامن قبل المسيح… أما في تثنية الاشتراع وهو سفر يناسب أزمنة القرن السابع قبل المسيح… أخيرا نرى أن الإله الذي تعرضه النصوص الكهنوتية على الأرجح في زمن الجلاء..”(20).

7- في مقدمة سفر التكوين قال الآباء اليسوعيين إن هذا السفر مأخوذ من ثلاث مصادر سابقة فيقولون “ولا بُد أن التذكر أيضًا بأن سفر التكوين لم يؤلف دفعة واحدة، بل جاء نتيجة عمل أدبي استمر عدة أجيال.. قد يفضل البعض التقسيم الأفقي (للسفر) الذي يبين كيف تألف السفر الأول في العهد القديم من عدة طبقات تمتد إلى ما بعد تك 50، وكيف اعتمد في صيغته الحالية، تقاليد مختلفة تسمى “اليهوى ” و”الإيلوهى ” و”الكهنوتي” وقد تراكبت على مر العصور كما يظهر ذلك في أسفار التوراة كلها…

فالرواية “اليهوية ” العائدة ولا شك في زمن المملكة التي أسسها داود ودونها سليمان (القرن العاشر ق. م) كانت أول صيغة أدبية لتقاليد محلية وعشائرية… والتقليد (المصدر) الإيلوهى ليس إلا طبعة ثانية يصعب تحديد سعتها وأهميتها، وأسلوبه أكثر اعتدالا وأقل تفاؤلا من التقليد السابق (ى) فالله قليل التدخل مباشرة في شئون البشرية، والطاعة هي أول ما يتوقعه خدامه، وقد تمت عن يد أوساط الكهنة المنفيين إلى ما بين النهرين، إعادة نظر جديدة في مآثر الآباء فرضها سقوط أورشليم الأليم في العام 587 قبل المسيح، فالرواية الكهنوتية ذات الطابع المجرد تتناول ما في العمل الإلهي من وجوه ثقافية وشرعية، وتشدد في عهد الله لإبراهيم أي العهد التابع للعهد المقطوع مع نوح (9) والممهد لعهد سيناء”(21).

8- في مقدمة سفر اللاويين قال الآباء اليسوعيين أن كتابة هذا السفر يرجع إلى زمن ما بعد السبي “إن النص في وضعه الحالي والقانوني، هو من التأليف الذي تبع الجلاء، حتى وإن جمع في وحدة متماسكة إلى حد ما عناصر مختلفة المصادر قد يرقى بعضها إلى أقدم العصور… وأضافوا إليها ما يلاءم حاجات الهيكل الثاني”(22).

9- في مقدمة سفر اللاويين يؤكد الآباء اليسوعيين أن هذا السفر مأخوذ من المصادر الكهنوتية واليهوية والإيلوهية، فيقولون “إن سفر العدد مؤلف من سلسلة روايت تواصل روايات سفر الخروج، ويمكننا في هذا الكتاب، كما في سفر الخروج، أن نرى ثلاث لحم روائية، وهي التقليد الكهنوتي (ك) والتقليد اليهوي (ى) والتقليد الإيلوهي (أ) ولكنها أحسن اندماجًا في سفر العدد…. في الرواية الإيلوهية (وفي الرواية اليهوية إلى حد ما) وصفا لموسى بالحيوية وبالملامح الفنية، وأبرز هذه الملامح إخلاصه التام لمهمة معقدة وشاقة، وصلاته هي التي تنقذه عدة مرات من شعب يتمرد عليه (12: 13، 14: 13- 19، 16: 22، 17: 10- 13) فقد كان رجل صلاة يعيش مع الرب في ألفة خارقة (22: 6- 8) وهذا ما يرفع مقامه فوق جميع الأنبياء.

أما في النصوص “الكهنوتية ” فوجهه يختلف أشد الاختلاف، فليس موسى في غالب الأحيان إلا أنسان حال لإرادة الرب.. وتقيم النصوص “الكهنوتية ” إلى جانبه هرون أخاه وعظيم الكهنة.. وفي كون النصوص (ك) تفترض أن ترتيب الأنظمة انتهي قبل مغادرة سيناء، فيما يبقى كل شيء ناقصا في نظر (ى) و(أ)… في النصوص (ك) ليس إسرائيل شعبًا يحمل السلاح وأمة تخوض الحياة السياسية الدولية، بل هو جماعة تقف حياتها في عبادة الرب… فالنصوص “اليهوية” التي تعرض على وجه خاص تقاليد أسباط الجنوب هي أشد مراعاة لجوانب تاريخ الإنسانية.. وأما النصوص “الإيلوهية ” وهي أكثر تجرؤًا، ففي إمكاننا أن نجد فيها شعورا أدق بوحدة الشعب والاستنكار لكل نزعة انفصالية…”(23).

10- في مقدمة سفر التثنية أقر الآباء اليسوعيين آراء مدرسة النقد الأعلى بأن هذا السفر كتب في زمن يوشيا الملك في القرن السابع قبل الميلاد فيقولون “يكون هذا السفر وحدة أدبية من نوع خاص، إذ إنه يحتوى على أحد تقاليد التوراة الكبرى الأربعة على وجه شبه كامل، وهو التقليد التثنوى (ت)… فلا ترد فيه سائر التقاليد (اليهوي والأيلوهي والكهنوتي) إلا في أواخر الكتاب من الفصل 31 فما بعده… ما هي هذه المراحل الكبرى التي مر بها عدد التأليف الأدبي الطويل..؟ في أي زمن تم أول تدوين لسفر تثنية الاشتراع، فإن سفر الملوك يروى لنا في 2مل 22 أنهم، في السنة الثامنة عشرة لملك يوشيا، أي في السنة 622 ق. م عثروا في هيكل أورشليم على سفر الشريعة (2مل 22: 8، 11) أو أسفار العهد (2مل 23: 2، 21) تأثر الملك بما في هذا الكتاب بإنذارات، فجمع الشعب كله وجدد العهد ونادى بإصلاح العبادة… والحال إن برنامج هذا الإصلاح (2مل 23: 4- 20) يطابق المقتضى الأساسي الوارد ذكره في تثنية الاشتراع، أي تدمير جميع معابد الأرياف وحصر العبادة في أورشليم (تث 12) ويبدو أن الوثيقة التي أصدرها يوشيا هي سفر تثنية الاشتراع… مازالت الوثيقة التي بنى عليها يوشيا إصلاحه تزداد حجما يوما بعد يوم، فقد وسعوا فيها العظات… وأدخلوا المواعظ… وأضافوا أجزاءًا قديمة تتناول المواضيع نفسها… وجمعت في آخر الكتاب التقاليد اليهوية والإيلوهية والكهنوتية التي تتحدث عن موت موسى، بالإضافة إلى نشيدين ينسبان إلى موسى (31- 34) وقام مدون آخر، هو على الأرجح الذي وضع أسفار الملوك بتحرير خطاب مقدمة (1- 3) ليدمج سفر تثنية الاشتراع في لوحته التي تتحدث عن مصير الشعب، من موسى إلى الجلاء”(24).

ترى هل تعود الكنيسة الكاثوليكية للحق، وتترفع عن هذه الهرطقات وتسلم بأقوال الكتاب في العهدين ولا سيما أقوال الرب يسوع والتي تنسب التوراة لكاتبها موسى النبي، وليس لأي شخص آخر؟!!!! ومن هنا كانت الضرورة على تأكيد نسبة التوراة لموسى النبي، وهذا ما سنفعله في الفصل القادم.

_____

(1) رسالة صديق الكاهن- مارس 1973م ص 69.

(2) رسالة صديق الكاهن- مارس 1973م ص 68.

(3) رسالة صديق الكاهن- مارس 1973م ص 68.

(4) رسالة صديق الكاهن ص 68.

(5) رسالة صديق الكاهن ص 69، 70.

(6) رسالة صديق الكاهن ص 71.

(7) رسالة صديق الكاهن- مارس 1973م ص 70.

(8) رسالة صديق الكاهن ص 70.

(9) رسالة صديق الكاهن ص 70، 71.

(10) Les Livres Saints et la Critiqu rationaliste.

(11) Introduction Specialis in Ristoricos Testament Librous, 1887.

(12) ريتشارد فريدمان- من كتب التوراة؟- ترجمة عمرو زكريا ص 25.

(13) ريتشارد فريدمان- من كتب التوراة؟- ترجمة عمرو زكريا ص 25.

(14) العذاب الأحمر ص 114.

(15) الطبعة اليسوعية سنة 1988 ص 22.

(16) المرجع السابق ص 60.

(17) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988م ص 60.

(18) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988 ص 60 و61.

(19) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988 ص 61.

(20) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988م ص 62، 63.

(21) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988م ص 65 و66.

(22) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988م ص 224، 25.

(23) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988م ص 280- 282.

(24) الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس سنة 1988م ص 248- 252.

موقف الكنيسة الكاثوليكية من مدارس النقد؟ وما مدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة؟