سؤال وجواب

اقتباس كاتب الأسفار من الأساطير

اقتباس كاتب الأسفار من الأساطير

اقتباس كاتب الأسفار من الأساطير

اقتباس كاتب الأسفار من الأساطير
اقتباس كاتب الأسفار من الأساطير

 

 268- هل كاتب الأسفار المقدَّسة ابن عصره اقتبس من معتقدات وأساطير عصره؟ وما هو رأى الكنيسة الكاثوليكية في هذه القضية؟

يعتقد أصحاب اللاهوت الليبرالي (لاهوت التحرُّر) بأن الأنبياء والرسل، بل والسيد المسيح نفسه، تكلم كل منهم بمعتقدات ومعارف عصره، حتى ولو حوت بعض الأخطاء، وقد تأثر كثير من لاهوتي الكنيسة الكاثوليكية بهذا الانحراف، فاعترفوا علانية أن موسى لم يكتب التوراة، وأن كتبة الأسفار المقدَّسة أخذوا من أساطير الأولين، كما أنكروا المعجزات الكتابية.. إلخ.

أما نحن فنؤمن بكل ثقة ويقين كامل أن روح الله صادق في كل ما قاله بفم الأنبياء القديسين والرسل الأطهار، وأن “كل الكتاب مُوحى به من الله” (2تى 3: 16) وقد “تكلَم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط1: 21) فالكتاب المقدَّس كله جملةً وتفصيلًا معصوم عصمةً كاملةً من أي أخطاء أو شائبة، ونرفض من كل قلوبنا النظرية الجزئية للوحي التي تقول أن ما ورد في الكتاب من أمور لاهوتية وعقائدية وروحية وتعليمية، فهو معصوم، وما عدا ذلك من أمور تاريخية وجغرافية وعلمية، فهو غير معصوم، أي يحتمل الصواب أو الخطأ…

ونحن نؤكد ونصر ونعلنها بأعلى صوت أن الكتاب كله مُوحى به من الله، وبالتالي الكتاب كله معصوم عصمة كاملة، فالكاتب هو قيثارة وأداة في يد الروح القدس الذي راح يعزف عليها.. الكاتب هو بوق في يد الروح القدس الذي راح يعلن صوت التعليم والإنذار من خلاله، ولذلك فأقوال الكتاب هي أقوال الله، ولا يصح أن ننسب أقل خطأ لأي جزء في الكتاب، ومن يتجرأ ويفعل هذا فإنه ينسب الخطأ لله ذاته صاحب الكتاب، ومَنْ يعتقد أن الله يمكن أن يخطئ.. كيف يخلص؟!! وقد قمنا بالشرح التفصيلي لهذه القضية وأظهرنا مخاطرها الجسيمة في الجزء الثاني من هذه السلسلة(1).

وللأسف الشديد فإن كثيرين من رجال الكنيسة الكاثوليكية يعتقدون بأن كتبة الأسفار المقدَّسة قد اقتبسوا مما كان سائدًا في عصرهم من أساطير بعد تنقيتها من رائحة الشرك، بل أن البابا لاون الثالث عشر أصدر سنة 1893م رسالة بعنوان Providentissimus” ” جاء فيها “ما أراد الكاتب المُلهَم أن يزود الناس بمعلومات عن أشياء لا تنفع للخلاص، ولهذا لم يقم بأبحاث علمية، بل صوَّر (الكاتب المُلهَم) الأمور بالصوَّر والتشابيه التي عرفها أبناء عصره”(2).

ويضرب الخوري بولس الفغالي مثلًا على ما نقله الكاتب من أفكار وأساطير عصره فيقول “كان الشعب يعتبر أن السماء قبة للأرض تشبه قبة المعابد، وأن المياه النازلة شتاء تأتى من خزانات تقع فوق القبة الزرقاء.. فأخذ الكاتب المُلهَم بهذه الأقوال مُشدّدًا على الفكرة الدينية.. وخلاصة القول أن الكاتب المُلهَم روى لنا قصة الخلق وتنظيم العالم مستعينًا بمعارف أهل زمانه.. ولهذا يجب علينا أن نقرأ الكتاب فنميز بين الحقائق الدينية التي فُوَّض إليه أن ينقلها، والكلمات والصوُّر والتعابير التي لجأ إليها ليوصل إلينا هذه الحقائق”(3).

ويتساءل الخوري بولس الفغالي “وهكذا نجد عناصر مشتركة بين نصوص الكتاب المقدَّس وأساطير الشرق القديم عن أصل العالم المائي، عن نظام الكون والخلق الإنسان من تراب الأرض، وعن الجنة وشجرة المعرفة والكروب وسيف الله، فنقول: أو أن النصوص العبرانية استقت من نصوص أقدم منها عهدًا، كنصوص أشور وبابل، أو أن النصوص العبرانية استقت كما استقت النصوص الفينيقية والأشورية..من ينبوع واحد مشترك.. وسوف نرى كيف أن الكاتب نقى هذه الأساطير من كل الشوائب لئلا تتعارض وإيمانه بقدرة الله الخلاقة ووحدانيته المطلقة”(4) ثم يصرح الخوري بولس الفغالي بأن الشعب العبراني استقى من معين الأساطير، فيقول “إن الشعب العبراني يشترك وبقية الشعوب في المعارف التاريخية والجغرافية والطبيعية، وهو يستقى من معين الأخبار والأساطير التي انتشرت في الشرق كله”(5).

وتصل خطورة الأمر إلى الإدعاء بأن المعارف البشرية التي كانت سائدة لدى الشعوب الوثنية تشبه البشرية للسيد المسيح، التي رغم ما فيها من ضعفات فإنها اتحدت بالطبيعة الإلهية، فيقول الخوري بولس الفغالي “أي ضرر على الوحي والإيمان أن يُصور العبرانيون أن النور كائن مستقل عن الشمس، وأن الحيوانات الداجنة خُلقت داجنة، وأن الإنسان تكوَّن من تراب الأرض؟ بهذه الصوُّر فكَّر العالم السامي القديم والعبرانيون منهم، فلم يجدوا ما يعارض ديانتهم التوحيدية أو يؤثر على حقيقة الإيمان التي يعلن عنها الكتاب، فأخذوا هذه الصوَّر وجعلوها إطارًا لتفكيرهم وإيمانهم. هذا التعبير عن الإيمان بلغة الإنسان نسميه تجسُّد الوحي، فكما أن الأقنوم؟؟ الثاني من الثالوث القدوس اتخذ جسدًا من مريم العذراء، مع ما في هذا الجسد من ضعف، هكذا تتخذ الحقيقة التي يعرفنا إياها الله شكلًا بشريًّا، وكما نميَز في يسوع المسيح بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، نميّز بين الحقيقة الدينية والتعبير عن هذه الحقيقة الدينية، فالحقيقة الدينية وحى من الله، والتعبير عنها عمل بشرى”(6).

عندما يطالع الإنسان مثل هذه الأقوال يتعجب ويندهش، وهل ما قرره الكتاب المقدَّس من خلقة النور في اليوم الأول وأن الشمس أخذت قوتها وتأثيرها في اليوم الرابع يعتبر أسطورة؟! وهل خلقه الإنسان من تراب الأرض يعتبر أسطورة؟!

ويعود الخورى بولس الفغالى ليوضح مقاصده في كتاب آخر بأجلى بيان فيقول “لم يكن الكاتب البيبلي (الكتابي) يعرف أكثر من معاصريه في بلاد الرافدين، أو مصر، أو كنعان. استعمل مُسطرة هذه البلدان ورموزها فذكر الإله الفخاري والجنة العجيبة والشجرة التي تمنع الخلود، والحية التي تتكلم.. تساءل من أين جاء البشر؟ من أين جاء الموت؟ قال أن الحية هي السبب، فذَّل على أنه لا يعرف.. استعمل ما في الحضارات المجاورة من أساطير وأدخلها في نظريته التوحيدية.. تاريخ البدايات هي نظرة لإيمان إلى الكون، لا نظرة علم إلى أمور جهلها الكاتب”(7).

عجبًا، فلو أن كاتب الأسفار المقدسة جهل ما يحيط به من حقائق علمية، فهل جهلها روح الله أيضًا، ألم يفتح الروح القدس ذهن الكاتب، وقد عصمه من الخطأ حتى لا يكتب إلاَّ الحق والحسب؟!!

بل والأمر الأخطر من هذا أن يخلص الخورى بولس الفغالى بنتيجة، وهي أن التوراة قد حوت الأساطير ولذلك شابها الضعف والنقص، فيقول كتاب ثالث “وإذ أراد الكاتب أن يُعبَر عن هذه الحقائق الإلهية السامية، لجأ إلى حضارات الشرق ولاسيما ما وجده في بلاد الرافدين. غير أنه احتاج أن ينقى الصوَّر من كل شرك وتعدد الآلهة، والتوراة بدورها ستحتاج أيضًا إلى تنقية في الإنجيل، فهي ناقصة وقد جاء المسيح يكملها ويصل بها إلى ذروة التعليم، وهكذا نستطيع القول أن التوراة هي خلاصة حضارة الشرق القديم كما أخذتها كلمة الله”(8).

عجبًا قم عجبًا.. ألم يشبه الخورى بولس الفغالى منذ قليل ما اقتبسه العهد القديم من الأساطير بطبيعة السيد المسيح البشرية؟! فعندما ينتهي هنا إلى أن التوراة (التي اقتبست من أساطير عصرها) قد أصابها الوهن والضعف والنقص، فهل هو يقرر بالتبعية أن طبيعة السيد المسيح البشرية طبيعة ناقصة؟!!! كيف يخلص من يعتقد بأن السيد المسيح قدم جسده كفارة ناقصة؟!!!

وما اعتقد به بولس الفغالى اعتقد به الكثيرون من رجال الكنيسة الكاثوليكية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فمثلًا الأب جورج سابا يقول أن كتَّاب الأسفار المقدَّسة “يذكرون الأشياء بحسب مظاهرها، ومذهب زمانهم، وهم يرون الله في كل شيء، لذا في الكتاب المقدَّس أمور لا توافق مفهومنا العلمي الحالي، مثل صدور ينابيع المياه ونزول الأمطار”(9).. إن كبار العلماء الذين أمضوا أعمارهم في البحث أكدوا التوافق التام بين الكتاب المقدَّس كلمة الله وبين العلم الصحيح، لأن كلاهما من الله، فعجبًا للأب جورج سابا ولمن نسجوا على منواله..!! ألاَّ يدرون أن قولهم أن الكتاب المقدَّس حوى أخطاء علمية = أن الله قد أخطأ!!! ولم يوضح الأب جورج سابا لماذا نرفض أقوال الكتاب المقدَّس عن الينابيع، وعن نزول الأمطار، مع أن الكتاب تفوق على عصره كثيرًا عندما ذكر سفر الجامعة (جا1: 7) دورة المياه في الطبيعة(10).

_____

(1) راجع مدارس النقد والتشكيك ج2 ص100-214.

(2) الخورى بولس الفغالى – سفر التكوين ص56.

(3) الخورى بولس الفغالى – سفر التكوين ص56.

(4) المرجع السابق ص81.

(5) المرجع السابق ص83.

(6) الخورى بولس الفغالى – سفر التكوين ص84.

(7) تعرَّف إلى العهد القديم مع الآباء والأنبياء ص122، 123.

(8) البدايات أو مسيرة الإنسان إلى الله ص27.

(9) على عتبة الكتاب المقدَّس ص153.

(10) راجع كتابنا: أسئلة حول صحة الكتاب المقدَّس ص143 – 160.

اقتباس كاتب الأسفار من الأساطير