أبحاث

عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد

عقيدة الثالوث القدوس - دكتور نصحى عبدالشهيد

عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد

 

الثالوث القدوس ليس فلسفة ولا شرحًا فلسفيًا ولذلك فهو ليس تعليمًا خاصًا بالفهماء والحكماء. لكنه حياة تعطى لجميع الناس. وجميع الناس يمكنهم أن يشتركوا في حياة الثالوث. الحياة تكون مختلفة تمامًا إذا كان هناك ثالوث أو لم يكن. والإيمان المسيحي ليس فلسفيًا أيّ أن هذا الإيمان لا يتكون من عنصر أرضى. والثالوث القدوس هو الألف والياء في المسيحية.

عقيدة الثالوث القدوس - دكتور نصحى عبدالشهيد
عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد

التعاليم عن الثالوث في القرون الأولى المسيحية – دكتور ميشيل بديع

عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد

الثالوث عند القديس أثناسيوس – دكتور: وهيب قزمان

عقيدة الثالوث القدوس والليتورجيا* (الإفخارستيا) – دكتور جوزيف موريس

الثالوث عند القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس – دكتور موريس تاوضروس

الثالوث القدوس في حياتنا – دياكون مجدي وهبه

1 ـ الكلام عن الله غير الكلام عن الإنسان:

لكي نتكلم في عقيدة الثالوث يلزم أن نقرر منذ البداية أن الحديث عن الله يكون للكلمات فيه معانٍ غير المعاني المألوفة. وهذا الكلام عن الله نسميه التكلم بالإلهيات. وعندما نتكلم عن الله فنحن نعطى للكلمات معاني غير المعاني المعروفة والشائعة. فمثلاً إذا قلنا إن هذا الإنسان واحد وليس أثنين فهذا له معنى مختلف عن قولنا إن الله واحد. فعندما نقول عن إنسان إنه واحد فنحن لا نعنى نفس الشيء الذي نعنيه عندما نقول كلمة واحد عن الله. فليس هناك مدلول واحد لنفس الكلمة عن الله وعن الإنسان.

[مثل عن وصف الإنسان بأنه جميل وما معنى القول إن الله جميل ونخلص في النهاية، إلى أن جمال الله يدرك في الصلاة، التأمل الروحي].

الله هو الذي نتصل به ونعبده وهو لا يُتكلم عنه. لكن لابد من الكلام. إذًا سيكون كلامنا منزهٌ عن الكلام البشرى. نقول عن الله ما ليس هو، ولا نقول عنه ما هو (فمثلاً نقول إن الله ليس بواحد، وليس بجميل… إلخ) [هنا يشرح الاختلاف بين وجود الإنسان ووجود الله].

ولذلك لا يمكننا أن نتكلم عن الله مثلما نتكلم عن الإنسان فهناك دائمًا نفى عندما نتحدث عن الله مقارنة بحديثنا عن الإنسان.

هل لله جوهر؟ إذا كان للإنسان جوهر فهل يكون لله جوهر؟ نجد الإجابة في نشيد الميلاد: “ العذراء تلد الفائق الجوهر ” فهنا لا يقول الآباء إن له جوهرًا بل إنه يفوق الجوهر. إذًا فإن كان للإنسان جوهر فالله ليس له جوهر. وهكذا فإن ما يُنسب للإنسان لا يُنسب لله. فالله يُنَزه دائمًا ويُرفَع ويُعَلّى.

وعلى هذا الأساس، إذا قلنا إن الله ثلاثة أقانيم وإذا قلنا إنه واحد في الجوهر فهذا ليس معناه بالمرة، أنه هو ثلاثة أو أنه واحد. فهو ليس ثلاثة بمعنى العدد. العدد لا علاقة له بالله. الإنسان بطبيعته يعد المحسوسات، أما الله فلا يُعد لأن من عده فقد حده… الله لا يُحد وعلى ذلك فواحد ليس أقل من ثلاثة. فإذا كان ثلاثة عددًا فواحد عددًا أيضًا. فالله ليس واحد إن كنا نقصد بهذا أنه ليس أثنين. نعم، إن الله واحد: فهكذا تكلم عن نفسه:

” الرب إلهنا رب واحد ” (تث4:6). ” أنا الرب وليس آخر ” (إش5:45، 18،14،21) وأيضًا أنظر(إش8:44)، و(إش9:46) ” أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلى “. هكذا تكلم الله عن نفسه بمعنى لا أستطيع أن أعرفه بعقلي. ولكن هكذا كشف هو عن نفسه. ويمكننا بالاتصال الروحي، وبالصلاة، وبخبرة القديسين، واختبار الجماعة. بهذه معًا يمكن أن نتذوق كيف أن الله ثلاثة وكيف هو واحد. ولكن خلاصة هذه النقطة أن معرفة الثالوث ليست عملية إحصائية.

 

2 ـ الثالوث لا يُعرف بالحساب بل بالاختبار الروحي:

إذًا فلا يمكن أن نعرف الله بالطرق الحسابية، لأننا نحن البشر لا نستوعب الله بل هو الذي يستوعبنا. ولذلك فلا مبرر للتساؤل البشرى كيف أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، فلا يمكننا أن نفهم هذا بعقلنا. وبل لا يمكننا أن نفهم كيف أن الله واحد

[الواحد عقليًا ليس أبسط من ثلاثة وبذلك يبقى فهمنا للواحد بنفس صعوبة فهمنا للثلاثة].

وجود الله في الأساس ليس عقليًا فالعقل البشرى يمكن أن يستريح كليًا سواء بوجود الله أو بعدم وجوده. ولا يستطيع العقل البشرى بقدرته المحدودة إلاّ أن يحسب ويعد. فعند العقل كل ما هو ليس حسابًا ليس معرفة. الله ليس حسابًا ولذلك لا يعرف ولا يستدل عليه بالعقل وحده وعلى ذلك نخلص إلى أن إله اليهود وشهود يهوه والأريوسيين وغيرهم ليس هو الإله المسيحي أو ليس هو الإله الذي أعلنه الإنجيل بتجسد المسيح.

عقيدة الثالوث القدوس - دكتور نصحى عبدالشهيد
عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد

3 ـ من هو الإله المسيحي؟

الله محبة:

هكذا يقول لنا الإنجيل ” الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه ” (1يو16:4) ” من لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة ” (1يو8:4). في سفر الرؤيا نقرأ عن المسيح أنه الحمل المذبوح قبل تأسيس العالم (رؤ8:3) وهذا معناه أنه قبل إنشاء العالم كان الآب عنده في داخله حمل مذبوح وهو الابن الذي أعده لخلاص العالم. وهذا يدلنا على وجود عملية حب داخل الثالوث. لقد أعد الله الآب ابنه مذبوحًا حبًا قبل إنشاء العالم ليكشف لنا نحن البشر أننا محبوبون.

[الفرق بين معرفة الله في ذاته أو ما يسميه الآباء “ثيؤلوجيا” وبين التدبير أيّ الأيكونومية أيّ تدبير الله للعالم والبشر عن طريق الخلاص].

ولكن ما نفعله الآن أننا نبحث في الثالوث أو نتحدث عن الثالوث في علاقته بالخلاص لكي نستدل من كون أن الله عنده ابن يهيئه للذبح، نستدل من هذا على طبيعة الله نفسها أو على ما يجرى في الله أزليًا وما يجرى في الله أزليًا هو المحبة.

[تعليق على الإله الواحد الأحد].

فالإله الواحد الأحد المنغلق على نفسه المحدود بأحديته هو لا يلد ولا يولد أيّ أنه لا يحب ولا يُحب فألذى هو واحد فقط لا يستطيع أن يصير أثنين وأن يحاور شخص أمامه فهو ليس منفتحًا…

ليس هناك إنسان منحوت من صخر فكل إنسان يحاور حتى يوجد وقبل أن يحاور هو ليس موجودًا. فالله موجود لأنه يحاور، لأنه غير منغلق على نفسه، لأنه فاتح نفسه، أيّ هذا الإله الفاتح نفسه لحديث الحب ـ هذا الإله هو الآب وهو ينبوع الوجود الإلهي أيّ هو ينبوع اللاهوت، أيّ مصدر الألوهة. الله موجود وكائن قبل أن يكون العالم. العالم يمكن أن يفنى فوجوده عرضي والعلماء يقولون إنه سيفنى.

 

4 ـ جوهر واحد لثلاثة أقانيم:

هذا الإله الموجود الذي لا بداية له ولا نهاية ولكنه هو بداية الكل ونهاية الكل، هذا الإله قبل الزمان وفى الأزل جاء منه أو فاض منه الابن الكلمة، وفاض منه أيضًا الروح القدس. والكلمات المستعملة في التراث المسيحي منذ عصور الآباء القدماء هي أن:

الآب غير مولود وغير منبثق، هذه صفته الخاصة به والتى تميزه عن الابن والروح.

الابن مولود من الآب.

والروح القدس منبثق من الآب.

الفرق بين الابن والروح هو أن الابن مولود بينما الروح القدس منبثق. والسؤال ما هو الفرق بين المولود والمنبثق. هذا يعلو على الإدراك ولا نستطيع معرفته، ولكن نعرفه من الوحي الإلهي بلسان الرب عندما قال “روح الحق الذي من عند الآب ينبثق” (يو26:15).

شرح ولادة الابن من الآب وانبثاق الروح من الآب إنه نشوء أزلي: أيّ بدون فرق زمن ولهذا السبب فهو مختلف، فالولادة الإلهية تختلف عن الولادة الجسدية. فمنذ كان الآب في الأزل كان معه ابنه ومعه روحه أيضًا. فليس بينهم انفصال أو فارق زمني أو فجوة أو بُعد. ولكن في الوقت نفسه الواحد ليس هو الآخر، الآب ليس الابن، والابن ليس الروح القدس، والروح القدس ليس الآب. فهناك تمايز بينهم بلا أفضلية.

العلاقة بينهم هي علاقة الصدور. الابن صدر عن الآب، والروح القدس صدر عن الآب. الابن صدر بالولادة. والروح صدر بالانبثاق، وما يجمعهم هو الجوهر الواحد. أيّ أن كل ما بينهم مشترك ما عدا الصفات التي تخص الأقنومية. فالملوكية واحدة أيّ الربوبية واحدة. والخالقية واحدة. كل هذه العبارات تأتى تحت كلمة الربوبية. الأزلية، الأبدية، الرحمة، المحبة، … إلخ، كل الصفات مشتركة ما عدا الصفات الخاصة بكل منهم.

فالصفة الخاصة بالآب هي الأبوة، أيّ هو غير مولود وغير منبثق، هذه هي صفته الأقنومية.

والصفة الأقنومية للابن هي المولودية أيّ أنه مولود.

والصفة الأقنومية للروح القدس هي الانبثاق أيّ أنه منبثق.

 

أحاديث الإنجيل بعضها يدور حول ولادة الابن من الآب وبعضها حول التساوي بينهما. والخلاصة أن الابن والروح القدس صادران من الآب أزليًا والآب وحده هو مصدر اللاهوت.

+ الحديث عن التساوي بين الأقانيم وعن الصلة بينهم:

علينا أن نستوعب إذًا في نفوسنا المؤمنة أن بين الأقانيم الثلاثة تساويًا ولذلك فهناك أحاديث تدور حول التساوي وأن بينهم تسلسل أو ارتباط ولذلك فهناك أيضًا أحاديث تدور حول الصلة أو الارتباط.

الابن مساوٍ للآب في الجوهر وهو من نفس جوهره ولكنه في نفس الوقت هو ابنه المولود منه بلا زمان. ولأن الابن من الآب لذلك فهو متجه إلى الآب وموجود معه وفيه كما أن الآب موجود في الابن (أنظر يو10:14) وفى النهاية عند اكتمال تدبير التجسد سيخضع المسيح ابن الله لأبيه لأنه سيأتي بالإنسانية كلها إلى الله الآب (1كو28:15) فتخضع الإنسانية كلها للآب في شخص المسيح وهكذا يصل اتجاه الابن نحو الآب إلى غايته النهائية جامعًا البشرية التي أتى بها من خارج الله إذ وحدها بنفسه بتجسده الإلهي العجيب وبعمل الروح القدس.

 

5 ـ الثالوث ـ المحبة:

كما نعرف من الآباء وكما سبق أن ذكرنا، الآب هو مصدر الابن والروح القدس.

الله الثالوث محبة، فالآب هو أصل الحب الإلهي ومنبعه. الآب هو المحب الأول، هو الحنان الأبدي غير المخلوق، هو القلب الذي ينبع منه كل شيء. هذا المحب الأول لكونه محبة بطبيعته صدر عنه ابنه وروحه القدوس صدور حب، صدورًا غير زمني بل صدورًا حبيًا (م.م.). وهذا معناه أن جوهر الآب أو طبيعة الآب أو حياة الآب التي فيه انسكبت كليًا في الابن أزليًا وكذلك انسكبت حياة الآب كليًا في أقنوم ثالث هو الروح القدس حتى تكتمل دورة المحبة.

الابن هو المحبوب الأول أو هو الأقنوم المحبوب كما أن الآب هو الأقنوم المحب وينبوع الحب. ولكن إن كان من السهل أن ندرك الإله المحب والإله المحبوب (أى الآب والابن) كأقانيم أو كأشخاص، فمن الصعب أن ننظر إلى المحبة الإلهية على أنها شخص أو أقنوم وهذا يدعونا إلى إدراك وجود أقنوم ثالث يكون ” شريك المحب “، ” وشريك المحبوب ” بحيث يكون موقفه بالنسبة للأقنومين الآخرين هو علاقة ” مشاركة محبة “.

[الأقنوم المُعطى والموهوب أيّ الروح القدس أيّ العطية].

فالروح القدس العطية جاء من الآب حتى يكون الابن محبًا للروح القدس ويكون الابن محبوبًا من الروح القدس وهذا يكشف حب الآب للابن (ريتشارد دي سان فيكتور).

ويبدو أن هذه هي فلسفة الحب أنك إن كنت تحب إنسانًا ما فيجب أن تحبه، أولاً، ثم يجب أن تجعل شخصًا آخر يحبه. أيّ يجب على الإنسان أن يحب وأن يكون محبوبًا وهكذا تكتمل المحبة. هكذا أحب الآب الابن حتى أن الروح القدس صدر من الآب ليحب الروح القدس الابن ويحب الابن الروح القدس، فيكتمل هكذا حوار المحبة في الثالوث القدوس. وهكذا فالمحبة، في النهاية، هي التي تُشكِّل الثالوث القدوس.

 

6 ـ الثالوث في التجسد:

هذا الحب الإلهي داخل الثالوث ينكشف بعد ذلك في التجسد. فالحب الذي به يحب الآب الابن، يأتي الابن بالجسد إلى العالم لكي يعطى للناس الذين يقبلونه أن يكون فيهم هذا الحب نفسه الذي أحبه الآب به ” ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم ” (يو26:17).

المسيح جاء ليخطب البشر بحبه وحب الآب، وهكذا بذل نفسه بالحب للناس حتى يخضع الناس لهذا الحب. المسيح أحب البشر بحب الآب الذي فيه لكي يدرب الإنسانية حتى يفتح قلبها على الله.

وعلى هذا فإن من لا يقبل الثالوث لا يقبل المحبة. فالإنجيل يخبرنا أن الآب بذل ابنه الوحيد لأجلنا لأنه هكذا أحب العالم (انظر يو16:3). فإن كان المسيح ابن الله هو المحبوب الأول للآب فنحن بالمسيح وبعمل الروح القدس نصير محبوبين في المحبوب ” أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتنى ” (يو23:17) وأيضًا انظر(يو26:17).

وهكذا فالثالوث هو الكشف الكامل والتعليم الكامل والسليم عن الله فالثالوث ليس رياضة عقليه ولا أن الآباء تكلموا في الثالوث لأنهم درسوا الفلسفة اليونانية وأرادوا أن يتسلوا بهذه الرياضة العقلية. فقضية الثالوث وصلنا إليها أو هي كُشفت لنا، في النهاية، على الصليب.

فالحمل المذبوح قبل إنشاء العالم والذي رأيناه مذبوحًا على الصليب، هذا الحمل كشف لنا أن عملية موته وحبه لا تُفهم ولا تُدرك إلاً لأنها عملية تامة منذ الأزل في الله. فالله أحب البشر منذ الأزل (قبل أن يخلقهم) وأرسل ابنه الوحيد لخلاصنا. والله أحب لأن المحبة طبيعته فهو محبة وهو محب قبل كل الوجود قبل كل خليقة، ولذلك فهو كإله محب يحاور نفسه أيّ يحاور ابنه المحبوب وروحه القدوس. ويحرك الحب في نفسه لكي يكشفه للناس حبًا مجسمًا ومجروحًا وغالبًا وممجدًا بالمسيح وتدبيره وبعمل الروح القدس.

عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد