أبحاث

عقلانية الخليقة ونظامها المنطقي

عقلانية الخليقة ونظامها المنطقي *

عقلانية الخليقة ونظامها المنطقي
عقلانية الخليقة ونظامها المنطقي
 

اعتمادية الخليقة تنطوي على مفهوم عقلانية الخليقة

إذا كانت فكرة “اعتمادية” الخليقة (على الله) وعرضيتها أمرًا صعب الفهم على العقل اليوناني، فإن فكرة عقلانية هذه الخليقة (أو نظامها المنطقي) كان أمرًا أكثر صعوبة. ولكن العقيدة المسيحية عن خلق الكون من العدم و”اعتماديته” كانت في الحقيقة تتضمن مفهوم هذه “العقلانية”، لأن “اعتمادية” الخليقة تظهر بالتحديد في نظامها المنطقي الداخلي، والذي لا يُفسِّر نفسه، بل هو يعتمد على “عقلانية” خالقها الفائقة الإدراك.

ولذا اعترفت الكنيسة في قانون إيمانها أن الله خلق السماء والأرض ما يُرى وما لا يُرى، ما هو مُدرك بالعقل وما هو مُدرك بالحس. فالله في خلقته للكون لم يُحضر إلى الوجود مادة الكون فقط، بل أوجد أيضًا شكل الكون ونظامه المعقول (المنطقي)، وحتى العقل البشري أوجده الله أيضًا من العدم[1].

عقلانية الخليقة تُستمد من عقلانية خالقها الفائقة

وإذا كان قد ظهر في التجسد، أن “كلمة” الله الخالق الذي هو “اللوغوس” الوحيد الذاتي (Ατολόγος) الأزلي غير المخلوق هو الذي قد صار جسدًا، فقد تبين بالتالي أن كل الأشكال العقلانية (λόγοι) (الأخرى) المنتشرة في الكون هي مخلوقة. وبالضبط كما أن هناك تمييزًا تامًا بين كيان الله غير المخلوق وبين الكيان المخلوق، كذلك هناك تمييز تام بين “عقلانية” الله غير المخلوقة و”عقلانية” العالم المخلوقة، وهناك تمييز بين نور غير مخلوق ونور مخلوق سواء كان مادِّيًّا أو ذهنيًّا.

ومع ذلك فإن “العقلانية” المخلوقة أو “النور” المخلوق إنما تُستمد من الله ذاته، وهي تكون على ما هي عليه من خلال المشاركة في “عقلانية” و”نور” الله غير المخلوق، الذي بدلاً من أن يطغى عليها ويلغي كيانها فإنه يحفظها في حقيقتها “الاعتمادية” الخاصة بها[2].

ولا عجب إذن أن القديس أثناسيوس قد وجد أنه من الواجب عليه رفض الثنائية اليونانية بين عالم “المدركات” (الأشياء التي تُدرك بالعقل) وعالم “الحسيّات” (الأشياء المحسوسة)، بما في ذلك تعاليمهم عن: “اللوغوس” الإلهي كمبدأ داخلي للكون، وعن “بذور المنطق” (λόγοι σπερματικοί) أو “الصور العقلانية الأزلية” الكامنة في الطبيعة[3].

وبدلاً من هذه الأفكار والمفاهيم، قدَّم القديس أثناسيوس التمييز الكتابي بين الخالق والخليقة مُظهرًا أن كل النظام العقلاني في الكون ينبغي إرجاعه إلى مصدره الخلاّق أي كلمة الله، لأنه بواسطة الكلمة قد مُنِحَ الكون كله “عقلانيته” الرائعة المخلوقة، وهو (أي الكلمة) يداوم على مساندته للكون وإبقائه في وضعه هذا[4].

وبفضل فعل اللوغوس الإلهي المُنظِم والمتكامل والشامل الكل، فإن الوجود المخلوق كله يتغلغله نظام “عقلاني” واحد يعتمد على “العقلانية” الفائقة الإدراك التي لله رب الخليقة الذي يفوق الوجود المخلوق كله[5].

نظام الكون المخلوق منفتح على الدوام لفعل الله الخلاّق

دعونا نتأمل هذا الأمر من منطلق أن الله في خلقته للكون من العدم، قد خلق معه الزمان والمكان أيضًا. هذه الأفكار عادةً ما تُنسب لأغسطينوس (الذي كتب باللاتينية) بالرغم من أنها قد وُجدت في التراث اللاهوتي اليوناني (أي المُدوّن باليونانية) منذ القرن الثاني، حيث كانت منتشرة في الإسكندرية قبل وقت أغسطينوس بكثير ووصلت هذه الأفكار هناك إلى تمام نضجها[6].

ومع عقيدة التجسد التي تعني كما عبَّر القديس أثناسيوس أن الرب لم يحل داخل إنسان بل هو قد صار إنسانًا[7]، وجد المسيحيون أنفسهم في خلافٍ حادٍّ مع الأفكار التي سادت طويلاً في الفلسفة والعلوم اليونانية عن الزمان والمكان، والتي ظهرت في صور متنوعة إما أفلاطونية أو أرسطوطالية أو رواقية.

ففي ظل حقيقة وواقعية ظهور (παρουσία) الله المتجسد في الزمان والمكان، وجد آباء الكنيسة أن عليهم وضع مفاهيم متغايرة عن الزمان والمكان تتوقف على حسب من تُستخدم معه ويمكن تطبيقها بطرق مختلفة: فبالنسبة لله تُطبَّق بطريقة تتوافق مع طبيعته الفائقة، وبالنسبة للكائنات المخلوقة تُطبَّق بطريقة أخرى تتمشى مع طبيعتهم “الاعتمادية” (العرضّية).

وهكذا سعى الآباء إلى التأكيد على أنه داخل النظام المخلوق لهذا العالم، توجد تركيبات زمنية مكانية مُهيأة ومتاحة لفعل الله المدّبر والخلاّق، كما توصّل الآباء إلى مفاهيم جديدة تمامًا عن قانون الطبيعة تجعله ذا تكوين منفتح ومتحرر من أفكار الحتمية والقدرية التي كانت سائدة في الفكر اليوناني[8]. ووفقًا لفهم الآباء لعقيدة الخلق، كانت القوانين الطبيعية تُعتبر بالنسبة لهم كتتابع منظم وكتركيبات ثابتة في الطبيعة، تقوم بأمر الله الخالق[9].

أي إن قوانين الطبيعة (أي أنظمتها العقلانية) كانت بالنسبة للآباء تعتمد على كلمة الله بكونه مصدرها وأساسها. فهذه القوانين في حد ذاتها هي أنظمة “اعتمادية” وعرضّية، وهي “عقلانية” (أي لها نظام منطقي) فقط لأنها تشير إلى أساس “العقلانية” الفائق في “لوغوس” الله الخالق، حيث إنه على هذا الأساس يقوم ثبات هذه القوانين وإمكانية الثقة فيها والاعتماد عليها[10].

 

* يُقصد بعقلانية الخليقة أن لها نظامًا داخليًّا منطقيًّا ودقيقًا ومتكاملاً تسير عليه، ولها قوانين منظمة تحكمها. (المترجم)

116 Basil, Hex., 2.1ff; Gregory Nyss., Con. Eun., 1.22; De op. hom., 23,29,39; De an. et res., MPG 46.30B, 105B, 124B, 125C.

117 Basil, Hex., 6.1ff.

118 Athanasius, Con. gent., 35ff; 40ff; 44 & 46; De decr., 11; Exp. Fidei, 1; cf. Con. Ar., 3.16.

119 Athanasius, Con. Ar., 2.2, 24, 31f, etc; cf. Gregory Nyss., De op. hom., 23f.

120 Athanasius, Con. gent., 29ff, 34ff, 38ff, 40ff, 44, 46. Cf. Con. Ar., 2.28, 41.

121 T.F. Torrance, Space, Time and Incarnation, 1969; and in ‘The Relation of the Incarnation to Space’, the contribution to the Festschrift for Georges Florovsky, The Ecumenical World of Orthodox Civilization, vol. III, 1974, pp. 42-70.

122 Athanasius, Con. Ar., 3.30; cf. Ad Ant., 7.

123 Athanasius, Con. gent., 11f, 26, 28, 32, 39, 41.

124 Basil, Hex., 4.2ff; 5.1f, 5; 8.5; 9.1ff; Gregory Nyss., Con. Eun, 1.26.

125 Basil, Hex., 1.8-10; 3.1ff; 9.2ff.

مدرسة الاسكندرية اللاهوتية – د. ميشيل بديع عبد الملك (1)

عقلانية الخليقة ونظامها المنطقي