أبحاث

رموز الإفخارستيا في العهد القديم – القمص تادرس يعقوب ملطي

رموز الإفخارستيا في العهد القديم - القمص تادرس يعقوب ملطي

رموز الإفخارستيا في العهد القديم – القمص تادرس يعقوب ملطي

رموز الإفخارستيا في العهد القديم - القمص تادرس يعقوب ملطي
رموز الإفخارستيا في العهد القديم – القمص تادرس يعقوب ملطي

 

١ – الفصح[168]

الفصح كما وضح في العهد القديم يتلخص في أن الله قد افتقد شعبه في أرض العبودية في الليلة التي أُكلت فيها وليمة الفصح، مجتازًا بيوت المؤمنين الذين ضمهم إليه حتى يجتاز بهم إلى أرض الحرية.

في يوم الاحتفال بعيد الفصح ذُبح المسيح أيضًا فصحنا[169]، مقدمًا لنا جسده ودمه المبذولين وليمة فصح حقيقية، فلماذا؟ لأن الفصح الحقيقي هو “اجتياز” المسيح هذا العالم عابرًا إلى السماء خلال موته. ونحن إذ نتناول جسده ودمه نجتاز أيضًا به وفيه إلى الحياة الجديدة، إذ نقبل حياته المقامة.

 

في افتقاده لنا، كما في أرض العبودية، يضمنا إليه لكي يجتاز بنا من سلطان الظلمة إلى ملكوت النور، ويعبر بنا من موت هذا العالم إلى قيامة الحياة العتيدة. هكذا نعبر بالمسيح المقام من الجسد إلى الروح، وعوض الناموس الذي يديننا ننعم بالأحرى بنعمة الحياة غير المتناه[170].

 

هذه هي ليتورچيا الإفخارستيا، هي رحلة الكنيسة إلى السماء، بيت أبينا.

 

يا لها من رحلة مفرحة، فيها نشارك السيد المسيح عبوره، متهيئين يومًا فيومًا أن نحيا حياة المسيح المقامة المجيدة. بمعنى آخر، إن سرّ فصحنا يقوم أساسًا على سرّ فصح المسيح، إذ نسلك معه وبه طريقه عينه. بهذا يصبح عبورنا النهائي إلى السماء هو تكميل فصح المسيح المقام، إذ نحن جسده السماوي.

 

٢ – المن

“الخروج” الذي تحقق في العهد القديم لم يكن رسمًا للخروج الجديد، إذ لا يمكن تتميم عمل دون إقامة رسم له.

 

في الخروج الجديد نترك مباهج العالم متطلعين إلى أورشليم السمائية، فنخرج تحت قيادة السيد المسيح الحامل لعصاه التي هي صليبه. أما السحابة التي تظللنا فهي الروح القدس. وأما المن العجيب الذي يمد الله به أولاده فهو “الإفخارستيا”، هذا الذي نتناوله بعد عبورنا البحر الأحمر، أي اجتيازنا جرن المعمودية[171].

 

نزول المن في الصباح مع الندى (خروج 16: 14-21)

 

ونحن لم نعرف المن رمزًا للإفخارستيا خلال التقليد فحسب، بل هو من صميم تعليم السيد المسيح القائل: “آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا… ” هكذا أظهر أن المن لم يحمل عملًا غير طبيعي إذ قال: “آباؤكم أكلوا المن وماتوا”، أما من يتناول المن الحقيقي الذي هو جسد السيد المسيح ودمه، فإنه ينال الحياة الأبدية مكافأة له[172].

 

هم نالوا المن من أجل الجوع لكنه لم يرافقهم في أرض الموعد، بل أعانهم في البرية فقط وإلى زمان، أما المن الجديد فهو الطعام السماوي الذي يعيننا ضد الموت والخطية، ويمدنا بالإتحاد مع المسيح إلى الأبد.

 

يقول القديس أمبروسيوس[173]: “كما أن النور أعظم من الظل، والحق أسمى من الرمز، هكذا يكون جسد الخالق بالنسبة للمن السماوي”.

 

٣ – تقدمة ملكي صادق

هي تقدمة فريدة من نوعها، ظروفها غامضة، وطابعها مغاير لكل ذبيحة[174]. وقد كشف الرسول بولس إشارتها لذبيحة الإفخارستيا.

 

* قدم ملكي صادق خبزًا وخمرًا، الطعام المقدس، الذي يرمز للإفخارستيا[175].

 

القديس إكليمنضس السكندري

* “أنت الكاهن على طقس ملكي صادق”

 

من هو بالأكثر كاهن الله العلي مثل ربنا يسوع المسيح، الذي قدم للآب تقدمة ملكي صادق عينها، أي الخبز والخمر، مقدمًا جسده ودمه[176].

 

الشهيد كبريانوس

 

٤ – خبز المائدة

* أمر الله بوضع الخبز على المائدة خاصة يوم السبت، أي أمر بوضعه في الكنيسة، لأنه يشير إلى الكل “الكنيسة” خلال الجزء “المائدة المقدسة”. ولكن أي شيء أقدس من مائدة المسيح المقدسة؟![177]

 

القديس كيرلس السكندري

 

5 – وليمة الحكمة

* كشف لنا الروح، خلال سليمان، رمزًا لذبيحة الرب، إذ ذكر الذبيحة التي من الخبز والخمر، المقدمة على المذبح.

يقول: “الحكمة بنت بيتها، سندته بسبعة أعمدة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها في كأس، أيضًا رتبت مائدتها” (أم 9: 1).

بعد هذا أرسلت جواريها ينادين ضيوفها بصوتٍ عالٍ لكي يأتوا ويشربوا كأسها. “هلموا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجتها”.

هكذا يعلن سليمان عن الخمر الممزوج، وكأنه يتحدث بطريقة نبوية عن كأس الرب الممزوجة خمرًا وماءًا[178].

الشهيد كبريانوس

 

* في بيت الوليمة هذا يجد الآتين من المشارق والمغارب لهم موضعًا في حضن إبراهيم وإسحق ويعقوب، في ملكوت السموات…[179]

 

العلامة أوريجينوس

 

٦ – وليمة المسيا

يدعونا إشعياء النبي إلى وليمة الإفخارستيا، قائلًا[180]:

 

“أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه، والذي ليس له فضة، تعالوا!

 

اشتروا حنطة وكلوا، وبلا ثمن خمرًا ولبنًا.

 

لماذا تنفقون فضة لغير خبز، وتعبكم لغير شبع؟!

 

استمعوا إلى استماعًا، تعالوا إليّ، استمعوا فتحيا نفوسكم.

 

معكم أقطع عهدًا أبديًا حسب المراحم التي وُعد بها داود”.

 

* يعني بالماء والروح القدس المعمودية، أما الخمر والخبز فيشيران في الماضي إلى تقدمة اليهود، والآن يشيران إلى شركة الخلود التي يهبها جسد الرب ودمه.

 

القديس ديديموس الضرير

 

يدعو النبي كل الشعوب التي أختتنت بالقلب لا حسب الجسد لكي تنعم بالوليمة، إذ يقول “على الجبل يقيم رب الجنود وليمة لكل الشعوب، وليمة دسمة، وليمة خمر… وعلى هذا الجبل يبيد الحجاب الذي يحجب كل الشعب”.

 

٧ – المزمور الثاني والعشرون (٢٣): مزمور الراعي أو مزمور الباراقليط

وجد آباء الكنيسة الأولى عذوبة خاصة في هذا المزمور إذ لمسوا فيه عناية الراعي الصالح بقطيعه…

 

رأوا فيه ظلال أعماله القدسية السرائرية، لهذا جعلوه جزءًا من صلب ليتورچيا العماد، ففي ليلة عيد القيامة كان المعمدون حديثًا غالبًا ما يترنمون به بعد نوالهم سرّي العماد والميرون، وقد لبسوا الثياب البيضاء وحملوا المشاعل، مسرعين تجاه مذبح الرب بالفرح يشتركون في المائدة السماوية.

 

ولا زالت كنيستنا القبطية تترنم بهذا المزمور أثناء تسبحة الساعة الثالثة تذكارًا لحلول الروح القدس على التلاميذ في تلك الساعة، هذا الروح هو بعينه الذي لا يزال عاملًا في الكنيسة خاصة في الأسرار الإلهية.

 

 

 

تفسير سرائري مبسط[181]:

“الرب راعي فلا يعوزني شيء…”.

 

إذ قبل الموعوظ الرب راعيًا له، وصار هو من قطيعه، يشترك في جسده ودمه المبذولين، فماذا يحتاج بعد؟!

 

هذه هي أحاسيس القديس أمبروسيوس[182] وهو يرى الكنيسة -ليلة عيد القيامة- وقد صارت سماءً، وجموع المعمدين حديثًا قد نالوا روح التبني، يسرعون مع صفوف المؤمنين بالتسبيح والترنيم نحو المائدة الإلهية ينعمون ما تشتهي الملائكة أن تتطلع إليه.

 

ماذا قدم لنا الراعي؟

 

‌أ. “في مراعٍ خضر يربضني”

 

قادنا إلى مرعى تعاليمه الصادقة التي يرعى فيها الموعوظين لكي يتأهلوا للمعمودية، وإذ ينالوا روح التبني تبقى نفوسهم تغتذي يوميًا من مرعى كلمة الله الذي لا يجف. هذا المرعى هو إنجيل خلاصنا الذي يردنا إلى الفردوس الحق.

 

* المراعي الخضراء هي الفردوس الذي سقطنا منه، فقادنا إليه السيد المسيح وأقامنا إليه السيد المسيح وأقامنا فيه بمياه الراحة أي المعمودية.

 

القديس كيرلس السكندري

 

‌ب. “وعلى مياه الراحة يوردني”

 

المعمودية المقدسة هي بلا شك مياه الراحة، التي ترفع عنا ثقل أحمال الخطية[183]. يقول القديس أغسطينوس “يوردنا على مياه المعمودية حيث يقيمنا ويدربنا ويرعانا، هذه التي تهب صحة وقوة لمن سبق له أن فقدهما”. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص أننا في هذه المياه نجد راحتنا[184] بدفعنا مع المسيح في موته، لكننا لا ندخل إلى الموت بل ظلاله كقول المرتل.

 

‌ج. “إن سلكت في وادي ظلال الموت، فلا أخاف شرًا، لأنك معي”

 

فنحن ندخل مع المسيح في موته بغير خوف إذ هو معنا… ونبقى دومًا نختبر الموت مع المسيح بفرح إن مارسنا سرّ التوبة والاعتراف بمفهومه الحق، أي بتسليم النفس بين يدي الروح القدس الذي يبكتنا ويتوبنا ويردنا إلى سبل البرّ لأجل اسمه. “يرد نفسي، يهديني إلى سبل البرّ، من أجل اسمه”.

 

‌د. “عصاك وعكازك هما يعزيانني (باراكليسيس)”

 

يتطلع القديس أمبروسيوس[185] إلى الراعي الصالح الذي يقودنا بعصاه، ويسندنا بعكازه، هذين اللذين هما ختم صليبه الذي قبلناه في سرّ الميرون، منعمًا علينا بمسحة الباراقليط (المعزي) التي ترهب الشياطين…

 

‌ه. “هيأت قدامي مائدة تجاه مضايقي”

 

* عندما يتطلع الإنسان لله “رتبت قدامي مائدة” فإلى إي شيء يشير سوى إلى هذه المائدة السرائرية الروحية التي رتبها الله لنا؟! رتبها قبالة الأرواح النجسة!

 

حقًا لأن تلك (مائدة الشياطين) هي اختلاط بالشياطين، أما هذه (مائدة الرب) فهي شركة مع الله![186]

 

القديس كيرلس الأورشليمي

 

المائدة السرائرية هي جسد الرب الذي يعضدنا قبالة شهواتنا وضد الشيطان.

 

حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار.

 

القديس كيرلس الإسكندري

 

‌و. “مسحت بالزيت رأسي”

 

* مسح بالزيت رأسك على الجبهة، لأن الختم الذي أخذته هو من الله، حفر الختم قداسة الله.

 

القديس كيرلس الأورشليمي

 

‌ز. “كأس سكرك، ما أمجدها”

 

* تسكرنا كأس الرب، إذ تنسينا فكرنا (في الزمنيات)، وتقود النفس إلى الحكمة الروحية… إنها تحرر النفس، وتنزع عنها الغم!… إنها تهب راحة للنفس إذ تقدم لها فرح الصلاح الإلهي عوض كآبة القلب القاتم بسبب ثقل أحمال الخطية[187].

 

القديس كبريانوس

 

‌ح. أخيرًا فإننا ننعم بهذه البركات الإلهية والأسرار المقدسة في بيت الرب حيث يترنم المرتل قائلًا: “مسكني في بيت الرب مدى الأيام”.

 

٨ – نشيد الأناشيد[188]

إن كان سفر “نشيد الأناشيد” هو سفر الإتحاد الروحي بين السيد المسيح والكنيسة، أو بينه وبين النفس البشرية، فإنه في مجمله يحمل إلينا نبوة صادقة عن عمل الله السرائري القدسي في كنيسته. لهذا ففي ظل التقليد القديم كان هذا السفر يُقرأ أثناء الاحتفال السنوي بعيد الفصح.

 

في هذا السفر رأى آباؤنا الأولون:

‌أ. سرّ المعمودية، حيث يدعو العريس، الملك السماوي، عروسه إلى حجاله، لتنعم معه بالإتحاد الأبدي.

‌ب. سرّ الميرون، حيث يطبع العريس ختمه على قلب عروسه وساعدها، لكي تتهيأ بروحه القدوس ليوم العرس الاسخاتولوچي (الأخروي).

‌ج. سرّ الإفخارستيا حيث يقدم العريس وليمة عرسه لكي تأكل عروسه وتشبع وتدعو الغير لهذه الوليمة السماوية، وكما يقول الآباء:

 

* الذين يتذوقون المفاهيم الخفية للكتاب المقدس لا يجدون فارقًا بين ما قيل في النشيد “كلوا أيها الأصحاب”، اشربوا واسكروا يا أحبائي” وبين السرّ المقدس الذي مارسه الرسل.

 

ففي كلي الموضعين يقول النص “كلوا واشربوا”… لكننا لا نجد في النص الإنجيلي مجالًا للسكر، ذلك لأن “السكر” هو السيد المسيح نفسه الذي يقيمنا عن الأمور السفلية ويرتفع بنا إلى العلويات.

 

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

 

* إذ ترى الكنيسة النعمة العظيمة هكذا، أي تقديس وليمة العرس التي للسيد المسيح، تدعو أولادها وجيرانها ليسرعوا تجاه الأسرار، قائلة “كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا يا أحبائي”.

 

القديس أمبروسيوس

 

٩ – رموز وإشارات أخرى

‌أ. يرى القديس إفرام السرياني[189] في الجمرة الملتهبة التي لمست إشعياء النبي وقدست شفتيه جسد الرب الذي يقدس المؤمنين.

 

‌ب. ذكر ملاخي[190] طعامًا جديدًا نقيًا يقدم باسم الله في كل موضع، الذي هو الإفخارستيا.

 

_____

[168] See p 85 – 96.

Schmemann: Sacraments & Orthodoxy

Cavin: Some aspects of contemporary Greek

Orthodox Thought

Braso: Liturgy & Spirituality

Hamman: The Paschal Mystery

Bouyer: The Liturgy revived.

[169] 1Cor 5 : 7.

[170] Bouyer p 22 – 23.

[171] See Danielou: The Bible & the Liturgy

[172] St. Clement of Alex.: Com. on St. Jn 6.

St. Chrysostom: Hom 46 on Jn.

[173] De Myst. 46, Botte 123.

[174] Gen 14 : 18, 19.

[175] Strom. 4 : 25.

[176] See his Epis. to brother Cecils, epistle 63 : 4.

[177] Com. on St. Jn 6.

See Chrys: Hom 46 on Jn.

[178] Epist. 635.

[179] Com. on Cant 3.

See Greg. of Nyssa: Cain & Abel 1 : 5.

[180] Is 55 : 1 – 3.

[181] Damielou: The Bible & the Liturgy

[182] St. Ambrose: De Myst 5 : 13.

[183] P. G. 27 : 140 B.

[184] P. G. 96 : 692 B.

[185] De Myst. 5 : 3

[186] De Myst. 4 : 7.

[187] Ep 113 : 11.

[188] Danielou: The Bible & the Liturgy.

[189] Mimre 4 on the Passion.

[190] Mal 1 : 10.

رموز الإفخارستيا في العهد القديم – القمص تادرس يعقوب ملطي