آبائيات

تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الدين ج2 – د. أنطون جرجس

تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية

تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الدين ج2 – د. أنطون جرجس

تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية - ملمح الدين ج2 - د. أنطون جرجس
تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الدين ج2 – د. أنطون جرجس

لقد تحدثت أحبائي في المقال السابق عن ملمح الدَّين عند آباء الكنيسة الأرثوذكسية، وبالأخص في اللاهوت الشرقي، وقارنته بين مفهومه في اللاهوت الشرقي، ومفهومه المختلف تمامًا في اللاهوت الغربي، ولكنني أثرت في هذا المقال أن أستكمل مفهوم الدَّين في اللاهوت الشرقي، عند آباء أرثوذكس آخرين، للوقوف على أفضل تصور لمفهوم الدَّين عند آباء الشرق كملمح من ملامح شرح تدبير الخلاص.

نجد أحبائي مفهوم الدَّين عند ق. غريغوريوس اللاهوتي هو تمزيق صك الدين للمديونين لنا بلا مقابل، متشبهين بالمسيح وإحساناته وهباته الجزيلة علينا بلا مقابل، فكيف يمكن أن يتغير الله ويطلب بمقابل من أجل صفحه عن خطايانا، بل لقد كان مسامحًا لنا عن خطايانا الكثير بلامقابل، حيث يقول التالي:

“وإذا صادفك مديون لك يتوسل إليك فمزّق الصك الذي لك عليه بحق أو بغير حق. تذكر الدَّين الكثير الكثير الذي تركه لك المسيح والإحسانات الكثيرة التي أحسن بها إليك. ولا تكن جابيًا قاسيًا فظًا مطالبًا بالدَّين الزهيد. وتُرى مَن تسامح؟ تسامح المساوين لك في العبودية، أنت الذي وهبك السيد الكثير والكثير. هذا ما يجب أن يكون موقفك في التشبه بإحسان ذلك المحسن العظيم”.

(عظة المعمودية والمعمدون ٣٨: ١٣)

  كما يرفض ق. غريغوريوس اللاهوتي في موضع آخر فكرة تقديم الفدية، والتي تقابل فكرة إيفاء الدَّين، سواء للشيطان السارق، أو لله الآب الذي لم نكن مأسورين له، أو مديونين له بشيء في سياق مجاز الدَّين، بل يرى اللاهوتي أن الفدية أو الدَّين الذي دفعه المسيح هو اتحاده بنا ليقدس بشريتنا ببشريته المتحدة بالألوهة ليحررنا المسيح نفسه من قهر الشيطان الطاغية، ويجذبنا إلى الله الآب كرامةً له، حيث يقول التالي:

“ومن ثم، فإنه من الواضح أن الآب يأخذ دون أن يسأل أو يلتمس، ولكن من أجل تدبير الخلاص، ولأنه كان يجب أن تتقدس بشريتنا ببشرية الله حتى يحررنا المسيح نفسه، ويقهر الشيطان الطاغية، ويجذبنا إلى نفسه بوساطة ابنه الذي دبر هذا كرامةً لأبيه الذي يعطي (الابن) كل شيء. لقد تحدثنا كثيرًا عن المسيح، وبقي أن نكرمه بالأكثر بصمتنا”.

(العظة الفصحية الثانية ٤٥: ٢٢ PG 36: 624-663)

ونجد مفهوم الدَّين عند ق. باسيليوس الكبير هو إيفاء الدَّين بلا مقابل بحسب محبة المخطط الإلهي للبشر، فالله في صلاحه يعوض البشر بلا مقابل عن ديونهم وعن مسامحتهم لأخوتهم من البشر عن ديونهم، فكيف يطالب الله بابنه الوحيد كثمن وتعويض عن ديون البشر أي خطاياهم، وهو الذي يعطي أكثر مما نعطي نحن لأخوتنا من البشر، حيث يقول التالي:

“لكن لو أنكم قد أطعتم الرب، فما هي الحاجة لهذه الكلمات؟ إذًا، ما هي مشورة السيد الرب: ‘وإنْ أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم، فأي فضل لكم؟’ (لو٦: ٣٤). وأي قرض هذا الذي لا يرتبط فيه الرجاء باسترداد المال؟ أفهم معنى العبارة، وستدهش لمحبة المخطط الإلهي للبشر، وذلك عندما تنوي أن تعطي مالاً للفقير، بحسب وصية الرب، فإن هذا العطاء هو في نفس الوقت عطية وقرض.

فهو عطية، من ناحية، لأنك ترجو استرداده، ومن ناحية أخرى، هو قرض لأن سخاء الرب وكرمه الفائق سيرد القرض عوضًا عن الفقير، فبينما أخذ الرب القليل عن طريق الفقير، سيعوضك الكثير في مقابل القليل الذي أخذه: ‘مَن يرحم الفقير يقرض الرب’ (أم١٩: ١٧).

ألا تريد أن تنال لنفسك مسئولية الله ضابط الكل عن تسديد القرض؟ فلماذا، لو أن شخصًا من أغنياء المدينة، قد ضمن إيفاء الدَّين عوضًا عن آخرين، تقبل ضمان هذا الشخص؟ بينما الله الذي يسدد بأكثر من المطلوب بكثير عوضًا عن الفقراء، لا تقبله كضامن”. (تفسير المزامير عظة ٣: ٥ على مز ١٥)

وهذا ما يؤكده ق. يوحنا ذهبي الفم عن تسديد الله لدَّيننا على سبيل النعمة وليس الدَّين، ويريد منا أن نصير مديونين له بالسلوك ليس بحسب الجسد بل بحسب الروح، وهذا هو الثمن الذي اشترانا الله به لكي نكون مديونين له بالسلوك الروحي والابتعاد عن السلوك الجسدي، حيث يقول التالي:

“وكونه يقول: ‘نحن مديونون ليس للجسد لنعيش بحسب الجسد’، فهو يريد أن يؤكد ويشدد على هذه الخقيقة. حيث في كل موضع، يوضح أن تلك الأمور التي صنعها الله لنا، لا ثمثل دينًا، لكنها تعتبر فقط دليل نعمة، بينما تلك الأمور التي نصنعها نحن بعد هذا كله، هي دليل دَّين. لأنه عندما يقول: ‘قد اشتريتم بثمنٍ، فلا تصيروا عبيدًا للناس’ (١كو٧: ٢٣) فهذا هو ما يقصده”.

(تفسير رسالة رومية عظة ١٥: ١)

   كما يؤكد ذهبي الفم في موضع آخر على فكرة دَّين المحبة والإحسان للغير بسبب القرابة الروحية بيننا كأعضاء بعضنا لبعض، ذاك الذي يطلبه الله منا على الدوام، والذي به نكمل الناموس، حيث يقول التالي:

“لأن هذا هو الدَّين. أننا نظل نعطي، ونبقى مديونين على الدوام. إذًا، بعدما قال كيف أنه ينبغي علينا أن نحب، يظهر فائدة ذلك، قائلاً: ‘لأن مَن أحب غيره، فقد أكمل الناموس’. إذًا، لا تعتبر أن هذا العمل هو إحسان تقدمه، بل دَّين عليك. لأنك مدين لأخيك بالمحبة بسبب القرابة الروحية. وليس فقط لهذا السبب، بل ولأننا نحن أعضاء بعضًا لبعض”. (تفسير رسالة رومية عظة ٢٤: ٣)

كما يؤكد البروفيسور توماس ويناندي Thomas G. Weinandy على أن مفهوم الدَّين عند ق. أثناسيوس هو دَّين الموت كما ذكرنا سابقًا، ولقد قام المسيح بإيفاء دَّين الموت بموته عن الجميع ليهبهم حياة القيامة عديمة الفساد، حيث يقول التالي:

“سبب أن الكلمة المتجسد يضمن للبشر حياة القيامة عديمة الفساد هو أنه يقدم ‘إلى الموت، الجسد الذي قد أخذه هو نفسه كتقدمة وذبيحة بلا عيب، لأنه للتو، أبعد الموت عن جميع نظرائه بتقديم نظيرًا. وحيث أنه فوق الجميع، وفى كلمة الله بالطبيعة عن طريق تقديم هيكله وأداته الجسدية من أجل حياة الجميع الدَّين بموته’ (تجسد الكلمة ٩: ١-٢؛ ٢٠: ٢، ٥-٦). لأن الكلمة، وقد اتخذ طبيعتنا عينها، يقدم حياته البشرية النقية والطاهرة كذبيحة بدلاً عنا ولأجلنا، فينقض ويفي بدَّين الموت الذي جلبته وهكذا أقرته الخطية. وهنا، نعي بوضوح مركزية الصليب داخل سوتيرلوجية أثناسيوس”.

T&T Clark Companion to Atonement, Edit. By Adam J. Johnson, Athansius’s Incarnational Soteriology by Thomas G. Weinandy, (London & New York: Bloomsbury, 2017), p. 142.

كما تسجل البروفيسور كاثرين ساندرچير Katherine Sanderegger اعتراض البعض على مفهوم أنسلم عن إيفاء الدَّين وذبيحة الترضية بأنه مفهوم نسطوري على نحو خطير، مما يؤكد على ما قلناه قبلاً من اختلاف مفهوم اللاهوت الغربي للدَّين عن اللاهوت الشرقي، حيث تقول التالي:

“علاوة على ذلك، سردية أنسلم عن ‘إيفاء الدَّين’ و ‘ذبيحة الترضية’ تبدو للبعض نسطورية بشكل خطير، كما لو كان يمكن تقديم ناسوت المسيح كعمل مستقل للموت البريء، بمعزل عن الاتحاد الأقنومي الملازم للألوهة. بالإضافة إلى ذلك، تبدو معالجة أنسلم المدرسية المبكرة لفكرة اللا محدودية، سواء في تقدير الخطية، وفي قيمة الاستحقاق الشخصي للمسيح بالنسبة لانتقاداته ذات العقلية الفلسفية غير قوية وغير مقنعة”.

Ibid, Anselmanian Atonement by Katherine Sanderegger, p. 177.

ويؤكد البروفيسور جوستاف أولين Gustaf Aulen نفس الكلام عن مفهوم الدَّين عند ق. أثناسيوس إن معناه دَّين الموت، حيث يقول التالي:

“نفس الشيء هو حقيقي عن مجاز الدَّين، الذي يوزايه مجاز الفدية، ولكنها أقل استخدامًا جدًا. حيث يتحدث أثناسيوس عن كلمة الله بأنه عن طريق تقديم جسده ‘موفيًا الدَّين عن الجميع بموته’، وإنه بذلك الموت تم ‘إيفائه’، كما يربط أيضًا هذه الفكرة مع فكرة الذبيحة، ويقول إن ‘الكلمة أتخذ الجسد الذي أخذه قربانًا، كذبيحة غير دنسة بالموت، وهكذا أزال الموت من جميع أخوته بذبيحته النيابية’ (تجسد الكلمة: ٩). حيث يُعد الدَّين مدفوعًا في المقام الأول للموت”.

Gustaf Aulén, Christus Victor: An Historical Study of The Three Main Types of The Idea of Atonement, Trans. By A. G. Hebert, (London: S. P. C. K, 1975), p. 56.

وهكذا أحبائي نجد أن مفهوم الدَّين في اللاهوت الشرقي يختلف اختلافًا تامًا عن مفهومه في اللاهوت الغربي، بالخصوص اللاهوت المدرسي والبروتستانتي، الذي كنا قد عرضناه في مقالات سابقة، وفي بحثنا المنشور بعنوان “البدلية العقابية تحت المجهر”، وذلك بشهادة النصوص الآبائية وبشهادة الباحثين المعتبرين.

تصحيح مفاهيم خاطئة في البدلية العقابية – ملمح الدين ج2 – د. أنطون جرجس