الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق في تعليم آباء الكنيسة – د. أنطون جرجس
الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق في تعليم آباء الكنيسة - د. أنطون جرجس
الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق في تعليم آباء الكنيسة – د. أنطون جرجس
نستكمل معًا موضوع الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق، هذا النور الذي يتسامى على الإطلاق لا على الحواس فقط، بل وعلى العقل نفسه، نور يلاقيه الذهن البشري ويتطابق معه، عندما يخرج الذهن البشري من ذاته ليصير أفضل مما هو عليه، عندما يتجاوز ذاته (أي الذهن البشري) ويتحد بالله.
سأتحدث عن الوصول إلى حالة الدهش والانخطاف الروحي في تعليم آباء الكنيسة، هذا الدهش والانخطاف الذي يحدث عندما تصلي النفس صلاة عقلية حارة*، وتنال مواهب الروح القدس، وتحقق هذه الصلاة بصورة سرية اتحاد النفس بينبوع هذه المواهب. وننوه بإمكانية نوال مواهب الروح هذه حتى في أوقات عمل الجسد، فالصلاة ليست انسلاخًا (أي ترك) عن الجسد.
يتحدث ق. غريغوريوس اللاهوتي عن الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق قائلاً:
“إنه ينزل من الأعالي حيث مقره لكيما تدخل إليه – إلى حد ما – الطبيعة المخلوقة”.
Homily 45: 11. PG 36: 637 B.
يتحدث مار اسحاق السرياني عن خبرة معاينة النور الإلهي غير المخلوق، وكيف ندرك هذا النور الإلهي العجيب بعيون نفوسنا الروحية كالتالي:
“إن لنفسنا حدقتين، ولكن النظر الخاص بكل منهما يختلف استعماله عن الآخر. فبإحدى هاتين الحدقتين نعاين أسرار الطبيعة، أعني قوة الله وحكمته وعنايته بنا، وندركها بفضل الجلال الذي يقودنا به. ونعاين بالحدقة الأخرى مجد طبيعته المقدسة حين يرتضي الله إدخالنا إلى الأسرار الروحية”. (عظة ٧٢)
ثم يتحدث مار اسحاق السرياني عن إشراق نور الثالوث القدوس مثل الشمس في نفس الإنسان النقي من الداخل، واستنشاقه للروح القدس كلي القداسة، وتساكنه الطبائع الروحية المقدسة (أي الملائكة) كالتالي:
“الرجل النقي النفس هي داخله. والشمس التي تشرق داخله هي نور الثالوث القدوس. الهواء الذي يستنشقه سكان تلك البلدة هو الروح القدس المعزي وكلي القداسة. والذين يسكنون معه هم الطبائع المقدسة الروحانية. المسيح هو نور نور الآب، هو حياتهم، وفرحهم، وسعادتهم.
مثل هذا الإنسان يبتهج كل ساعة بالرؤى الإلهية داخل نفسه*، ويسحره جمالها الخاص الذي هو بالحق أبهى مئة ضعف من لمعان الشمس نفسها. هذه هي أورشليم وملكوت الله المختفي داخلنا*، كما يقول الرب. هذا العالم هو سحابة مجد الله التي لا يدخلها إلا أنقياء القلب ليروا وجه سيدهم وليستنير عقلهم بشعاع نوره”.
مار اسحاق السرياني، الميامر النسكية، ترجمة: نيافة الانبا سيرافيم، (وداي النطرون: دير العذراء البراموس، ٢٠١٧)، الميمر ١٥، ص٢٢٣.
ويتحدث مار اسحاق السرياني عن كيفية الوصول إلى الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق من خلال الصلاة التي نصليها كالتالي:
“وإذ يتخذ الروح القدس مادة من صلاة الإنسان التي يصليها، يتحرك داخله، وتفقد بذلك صلاة الإنسان حركتها أثناء الصلاة، ويرتبك ذهنه، ويُبتلع في الدهش والانذهال*، وينسى حتى الرغبة فيما كان يتوسل بشأنه*. تغطس حركات العقل في سكر عميق، ولا تعد في هذا العالم في مثل هذا الوقت*، لا يوجد تمييز بين النفس والجسد، كما لا يوجد تذكار لأي شيء، تمامًا كما قال العظيم غريغوريوس اللاهوتي: الصلاة هي نقاوة الذهن*، وهي تنتهي فقط بواسطة نور الثالوث القدوس من خلال الدهش والانذهال*.
هل رأيت كيف تنتهي الصلاة من خلال الدهش بالمفاهيم التي ولدتها الصلاة في العقل، كما قلت في بداية هذا الميمر وفي مواضع أخرى عديدة؟ ويكتب أيضًا نفس هذا القديس غريغوريوس: نقاوة العقل هي التحليق السامي والمرتفع للقدرات الذهنية*، وهي تشبه منظر السماء، وهي التي يشرق عليها ومن خلالها نور الثالوث القدوس وقت الصلاة*”.
المرجع السابق، الميمر ٢٣، ص ٢٧٨، ٢٧٩.
وهكذا يتحدث ق. يوحنا ذهبي الفم عن معاينتنا للنور الإلهي غير المخلوق، وخبرة إشعياء النبي لهذا النور الإلهي في رؤياه كالتالي:
” وهذا نادى ذاك وقال: قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود. مجده ملء كل الأرض (إش٦: ٢، ٣). بالحقيقة هو قدوس لأنه جعل طبيعتنا مستحقة هذه الأسرار الكثيرة والعظيمة*، وصيرنا شركاء هذه الأمور التي لا تُوصف، لقد استوى عليَّ الفزع والرعدة (المقدسة) في أثناء إنشاد هذه التسبحة، وما يدعو للعجب أن هذا يحدث لي أنا الطين* المصنوع من تراب في اللحظة التي فيها حتى القوات السمائية تأخذها الدهشة العظيمة والدائمة؟ لذلك يديرون وجوههم ويغطونها بأجنحتهم كمثل ساتر، لأنهم لا يستطيعون تحمل اللمعان المنبعث من هناك.
وبالرغم من أن المشهد (الرؤيا) – كما يقال- كان يمثل تنازلاً للطبيعة الإلهية*. فلماذا إذًا لا يحتملون؟ فهل تسألني أنا ذلك؟! سل أولئك الذين يريدون أن يفحصوا الطبيعة غير الموصوفة وغير المقترب منها، أولئك الذين يتجرأون على ما لا يمكن التجرؤ منه […] بينما تجاسر الإنسان أن يتكلم أو بالحري أن يفكر بعقله في أنه يقدر أن يتطلع بدقة وبوضوح إلى تلك الطبيعة الإلهية البسيطة”.
يوحنا ذهبي الفم (قديس)، رؤيا إشعياء، ترجمة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٦)، عظة ٢: ٢، ص ١٠٥، ١٠٦.
ويقول ق. يوحنا ذهبي الفم في نفس السياق:
“لأنه يقول: باثنين يُغطي وجهه (إش٦: ٢). كأنهما ستارتان يغطيان وجهه، لأنهم لا يتحملون اللمعان المنبعث من ذلك المجد. وباثنين يغطي رجله (إش٦: ٢) تحت تأثير نفس الانبهار، لأننا أنفسنا عندما يُسلط علينا جسم باهر، فإننا ننكمش ونخفي كل مكان في جسدنا.
ولماذا اتحدث فقط عن الجسد، طالما أن النفس ذاتها، عندما يحدث لها ذلك الأمر في تجلياتها السامية، تجذب كل طاقاتها، ثم تجمع ذاتها ضاغطةً إياها بعمق في الجسد كما لو كان هذا الجسد ملبسًا لها؟ وحين يسمع أحد الاندهاش والانبهار لا يظن أننا نتحدث عن صراع مقزز للنفس، لأنه مع هذا الاندهاش توجد نشوة* ممتزجة به لا تُحتمل من عظمتها. وباثنين يطيرون (إش٦: ٢)، وهذا يدل على أنهم دائمًا يشتهون الأمور العلوية (السمائية) ولا ينظرون إلى أسفل أبدًا”.
المرجع السابق، عظة ٦، ص١٧٨، ١٧٩.
ويستطرد ق. يوحنا ذهبي الفم في حديثه عن الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق وحالة الاندهاش والانخطاف الروحي كالتالي:
“لأن الأجسادةالبراقة، وإن كانت منيرة بشكل عظيم، حينئذ فإنها عادةً ما تثير ذهولنا لما نشاهدها للمرة الأولى بعيوننا، ولكن إن واصلنا التطلع فيها أكثر فبالتعود سوف ينتهي اندهاشنا، لأن عيوننا قد اعتادت على تلك الأجساد. لذلك فعندما نرى أيقونة ملوكية، وقد تم تكريسها حديثًا (تجهيزها) وهي تزهو بألوانها، فهي تُثير إعجابنا، ولكن بعد يوم ويومين يزول إعجابنا هذا.
ولكن لماذا أتحدث عن أيقونة ملوكية، طالما أن الأمر ذاته يحدث لنا مع أشعة الشمس، على الرغم من أنه لا يوجد جسم أكثر لمعانًا منها؟ وهكذا فأي جسد بسبب الاعتياد على النظر إليه يذهب الإعجاب به. غير أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بمجد الله، بل على العكس تمامًا، لأنه كما واصلت تلك القوات (السمائية) في النظر إلى ذلك المجد كلما انبهرت بالأكثر وازداد تعجبها.
لذلك فبالرغم من أنهم يرون ذاك المجد منذ خلقتهم وحتى الآن، فلا يتوقفون عن الصراخ بانبهار، لأن ما نعاني منه، ويحدث لنا في برهة قصيرة من الزمن، عندما يأتي علينا ضياء ساطع، يحدث لتلك القوات القائمة قدامه باستمرار وبلا انقطاع، وبالرغم من ذلك يُظهِرون لذةً ما وتعجبًا.
لأنهم لا يصرخون فقط، بل يفعلون ذلك فيما بينهم، وهذه علامة على اندهاشهم الدائم، وهذا نفسه ما يحدث لنا* عندما نسمع رعدًا أو زلزالاً يهز الأرض، لا نقفز ونصرخ فقط، بل نُسرِع بالهرب الواحد تلو الآخر إلى بيته، وهذا هو ما يفعله السيرافيم، لذلك كل واحد يصرخ نحو الآخر قائلاً: قدوس، قدوس، قدوس”.
المرجع السابق، عظة ٦، ص١٨٠، ١٨١.
وهكذا بعد جولة روحية عميقة وممتعة بين تعاليم آباء الكنيسة عن حالة الاندهاش والانخطاف الروحي التي تحدث لنا في الصلاة، وكيف تصل الصلاة الذهنية بنا إلى الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق وغير المحسوس والفائق الوصف، نصلي دائمًا من كل قلوبنا أن نصل إلى هذه الحالة الروحية الجميلة والطوباوية لنتمتع بلمحات من ملكوت الله ونحن سالكون في هذه الحياة الحاضرة المليئة بالمصاعب والضيقات.