الإيمان الذي حفظه الآباء في مجمع نيقية
إن إدراك آباء مجمع نيقية لمضمون التعليم الرسولي، بالإضافة إلى التقوى الإنجيلية في الاعتراف بالإيمان، قد أدّيا معًا إلى ظهور أسلوب مميَّز للتعبير ترك بصمته الدائمة على ذهن الكنيسة. وكان هذا الأمر واضحًا للغاية في مجمع القسطنطينية عام 381م حيث أُعيد التأكيد بشكل نهائي وحاسم على قانون الإيمان النيقي، مما جعله قانون الإيمان المسكوني الأسمى في العالم المسيحي.
فالتعليم اللاهوتي الخاص بمجمع نيقية لم ينل فقط قوة داخلية وحركة دفع ذاتي في عصره، ولكنه ترسَّخ ضمن الأساسات الإنجيلية للكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية، بحيث صار القاعدة التي انطلقت منها المجامع الأخرى ـ الواحد تلو الآخر ـ لتكمل عملها في القرون اللاحقة، بالرجوع دائمًا إلى “مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر”.
وهكذا كان يُنظر لقانون إيمان نيقية، على أنه المحور الرئيس والمتحكم في الرسالة المتنامية للكنيسة، وكإعلان إنجيلي يؤدي إلى الإيمان بالمسيح، كما كان يُنظر إليه أيضًا بكونه صياغة تعليمية لكبرى حقائق الإنجيل، لذلك يمكن أن يُعتبر كمرشد موثوق به وذو سلطان في قراءة وتفسير الكتب المقدسة.
أي أنه في قانون الإيمان النيقي وبواسطته، عقدت الكنيسة العزم على الدفاع عن جوهر الإيمان والحفاظ عليه، كأمانة مقدسة تسلَّمتها لكي تسلِّمها إلى الآخرين متكاملة إنجيليًّا، وبالتالي تستطيع أن تعطي الله حساب وكالتها على سرائر الله[1].
وكان هذا هو قصد الكنيسة الذي أوضحه ق. أثناسيوس في خطابه إلى أساقفة إفريقيا عندما قال: “ليكن فقط الإيمان، الذي اعترف به الآباء بنيقية، قانونًا ساريًا بينكم، حتى يستطيع الرسول أن يقول عنا أيضًا: “فأمدحكم أيها الإخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء، وتحفظون التعاليم كما سلَّمتها إليكم””[2].
نؤمن …
وبتعبير “نؤمن”، الذي استهلت به الكنيسة الجامعة نص اعترافها ـ في نيقية عام 325م ـ فإنها أوضحت أن ما كان يهمها هو أن تعترف بحقائق الإنجيل الأساسية، داعية إلى الالتزام بالإيمان (نؤمن)، أكثر من مجرد وضع مراسيم (قوانين للإيمان) (δόγματα) مطلوب إطاعتها كأنها قرارات رسولية[3] أو أوامر إمبراطورية[4].
ولكن بالطبع قدَّم آباء نيقية بعض الدلالات التي توضح كيف يجب أن تُفهم المصطلحات التي استخدموها، كما أشاروا أيضًا إلى “الحدود الفاصلة” (ορισθέντα) في اعتراف (قانون) الإيمان، والتي لا يجوز تعديها وإلاّ انحرف المرء إلى ضلال الهرطقة أو إلى خطورة التناقض[5]. وقد حدد الآباء أيضًا عددًا من “القوانين” أو “القواعد” الكنسية التي يجب أن تُراعى من أجل الحفاظ على الوحدة في الكنيسة كلها في تعليمها وتوجيهها المنتظم، وفي تنظيم الخدمة الكنسية[6].
غير أن هذه الأوامر “الناهية” والقواعد الرسمية، قد تم وضعها فقط كملحقٍ لنص قانون الإيمان، ولم تدخل في صلب التعبير عن الإيمان ذاته. وهكذا كان حرص الآباء ينصب كله على الحفاظ على سمة قانون الإيمان “كإعلان إنجيلي” للإيمان الخلاصي، الذي اضطرت الكنيسة إلى وضعه بإلزام من الحق الإلهي الذي وصل إليها من خلال الكتب المقدسة.
نظرة الآباء إلى “الإيمان”
ومن هنا، فإن الأولوية القصوى التي أعطاها مجمع نيقية “للإيمان” على هذا النحو كانت لها دلالة كبيرة للغاية، لأنها تمثِّل التحوُّل الجذري في فهم شعب الكنيسة ـ حيث استنارت عقولهم بحقيقة الله الحي وتحرروا من الأسر في ظلمة التحيُّزات الشخصية والتخمينات والأوهام التي لا أساس لها ـ وهو تحول من أن يكون مركز الفكر في داخل المنطق البشري (έπίνοια) الشخصي (الغريب عن الله)، إلى أن يكون هذا المركز هو في إعلان الله (عن ذاته)، وفي فعل المصالحة الذي تم في يسوع المسيح “كلمته” المتجسِّد داخل حيز الزمان والمكان في عالمنا المخلوق.
هذه الاستنارة بحقيقة الله كانت هي السبب وراء الثقة الراسخة في “إيمان” الكنيسة بالله، لأن الكنيسة قد أدركتها محبة الله الثابتة والأمينة، وقد أمسكت الكنيسة بهذه المحبة من خلال “كلمة حق الإنجيل”[7]، كما أن الله ذاته كان على الدوام يسند الكنيسة ويقويها.
وهذه الأهمية القصوى التي أولاها قانون نيقية، “للإيمان” إنما تعكس الفكر الآبائي الراسخ عن “الإيمان” بأنه اقتناع للعقل لا يقوم على أساس منظور “شخصي” بل على أساس “موضوعي”، وهذا الاقتناع تسنده ـ أبعد من حدوده نفسه ـ “الحقيقة” الموضوعية أو الأقنومية (υπόστασις) التي لله ذاته، كما أعلن لنا عن نفسه في يسوع المسيح. ويعبِّر ق. هيلاري عن ذلك بقوله “في الإيمان، يتخذ الإنسان موقفه على أساس كيان الله ذاته (in substantia dei)”[8].
[1] 1كو1:4؛ انظر كذلك: Athanasius, Ep. Enc. 1.
[2] 1كو2:11؛ انظر كذلك: Athanasius, Ad Afr., 10.
[3] انظر أع 28:15 وما بعدها؛ وكذلك 4:16.
[4] انظر لو 1:2؛ وكذلك أع 7:17.
[5] Athanasius De decretis ـ العنوان اللاتيني المتداول هو ترجمة خاطئة للكلمة : (ο̉ρισθέντα) انظر كذلك Cf. De syn., 5, and Hilary, De Trin., 4.1-7.
[6] بعد مجمع نيقية، أصبح استخدام مصطلح ’قانون‘ يرتبط بالتأديبات الكنسية. وقد استخدم ق. أثناسيوس هذا المصطلح ليشير إلى القوانين التي ترجع إلى الرسل. انظر:
Athanasius Ep. Enc., 1.6 ; Ap. con. Ar., 25, 29, 31f; Hist. Ar., 36, 51.
[7] كو 5:1.
[8] Hilary, De Trin., 1.18