أبحاث

البعد المزدوج للإيمان المسيحي

البعد المزدوج للإيمان المسيحي

البعد المزدوج للإيمان المسيحي

البعد المزدوج للإيمان المسيحي
البعد المزدوج للإيمان المسيحي

إن الإيمان الذي ينشأ بالتزام واعٍ بما أوجبه الله في إعلانه عن ذاته في يسوع المسيح، والمرتبط بأولوية الله المطلقة على كل فكر أو حديث عنه، هذا الإيمان له سمة ذات شقين: الشق الأول يظهر فيه الإيمان بأنه مقيد ومحدد وملتزم بشكل دقيق بما أعلنه “الحق” الإلهي في تجسد “الكلمة” (أي بما أعلنه الابن المتجسِّد)، ومع ذلك يظهر الإيمان في الشق الآخر بأنه غير مقيَّد وغير محدَّد من خلال علاقته بحقيقة الله اللانهائية والتي تفوق كل فهم محدود.

إذن فمن جانب، يتميز الإيمان باليقين الثابت الذي يستمد قوته من حقيقة الله ذاته الكامنة في هذا الإيمان، ولكن من الجانب الآخر هذا الإيمان يتميز بوجود مجال مفتوح دائم الاتساع ليستجيب مع سر الله غير المدرك وطبيعته التي لا تُحدّ[1].

وهذه بلا شك هي القوة المزدوجة التي تكمن في كلمة “نؤمن” (πιστεύομεν) الواردة في اعتراف الإيمان النيقي بالله الآب والابن والروح القدس، وهي التي تحكم أيضًا الطريقة التي ينبغي أن تُفهم بها كل عبارات هذا الاعتراف (القانون)، تلك القوة المزدوجة تعني كلاًّ من التحديد والقصر (exclusiveness) من جهة، بجانب اتساع المجال (open range) من الجهة الأخرى، وهذان الأمران معًا هما اللذان يميزان الإيمان.

 

التحديد والالتزام في الإيمان المؤسس على الحق

      وفي التزامه بالإيمان بإله واحد، الآب ضابط الكل، يمنع قانون (إيمان) نيقية، الإيمان بأي إله آخر غير الله الآب، كما يمنع الإيمان بأي إعلان آخر عن هذا الإله الواحد غير ابنه الوحيد المولود منه.

مما يعبِّر بوضوح عما أكده الكتاب المقدس بجزم، بأن الإيمان بإله واحد يلغي إمكانية وجود أية آلهة أخرى، وأن الإيمان بأن يسوع المسيح هو “الطريق والحق والحياة” يستبعد الوصول إلى الآب بأية طريقة أخرى غير تلك التي قدَّمها الله ذاته في تجسد “كلمته” في يسوع المسيح، أي في “ما هو” يسوع المسيح في كيانه الأقنومي الخاص.

وكان من العسير أن يصبح الأمر هكذا، لو أن الإيمان كان قد تأسس فقط ـ وبشكل شخصي وغير موضوعي ـ على القناعة الداخلية للعقل البشري، وليس كما هو الحال من أنه مؤسس بشكل موضوعي على “حقيقة” الله ـ الملزمة كليًّا ـ المجسمة في المسيح بكونه عطاء الله الذاتي الفريد واتصاله الذاتي الفريد بالجنس البشرى كرب وكمخلِّص.

وفي طاعة غير مشروطة لهذا الإعلان الإلهي، نجد أن الإيمان المسيحي قد تبنى مدخلاً إلى الله يطرح جانبًا أي مدخل بديل، وأصدر حكمًا يستبعد به أي معتقد منحرف، وصدَّق على إقرار “للحق” رافضًا بذلك أي ادعاءات أخرى معتبرًا إياها باطلة. ومن هنا كان الأمر الجوهري في إيمان الكنيسة، هو “الحق” الإلهي الذي أدركته الكنيسة في المسيح وفي إنجيله ولم ولن تفرط فيه.

هذا الحق ليس تحت تصرف وتحكم الكنيسة، ولكنه هو (أي الحق) الذي يحررها ويثبتها في محبة الله، ولهذا فإن الكنيسة لا تستطيع إلاّ أن تعترف بإيمانها بالله، أمام الله، وتقر بغير تحفظٍ بتصديقها ويقينها في “الحق” الخاص بالمسيح وإنجيله، حيث إن هذا الحق هو الذي ترتبط به بصميم كيانها باعتبارها الكنيسة، جسد المسيح الواحد.

إن ما حدث في مجمع نيقية، كان اعترافًا مسكونيًّا بالإيمان، أعلنه الآباء في مواجهة إنكار الهراطقة للوحدة المطلقة بين الله وبين إعلانه عن ذاته في شخص يسوع المسيح. فقانون الإيمان النيقي كان عملاً مهيبًا للكنيسة مجتمعة، وفي حضور الله، وتم بالتزام ثابت “للحق” الخاص بالإعلان الإلهي الذي من الآب بالابن في الروح القدس، وبإدراكٍ تام بأن صميم وجود الكنيسة المسيحية وصحة رسالتها الإنجيلية الداعية للخلاص الإلهي كانت معرضة للخطر.

ولو لم تكن هناك علاقة الوحدة في الجوهر والعمل، بين ما هو الله الآب ـ في ذاته ـ وبين ما هو نحونا في نعمة ربنا يسوع المسيح، لصارت الكرازة بالإنجيل (kerygma κήρυγμα) مفرغة من مضمونها الخلاصي، ولكانت تعاليم (διδαχή) الرسل مجردة من شرعيتها الإلهية. لكن إذا كانت نعمة الرب يسوع المسيح هي بعينها نعمة الله ذاته، وإذا كان في المسيح يسوع العطية الإلهية والمعطي هما واحد، فليس للكنيسة ـ أمانة منها للإنجيل ـ إلاّ أن تكرس نفسها لتأكيد هذه النعمة بشكل إيجابي وأن تستبعد أي احتمال آخر[2].

وكانت هذه هي القضية الحاسمة التي دعا القديس بولس كنيسة غلاطية لمواجهتها في القرن الأول، حيث كانوا مهدَّدين بتعاليم تفسد إنجيل المسيح وتحوله إلى “إنجيل آخر” والذي ليس هو إنجيلاً بالمرة، وولذلك كتب يقول “إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيما”[3]. وكان هذا هو النموذج الرسولي الذي اتبعه آباء نيقية في موقفهم الحاسم، عندما ألحقوا باعتراف الإيمان عبارة تحرم هؤلاء الذين يعلِّمون بأن ابن الله لم يكن منذ الأزل واحداً مع الآب، بل له “جوهر” مختلف عن الذي للآب، فينكرون بذلك لب الإيمان الجامع ذاته[4].

إذن فمجمع نيقية قد عبَّر عن العقائد الرئيسية ـ التي رأى ضرورتها حسب الإنجيل ـ في قانون إيمان، تم الاعتراف به لاحقًا في الكنيسة في كل العالم، وهو القانون الذي يستبعد ببنائه الداخلي أية عقيدة بديلة (نتيجة لاستنتاجات عقلية منحرفة)، في مقابل إعلان الله الوحيد عن ذاته في يسوع المسيح، أو بمعنى آخر هو الذي يمنع أي انحراف هرطوقي عن “الحق”[5].

 

المجال المفتوح والمتسع للإيمان

وهناك وجه آخر لما سبق أن ذكرناه (أي غير الوجه المقيد والمحدد للإيمان)، لأنه في حين يعبِّر قانون الإيمان النيقي عما ينبغي علينا أن نعترف به ـ داخل الإطار العام لالتزام الكنيسة تجاه “حقيقة” إعلان الله عن ذاته في يسوع المسيح ـ فإن كل هذا قد جاء مسبوقًا بكلمة “نؤمن” (πιστεύομεν)، مما يعني أن كل ما تم إقراره في هذا القانون يقع داخل دائرة “الإيمان” ومرتكزًا على “الحقيقة” الموضوعية لله التي تسمو تمامًا فوق كل ما يمكننا أن نفتكره أو نقوله عنها.

وتحديدًا، بما أن هذا الإيمان مستمد من إعلان الله في يسوع المسيح ومؤسس فيه ـ والذي يتطابق مع ما هو الله أزليًّا في جوهره الذاتي ـ فإن الإيمان يكون “مفتوحًا” لما يمكن أن يُعرف، من خلال روح المسيح المُرسل من الآب باسم الابن، ليقودنا على الدوام إلى فهم أعمق “للحق”.

إذن فالإيمان المسيحي في صميم طبيعته يحاول باستمرار استقصاء الأعماق السحيقة التي لا تستقصى “للحق”، والذي تفوق دائمًا ما يمكن أن ندركه من إعلانات هذا الحق لنا؛ غير أن الإيمان الذي يمتد بهذا الشكل إلى أبعد من ذاته بغير حدود، يتسم بالضرورة بأن له رؤية “ذات مجال مفتوح ومتسع” (open range in its focus “σκοπός”) وهذا الإيمان لا يمكن أن يختصر دون أن يتحول إلى شيء آخر.

وقد أكد على مفهوم “مجال الإيمان المفتوح” كل من ق. أثناسيوس وق. هيلاري بالإضافة إلى القادة البارزين الآخرين من شارحي الفكر اللاهوتي النيقي. وأوضح ق. أثناسيوس أنه كان كلما تقدم إلى الأمام في سعيه لإدراك الله، كلما وجد أن معرفة الله تفوق إدراكه، ولم يستطع أن يعبِّر كتابةً عما بدا له أنه يفهمه، وما كتبه كان يقل بكثير حتى عن الظل العابر للحقيقة في ذهنه[6].

فالأمر الوحيد الثابت، وموضوع الإيمان كله، بل وهدف الكتب المقدسة أو “الحق” الذي نؤمن به، كان هو يسوع المسيح ذاته، لأنه في إعلان الله الفريد عن ذاته في المسيح ومن خلال هذا الإعلان، يصبح الإيمان راسخًا في حقيقة كيان الله ذاته، وأيضًا يتوفر للإيمان “الضابط المعياري” الذي يحتاجه في علاقته بما يفوق طاقة الإدراك البشري[7].

إن إيمانًا من هذا النوع هو الذي يسبق ويرشد كل بحث أو تفسير لاهوتي، لأنه يشكل الأساس المعرفي السليم الذي يعطى القوة لكل حجة صحيحة[8].

ولم يكن ق. هيلاري أقل من ق. أثناسيوس في تأكيده حقيقة أنه بالإيمان علينا أن ندرك الله بطريقة لا تحصره داخل الحدود الضيقة لما يمكننا أن نفهمه أو نعبر به عنه، بل إن هذا الإيمان عليه أن يمتد باستمرار ليكون تحت سلطان قدرة الله على إعلان ذاته[9].

إذن فالإيمان بالله ـ في صميم طبيعته ـ يتميز بنوع من “اللانهائية”، لأنه في حين أن الله “ككل” يفوق إدراكنا، فإن ما يسمح لنا بإدراكه عن نفسه لا ينفصل عما هو “ككل”، وبذلك فإن الإيمان يخترق الحدود الضيقة لإدراكنا، وهذا ما يفسر أنه في صميم عملية فهم “شيء” عن الله، فإن الإيمان يجعلنا نعترف بالعجز عن الإدراك الكليّ لله.

وهكذا في حين يفوق الله قدرات العقل البشري بشكل لانهائي، فإنه بالرغم من ذلك يمكن أن يُعرف عن طريق حركة “إيمان”، حيث ينفتح العقل على لانهائية الله وسموه الذي لا يوصف[10].

وهذا يعني أنه من خلال الإيمان تكون لنا صلة بالله بطريقة تمكِّننا من أن نعرف أكثر مما نستطيع أن نعبِّر عنه بشكل واضح بالأفكار أو بالكلام، وأنه في الإيمان ومن خلال الإيمان ننشغل بالله في بحث لا يسبر غوره، لأن “الحق” الذي نسعى إلى معرفته له من العمق ما لا نستطيع أن نصل إلى نهايته، وهذا ما يقلل من قدرتنا على تحديد معرفتنا له في صيغة وافية ملائمة[11].

 

الهرطقات هي التي دفعت الآباء للتعبير ـ بكلام بشري ـ عن “الحق” الذي لا يُنطق به

إن المعنى المعرفي المتضمَّن في هذا المجال “المفتوح والمتسع بلا حدود” للإيمان، كان واضحًا تمامًا أمام لاهوتيي نيقية، وذلك في إدراكهم أن البحث اللاهوتي يُحمل من خلال الإيمان إلى ما هو أبعد من النطاق القاصر للمنطق العادي ـ الذي يُعرف بالأشياء المرئية والملموسة في الواقع المخلوق ـ وحتى إلى ما هو أبعد من العبارات الصريحة في الكتب المقدسة، أي يُحمل إلى “الحق” الإلهي الذي تشير إليه تلك العبارات بغير اعتماد على ذاتها.

ولذا نجد أن مجال الإيمان “المفتوح” قد ترتب عليه ظهور حالة خطيرة، حيث صار الباب وكأنه مفتوح لكل شكل من أشكال النظريات المفتقرة للوقار والتفكير السليم[12].

ولهذا السبب عينه، لم يستطع لاهوتيّو الكنيسة أن يظلوا صامتين، بل في خوف ورعدة وصلاة إلى الله، وجب عليهم أن يسعوا للتعبير ـ على قدر ما تسمح به إمكانيات اللغة البشرية الضعيفة ـ عن “الحق” الإلهي الذي ترشدهم الكتب المقدسة إليه، وحتى ولو كان ذلك لمجرد مقاومة الأثر المدمر لدخول أنماط من الفكر البشري ـ التعسفي والاعتباطي ـ غير المتدين في طريقة “معرفة” الله.

هذا بالتحديد كان الموقف الذي وجد آباء نيقية أنفسهم فيه عندما اضطروا لاستخدام مصطلح “هوموأووسيوس” (ομοούσιος) من خارج الكتاب المقدس ليعطوا تعبيرًا واضحًا ولا لبس فيه عن “الحقيقة” الكتابية والإنجيلية. وكان هذا الحدث الخطير في ذهن ق. هيلاري عندما قال: “نحن مضطرون بسبب أخطاء الهراطقة والمجدفين، لأن نعمل ما هو غير مُباح، وأن نتسلق المرتفعات، وأن نُعبِّر عن الأشياء التي لا يُنطق بها، وأن نتناول أمورًا محظورة.

ومع أنه ينبغي علينا أن ننفِّذ الوصايا من خلال الإيمان وحده، عابدين الآب وساجدين للابن معه وفرحين في الروح القدس، فنحن مضطرون لتوسيع قدرة لغتنا الضعيفة، للتعبير عن الحقائق التي لا تُوصف، كما أننا مجبرون بسبب تجاوزات الآخرين أن نتجاوز نحن في محاولة محفوفة بالمخاطر حين نضع في كلام بشري ما كان يجب أن يُحفظ في عقولنا برهبة مقدسة … إن عدم أمانتهم قد جرتنا إلى هذا الموقف الخطير والمريب حيث قد تعين علينا أن نضع عبارات محدَّدة تذهب أبعد مما قد وصفته السماء عن أمور سامية للغاية ومخفية في الأعماق”[13].

 

[1]  Cf. Clement Alex., Strom., 7.16.

[2]  Athanasius, Con. Ar., 4.12:

“لأن ما يُعطى إنما يُعطى من خلال الابن؛ ولا يوجد شيء ما يعمله الآب إلاّ من خلال الابن؛ ولهذا فإن النعمة محفوظة (ومؤمنة) لذاك الذي يقبلها”.

[3]  غل 9:1.

[4]  Athanasius, Ap. con. Ar., 49;  De decr., 2.5;  Ad Ep. Aeg., 2; Ep., 2.6; Theodoret, Hist. eccl., 1.3;  2.6;  5.10.

[5]  Hilary, De syn., 61-64.

[6]  Athanasius, Ad. mon., 1.1-3.

[7]  Athanasius, Con. Ar., 2.15; 3.28, 35, 58; cf. also my discussion of this in Reality and Evangelical Theology, 1982, pp. 106ff.

[8]  Athanasius, De vit. Ant., 77-80.

[9]  Hilary, De Trin., 1.7-16; 2.5-11; 3.1-6, 18-26.

[10]  Hilary, De Trin., 1.8, 12; 2.5ff, 11.

[11]  Hilary, De syn., 65; De Trin., 3.18; 10.53; 11.44-47; 12.24-37.

[12]  Hilary, De Trin., 2.1-5; 10.51-53.

[13]  Hilary, De Trin., 2.2, 5.

 

البعد المزدوج للإيمان المسيحي