أبحاث

مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2

مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2

مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2

مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2
مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج2

الجزء الأول: مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج1

(ج) محاكمة أوطيخا:

وفي جلسة متأخرة في نفس ذلك اليوم (20 نوفمبر) حضر أوطيخا بنفسه[1] وبدأت محاكمته. وفي حضور النبيل فلورينتيوس راجع المجمع محاضر الجلسات السابقة،[2] ومن خلال تلك المحاضر قُرئت صيغة إعادة الوحدة إلى أن وصلوا إلى الفقرة التي اقتبسها البابا كيرلس من خطاب يوحنا الأنطاكي والتي تؤكد أن المسيح واحد في ذات الجوهر معنا.[3]

وهنا تدخل يوسابيوس وصرخ “هذا هو ما لا يعترف به هذا الرجل الموجود هنا”،[4] وعندئذ سأل فلورينتيوس أوطيخا عن ماهية موقفه،[5] فسارع يوسابيوس قائلاً إن التهمة يمكن إثباتها من كلمات المندوبين وكذلك من شهادة الشهود.[6] ورغم ذلك، سأل فلافيان أوطيخا: هل يعترف باتحاد من طبيعتين، فأجاب الراهب “نعم، من طبيعتين.”[7]

وهنا جعل يوسابيوس السؤال أكثر تحديداً: “هل تعترف يا سيدي الأرشيمندريت، بطبيعتين بعد التأنس، وهل تقول أن المسيح واحد في ذات الجوهر معنا حسب الجسد، نعم أم لا؟”.[8] وعقَّب أوطيخا بأنه لم يأتِ ليجادل في موضوع الإيمان[9] ولكن فقط ليوضح موقفه الخاص، ومن ثم قدَّم أوطيخا ورقة قال أنها تحتوي على اعترافه (بالإيمان) وطلب قراءتها، ولكن تلك الوثيقة لم تؤخذ ولم تُقرأ.[10]

وهنا ينبغي أن ننتبه  إلى الطريقة التي تم بها تجاهل اعتراف أوطيخا بواسطة مَن حكموا عليه بالهرطقة. فعندما أظهر أوطيخا هذا الاعتراف، سأله فلافيان أن يقرأه بنفسه إذا كان يريد، فأجابه الراهب بأنه لن يفعل ذلك.

وعندئذ تساءل فلافيان إذا كان هذا هو اعترافه الخاص، فأجابه بأنه كذلك، وأضاف قائلاً أنه يحتوي على إيمان الآباء مما يعني أنه يشتمل على قانون إيمان نيقية، فعلَّق فلافيان “أي آباء؟”، وأكمل بأنه لا توجد حاجة لأية عبارات مكتوبة. وبهذه الطريقة أغفل المجمع المكاني اعتراف أوطيخا، وقد ذكر أوطيخا في دعواه إلى البابا ليو ـ بعد إدانته ـ أنه كان قد قدَّم للمجمع تصريحاً بالإيمان بالإضافة إلى وثيقة دعوى مكتوبة وشكا من أنها لم تؤخذ منه.[11]

وحينما نوَّه البابا ليو عن هذه الشكوى في خطابه إلى فلافيان، لم يذكر شيئاً عن اعتراف إيمان أوطيخا ولكنه ذكر فقط أن الراهب قدَّم دعوى (مكتوبة) وقد تجاهلها المجمع،[12] غير أن فلافيان في رده على البابا ليو أنكر أن أوطيخا قد قدم أي دعوى، وهكذا تم تجاهل اعتراف أوطيخا.

أما بالنسبة للاعتراف نفسه، فقد أظهر شفارتز أنه لابد أن يكون هو نفس الاعتراف الذي حاول أوطيخا أن يرسله إلى المجمع المكاني بواسطة المندوبين الذين أوفدهم عنه، وأن يكون أيضاً هو نفس الاعتراف الذي قام بتوزيعه في الأديرة للتوقيع عليه. ويمكننا أن نضيف أيضاً أنه كان متضمناً في الدعوى التي قدَّمها أوطيخا لكل من ليو بابا روما ومجمع أفسس الثاني.

ويقدم شفارتز تفسيراً عن سبب عدم قبول المجمع المكاني (بالقسطنطينية) لهذا الاعتراف، إذ يعتقد أن فلافيان ويوسابيوس من المحتمل أن يكونا قد ظنا أن الاعتراف يسجل قبول الراهب لقانون إيمان نيقية، وبالتالي فإن قبول هذه الوثيقة كان سيتطلب بالضرورة قراراً من المجمع حول أرثوذوكسيتها، ومن السياق التاريخي للمجمع كان من غير الممكن أن يصدر قرار يؤيد أرثوذوكسية تلك الوثيقة، كما كان القرار العكسي يمكن أن يؤدي أيضاً إلى تبعات مأسوية أراد فلافيان أن يتجنبها، وهكذا لم تُقبل الوثيقة حتى لا يكون هناك اضطرار للإعلان عن رأيهم حول أرثوذوكسية اعتراف أوطيخا.

وهذا التفسير يمكن اعتباره معقولاً، إلاّ إننا يمكن أن نضيف أيضاً أن قبول اعتراف أوطيخا كان من الممكن أن يجبر المجمع لأن يوضح موقفه: هل يؤيد الرؤية السكندرية أم الرؤية الأنطاكية لإعادة الوحدة عام 433م، وقد رأى فلافيان أنه من الحكمة ألاّ يشرع في هذا الأمر.

ونعود إلى محاكمة أوطيخا، فبعد عدم قبول اعترافه المكتوب، قدَّم أوطيخا تصريحاً شفهياً[13] قال فيه: “هكذا أنا أؤمن وأعبد الآب مع الابن، والابن مع الآب، والروح القدس مع الآب والابن. وفيما يتعلق بحضوره (أي الكلمة) في الجسد، فأنا اعترف أنه حدث من جسد العذراء، وأنه صار إنساناً بالكمال من أجل خلاصنا. وهذا ما أعترف به في حضرة الآب والابن والروح القدس، وفي حضرة قداستكم”.

وبعد ذلك بدأ المجمع في التركيز على سؤال يوسابيوس لأوطيخا وبالتحديد الجزء الثاني[14] منه. وكان سؤال يوسابيوس يتضمن جزئين: هل يعترف الراهب العجوز بـ “طبيعتين بعد الاتحاد”، وهل يقر أن المسيح هو “واحد في ذات الجوهر معنا”. وحاول أوطيخا أن يتملص من الموقف فقال: “إلى هذا اليوم، لم أتحدث عن جسد ربنا بكونه واحد في ذات الجوهر معنا، ولكني أعترف بأن العذراء كانت واحدة في ذات الجوهر (consubstantial) معنا، وأن إلهنا صار متجسداً منها”.[15]

وعقَّب باسيليوس أسقف سلوكيا بأنه إذا كانت الأم هي واحدة في ذات الجوهر معنا، فلابد أن يكون هو نفسه، الذي قيل عنه ’ابن الإنسان‘، واحداً في ذات الجوهر معنا.[16] وهنا ردَّ أوطيخا قائلاً: “فيما تقوله أنت الآن، أنا أتفق في كل شيء”.[17] وحين ركَّز فلورينتيوس على نفس الموضوع، أوضح أوطيخا السبب وراء تردده في الإقرار بأن المسيح واحد في ذات الجوهر معنا وقال: “أنا اعتبرت (جسد المسيح) أنه جسد الله، وأنا لم أقل أن جسد الله كان جسد إنسان.

الجسد كان إنساني، وربنا صار متجسداً من العذراء. ولكن حيث إنه كان من العذراء ـ فإذا كان من المسموح به أن نقول أنه واحد في ذات الجوهر معنا ـ فأنا أقولها.

وفيما عدا هذا، فإنه الله الابن الوحيد، رب السماء والأرض، السيد والملك مع الآب الجالس معه (في المجد) والمعبود معه. فأنا لم أنكر أن الابن هو بالفعل واحد في ذات الجوهر مع الآب. وأنا لم أقل من قبل هذا الكلام (أن المسيح واحد في ذات الجوهر معنا)، ولكنني أقوله الآن لأن قداستكم تقولونه”.[18]

وعندئذ تساءل فلافيان هل أوطيخا يقر بهذا نتيجة الإقناع، أم نتيجة الإيمان بأن هذا هو الحق؟،[19] فأجاب أوطيخا: “إلى هذه الساعة، كنت أخاف أن أقول هذا لأني أعرفه أنه إلهي، ولأني لم أتجرأ أن أفحص طبيعته. أما الآن فحيث أن قداستكم تسمحون وتجيزون هذا (القول)، فأنا أقوله”.[20]

وهنا ذكَّر فلافيان أوطيخا أنه لا يوجد أي فكر جديد في ذلك، وإنما هذا هو تعليم الآباء. وفي ذلك السياق، سأل فلورينتيوس أوطيخا، هل يقر بوحدانية المسيح في ذات الجوهر معنا، وبأنه بطبيعتين بعد الاتحاد،[21] فرد أوطيخا على هذا السؤال غير المتوقع من المندوب الإمبراطوري وقال عبارته الشهيرة: “أنا أعترف أن ربنا كان من طبيعتين ’قبل الاتحاد‘، ولكن ’بعد الاتحاد‘ أنا أعترف به طبيعة واحدة”.[22]

وتظهر هذه المناقشات حول عبارة ’واحد في ذات الجوهر (consubstantial) معنا‘ أن أوطيخا كان لا يرغب في استخدامها، ليس بسبب أنه ينكر حقيقة وكمال إنسانية المسيح، ولا بسبب أنه يرفض الإقرار بميلاده الحقيقي من العذراء، ولكن بسبب أن المسيح بالنسبة له هو الله المتجسد. فالناسوت الذي اتخذه الله الابن في التجسد لم يكن ناسوت ’إنسان‘ (أي ناسوت مستقل قائم بذاته) ولكنه ناسوت الله الابن الذي قبل في نفسه الحالة المتجسدة.

وبكلمات أخرى، كان أوطيخا يحاول بطريقته الخاصة أن يستبعد عقيدة ’الابنان‘ التي كان يخاف أن تكون متضمَّنة في تلك العبارة، وحتى برغم ذلك، فإن أوطيخا بكونه راهباً يفتقر إلى التمرس الكافي في الأمور اللاهوتية، لم يكن قادراً على توضيح هذه الفكرة بصورة صحيحة ملائمة، بل كان كمن يتلمس طريقه ليتمكن من التعبير عنها. فإذا كان هذا هو بالفعل موقف أوطيخا، فقد كان بالتالي يهتم بتأكيد أمر يحتل مكاناً مركزياً في تعليم كل من التقليدين الخلقيدوني وغير الخلقيدوني.[23]

وعلى أية حال، طلب المجمع أن أوطيخا “ينبغي أن يعترف بوضوح بالعقائد التي تُليت الآن، وأن يحرم كل من يؤمن بأي أفكار مخالفة”.[24] وهنا رد الراهب العجوز: “ولكنني لا أجدها بوضوح في الأسفار المقدسة، كما لم يقل الآباء كل هذه الأشياء. لهذا فإذا حَرمت، فالويل لي أن أحرم آبائي”.[25]

وعندئذ صرخ المجمع “ليُحرم هو”، ولكن فلافيان فكان متردداً، وهنا أوضح أوطيخا أنه لن يصرح بأي حرم. وفي هذا التوقيت أصر فلورينتيوس أن يقر أوطيخا بـ ’الطبيعتين‘ و بـ ’الوحدانية في ذات الجوهر معنا‘،[26] فأجاب الراهب: “لقد قرأت المطوَّب كيرلس، والآباء القديسين، والقديس أثناسيوس، وهم يتحدثون عن ’من طبيعتين‘ كإشارة إلى ما قبل الاتحاد، أما فيما بعد الاتحاد والتجسد، فلم يعودوا يقرون بطبيعتين، بل طبيعة واحدة”.[27]

فقال باسيليوس أسقف سلوكيا، إذا لم يكن يقر بطبيعتين، فمن المحتمل أنه يؤمن بالاختلاط والامتزاج؛[28] وهنا أعطى فلورينتيوس حكمه بأن من لا يقر بـ “من طبيعتين” و “طبيعتين”، فليس له إيمان أرثوذوكسي.[29] وعندئذ وقف المجمع وصاح (رداً على حكم مندوب الإمبراطور): “إن الذي يأتي من الإقناع ليس إيماناً.

(ليدم) الأباطرة لسنوات عديدة! (ليدم) الأباطرة الأرثوذكس لسنوات عديدة! إن إيمانهم هذا سيسود إلى الأبد، ومن لا يتفق معه، لماذا ينبغي إقناعه؟”.[30] ومن ثم أعطى فلافيان بكونه رئيس المجمع، القرار النهائي بأن أوطيخا يتبع (آراء) فالنتينوس (Valentinus) وأبوليناريوس،[31] وقام ثلاثون أسقفاً وثلاثة وعشرون أرشيمندريتاً بالتوقيع على هذا الحكم.[32]

 

(د) الأساس اللاهوتي للمجمع المكاني:

كان المجمع في تبنيه للقرار المختص بأوطيخا، قد اتخذ موقفاً لاهوتياً اعتبره هو الموقف الأرثوذوكسي على وجه الحصر. وحينما كان المجمع في بدايته يوضح ذلك الموقف اللاهوتي، ذُكر إيمان نيقية مراراً رغم أن قانون الإيمان نفسه لم يُقرأ، كما لم يُشر المجمع إلى مجمع القسطنطينية عام 381م ولا إلى القانون المنسوب إليه،[33] ولكنه ذكر مرات عديدة مجمع أفسس والبابا كيرلس السكندري.

وقد قُرئت فقط الرسالة الثانية إلى نسطوريوس وصيغة إعادة الوحدة، ولكن لم تُذكر الرسالة التي تحوي الحروم (الرسالة الثالثة) ولا الحروم نفسها. ويتضح من هذا أن المجمع المكاني، بالرغم من إشاراته المتكررة إلى مجمع أفسس وتعليم البابا كيرلس، إلاّ إنه كان يقبل فقط الرؤية الأنطاكية لإعادة الوحدة عام 433م، وهذا هو صميم الموقف الذي كان السكندريون يقاوموه منذ البداية بثبات كبير.

ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أيضاً طلب المجمع من أوطيخا بأنه يتعين عليه الإقرار بـ “طبيعتين بعد الاتحاد”، لأن تلك العبارة لم تكن قد قُننت في الكنيسة حتى ذلك الوقت. وعلاوة على هذا، طلب المجمع من أوطيخا ليس فقط أن يقبل العبارة ولكن أيضاً أن يحرم كل من لا يؤيدها. أي أن وجهة النظر التي كان يتبناها المجمع تتلخص في أنه ينبغي على الجميع قبول التفسير الأنطاكي لإعادة الوحدة.

وقد يكون هذا ـ في الأغلب ـ هو الأساس الذي عليه قبل أوطيخا أن يؤيد تلك العبارة شريطة أن يطلب بابا روما وبابا الإسكندرية منه ذلك.[34] وكما رأينا، كان أوطيخا متردداً حول تأكيد وحدانية المسيح في ذات الجوهر معنا، وحيث إن هذا المفهوم كان داخل صيغة إعادة الوحدة، فمن الممكن أن يكون أوطيخا بتحفظه عليه قد أظهر (للمجمع) عدم رغبته في تأييد تلك الوثيقة.[35]

ولكن المجمع المكاني على الجانب الآخر كان يعتبر صيغة إعادة الوحدة وثيقة ذات مرجعية وسلطة كبيرة. وهكذا يتبين لنا أن الأساس اللاهوتي للمجمع المكاني كان هو نفس الموقف الذي تبناه الجانب الأنطاكي بعد إعادة الوحدة عام 433م.

 

(هـ) ردود الأفعال حول إدانة أوطيخا:

أحدثت إدانة أوطيخا توتراً شديداً في القسطنطينية حيث كان لديه أتباع كثيرون في الدوائر الرهبانية، مما اضطر فلافيان لأن يحرم قادتهم أيضاً.[36] وكان يقف في جانب فلافيان الرهبان الذين تحت قيادة فوستس (Faustus[37] أما بلاط الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني فكان يساند أوطيخا، مما وضع فلافيان في ورطة شديدة.

وكان أوطيخا مقتنعاً ليس فقط بأنه قد أُدين بلا مبرر، وإنما أيضاً بأن الأساس اللاهوتي للمجمع المكاني كان مخالفاً للمعيار الأرثوذوكسي الراسخ. ولهذا فقبل أن ينفض المجمع، أبلغ أوطيخا الأساقفة أنه قد أرسل دعواه إلى مجمع أساقفة كل من روما والإسكندرية وأورشليم وتسالونيكي.[38] ومع ذلك، لم ينتظر أوطيخا قرارات هذه المجامع، ولكنه قدَّم شكوى إلى الإمبراطور يقول فيه أن محاضر جلسات المجمع المكاني قد تم تزييفها.

وأتت الشكوى التي تقدم بها أوطيخا إلى الإمبراطور بنتائجها، وكان هذا هو المتوقع مع وجود مساعدة كريسافيوس كبير موظفي البلاط. فأولاً أمر الإمبراطور بإجراء تحقيق رسمي يوم 13 أبريل 449م لمعرفة هل قد حدث بالفعل تزييف في محاضر جلسات المجمع، كما أمر كذلك بعمل بحث يوم 27 أبريل[39] لتحديد إذا كان فلافيان قد قام بإملاء العبارة التي تتضمن الحكم على الراهب (مقدماً) قبل الجلسة الأخيرة للمجمع.

والأكثر من ذلك، أنه في يوم 27 أبريل نفسه طلب الإمبراطور ثيؤدوسيوس من فلافيان أن يقدِّم اعترافاً بالإيمان ويثبت أرثوذوكسيته،[40] وبالفعل قام البطريرك بهذا الأمر فكانت هذه الوثيقة هي السبب في تعاطف عدد غير قليل من الحاضرين في مجمع خلقيدونية معه.[41]

وثانياً، استجاب الإمبراطور لدعوى الاستئناف التي قدَّمها أوطيخا ولكن بطريقة أخرى، ففي يوم 30 مارس ـ وحتى قبل إجراء التحقيقات ـ كتب الإمبراطور إلى البابا ديسقوروس السكندري يدعوه مع عشرة مطارنة وعشرة أساقفة، إلى مجمع يُعقد في أفسس في الأول من أغسطس.[42] ويذكر هونيجمان (Honigman)[43] أنه كانت هناك بالقطع رسائل مماثلة قد أُرسلت إلى كل المطارنة في أنحاء الإمبراطورية. وأمام هذا الموقف الدقيق، أظهر فلافيان رغبته في تخليه عن منصبه، ولكن الإمبراطور لم يسمح له بذلك.[44]

أما استجابة روما للدعوى[45] التي قدمها أوطيخا فكانت مختلفة تماماً، فقد كتب ليو بابا روما إلى فلافيان يطلب منه محاضر جلسات المجمع المكاني[46] ولكن فلافيان تأخر في الرد عليه،[47] وعندما وصلته المحاضر قام بابا روما بإعداد خطابه اللاهوتي (المعروف بطومس ليو[48]) وأرسله إلى القسطنطينية في 13 يونيو عام 449م.

وكان البابا ليو يتوقع المعارضة التي حدثت (لرسالته)، فبعث بخمس خطابات مع الطومس لأجل نوال الدعم من الأشخاص ذوي الأهمية في العاصمة، ويذكر جالاند أنه لم يصل أي من هذه الخطابات إلى المكان المُرسل إليه.[49] وعلى أية حال، لم تكن خطة ليو تهدف للمصالحة بين الأطراف، ولكنها كانت من أجل تقديم مذكرة لاهوتية للشرق لكي يقبلها على الفور بكل أطيافه، بصرف النظر عن التقليد القديم الذي ينتمي إليه كل منهم.[50]

لذلك فعندما استلم ليو خطاب الدعوة للمجمع من الإمبراطور، رد عليه قائلاً أن الأمر واضح تماماً ولا يوجد احتياج لعقد مجمع، ولكن إرضاءً للإمبراطور عيَّن ليو: الأسقف يوليوس (Julius)، والقس رناتوس (Renatus)، والشماس هيلاري (Hilary) كمندوبين عنه لحضور المجمع،[51] ومن هؤلاء الثلاثة استطاع يوليوس وهيلاري فقط أن يصلا إلى أفسس أما رناتوس فقد مات في طريقه في جزيرة ديلوس (Delos).

واتسمت هذه الأيام بالقلق لدى جميع المنخرطين في هذا الجدال، وفي الحقيقة لم يكن أحد منهم متأكداً من انتصار موقفه. وكما فعل ليو بالكتابة إلى أشخاص ذوي أهمية لضمان دعمهم، أرسل أوطيخا نفسه بعض الخطابات أيضاً كان أحدها إلى بطرس أسقف رافِنَّا (Ravenna) الذي نصح الراهب بأن يقبل تعليم بابا روما، ولكن أوطيخا لم يكن يرغب في الاستماع لنصيحته.

 

[1] المرجع السابق صفحة 138.

[2] المرجع السابق صفحة 139: 475.  

[3] المرجع السابق صفحة 139: 476. وكانت الفقرة التي تمت قراءتها هي: “نؤمن أن ربنا يسوع المسيح، ابن الله الوحيد ، إله كامل وإنسان كامل له نفس عاقلة وجسد. وهو مولود من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت وهو نفسه قد ولد في الأيام الأخيرة لأجلنا ولأجل خلاصنا من العذراء مريم بحسب الناسوت. وهو واحد معنا في الجوهر فيما يخص الناسوت. ولأن الطبيعتين اتحدتا، فنحن نؤمن بمسيح واحد ورب واحد. وحيث إن الله الكلمة أصبح متجسدا وأصبح إنسانا وبسبب هذا الاتحاد الذي بغير اختلاط، فنحن نؤمن أن العذراء هي والدة الإله ’ثيؤطوكس‘. لأنه اتخذ منها مسكنا (هيكلاً) منذ بداية الحبل”

[4] المرجع السابق صفحة 139: 477.

[5] المرجع السابق صفحة 139: 478.

[6] المرجع السابق صفحة 139-40: 479-486. وهذه الفقرات هي سلسلة من العبارات قالها فلورينتيوس ويوسابيوس وفلافيان. وبينما أصر يوسابيوس على أن التهمة قد تم إثباتها فعلاً على المتهم، إلا أن البطريرك وممثل الإمبراطور حكما بأنه يجب الاستماع لأوطيخا فيما يخص هذا الموضوع.

[7] سأل فلافيان: “قل، هل تؤمن باتحاد من طبيعتين؟” فرد أوطيخا: “نعم من طبيعتين”

[8] المرجع السابق صفحة 140: 490.

[9] المرجع السابق صفحة 141: 498.

[10] المرجع السابق صفحة 141: 499-503.

[11] Der Prozess Des Eutyches, op. cit., p. 34.

[12] ACO. II, i, p. 47.

[13] المرجع السابق صفحة 141: 505.

[14] المرجع السابق صفحة 142: 511.

[15] المرجع السابق صفحة 142: 516.

[16] المرجع السابق صفحة 142: 519.

[17] المرجع السابق صفحة 142: 520.

[18] المرجع السابق صفحة 142: 522.

[19] المرجع السابق صفحة 142: 523.

[20] المرجع السابق صفحة 143: 524.

[21] في يوم 13 إبريل عام 449م عندما تم التحقيق في وقائع جلسات المجمع (انظر صفحة ) أنكر فلورينتيوس أنه قد سأل هذا السؤال على الإطلاق. (المرجع السابق صفحة 171: 772) كما اشتكى أيضا أنه في موضعين آخرين نُسبت إليه أقوال لم يقلها. (المرجع السابق صفحة 172: 776، 778).

[22] المرجع السابق صفحة 143: 527.

[23] انظر صفحة وما يليها.

[24] المرجع السابق صفحة 143: 534.

[25] المرجع السابق صفحة 144: 535.

[26] هذه أيضا مناسبة أخرى من المناسبتين اللتين ذكرناهما سابقاً (في المرجع رقم 72) والتي عندما تمت قراءتها يوم 13 إبريل عام 449م، أنكر فلورينتيوس أنه قال هذه الكلمات.

[27] المرجع السابق صفحة 144: 542. وإذا اتفقنا على أن هذه العبارة هي بالفعل مضللة، فإننا ينبغي أن نضيف أيضاً أنها تدل كذلك على عدم مقدرة الرجل على مناقشة الأمور اللاهوتية.

[28] عندما تمت قراءة هذا التقرير في أفسس عام 449م، أنكر باسيليوس أنه قال هذه الكلمات (أنظر المرجع السابق صفحة 144: 546 وما يليها).

[29] المرجع السابق صفحة 145: 549. هذه الكلمات أيضا أنكرها فلورينتيوس في وقت التحقيق يوم 13 إبريل عام 449م.

[30] المرجع السابق صفحة 145: 550.

[31] المرجع السابق صفحة 145: 551.

[32] المرجع السابق صفحة 145-147: 552.

[33] يجب أن نؤكد على هذه الحقيقة في مواجهة  التعليق الذي  قاله هونيجمان اعتماداً على عبارة قالها ثيؤدور لكتور (Theodore Lector) بأن “مجمع أفسس عام 449م قد تجاهل عن عمد ذكر مجمع القسطنطينية عام 381م”. انظر:

(Juvenal of Jerusalem , op., cit., pp. 236-237 and n. 30 on p. 237)

[34] Jalland, op. cit., p. 216-217.

[35] من وجهة النظر السكندرية، لم تعتبر صيغة إعادة الوحدة وثيقة إيمانية يمكن وضعها (في نفس المستوى) مع قرارات المجمع. ولكنها كانت بالأحرى بيان بين كيرلس السكندري ويوحنا الأنطاكي تعبر عن إعادة وحدتهما بعد أن قبل الأخير مجمع أفسس. ومن الواضح أن تلك كانت نفس وجهة النظر التي يتمسك بها أوطيخا.

[36] تم إعادة هؤلاء الرجال مرة أخرى في مجمع أفسس عام 449م. أنظر:

(ACO II, i, pp. 187-189: 887-905).

[37] كان فوستس (Faustus) هو أحد الرجال في القسطنطينية الذين بعث إليهم  ليو بابا روما برسالة يوم 13 يونيو عام 449م ليوصيهم بالطومس.

[38] Jalland, op. cit., p. 216-217.

[39] للرجوع لأحداث هذين التحقيقين انظر: (ACO II, i, pp. 148-179).

وقد ذكرهما شفارتز في: (Der Prozess Des Eutyches, op. cit.,)، وأورد جالاند الحادثة في (op. cit., pp. 223f)، كما ذكرها هونيجمان في (op. cit., p. 231). وملاحظة جالاند بأن التحقيقات التي جرت يومي 13 و27 إبريل لم تنجح لذلك كانت هناك ضرورة لعقد مجمع، تتناقض مع حقيقة أن ثيؤدوسيوس كان قد أعلن ترتيب عقد المجمع في يوم 30 مارس.

ومرة أخرى نقول أن التحقيقات لم تفشل كما يزعم جالاند، لأن أوطيخا نفسه وفلورينتيوس وباسيليوس أسقف سلوكيا قد شككوا في دقة محاضر الجلسات في مواضع محددة.

فعلى سبيل المثال أكد أوطيخا أن تلك المحاضر لم تحتوي على عبارتين من أقواله وهما بالتحديد: الأولى الخاصة بمناشدته لمجمع أساقفة روما والإسكندرية وأورشليم وتسالونيكي والثانية الخاصة باستعداده لقبول عبارة “طبيعتين بعد الاتحاد” إذا كان أساقفة روما والإسكندرية يسمحون له بذلك. وذكر فلورينتيوس أنه قد نُسبت إليه كلمات لم يقلها في ثلاثة مواضع. كما اشتكى باسيليوس أيضا أن أحد عباراته قد نُقلت عنه بطريقة خاطئة. وفي السياق التاريخي لتلك التحقيقات، من الممكن أن تُؤخذ هذه الحقائق كدليل في مصلحة أوطيخا.

[40] انظر اعتراف فلافيان في: (ACO II, i, p. 35:1). وقد أوردنا فقرة منه في المرجع رقم 37 في صفحة 

[41] انظر صفحة وما يليها

[42] للإطلاع على هذا الخطاب انظر: (ACO II, i, pp. 68-69).

[43] Honigman, op. cit., p. 232.

ويتضح هذا من قرار ديسقوروس في بداية مجمع عام 449م بأن يُقرأ خطاب الامبراطور  الذي أُرسل إلى كل واحد من المطارنة. انظر المرجع السابق صفحة 82: 80

[44] ويذكر نسطوريوس هذه الحادثة في كتابه: (Bazaar, op. cit., pp. 324f). وقد أشار إليها جالاند في (op. cit., p. 223).

[45] للاطلاع على الالتماس الذي قدمه أوطيخا إلى ليو بابا روما أنظر شفارتز:

(Der Prozess Des Eutyches, op. cit., pp. 31-34)

وقد ناقش جالاند تلك الوثيقة في:(Jalland, op. cit., pp. 218f)

[46] لقد أورد شفارتز خطاب ليو في: المرجع السابق صفحة 46-48

[47] للاطلاع على الخطابين اللذين أرسلهما فلافيان إلى ليو انظر شفارتز: المرجع السابق صفحة 38-40 وصفحة 40-44. وهما مذكوران أيضاً في:

(ACO. II, i, pp. 36-37: 3 and pp. 38-40: 5)

[48] للإطلاع على طومس ليو مع الفقرات الآبائية التي تؤيده: (ACO. II, i, pp. 10-12: 11)

[49] Jalland, op. cit., pp. 228f.

[50] في الحقيقة لم يكن لدى ليو أية معرفة فعلية بالتقليد اللاهوتي السكندري من ناحية أو بطبيعة الصراع الدائر بين الجانبين في الشرق من الناحية الأخرى.

[51] انظر خطاب ليو (إلى الإمبراطور) في: (ACO. II, i, p. 45: 10)

مجمع القسطنطينية المكاني 448م وعلاقته بمجمع خلقيدونية ج1

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)