أبحاث

ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1

ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1

ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1

ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1
ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1

الجزء الثاني: ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج2

1. بعض الملاحظات التمهيدية:

كان هناك في القسطنطينية ـ كما في المدن الكبيرة الأخرى بالإمبراطورية ـ حزبين ميدانيين، حزب ’الزُرق‘ (Blues) وحزب ’الخُضر‘ (Greens)، وكان حزب ’الزُرق‘ بكامله يؤيد الموقف الخلقيدوني، أما حزب ’الخُضر‘ فكان بصورة أو بأخرى يتعاطف مع الموقف غير الخلقيدوني. وكان وجود هذين الحزبين في العاصمة إنما يدل على أنه حتى ذلك الوقت لم يكن هناك قبول كامل لمجمع خلقيدونية من الكنيسة كلها. وقد ناضل كل حزب من الاثنين في سبيل وجهة نظره بحماس كبير كلما حانت له الظروف لذلك.

ففي أثناء فترة حكم الإمبراطور أناستاسيوس قام حزب ’الزرق‘ بشغب ضد الإمبراطور ولكنه نجح في التعامل مع الموقف. أما في فترة حكم الإمبراطور جوستنيان فقد اشترك حزب ’الخضر‘ في ثورة ضد الإمبراطور عام 532م، وكان الإمبراطور ينوي أن يتحاشاهم ولكن الإمبراطورة أشارت عليه باتخاذ إجراءات حاسمة ضد المتمردين لكي يخمد تلك الثورة.

ومات الإمبراطور أناستاسيوس في ليل يوم 8 يوليو عام 518م[1] عن عمر يصل إلى 88 سنة. ولم يكن أناستاسيوس قد دبر أي ترتيب لتعيين خليفة بعده، ومع ذلك أُعلن في اليوم التالي لوفاته تنصيب يوستين الأول (Justin I) إمبراطوراً للبلاد. ويرى رونسيمان (Runciman) أن “الخداع الماكر غير الشريف أصعد على العرش ضابط جاهل، هو يوستين الأول”.[2]

وبهذا الاختيار أصبح لحزب ’الزرق‘ اليد العليا في الدولة، كما ابتدأ عصر جديد في التاريخ البيزنطي ظهر فيه ما يُسمى بكنيسة الدولة أو الكنيسة الرسمية (state Church) في الإمبراطورية ـ تمشياً مع الخطة التي كان قد وضعها كل من ماركيان و بولخريا في مجمع خلقيدونية ـ وصار تعريف الإيمان الخلقيدوني هو ميثاقها الأرثوذكسي العظيم (magna carta).

ومن الجدير بالذكر أن السلالة الحاكمة الجديدة قامت بتبني هذه الخطوات ليس من قبيل إدراكها لخطأ الاعتراضات الكنسية على مجمع خلقيدونية عام 451م، ولكن من قبيل الضرورة التي رأوها في سبيل تعزيز طموحاتهم السياسية.

وكان جوستينيان، المخطط الرئيسي للأسرة الحاكمة الجديدة، متلهف لأن يعيد الغرب ـ الذي كان قد أصبح تحت حكم القوطيين (Goths) والوندال (Vandals) ـ مرة ثانية إلى الإمبراطورية، ومن أجل تحقيق هذا الهدف كان جوستينيان يحتاج إلى تأييد البابا الروماني الذي كان تمسكه المتشدد بخلقيدونية عاملاً حاسماً في تحديد سياسة جوستينيان الكنسية.

ولم تكن لدى العائلة السابقة (عائلة ليو) ـ التي وصلت إلى السلطة بعد موت ماركيان ـ مثل تلك الطموحات، ومن ثم كان أعضاؤها مستعدين لرفض مجمع خلقيدونية وتوحيد الجزء الشرقي من الإمبراطورية. ومنذ عام 533م، بدأ جوستينيان في مخططه لإخضاع الغرب،[3] واستغرق تحقيق هذا الهدف أكثر من عشرين عاماً من الزمن، حيث دخل في حرب من أكثر الحروب خراباً تحت قيادة القائد بليساريوس (Belisarius) ومن بعده القائد نارسس (Narses).

وفي عام 554م استطاع جوستينيان أن يعيد كل من إيطاليا ودالماتيا (Dalmatia) وصقلية (Sicily) إلى داخل حدود الإمبراطورية، ولكن هذا الأمر لم يتم إلا على حساب حياة الملايين من البشر، وكم لا يُحصى من الذهب، بالإضافة إلى معاهدة مخزية مع فارس (Persia) تم فيها التعهد بدفع مبلغ هائل من المال في صورة جزية سنوية.

وحتى بعد كل هذا التبديد الإجرامي للبشر وللموارد، ما لبث الجزء الغربي من الإمبراطورية ـ والذي شعر جوستينيان بالرضا بعد ضمه إلى أراضي الإمبراطورية ـ أن انفصل في غضون عامين بعد موت الإمبراطور، ولم يذرف أحد دمعة واحدة على كل ما فُقد.

2. الإمبراطور يوستين الأول:

لقد كانت هناك في الحقيقة مجموعة من الأمور لها آثارها السلبية على الشئون الكنسية في الشرق.

أولاً، تنصيب الإمبراطور يوستين الأول بمساندة حزب ’الزرق‘.[4]

ثانياً، ولع ابن أخته ـ الذي كان يوجِّه خاله منذ البداية ـ بفكرة إعادة بناء إمبراطورية قسطنطين العظيم.

ثالثاً، لم يكن يوجد لأي أحد من رجال الكنيسة ـ بما في ذلك بابا روما والبطريرك ساويروس الأنطاكي ـ رؤية عامة للكنيسة (ككل) بخلاف رؤيته الخاصة المحدودة.

وقد ظهر الإمبراطور العجوز ـ بتحريض من الجانب الخلقيدوني[5] ـ كمؤيد لا يلين لمجمع خلقيدونية وطومس ليو، وتبنى إجراءات قاسية وصارمة من أجل تقوية الخلقيدونيين في كل مكان في الشرق ومن أجل قمع الحركة غير الخلقيدونية. ولكنه استبعد مصر من هذه الإجراءات لأنها كانت تعتبر مخزن القمح الخاص بالعاصمة، لذلك هرب الكثير من قادة الكيان المعارض لمجمع خلقيدونية إلى هذه المنطقة.

ويذكر (Chronicon Anonymum) قائمة بأسماء أربعة وخمسين أسقفاً من كيليكية وكبادوكيا وسوريا وآسيا كان عليهم إما أن يتعرضوا للنفي أو أن يتخفوا ويختبئوا.[6] وبحسب مصدر يوحنا أسقف أفسس، يقدِّم ميخائيل السرياني نفس قائمة الأساقفة ويضيف عليها أسماء عدد كبير من قادة الرهبان،[7] وقد تعرض معظم هؤلاء الرجال لتجارب شديدة وماتوا في أرض غريبة.

وكان من بين أولئك الرجال بولس أسقف الرها (Edessa) الذي غيَّر موقفه بعد فترة وجيزة وانضم للجانب الخلقيدوني، وأصبح مضطهداً قاســياً للمــعارضين لمجمع خلقيدونية. وقـد قدَّم كل من (Chronicon Anonymum) وميخائيل السرياني بياناً تفصيلياً عن نشاط ذلك الرجل.

ويُذكر عن بولس هذا أنه قد دعا الشاعر السرياني العظيم يعقوب السروجي لمناقشته من أجل تغيير موقفه الكنسي، ولكن الرجل صلى إلى الله لكي لا يدعه يرى بولس بعد أن انضم إلى الجانب الخلقيدوني، فمات يعقوب السروجي بعد ذلك بيومين فقط.[8] وأدت جهود بولس أسقف الرها في فرض مجمع خلقيدونية على الرهبان والراهبات والشعب في منطقته إلى حدوث حالة من الاضطراب والمعاناة، ولكنهم على الرغم من ذلك ظلوا على رفضهم لقبول المجمع.[9]

وحيث إن الإمبراطور يوستين لم يتدخل في شئون المؤسسة الدينية بمصر، فقد صار بطريرك الإسكندرية مطلق الحرية في التمسك بعقيدته غير الخلقيدونية، بل استطاع حتى أن يوفر ملاذاً لكثير من القادة الذين فروا من مناطق أخرى في الشرق. وكان البطريرك أثناسيوس* هو الذي خلف البابا بطرس مُنجوس على كرسي الإسكندرية، وجاء بعده البطاركة يوحنا الأول ويوحنا الثاني وديسقوروس الثاني.

وحين تقلد الإمبراطور يوستين الأول السلطة، كان البطريرك تيموثاؤس الثالث الذي خلف البابا ديسقوروس الثاني عام 517م هو الذي يجلس على كرسي الإسكندرية. أما في القسطنطينية فقد صار يوحنا بطريركاً بعد البطريرك تيموثاؤس قبل أن يصبح يوستين إمبراطوراً، وكان يوحنا قد وقَّع وثيقة يدين فيها مجمع خلقيدونية،[10] بل وقام كما يذكر هور (Hore) باضطهاد الجانب الخلقيدوني.[11]

ولكن يبدو أن يوحنا رجع عن توجهه وأذعن للجانب الخلقيدوني بعد تغير الإمبراطور ـ كما فعل أناتوليوس عام 450م ـ وحصل على لقب ’البطريرك المسكوني‘.[12] وهكذا أصبحت كل الأمور تحت السيطرة، لذلك وجَّه الإمبراطور اهتمامه إلى تسوية الخلاف والمصالحة مع روما.

ولم يكن ذلك بالأمر العسير لأن الإمبراطور كان مستعداً لعمل أي شيء من أجل تحقيق هذا الهدف، وفي 28 مارس عام 519م تمت إعادة العلاقات على أساس وضع مهين للغاية طالب به البابا هورميسداس (Hormisdas) وهو أن يتم حذف أسماء البطاركة أكاكيوس وفرافيتا وإفميوس وتيموثاؤس وكذلك الأباطرة زينو وأناستاسيوس من الدبتيخا. وكان على البطريرك يوحنا أن يوافق على هذا الطلب ولكنه مات في عام 520م، وخلفه البطريرك إبيفانيوس (Epiphanius) الذي جلس على كرسي القسطنطينية حتى عام 535م وكان مؤيداً للمجمع الخلقيدوني.

وكان جلوس الإمبراطور يوستين الأول على العرش قد أثر على البطريرك ساويروس الأنطاكي بصورة سلبية، ففي خلال الأسبوع الأول الذي تلا هذا الحدث جرت أمور كثيرة في القسطنطينية حيث قامت زوجة يوستين الإمبراطورة لوبوسينا (Lupucina) بإبلاغ البطريرك يوحنا أنه إذا لم يقبل الأربعة مجامع فإنها لن تذهب إلى الكنيسة ولن تقبل الشركة من يديه،[13] كما صار للرهبان المؤيدين لخلقيدونية الحرية في تنظيم حركة معارضة ضد البطريرك ساويروس.

وبحلول يوم الأحد التالي لتولي يوستين السلطة كان يوحنا قد أعلن إذعانه للجانب الخلقيدوني، وتم عقد مجمع مكاني يوم 20 يوليو (عام 518م) بحضور 43 أو 44 أسقفاً وقرروا عزل البطريرك ساويروس،[14] رغم أن اختصاص المجمع وأهليته كانا في الحقيقة أقل من أن يتخذ قراراً مثل هذا ضد بطريرك أنطاكيا. وأعلنت أورشليم على الفور وبطريقة هادئة قبول المجامع الأربعة، وكذلك فعل إبيفانيوس أسقف صور نفس الأمر في يوم 16 سبتمبر.

وقيل أن الإمبراطور نفسه قد أمر بالقبض على البطريرك ساويروس وقطع لسانه،[15] فسافر البطريرك ساويروس إلى الإسكندرية حتى لا يعطي الفرصة للإمبراطور للاستمتاع بقتله، ووصل إلى هناك يوم 29 سبتمبر. وقضى البطريرك ساويروس بقية حياته في مصر، باستثناء الفترة الوجيزة التي زار فيها القسطنطينية استجابة للطلب المتكرر من الإمبراطور جوستينيان في منتصف الثلاثينات من القرن السادس.

وطوال هذا الوقت استمر البابا سايروس يدافع عن الموقف اللاهوتي للكيان غير الخلقيدوني ككل، كما ظل على اتصال بكنيسته في سوريا من خلال الخطابات وزيارات الأصدقاء المؤتمنين.

وقامت السلطات بتعيين شخص آخر ليحل محل البطريرك ساويروس (بعد عزله) هو بولس الملقب بـ ’اليهودي‘ (Paul the Jew)، الذي كان موظفاً مدنياً في القسطنطينية. وقام بولس هذا باضطهاد الموالين للبابا ساويروس في سوريا بقسوة استحق معها اللقب الذي أُطلق عليه. ورغم أن الإجراءات التي تبناها قد تبدو ضرورية بالنسبة لشعبية البطريرك ساويروس في تلك المنطقة، إلا إن الإمبراطور نفسه شعر أن بولس قد تصرف بأكثر مما ينبغي فأُجبر على الاستقالة في عام 521م.

وجاء بعده إفراسيوس (Euphrasius) الذي جلس على الكرسي حتى عام 526م ثم مات في حادثة زلزال.[16] وتم تعيين الكونت إفرايم (Ephraim) خلفاً لإفراسيوس، وشغل المنصب حتى عام 545م، وقد فعل إفرايم كل ما في وسعه ليوطد ويرسخ مجمع خلقيدونية في منطقة سوريا.

3. اضطراب في المعسكر غير الخلقيدوني:

وبينما كان الإمبراطور يوستين يطبق سياسته الدينية الرامية إلى فرض مجمع خلقيدونية بالقوة في كل مكان في الشرق، نشأ خلاف في الجانب غير الخلقيدوني بين البطريرك ساويروس ويوليان أسقف ’هاليكارنيسوس‘ (Halicarnassus).[17]

(أ) يوليان أسقف ’هاليكارنيسوس‘ (Halicarnassus):

كان يوليان واحداً من الأساقفة الذين تم إبعادهم عن كراسيهم في فترة حكم الإمبراطور يوستين الأول بسبب معارضته لمجمع خلقيدونية. وكان ليوليان بعض النفوذ وسط الفريق الذي ينتمي إليه بسبب تقدمه في العمر، وقد قام بتأليف كتاب عن شخص المسيح وأرسله إلى البطريرك الأنطاكي في منفاه مع خطاب منه،[18] حيث كان متأكداً من قبول البطريرك ساويروس للأفكار الواردة في هذا الكتاب.

وأشار يوليان في هذا الخطاب إلى أنه استناداً إلى ثلاث فقرات من كتابات البابا كيرلس، فإن بعض الناس يؤمنون بأن جسد ربنا كان قابلاً للفساد (corruptible[19] فعلى سبيل المثال كتب ق. كيرلس إلى سكسينسوس (Succensus) أسقف ديوقيصرية يقول: “فالجسد بعد القيامة كان هو نفس الجسد الذي تحمل الآلام، على الرغم من أنه لم يعد بعد له نفس الضعفات البشرية وغير قابل للفساد”.

وفي رسالته إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس أشار ق. كيرلس إلى نفس الأمر بقوله: “إنها أعجوبة ومعجزة أن الجسد الذي هو قابل للفساد بحسب الطبيعة، قام ثانية بغير فساد”، ومرة أخرى ذكر ق. كيرلس في كتابه السابع والستين عن العذراء ’والدة الإله‘: “إن جسد ربنا لم يكن بأي حال من الأحوال خاضعاً للخطية التي تخص الفساد، ولكنه كان قابلاً للموت والدفن الحقيقي، وهو قد أبطله فيه (أي أبطل الموت في جسده)”.

وقد أكد يوليان أن جسد ربنا كان غير قابل للفساد سواء قبل القيامة أو بعدها، وحيث إن الفقرات المأخوذة عن البابا كيرلس تتعارض مع هذه الفكرة فقد اعتبر أن ذلك بسبب ’خطأ في النساخة‘. وحاول يوليان أن يبين في كتابه أن جسد المسيح كان على الدوام غير قابل للفساد (incorruptible)، وقد قام بإرسال نسخة من الكتاب إلى البطريرك ساويروس ليحظى بموافقته.

وتأخر البطريرك ساويروس في رده على الكتاب لكي لا يُظهر صديقه وزميله كهرطوقي، ولكنه عاد وخشي أن يتولد انطباع بأن أفكار يوليان هي انعكاس لتعليم الكنيسة[20] ـ الذي كان ساويروس يهتم بالحفاظ عليه ـ ولذلك كتب ساويروس رده[21] بعد بعض الوقت وأظهر أن أفكار يوليان غير مقبولة لديه، وأن أناساً آخرين في القسطنطينية كانت لديهم أفكاراً مماثلة وقد قام هو نفسه بدحضها. ولم يعجب يوليان برد البطريرك ساويروس فكتب خطاباً ثانياً،[22] وقام بنشر كتابه، مما اضطر ساويروس إلى القيام بتفنيده.

واليوليانية ـ مثل الأوطيخية ـ تعبر عن نزعة ما في العبادة المسيحية الصوفية، حيث تكمن الفكرة التي وراء كلتيهما في التأكيد على ألوهة المسيح، ليس من خلال تجاهل إنسانيته ـ وهو المفهوم الخاطئ الشائع عن تلك البدعتين ـ ولكن من خلال رؤية نوع من الاختلاف في إنسانية المسيح الحقيقية والكاملة عن إنسانيتنا.

فإنسانية المسيح بحسب مفهومهم تختلف عنا نحن البشر في كونها اتحدت منذ اللحظة الأولى لنشأتها في رحم العذراء بالله الابن بغير انفصال ولا انقسام، ولذلك فينبغي أن تكون تلك الإنسانية التي اتحدت بالله القدوس هي الآخرى مقدسة (ومختلفة عنا). وكان أوطيخا قد حاول أن يؤكد أنه بسبب أن المسيح هو الله، وبرغم أنه كإنسان وُلد من أم إنسانية، فلا يمكن أن نتكلم عنه بكونه واحد معنا في الجوهر (consubstantial with us).[23]

أما يوليان فقد رأى أن الفرق بين المسيح كإنسان وبيننا (نحن البشر) هو في عدم اتصال المسيح الجذري بالسقوط (والفساد) الخاص ببشريتنا، وهذا ما جعل تعليمه جذاباً في تقدير كثير من الناس في كلا الجانبين.

ومثلما حدث مع أبوليناريوس في القرن الرابع، استطاع يوليان في القرن السادس أن يحظى بتأييد الكثيرين لوجهة نظره، ويحفظ لنا ميخائيل السرياني قصة انضمام بروكوبيوس (Procopius) أسقف أفسس إلى الفريق اليولياني في حوالي منتصف القرن السادس.

وعلى الرغم من أن يوليان نفسه لم يكن يريد أن يقيم أساقفة آخرين بدون حضور أسقفين معه ليكتمل النصاب القانوني اللازم، فقد اضطره أنصاره أن يقيم خلفاً له وهو على فراش الموت بوضع يده على أحد الأشخاص، وقام هذا الشخص برسامة عشرة أساقفة وأرسلهم إلى الأجزاء المختلفة من الشرق لنشر تعليم يوليان.[24] ومن الجدير بالذكر أن الإمبراطور جوستينيان نفسه قد تبنى الفكر اليولياني وآمن به قرب نهاية حياته.[25]

ونجح أتباع يوليان في نشر أفكارهم في أرمينيا بل واستطاعوا أن يكسبوا تأييد الكنيسة هناك إلى جانبهم. ولم تكن الكنيسة في أرمينيا ضالعة في الخلاف الدائر بين المؤيدين والمعارضين لمجمع خلقيدونية، فمنذ أوائل القرن السادس قررت كنيسة أرمينيا في مجمع دوين (Dwin) أن تتبرأ من مجمع خلقيدونية وطومس ليو، ويذكر ساركيسيان[26] (Sarkissian) أنه قد تكرر اتخاذ نفس هذا القرار في المجامع اللاحقة للكنيسة.

ولكن كان للموالين للفكر اليولياني أثرهم على كنيسة أرمينيا،[27] وعلى الرغم من ذلك لدينا سجل لمجمع عُقد في أرمينيا عام 726م أوقف هذا التوجه، وقد حضر ذلك المجمع ستة من الأساقفة السريان، وكبير أساقفة أرمينيا مع واحد وعشرين من الأساقفة المساعدين وقادة رجال الكنيسة، واتخذ المجمع قراراً  بالابتعاد عن الانحياز للتعليم اليولياني، واعتبار البطريرك ساويروس وبقية الآخرين معه قديسين في الكنيسة.

[28] وكانت هناك أيضاً كنيسة يوليانية في سوريا، وكان لتلك الكنيسة في نهاية القرن الثامن رئيس يُدعى جبرائيل، وكان يريد إعادة الوحدة بين كنيسته والكيان الكنسي السرياني. وفي أيام البطريرك كرياكوس (792م – 817م) عُقد مجمع للكنيسة السريانية عام 798م لمناقشة أمر تلك الوحدة، وعلى الرغم من أن البطريرك كان يرغب في تقديم كل التسهيلات الممكنة، إلاّ أن بعض الأساقفة السريان لم يكونوا بهذا التساهل مما أدى في النهاية إلى فشل ذلك الأمر.[29]

(ب) خلاف في الإسكندرية:

وكان للجدال اليولياني أثره السلبي على الكنيسة في مصر، فقد استطاع يوليان أن يضم مجموعة من الانفصاليين وعدد كبير من الناس والرهبان في القطر المصري إلى وجهة نظره، وعندما رقد البابا تيموثاؤس الثالث* في 7 فبراير عام 535م، استطاع الموالون ليوليان أن يقيموا مرشحهم قيانوس (Gaianus) بطريركاً في 10 فبراير، غير أن الفريق الذي كان في جانب البطريرك ساويروس قام بسيامة ثيؤدوسيوس# خلفاً لتيموثاؤس الثالث.

واستطاع قيانوس أن يشغل الكرسي حتى 24 مايو إلى أن تم طرده بأوامر من الإمبراطور جوستينيان، وقُبض عليه وسط اضطراب من مؤيديه، وراح في هذه الفوضى ـ كما يذكر ميخائيل ـ  ثلاثة آلاف نفس من المصريين. وفي أثناء تولي قيانوس لمقاليد الأمور كانت هناك قوة عسكرية إمبراطورية تقوم بحراسة البطريرك ثيؤدوسيوس، وبعد طرد قيانوس أُعيد البابا ثيؤدوسيوس إلى الكرسي مرة أخرى.

ولم يمر شهر بعد ذلك حتى كان البابا ثيؤدوسيوس قد عقد مجمعاً أعلن فيه أن مجمع نيقية ومجمع أفسس وحروم البابا كيرلس الإثني عشر كانت بإلهام إلهي، وأن مرسوم الإتحاد ’الهينوتيكون‘ هو وثيقة تهدف إلى استبعاد مجمع خلقيدونية وطومس ليو من الكنيسة.[30] وقد أرسل المجمع خطاباً إلى البطريرك ساويروس معبراً عن اتفاقه معه، فرد البطريرك ساويروس في 25 يوليو موافقاً على الموقف الذي تبناه المجمع ومؤيداً للبابا ثيؤدوسيوس في مساندته له ضد يوليان.

وكان الإمبراطور جوستينيان يأمل في أن يرد البابا ثيؤدوسيوس على حمايته له بقبوله لمجمع خلقيدونية، وعندما لم يتحقق هذا الأمر، طلب الإمبراطور من البابا ثيؤدوسيوس وأساقفته أن يسافروا إلى القسطنطينية، فذهبوا بالفعل في ديسمبر عام 536م، ولكن في نفس الوقت قام البطريرك بوضع الأساس الذي يضمن الاستمرار القوي للتقليد غير الخلقيدوني في مصر من خلال رسامة الأساقفة وترتيب الكنيسة بشتى الطرق.

وقضى البابا ثيؤدوسيوس في العاصمة حوالي سنة، وأدى رفضه التام لقبول مجمع خلقيدونية لأن يأمر جوستينيان بأن يؤخذ البطريرك إلى ثراكي (Thrace) ويُسجن في حصن (Derkos). ولم يبقى البابا ثيؤدوسيوس هناك طويلاً حيث أحضرته الإمبراطورة مرة أخرى إلى العاصمة وعاش مع أعوانه تحت الحراسة في قصر هورميسداس (Hormisdas).

[1] Vasiliev, Justin the First, op. cit., pp. 68f.

[2] Steven Runciman, Byzantine Civilization, Edward Arnold, 1959, p. 35.

[3] يشرح روبرت براوننج (Robert Browning) في دراسته المتميزة عن جوستنيان وثيؤدورا (Justinian and Theodora) كيف قام جوستينيان يشن حروبه. انظر:

(Weidenfeld and Nicolson, 1971)

[4] تعد معالجة فاسيليف لانتخاب يوستين (مرجع سابق صفحة 68 وما يليها) هي محاولة للدفاع عن هذه الحادثة، ولكنه أقر بأن الانتخاب كان يجب أن يتم بعناية كبيرة.

[5] Frend, op. cit., p. 234.

[6] C. S. C. O., vol. 104 (Syriac), pp. 17-19.

[7] Michael le Syrien, vol. IV (Syriac), pp. 266-270.

[8] C. S. C. O., vol. 104, ibid., p. 26.

[9] Chronicon Anonymum, op. cit., p. 27.

* البابا الثامن والعشرون في عداد بطاركة الإسكندرية

[10] Vasiliev, Justin the First, op. cit., p. 76.

[11] Hore, op. cit., p. 280.

[12] استُخدم هذا اللقب في التماس المجمع المكاني في يوليو عام 518م.

[13] Chronicon Anonymum, op. cit., pp. 16f.

[14] Frend, op. cit., p. 234.

[15] Zacharia, op. cit., II, pp. 62 and 63.

ويذكر هذا المؤرخ أن فيتاليان (Vitalian) الإبن الروحي لفلافيان بطريرك أنطاكيا كان لديه حقد كبير نحو البطريرك ساويروس، وأنه هو الذي حرَّض يوستين لإصدار مثل هذه الأوامر.

[16] Zacharia, op. cit., II, p. 83.

[17] هاليكارنيسوس (Halicarnassus) هي مدينة في (Caria) إحدى المقاطعات الساحلية في الجنوب الغربي لأسيا الصغرى.

[18] للإطلاع على الخطاب انظر (Zacharia, op. cit., II, pp. 102-103)

[19] إن كلمة ’قابل للفساد‘ محملة بالمعاني. والتعليم بأنه بعد القبر قام جسد ربنا ثانية من الأموات بدون أن يعاني فساداً، هي ما أشار إليه العهد الجديد (انظر أعمال الرسل 2: 27؛ 13: 35)، وكان هذا هو التعليم المقبول في الكنيسة. ومع ذلك لم تكن هذه هي الفكرة المقصودة هنا. للرجوع إلى التعليم المشار إليها هنا انظر صفحة  وما يليها.

[20] لقد تمت إدانة المذهب اليولياني (اليوليانية) رسمياً من قبل جميع الكنائس الشرقية المعارضة لخلقيدونية، ولذا لا يمكن ضمه ضمن تلك الكنائس بصفته منتمياً لها.

[21] للإطلاع على الخطاب انظر (Zacharia, op. cit., II, pp. 103-104)

[22] للإطلاع على هذا الخطاب مع رد البطريرك ساويروس انظر: (المرجع السابق صفحة 104-112).

[23] انظر صفحة .

[24] Michael le Syrien, op. cit., pp. 319f.

[25] انظر صفحة .

[26] Sarkissian, op. cit., p. 215.

[27] See T. Nersoyan, op. cit., and Sarkissian, ibid.

[28] لقد أورد ميخائيل السرياني المؤرخ عرض كامل عن هذا المجمع بالإضافة إلى الحروم العشرة التي وافق عليها. انظر (مرجع سابق صفحة 457-461).

[29] Michael le Syrien, ibid., p. 485.

* البابا الثاني والثلاثون في عداد بطاركة الإسكندرية

# البابا الثالث والثلاثون في عداد بطاركة الإسكندرية

[30] Frend, op. cit., p. 270.

يعلق فرند هنا بأن المجمع المكاني الذي عقده ثيؤدوسيوس لم يذكر مجمع أفسس الثاني مع مجمعي نيقية وأفسس الأول. ويمكن أن ينطبق نفس هذا التعليق على تقريباً كل قرار عقائدي أو عبارة وضعها الجانب غير الخلقيدوني. وكانت وجهة نظرهم هي أن مجمع عام 449م لم يفعل غير أنه كرر نفس موقف مجمع 431م، ولهذا لا يتعين أن يتم ذكره بشكل خاص.

ترسيخ مجمع خلقيدونية ومحاولة إعادة الوحدة ج1

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)