أبحاث

تعريف الإيمان الخلقيدوني

تعريف الإيمان الخلقيدوني

تعريف الإيمان الخلقيدوني

تعريف الإيمان الخلقيدوني
تعريف الإيمان الخلقيدوني

كان مجمع خلقيدونية ـ كما رأينا ـ قد رفض مسوَّدة التعريف الذي قدَّمه الأساقفة الشرقيون في جلسة يوم 22 أكتوبر، وذلك على أساس أنه لا يتوافق مع طومس ليو. وتم تكليف لجنة من المجمع لكتابة صيغة جديدة غير تلك المسوَّدة. وسوف نرى من خلال فحصنا لهذا التعريف أنه لم يكن من الضروري على الإطلاق أن يكون البابا ديسقوروس والذين تبعوه في رفض مجمع عام 541م، من أصحاب “بدعة الطبيعة الوحيدة” حتى يتبنوا هذا الموقف.

 

(أ) ملخص مختصر لتعريف الإيمان الخلقيدوني:

بدأ تعريف الإيمان الخلقيدوني[1] بمقدمة توضح السياق الذي كُتب فيه، وبعد ذلك أورد التعريف نص قانون نيقية متبوعاً برمز (قانون) الإيمان المنسوب إلى مجمع عام 381م، ثم أشارت الوثيقة إلى “رسائل المطوَّب كيرلس المجمعية إلى نسطوريوس وإلى الشرقيين”، ولم تعلق على رسالة البابا كيرلس إلى نسطوريوس التي تحوي الحروم الإثني عشر، كما أشارت كذلك إلى “رسالة رئيس الأساقفة الأقدس ليو”، باعتبارها كلها وثائق إيمانية متفق عليها.

وبعد ذلك ذكرت الوثيقة أن: المجمع يرفض “أولئك الذين … يمزقون سر التجسد إلى ثنائية في البنوة (ينادون بابنين)”؛ “أولئك الذين يجترئون أن يقولوا إن لاهوت المولود الوحيد قابل للتألم”؛ “أولئك الذين يتخيلون (وجود) امتزاج أو اختلاط لطبيعتي المسيح”؛ و”أولئك الذين يتوهمون أن شكل العبد الذي أخذه منا هو من طبيعة مختلفة أو طبيعة سماوية”؛ كما أن المجمع يحرم “أولئك الذين يتصورون طبيعتين للرب قبل الاتحاد وطبيعة واحدة جديدة الشكل بعد الاتحاد”.

وبصورة إيجابية استمر تعريف الإيمان ليقول أن “ربنا يسوع المسيح هو بالنسبة لنا نفس الابن الواحد، هو نفس الكامل في اللاهوت، ونفس الكامل في الناسوت؛ إله حقيقي وإنسان حقيقي…؛ هو نفس المسيح الواحد، والابن الواحد، والرب الواحد، والمولود الوحيد؛ يُعترف به في طبيعتين بغير اختلاط ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال؛ ولم يلغِ الاتحاد اختلاف الطبيعتين أبداً بل بالأحرى حُفظت خواص كل طبيعة.

و(هما) يتواجدان معاً في بروسوبون واحد وهيبوستاسيس واحد؛ وليس كما لو كان قد تجزأ أو انقسم إلى بروسوبونين، ولكنه نفس الابن الواحد والمولود الوحيد، الله الكلمة الرب يسوع المسيح …”. وأكد تعريف الإيمان أن ربنا يسوع المسيح هو إله تام كامل وإنسان تام كامل، وهو كإله له ذات الجوهر الواحد مع الله الآب، وكإنسان أيضاً له ذات الجوهر الواحد معنا. وهو يختلف عنا فقط في كونه بدون خطية على الإطلاق.

كان تعريف الإيمان الخلقيدوني يحوي عناصراً مأخوذة من كلا التقليدين السكندري والأنطاكي، ومع ذلك ذهب أبعد من حدود التقليد الأنطاكي في تأكيده أن “الطبيعتين متواجدتان معاً في بروسوبون واحد وهيبوستاسيس واحد”، كما ذهب أبعد من حدود التقليد السكندري في إصراره أن المسيح ينبغي “أن يُعترف به في طبيعتين”.[2]

وكانت عناصر التقليد السكندري التي أقرها تعريف الإيمان الخلقيدوني هي في الأساس أربعة:

  • أن ’الرسائل المجمعية‘ للقديس كيرلس هي وثائق إيمانية مقبولة.
  • أن مجمع عام 431م هو مجمع رسمي له سلطته (الكنسية).
  • أن اتحاد الطبيعتين هو اتحاد أقنومي ’هيبوستاسي‘ (hypostatic).
  • أن المسيح هو هيبوستاسيس واحد، وأنه واحد في ذات الجوهر مع الله الآب وواحد في ذات الجوهر معنا في آنٍ واحد.

وسوف نقوم بمناقشة هذه العناصر بتناول العنصرين الثالث والرابع قبل النظر إلى العنصرين الأول والثاني.

لم يكن تعريف الإيمان الخلقيدوني نفسه يحتوي على عبارة ’الاتحاد الهيبوستاسي (الأقنومي)‘ (hypostatic union)، ولكن يمكننا أن نفترض حقيقة أن المجمع كان يقبل هذا المصطلح من خلال تأكيده أن الطبيعتين متواجدتان معاً في بروسوبون واحد وهيبوستاسيس واحد،* وكذلك من خلال تأييد المجمع لرسائل ق. كيرلس. وكما رأينا كانت كلتا الرسالتان إلى نسطوريوس تصران على أن اتحاد الطبيعتين في المسيح هو ’اتحاد هيبوستاسي‘ (أقنومي).

وكان هذا الإصرار (على الاتحاد الهيبوستاسي) هو أحد الأمور التي يشدد عليها التقليد السكندري، وهو ما كان يعارضه الأنطاكيون بقوة إلا أنهم اضطروا للإقرار به منذ وقت صيغة إعادة الوحدة عام 433م حيث اعترفوا برسالة كيرلس الثانية إلى نسطوريوس بدون أي تحفظ.

ولكن إذا كان الأنطاكيون في قبولهم لعبارة ’الإتحاد الهيبوستاسي‘ في خلقيدونية قد أخذوا ’الهيبوستاسيس‘ بالمعنى المحض ’للبروسوبون‘ وحسب ـ كما فعل ثيؤدوريت[3] بالتأكيد ـ فإن هذا يعني بوضوح أنهم رأوا في الاتحاد ’الهيبوستاسي‘ مجرد مدلول الاتحاد ’البروسوبي‘ (prosopic) فقط.

وفيما يتعلق بالعنصر الرابع، لم يوضح تعريف الإيمان ما هو المقصود بعبارة “بروسوبون واحد وهيبوستاسيس واحد”. وقد أكد التعريف أن الطبيعتين تتواجدان معاً في تكوين البروسوبون الواحد والهيبوستاسيس الواحد، ومع ذلك لو أُخذت الكلمتين ’بروسوبون‘ و’هيبوستاسيس‘ كمترادفتين، فهذا يعني أن تعريف الإيمان لم يذهب إلى أبعد من الموقف الأنطاكي.

أما العنصر السكندري الأول (في تعريف الإيمان) فيعتبر أوضح مثال على غموض المجمع، لأن المجمع قبل “رسائل المطوَّب كيرلس المجمعية إلى نسطوريوس وإلى الشرقيين” وأكد تعريف الإيمان الخلقيدوني ذلك، فهل كانت رسالة كيرلس التي تحوي الحروم متضمنة هنا أيضاً؟.

الحقيقة أن تعريف الإيمان لم يكن واضحاً، ويمكننا مقارنة ذلك مع كلمات مندوبي الإمبراطور في مجمع خلقيدونية عن “الرسالتان القانونيتان لكيرلس”.[4] والمعروف أنه في خلقيدونية ـ وكذلك في مجمع عام 448م ـ تم تجاهل حروم البابا كيرلس، والإشارة الوحيدة التي وردت عليها في هذين المجمعين جاءت في مطلب أتيكوس أسقف نيكوبوليس (Nicopolis) في عام 451م عندما طالب بوقت ليقارن طومس ليو مع هذه الحروم.

ولكن مجمع عام 553م سار على الافتراض أن مجمع خلقيدونية قد أعلن أن تلك الحروم هي وثيقة مقبولة من المجمع، ولذلك حكم بإدانة كتابات ثيؤدوريت وإيباس ـ التي حاولت تفنيد تلك الحروم ـ واعتبرها كتابات هرطوقية.[5] وعلى الرغم من إنكار كثير من العلماء الغربيين في الوقت المعاصر لقبول مجمع خلقيدونية لتلك الحروم،[6] فإن الموقف الذي تبناه مجمع عام 553م لاحقاً كان له مؤيدون منذ مجمع عام 451م.

فكما هو واضح أن أتيكوس أسقف نيكوبوليس لم يكن يعتبر حروم كيرلس مجرد وثيقة رسمية ذات سلطة وحسب وإنما وثيقة تحوي المعيار اللاهوتي التي يمكن أن يُحكم من خلالها حتى على طومس ليو، وكان أتيكوس بالفعل أحد الرجال الذين تشكلت منهم اللجنة المجمعية التي وضعت تعريف الإيمان الخلقيدوني.

والاستنتاج الذي يصعب تجاهله من كل هذه الحقائق هو أن تلك الكلمات الخاصة برسائل كيرلس قد تُركت غامضة عن عمدٍ، لكي ترضي مختلف الأطراف ولكي تُمكِّن أناس مثل أتيكوس من أن يدافعوا عن وجهة نظرهم لاحقاً حين تتاح لهم الفرصة لذلك.

وكان الغموض المتضمن في عبارة: “الرسائل المجمعية” لكيرلس إلى نسطوريوس، ممتداً أيضاً إلى العنصر الثاني الخاص بتصديق خلقيدونية على مجمع أفسس عام 431م، حيث أقر تعريف الإيمان أن المجمع يحفظ “النظام والقوانين الخاصة بالإيمان التي أقرها المجمع المقدس” في أفسس عام 431م. والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هنا هو:

ماذا كانت تعني تلك العبارة؟، فكما رأينا أنه بعد إعادة الوحدة عام 433م صار مجمع أفسس عام 431م مقبولاً رسمياً من كلا الجانبين السكندري والأنطاكي على الرغم من وجود معارضة في بعض الجماعات الأنطاكية. ولكن الجانبان لم يفسرا مجمع عام 431م بنفس الطريقة، وكانت هذه هي المشكلة القائمة بين الطرفين والتي تحتاج بالفعل إلى حل جذري.

ولكن مجمع خلقيدونية لم يعر هذا الأمر أدنى اهتمام، وترك المسألة الخاصة برسائل ق. كيرلس غامضة كل الغموض، وبدون أية محاولة لحل المشكلة الفعلية التي تواجه الكنيسة في الشرق.[7]

ويتبين من الحقائق السابقة أنه لا يوجد هناك تفسير واحد متفق عليه بالنسبة لأي من العناصر السكندرية الأربعة التي تضمنها تعريف الإيمان الخلقيدوني. ومن المحتمل أن يكون بعض الأساقفة الذين ينتمون للفكر اللاهوتي السكندري ـ داخل اللجنة المجمعية التي صاغت التعريف ـ هم الذين نجحوا في وضع تلك العناصر، آملين أن يكونوا بهذا قد حافظوا على موقفهم التقليدي. ولكن يبدو أن مندوبو روما والوفود المنتمية للتقليد اللاهوتي الأنطاكي قد أخذوا معاني تلك العبارات في ضوء التفسير الأنطاكي لمجمع عام 431م وصيغة إعادة الوحدة عام 433م.

وعلى الجانب الآخر تبنى تعريف الإيمان الخلقيدوني عنصراً واحداً فقط من التقليد الأنطاكي وهو أن المسيح “يُعترف به في طبيعتين”. ويتفق سيلرز مع الرأي القائل أن المجمع قد تبنى هذا التعبير من باسيليوس أسقف سلوكيا الذي كان قد اقترحه في مجمع عام 448م،[8] بينما يعتقد جريلماير أن هذا التعبير كان بالفعل موجوداً في التقليد اللاهوتي الآبائي.[9]

ومع ذلك فإننا إذا نظرنا بتدقيق في السياق الذي تم فيه إقناع الوفود الشرقية باستبدال مسودة الوثيقة التي كانت معهم ـ والتي كانت تحوي تعبير “من طبيعتين” ـ بوثيقة إيمان أخرى، فسنجد أن مصدر تعبير “في طبيعتين” كان هو طومس ليو نفسه،[10] حيث أكد البابا ليو في الطومس أن وحدة شخص المسيح “ينبغي أن تُفهم بكونها كائنة في طبيعتين” (unitatem personae in utraque naturam intelligendam).

وتعتبر الطريقة التي كافح بها الأساقفة الشرقيون، في سبيل إقرار مسوَّدة الوثيقة التي كانت معهم، مؤشراً واضحاً على أن تعبير “في طبيعتين” ـ أينما كان مصدره ـ لم يكن قد أصبح جزءاً من مفردات لغتهم اللاهوتية.

ولا ننسى في نفس الوقت حقيقة أن الجانب الخلقيدوني كان يتمسك بعبارة “طبيعتين بعد الاتحاد”، وأن تعبير “في طبيعتين” لم يكن إلا طريقة أخرى للتعبير عن نفس المعنى. ومن هنا كان العنصر الأنطاكي داخل تعريف الإيمان الخلقيدوني هو بمثابة تبني مباشر للموقف اللاهوتي الذي يؤيده التقليد الأنطاكي. وإذا أُخذ تعبير ’هيبوستاسيس واحد‘ كمرادف لـ ’بروسوبون واحد‘ وتعبير ’طبيعتين‘ كمرادف لـ ’هيبوستاسيسين‘ فإن تعريف الإيمان الخلقيدوني يكون بهذا قد أكد التقليد الأنطاكي وحفظه.

ومن الصعب علينا أن نخمن الطريقة التي فسَّر بها القادة المنتمون للتقليد السكندري تعريف الإيمان الخلقيدوني، ولكن أغلب الظن أن ما حدث في خلقيدونية هو أنه استناداً فقط على مجموعة واحدة من العبارات التي قالها أوطيخا، تم تصوير تعليمه على أنه يحمل خطر مهلك على إيمان الكنيسة. ومع تغير السلطة الإمبراطورية لم يعد هناك للذين كانوا يتبنون قراءة مختلفة للحقائق (الخاصة بأوطيخا) أي قوة، لذلك استطاع مجمع خلقيدونية أن يؤكد ـ ومنذ بدايته تماماً ـ على أن أوطيخا هو بالفعل هرطوقي وأنه أنكر حقيقة ناسوت المسيح.

وفي ذلك السياق كان من السهل على قادة المجمع أن يزعموا بأن ليو بابا روما هو الرجل الذي نجح في استبعاد الأوطيخية من خلال إصراره على عبارة ’في طبيعتين‘. وهكذا أخذ القادة المنتمون للجانب السكندري هذه العبارة كأداة فعالة ضد الهرطقة المنسوبة للراهب العجوز، حيث من المحتمل أن يكونوا قد رأوا في عبارة ’في طبيعتين‘ نفس فكرة استمرار اللاهوت والناسوت بصورة ديناميكية في المسيح الواحد.

ومن هنا نستطيع أن نقول أنه إذا كان تصورنا لما حدث في خلقيدونية صحيحاً، فسنجد أنه لم يكن هناك اختلاف في الأساس اللاهوتي ـ في هذا الأمر بالذات ـ بين البابا ديسقوروس ومجمع خلقيدونية على الرغم من عدم اتفاقهم في المصطلحات اللاهوتية المستخدمة، لأن الاستمرار الديناميكي للاهوت والناسوت في المسيح بلا اختلاط ولا انقسام كان هو الموقف الذي أكده البطريرك السكندري ديسقوروس بتعبيرات واضحة في مجمع خلقيدونية نفسه.

وكانت الحسنة الكبرى في تعريف الإيمان الخلقيدوني تكمن في أنه بتبنيه لبعض عناصر التقليد السكندري استطاع أن يرضي معظم المشاركين في المجمع. فيمكن للسكندريين على سبيل المثال، أن يجيزوا ذلك التعريف ويبنوا عليه فكرهم اللاهوتي الخاص، كما فعل الخلقيدونيون الشرقيون في القرن السادس.

كما يمكن أيضاً للأنطاكيين وبنفس المقدار أن يؤيدوا التعريف وهم متمسكون تماماً بتقليدهم كما فعل رجال مثل ثيؤدوريت أسقف قورش. والغرب كذلك يمكنه أن يشعر بالرضا لأن تشديده على أن ’الشخص الواحد‘ كائن ’في طبيعتين‘ قد تم إدراجه في تعريف الإيمان الخاص بالمجمع.

وكانت تلك المرونة هي نفسها نقطة الضعف الواضحة في تعريف الإيمان الخلقيدوني. ففي الشرق، كان هناك قادة متأصلون بعمق في التقليد السكندري، وهؤلاء قد وجدوا أن التعريف الخلقيدوني غير كافٍ للحفاظ على تراث الكنيسة العقائدي الراسخ، كما رأوا كذلك نقائصاً كثيرة في مجمع خلقيدونية فقرروا أن يرفضوه ويقاوموه.

 

(ج) الدفاع عن تعريف الإيمان الخلقيدوني:

قدَّم كل من ر. ف. سيلرز[11] (R. V. Sellers) وأ. جريلماير[12] (Aloys Grillmeier) دفاعاً معاصراً شديداً عن مجمع خلقيدونية وعن تعريف الإيمان الخاص به. وحيث إنه لدينا تحفظات قوية على استنتاجاتهما حول الموضوع، فنرى أنه من المناسب أن نعرض وجهة نظرنا أثناء تقديمنا للنتائج التي توصلا إليها.

وكان الدفاع الذي قدمه كل من هذين العالمين يعتمد في الأساس على ثلاثة افتراضات مشكوك فيها.

أولاً: لقد زعما أن أوطيخا كان بالحقيقة هرطوقياً بصورة مؤكدة. وقد أوضحنا فيما قبل أنه بالرغم من أن التحالف بين روما والسلطة الإمبراطورية في القسطنطينية ـ بتأييد من الجانب الأنطاكي وفريق فلافيان ـ كان يؤكد في كل الأوقات أن الراهب العجوز كان بالفعل هرطوقياً وجعل كل واحد يصدق أن هذه هي الحقيقة، إلا أن مجمع خلقيدونية لم يحاول على الإطلاق مجرد تأكيد تلك الحقيقة تجاه الرجل.

وبالتالي فإن أي عرض للتعاليم التي نُسبت لأوطيخا على مدى التاريخ منذ زمن مجمع خلقيدونية، ينبغي أن يتضمن أولاً إثبات صحة نسبها له. وبدون أخذ هذه الحقيقة في الاعتبار، لا يكون لدينا الحق ونحن في القرن العشرين ـ حيث نطلب الدقة العلمية في تقييمنا حتى للمعلومات الكتابية ـ أن نفترض أن أوطيخا كان هرطوقياً. ومن ثم يجب علينا أن نرفض الافتراض الأول لسيلرز وجريلماير لأنه يعتبر تأكيد غير مثبت أو محقق.

ثانياً: يفترض هذان العالمان أن تعريف الإيمان الخلقيدوني قد قُبل بالإجماع من أعضاء المجمع من خلال قرار تلقائي توصلوا إليه بسبب ضرورة لاهوتية. والحقيقة الواضحة من استنتاج سيلرز وجريلماير، أنهما لم يجهدا نفسيهما في (فحص وتحليل) وقائع المجمع عند مناقشته لتعريف الإيمان، لأن الأغلبية العظمى من المشاركين في المجمع ـ كما رأينا ـ كانت تتمسك بشدة بمسودة الوثيقة التي تحوي عبارة ’من طبيعتين‘.

وقد كافحوا بكل قوتهم من أجل تبني الوثيقة بدون تغيير تلك العبارة، ولكن مندوبو الإمبراطور أجبروهم في النهاية على التخلي عن مقاومتهم، بل وأصروا على أنه ينبغي على الأساقفة أن يختاروا بين البابا ديسقوروس الذي صدَّقوا على عزله وبين ليو الذي أيَّدوا الطومس الخاص به.* ولم يكن لدى هؤلاء الأساقفة ـ الذين كان كثير منهم قد أقر أن أوطيخا هرطوقي ـ أي تحفظ على تفسير الإيمان بطريقة تحافظ على وحدة المسيح من جهة، وتميز بين اللاهوت والناسوت فيه من جهة أخرى.

والحقيقة أنه إذا أخذنا ما حدث يوم 22 أكتوبر عام 451م بجدية (وحيادية)، فإن الشيء المنطقي الوحيد الذي يمكننا قوله هو أن تعريف الإيمان الخلقيدوني كان من صنع الفريق الذي تسانده الدولة، وتحت قيادة مندوبي روما الذين أرادوا أن يكون (ذلك التعريف) متفقاً مع طومس ليو. ومن أجل إرضاء الغالبية من أعضاء المجمع ـ الذين ظلوا يؤيدون مسودة الوثيقة الأولى من الجهة اللاهوتية ـ وافق الجانب الأقوى (في المجمع) على إدراج عدد من عناصر التقليد السكندري داخل تعريف الإيمان.

وكانت هذه العناصر في الحقيقة، هي نفس العناصر التي أيدها الجانب الأنطاكي بالفعل وقت إعادة الوحدة عام 433م حسب تفسيرهم الخاص لتلك العناصر.  ولم يكن مندوبو روما وحلفاؤهم بهذا التصرف يعيرون أي انتباه لشروط الاتفاق التي رافقت صيغة إعادة الوحدة عام 433م.

وعلى أي الأحوال، فمن المحتمل أن يكون أعضاء المجمع (المنتمون للتقليد السكندري) قد أحسوا أنه يمكنهم لاحقاً أن يبنوا فكراً لاهوتياً يتفق مع تقليدهم، استناداً على الأفكار السكندرية التي تم إدخالها في اعتراف الإيمان، ولعلهم بهذا الأمل وافقوا على قبول اعتراف الإيمان مع قدر من التحفظ.

ثالثاً: تستند الجهود الحديثة في الدفاع عن تعريف الإيمان الخلقيدوني على زعم قوي مفاده أن المنتقدين لمجمع خلقيدونية يتخذون موقفهم المعارض من خلال الاعتماد على اقتباسات آبائية مزيفة هي في الحقيقة فقرات أبولينارية الأصل. وكان هذا في الواقع أحد المزاعم الدائمة لسيلرز، لذلك ينبغي علينا أمام هذا الادعاء أن ننتبه للحقائق التالية:

  • من الناحية العملية، لم يرى أي أحد في القرنين الخامس والسادس أن هذه الاقتباسات ـ محل التساؤل ـ ذات أصل هرطوقي. وكان كلا الجانبين يقتبسان نفس هذه الفقرات.

  • كان قادة الجانب غير الخلقيدوني أمثال البطريرك ساويروس الأنطاكي يشيرون إلى تقليدهم باعتباره تقليد راسخ ومتأصل من خلال اقتباس فقرات مأخوذة من الآباء بدءاً من إغناطيوس الأنطاكي ونهاية بكيرلس السكندري، لكي يُظهروا أن مجمع خلقيدونية ابتعد عن ذلك التقليد لمصلحة موقف هو في جوهره نسطوري.
    وحتى لو افترضنا جدلاً أنه كانت هناك فقرات أبولينارية (في تلك الاقتباسات)، فلا يمكن ولا لسيلرز نفسه أن يزعم أن كل الفقرات التي اقتبسها القادة غير الخلقيدونيين أُخذت من تلك المصادر.

  • لم يكن هناك على الإطلاق أحد من القادة، الذين يقبلهم الجانب غير الخلقيدوني، تمت إدانته بالتمسك بتعليم خريستولوجي أبوليناري. وهذه الحقيقة يقرها سيلرز نفسه مع كثيرين غيره.

وهكذا فإن الحقيقة هي أن قادة الكيان غير الخلقيدوني في رفضهم لمجمع خلقيدونية كانوا يعتمدون على تقليد لاهوتي بناه آباء الكنيسة في الشرق ـ في مواجهة الهرطقة النسطورية ـ على أساس مفاهيم: ’من طبيعتين‘ و’إتحاد هيبوستاسي‘ و’هيبوستاسيس واحد مركب‘ و’طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة‘. وأياً كان مصدر هذه العبارات، فإن الآباء الشرقيين قد فسَّروها بمفهوم بعيد عن كل معنى هرطوقي ممكن.

ومن وجهة نظرهم، كان مجمع عام 451م ـ تحت قيادة الوفد الروماني والسلطة الإمبراطورية في القسطنطينية ـ قد تجاهل وأهمل كل هذه العبارات (أو المفاهيم) وأنشأ تعريفاً للإيمان يمكن حتى لنسطوريوس أن يقبله كتأييد لتعليمه اللاهوتي. وكانت هذه هي النقطة التي أثارها منتقدو مجمع خلقيدونية، ولا نعتقد أن أياً من سيلرز أو جريلماير قد قام بالإجابة عليها.

وكان جريلماير يتفق مع الرأي القائل أن “مجمع خلقيدونية قد سعى لاكتشاف وتقديم الإجابة على سؤال واحد فقط متنازع عليه وهو: كيف يتم التوفيق بين الاعتراف بـ ’مسيح واحد‘ وبين الإيمان (في نفس الوقت) بأنه ’إله حقيقي، وإنسان حقيقي‘ وبأنه ’كامل في اللاهوت وكامل في الناسوت‘”. ويصر جريلماير على أن خلقيدونية قد عالج تلك المشكلة:

فبالنسبة لمسألة ’المسيح الواحد‘، فقد أقرها من خلال الاعتراف بأن “ربنا يسوع المسيح هو نفس الابن الواحد”؛ وبالنسبة لمسألة أنه ’إله حقيقي، وإنسان حقيقي‘، فعالجها من خلال عبارة “في طبيعتين”. ويضيف جريلماير قائلاً: أن اعتراف الإيمان توصل إلى هذه الصياغة بالاعتماد على:

(1) رسالة البابا كيرلس الثانية إلى نسطوريوس؛ (2) صيغة إعادة الوحدة عام 433م؛ (3) طومس ليو؛ (4) اعتراف الإيمان (Professio fidei) الخاص بفلافيان[13]؛ (5) خطاب خاص بثيؤدوريت. ويعترف جريلماير بعد ذلك أن “الصياغات السكندرية …. قد تعين تقليل أهميتها وإزاحتها إلى الوراء”، وحل محلها “طومس ليو، وقد لعب الأنطاكيون دوراً خاصاً بصيغة إعادة الوحدة عام 433م”، والسبب ـ في رأي جريلماير ـ وراء تصرف مجمع خلقيدونية بهذا الشكل كان هو الخوف من الأوطيخية.

ونحن نعتقد أن استنتاجات جريلماير تلك، ينبغي أن تكون قد قادته ليظهر تعاطفاً أكبر ، على الأقل تجاه الصعوبة التي يمكن لرجال مثل البابا ديسقوروس أن يكونوا قد شعروا بها نحو تعريف الإيمان الخلقيدوني.

ويحتاج دفاع جريلماير عن صيغة ’في طبيعتين‘ ـ التي احتواها تعريف الإيمان ـ إلى بعض التعليقات من جانبنا، فقد زعم أن السكندريين كانوا يصيحون في المجمع مطالبين بعبارة ’طبيعة واحدة‘ الخاصة بهم، وكذلك كان الأنطاكيون ينادون بعبارة ’طبيعتين‘، وهنا قدَّم المجمع صيغة ’في طبيعتين‘ لكي يعبِّر عن كلا ’التمايز‘ و’الكمال‘ اللذين للاهوت والناسوت.

وعلى الرغم من أن هدف المجمع من وراء صيغة ’في طبيعتين‘ ـ الذي ذكره جريلماير ـ ليس محل جدال، إلاّ أن شرح جريلماير لخلفيات مجمع خلقيدونية كان غير دقيق تماماً. فمن ناحية لم يكن السكندريون يصرون على مجرد عبارة ’طبيعة واحدة‘، ولكنهم كانوا يصرون على تقليدهم اللاهوتي الذي كانت عبارة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” تشكل عنصراً أساسياً فيه.

ومن ناحية أخرى ـ وبنفس القدر من الأهمية ـ لم يكن مفهوم التمايز في المسيح، المبني على تأكيد الاستمرار الديناميكي للطبيعتين في المسيح الواحد بدون اختلاط ولا انقسام، هو موضع خلاف بين البابا ليو والبابا ديسقوروس أو بين الجانب الخلقيدوني وغير الخلقيدوني، ولكن نقطة النزاع بينهما كانت تدور حول كيفية التعبير عن هذا الاستمرار الذي للطبيعتين بطريقة تتناغم مع الاعتراف بالاتحاد الهيبوستاسي.

وكان البابا ديسقوروس يرى أن عبارة “من طبيعتين” هي الصيغة السليمة، ولكن المجمع ـ بدون أن يناقش الأمر على الإطلاق، واعتماداً فقط على سلطة طومس ليو ـ قام بتبني صيغة “في طبيعتين”. ويحتاج هذا التصرف بالفعل إلى تفسير مقنع مصحوب بالدليل، وهذا هو ما لم يقم به أحد على الإطلاق حتى الآن.

 

[1]   للاطلاع على تعريف الإيمان انظر: (ACO. II, i. p. 326: 30-34.). الأصل اليوناني مع الترجمة الإنجليزية موجودة في (T. H. Bindley, op. cit.).

[2]   يذكر جريلماير في (op. cit., p. 458, n. I) أن عبارة “في طبيعتين” قد استُخدمت بواسطة بعض الآباء حتى قبل زمن مجمع خلقيدونية. وهذه الحقيقة لم يجادل فيها اللاهوتيون غير الخلقيدونيين أمثال ساويروس الأنطاكي، ولكن البطريرك ساويروس أكد أن تلك كانت عبارات عشوائية لم ينتج عنها أي تقليد راسخ (انظر المرجع رقم 18 صفحة 374).

ولكن مع نشوب الجدال النسطوري، تم ترسيخ التقليد المؤسس على عبارة “من طبيعتين” في الكنيسة. وقد انتهك مجمع خلقيدونية هذا المبدأ بدون أي داع حقيقي، لأن الهرطقة الأوطيخية كان من الممكن تجنبها في ضوء التقليد الموجود نفسه.

*   هناك فرق بين مفهوم الإتحاد الهيبوستاسي عند ق. كيرلس والبطريرك ساويروس من ناحية وعند يوحنا الدمشقي من الناحية أخرى. انظر الملحق الموجود في نهاية الكتاب.

[3]  كما ذكرنا قبلاً (انظر صفحة 43) كان ثيؤدوريت لا يأخذ مصطلح ’هيبوستاسيس واحد‘ الخاص بخلقيدونية إلا بمعنى ’بروسوبون واحد‘. ويشير شارلز موللر إلى هذه الحقيقة باعتبارها المساهمة اللاهوتية لثيؤدوريت. انظر مقال:

(Le Chalcedonisme…, in Das Konzil Von Chalkedon, op. cit., vol. I, p. 658f)

[4]   انظر صفحة 121.

[5]   للإشارة إلى مجمع عام 553م انظر صفحة 272. ونستطيع أن نقول في ضوء الأدلة المتاحة، أنه بعد مجمع 451م رأى القادة الشرقيون الذين كانوا يشاركون أتيكوس (Atticus) في نفس التقليد أنهم يتفقون مع المنتقدين للمجمع في تلك النقطة.

وقد عبَّر عن هذه الحقيقة مرسوم زينو ’هينوتيكون‘ عام 482م ـ الذي من المحتمل ألا يكون قد صاغه غير أكاكيوس بطريرك القسطنطينية ـ حيث يؤكد أن حروم ق. كيرلس كانت وثيقة رسمية. وبعد هذا الموقف، أعلن الجانب الخلقيدوني في الشرق قبوله للوثيقة الكيرلسية. وكانت هذه هي وجهة النظر التي أكدها مجمع عام 553م.

[6]  يتمسك شارلز موللر بأن حروم ق. كيرلس لم تكن مقبولة في مجمع خلقيدونية، وأن المجمع كان يؤيد الفكر اللاهوتي للقديس كيرلس بقدر ما قد تقنن في صيغة إعادة الوحدة عام 433م، وأن روما كانت قد تجاهلت تلك الحروم حتى عام 519م. وقد أظهر شارلز أيضاً أن كل هذه الأمور قد تغيرت مع مجمع عام 553م.

(انظر المقال في مرجع سابق صفحة 645). وتدعيماً لهذه النظرة، يمكن الرجوع إلى الموقف الذي كان يتبناه بثبات ممثلو الإمبراطور في مجمع عام 451م. ومن الجدير بالملاحظة أنه إذا كان هذه هو الموقف الذي فُرض في خلقيدونية، فإن المجمع لم يصل بالفعل إلى الإجماع الذي كان يبتغيه، لأن قسماً كبيراً من أعضاء المجمع كانوا تابعين مخلصين لتعليم ق. كيرلس.

وأولئك هم الذين تركوا (عن قصد) بعض الأمور مبهمة وغامضة في خلقيدونية، ومكنوا خلفاءهم من إعادة تأكيد موقفهم في القرن السادس.

[7] إن الموضوع الخاص بحروم ق. كيرلس، هو بالفعل موضوع خطير للغاية، والحقائق التالية حولها جديرة بالانتباه:

(1) لقد أرسل ق. كيرلس تلك الوثيقة إلى نسطوريوس في صورة إنذار، وحيث إن ق. كيرلس كان هو المنتصر فى مجمع عام 431م، لذلك فعلى الأرجح أن تلك الوثيقة لم تكن مهملة من قبل المجمع.

(2) قام المجمع المضاد الذي ترأسه يوحنا الأنطاكي بإدانة ق. كيرلس وممنون أسقف أفسس وكل الذين قبلوا حروم البابا كيرلس (مما يعني أنها كانت بالفعل مقبولة).

(3) كتب إيباس أسقف الرها بوضوح في رسالته إلى ماريس أن مجمع عام 431م قبل حروم ق. كيرلس، وأن إيباس نفسه كان كراهب مصاحباً للوفد السرياني الذي حضر المجمع.

(4) إن جهود الأنطاكيين في وقت المفاوضات التي سبقت إعادة الوحدة عام 433م لكي تجعل ق. كيرلس يتنازل عن الحروم لا يمكن تفسيرها ما لم تكن الوثيقة قد تم بالفعل تقنينها بواسطة المجمع.

(5) كان هناك رجال من الذين حضروا مجمع خلقيدونية مثل أتيكوس أسقف نيكوبوليس اعتبروا الوثيقة لها سلطة ملزمة، كما أن الذين قاموا بانتقادها لم يشككوا على الإطلاق في تلك النظرة.

(6) لم يحدث في الأزمنة القديمة أن أحداً من الذين انتقدوا الحروم، حاول أن يتجاهلها بحجة أنه ليس لها تقنين مجمعي.

(7) أقر نسطوريوس أيضاً في كتابه ’بازار‘ أن مجمع عام 431م قد صدق على تلك الحروم.

[8] The Council of Chalcedon, op. cit., p. 216.

[9] انظر المرجع رقم 6 صفحة 340.

[10] انظر صفحة 155 وما يليها.

[11] للإطلاع على مناقشة سيلرز المفصلة لهذا الموضوع انظر:

(R.V. Sellers, The Council of Chalcedon, op. cit., pp. 207f).

[12] See Christ in Christian Tradition, op. cit., pp. 480f.

*  انظر أحداث يوم 22 أكتوبر عام 451م في الفصل الثالث.

[13] انظر المرجع رقم 37 صفحة 49.

تعريف الإيمان الخلقيدوني

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)