أبحاث

الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج2

الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج2

الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج2

الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج2
الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج2

الجزء الأول: الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج1

(د) البطريرك ساويروس الأنطاكي:

يعتبر البطريرك ساويروس الأنطاكي بالفعل هو اللاهوتي الأبرز في الجانب غير الخلقيدوني في القرن السادس، وربما أيضاً في كل الكنيسة في الشرق، إذا لم يكن في الكنيسة بأكملها في عصره.

وفي اثنين من أكبر كتبه ـ ’محب الحق‘ (philalethes) و’ضد النحوي غير التقي‘ (Contra Impium Grammaticum) ـ وكذلك في العديد من رسائله وعظاته العقائدية، دافع البطريرك ساويروس بشدة وبثبات ضد كل من طومس ليو ومجمع خلقيدونية. وقد ذكر البطريرك ساويروس لتأييد موقفه اللاهوتي، حججاً من التقليد ومن الأسس اللاهوتية، وأصر على أن المفهوم الأنطاكي ’طبيعتين بعد الإتحاد‘ ـ الذي تبناه المجمع من خلال استخدامه لعبارة ’في طبيعتين‘ ـ هو مفهوم بغيض ومرفوض.

أولاً: في ضوء التقليد

لقد أقر البطريرك ساويروس أنه من الممكن أن نجد دليلاً على استخدام تعبير ’طبيعتين‘[1] في أعمال الآباء الأولين، ولكنه دفع بأن استخدام أولئك الآباء لم ينطوي على أي فكرة للتقسيم؛ ولكنهم كانوا يقصدون فقط من ذلك أن المسيح هو إله وإنسان في آنٍ واحد. ومع ذلك فمنذ ظهور النسطورية تغيرت الأمور تماماً، فتم استبعاد التعبيرات غير المحددة والبريئة التي كانت تُستخدم في الماضي (قبل ظهور النسطورية)، وتم ترسيخ تقليد لاهوتي مؤسس على قانون الإيمان النيقاوي حسبما أكده وفسره مجمع عام 381م، ومجمع عام 431م.[2]


ورغم هذا الموقف، أصر ليو بابا روما ـ وبدون أن يعير أي اهتمام للتقليد الذي اتُفق عليه في الكنيسة ـ على استخدام عبارة ’في طبيعتين‘ في الطومس الخاص به، وتبناها مجمع خلقيدونية بعد ذلك معتمداً على مرجعية هذا الطومس.[3] ومن هنا كان البابا ليو ومجمع خلقيدونية مذنبين في تعديهما على التقليد العقائدي المستقر في الكنيسة.

وفي ضوء هذا السياق، نستطيع أن نفهم الاقتباسات من كتابي’محب الحق‘ و’ضد النحوي غير التقي‘ اللذين وضعهما البطريرك ساويروس في وضعها الصحيح. وقد أكد البطريرك ساويروس في كلا الكتابين ـ مستشهداً بآباء الكنيسة من ق. إغناطيوس الأنطاكي وق. إيرينيوس أسقف ليون وصولاً إلى ق. كيرلس السكندري ـ أن الفكرة التي وراء عبارة ’طبيعتين بعد الإتحاد‘ تتعارض بشدة مع تعاليم الآباء.

وأكد البطريرك ساويروس[4] أن جميع الآباء قد أقروا أن المسيح هو وحدة (unity)، وفي كتابه ’محب الحق‘ على سبيل المثال، اقتبس ساويروس فقرات من عدد من هؤلاء الآباء وانتهى إلى قوله:[5]

“انظر إلى آباء الكنيسة، فإن جميعهم يعترفون باتفاق، أن الله الكلمة قد حُبل به في رحم العذراء ’والدة الإله‘، وأنه اتحد هيبوستاسياً (أقنومياً) مع الجسد الذي كان يُحبل به في ذلك المكان. وبينما ظل هو نفسه بلا تحول ولا تغيير، فإنه جعل الجسد خاصاً به (جسده الخاص)، دون أن يكون هناك أي وقت كان فيه هذا الجسد منفصلاً عنه”.

ولهذا فإن المسيح هو شخص واحد، الله الكلمة المتجسد. وكان هذا هو تعليم الآباء الذي أكد بنفس القوة أن الكلمات والأعمال التي سُجلت عنه في البشائر ينبغي أن تُنسب كلها للشخص الواحد. ولذلك كتب البطريرك ساويروس:[6]

“فأن يمشي جسدياً على الأرض ويتحرك من مكان لمكان فهذا بالفعل (أمر) بشري، ولكن أن يجعل أولئك العرج الذين لا يستطيعون أن يستعملوا أرجلهم يمشون فهذا (أمر) لائق بالله. ورغم ذلك فإنه نفس الله الكلمة المتجسد* هو الذي كان يعمل في كليهما. وكان هذا هو الأساس المنغرس في التقليد والذي وضعه الآباء، وهو ما قد تم انتهاكه في عبارة ’طبيعتين بعد الإتحاد‘”

وكان البطريرك ساويروس ـ كما ذكرنا ـ قد وضع مؤلفه ’محب الحق‘[7] لكي يفند كتاباً خلقيدونياً يحتوي على اقتباسات من كتابات البابا كيرلس السكندري جُمعت من أجل إظهار أن اللاهوتي السكندري الكبير كان قد سبق مجمع خلقيدونية[8] (في تبنيه لنفس الفكر والتعبير اللاهوتي الذي تبناه المجمع).

وأوضح البطريرك ساويروس في كتابه ’محب الحق‘ أمرين رئيسين، أولاً أكد على أن مؤلف الكتاب الخلقيدوني بذل جهده في وضع الكتاب وهو متوهم أن الجانب غير الخلقيدوني لا يقبل مبدأ وجود اختلاف بين اللاهوت والناسوت في المسيح الواحد، وهذا ليس بالأمر الصحيح على الإطلاق؛[9] لأننا بالفعل لا نقول أن الله الكلمة قد تغير إلى إنسان مكوَّن من جسد وروح.

ولكننا على العكس من ذلك نعترف أنه بينما يظل كما هو، وحَّد بنفسه هيبوستاسياً (أقنومياً) جسداً له روح عاقل،[10] وبالتالي فإن اتحاد الطبيعتين لم يؤثر على حقيقة وكمال وسلامة أي من الطبيعتين اللتين استمرتا بصورة ديناميكية[11] في المسيح الواحد.

وقد اتفق الآباء على هذه النقطة بدون الإقرار بـ ’طبيعتين بعد الإتحاد‘، وبالتالي لا يكون ضرورياً بأي حال من الأحوال استخدام عبارة “في طبيعتين” من أجل التأكيد على تلك الفكرة، ويكون إدعاء الخلقيدونيين أن البابا كيرلس قد سبق المجمع (في قوله هذا) ليس له أساس من الصحة.[12]

أما الأمر الثاني الذي دفع به ساويروس في كتابه، فهو أن المؤلف الخلقيدوني في محاولته إثبات نظرية أن ق. كيرلس قد سبق المجمع في تبنيه لنفس الفكر والتعبير ـ والتي هي بالفعل أبعد من أي دليل ـ قام في مواضع عدة بتشويه أو تحوير الفقرات التي اقتبسها، عن أصلها الموجود في كتابات البابا كيرلس.[13]

وماذا إذاً عن صيغة إعادة الوحدة عام 433م، والتي اعترف فيها البابا كيرلس بتعبير ’طبيعتين‘؟ ألا يعد هذا الموقف تغييراً عن التقليد الراسخ الذي أشار إليه ساويروس؟.

لقد اهتم البطريرك ساويروس في إجابته على هذه النقطة بالسياق التاريخي لتلك الوثيقة بالإضافة إلى المعنى الفعلي للفقرة موضع التساؤل التي ورد فيها ذلك التعبير. وقد أكد البطريرك ساويروس[14] أن صيغة إعادة الوحدة عام 433م كانت قد وضعت في ظروف وجود شقاق في الكنيسة، وكان هذا الشقاق نفسه نتيجة عدم استطاعة الجانب الأنطاكي فهم الإيمان على نحو سليم.

وفي هذا السياق ومن أجل استعادة الوحدة في الكنيسة ـ وبالتالي مساعدة الأنطاكيين لكي يدركوا تدريجياً التقليد الآبائي في تفسير العقيدة ـ قام ق. كيرلس، كطبيب حكيم، بقبول الوثيقة التي أُرسلت إليه من يوحنا الأنطاكي. وكانت تلك الوثيقة هي التي تحوي العبارة محل السؤال، والتي أيَّدها البابا كيرلس من أجل السلام داخل الكنيسة.

وأكد البطريرك ساويروس أن ق. كيرلس على الرغم من ذلك، لم يوافق على تلك الصيغة إلا بعد صون كل المبادئ الأساسية التي يتعين المحافظة عليها. وهكذا رأى البابا كيرلس فيها أن الأنطاكيين قبلوا مجمع عام 431م دون أي شروط، ووقعوا على إدانة نسطوريوس بتعبيرات قاطعة وواضحة، وأكدوا أن العذراء هي والدة الإله ’ثيؤطوكس‘ بدون إضافة أنها كانت أيضاً والدة الإنسان ’أنثروبوطوكس‘ أو والدة المسيح ’خريستوطوكس‘.

وبناءً عليه لا تكون صيغة إعادة الوحدة قد قدمت أي أساس لاستخدام عبارة ’طبيعتين بعد الإتحاد‘، وبتعبير آخر فإن البطريرك ساويروس أصر على أنه لا يمكن الاستشهاد بمرجعية وسلطة صيغة إعادة الوحدة، إلاّ بعد أن نأخذ في الاعتبار بنود الاتفاق الأخرى التي رافقتها.

وأضاف البطريرك ساويروس[15] أن هذه الحقيقة ستتضح أكثر إذا نظرنا إلى المعنى الفعلي للعبارة موضع التساؤل، فقد ذكرت أن اللاهوتيين يأخذون بعضًا من أقوال وأعمال ربنا باعتبارها تشير إلى البروسوبون الواحد، ويقسّمون الأخرى بين الطبيعتين.

ولم يكن القصد هنا هو تقسيم الأقوال والأفعال “بين الطبيعتين بحيث أن بعضاً منها تُنسب إلى الطبيعة اللاهوتية بمفردها، وبعضاً منها تُنسب إلى الطبيعة البشرية وحدها: لأنها كلها للطبيعة الواحدة المتجسدة لله الكلمة، وإنما نحن ندرك الاختلاف في الكلمات والأفعال؛ فالبعض لائق بالله والبعض لائق بالإنسان والبعض يليق باللاهوت والناسوت معاً”.[16]

والحقيقة أن تلك العبارة الواردة في صيغة إعادة الوحدة لا تتعارض مع المبدأ الكيرلسي في رؤية الفرق بين اللاهوت والناسوت في المسيح الواحد ’على مستوى الفكر والتأمل فقط‘. وكان البطريرك ساويروس يريد أن يؤكد أن مجمع خلقيدونية قد ذهب إلى أبعد مما يتضمنه هذا الفكر بإقراره لعبارة ’طبيعتين بعد الإتحاد‘.

ثانياً: في ضوء الأساس اللاهوتي

كان البطريرك ساويروس قد أكد مرات ومرات أن عبارة “’طبيعتين بعد الإتحاد‘ تحمل ضمنياً مفهوم أن الجنين البشري قد تكوَّن بذاته أولاً في الرحم ثم اتخذه الله الكلمة فيما بعد.”[17]

وطبقاً لهذا المفهوم، فإن الإنسان يظل إنساناً والله الابن يظل الله الابن في حالة من التواجد المشترك، ولكن بدون أن يكونا متحدين بالمعنى الحقيقي في يسوع المسيح. وقد أكد ساويروس والقادة غير الخلقيدونيين الآخرين أن هذا الموقف اللاهوتي كان هو الموقف الذي أقره رجال مدرسة أنطاكيا والذي أُعلن أنه موقف هرطوقي بواسطة مجمع عام 431م.[18]

ولكي يثبت البطريرك ساويروس أن الأنطاكيين كانوا بالحقيقة يتمسكون بذلك الموقف نفسه، اقتبس بصورة مكثفة من كتابات رجال أمثال ديودور الطرسوسي، وثيؤدور الموبسويستي، ونسطوريوس، وثيؤدوريت أسقف قورش وغيرهم. وسنقوم فيما يلي بعرض فقرة واحدة من كتابات كل من أولئك الرجال:

من ديودور الطرسوسي[19]

“وحيث إن الجسد كان من مريم قبل أن يُتخذ، فهو من الأرض وغير مختلف عن أي جسد آخر بأي شكل من الأشكال. ومثل لاوي الذي أخذ الأعشار بينما كان في صلب أبيه ثم تقبل هذه الكرامة حين وُلد،* فإن الرب أيضاً حين كان في رحم العـــذراء كان من جـوهرها   (her ousia) ولم يكن له كرامة البنوة، ولكن حين تكوَّن وأصبح هيكل الله الكلمة واقتبل المولود الوحيد، فقد مُنح كرامة الاسم وبالتالي استلم أيضاً منه المجد”.

وذكر البطريرك ساويروس أن البابا كيرلس السكندري كان قد عارض هذه الفقرة في الكلمات التالية:[20]

“إنك تعبِّر بكلمات تدل على الجهل وهي ضارة جداً، فذلك الجسد المقدس كان بالفعل من مريم، ولكنه منذ أول بداية تكوينه، أي منذ (لحظة) وجوده في الرحم، كان مقدساً بكونه جسد المسيح، ولا أحد يتصور أنه كانت هناك لحظة واحدة لم يكن فيها (ذلك الجسد) جسده. ولكن مع كل ما ذكــرت، فإنه ـ كما تقول أنت ـ كان (جسداً) عاماً مثل أي جسد آخر”.

ومن الواضح أن كلاً من ق. كيرلس والبطريرك ساويروس قد فهم الفقرة المأخوذة من ديودور على أنها تؤكد أن الطفل البشري قد تكوَّن في رحم العذراء بمعزل عن اتحاده مع الله الكلمة، ومن ثم كان هناك وقت ـ بصرف النظر عن قصر فترة ذلك الوقت ـ كان فيه ذلك الطفل في الرحم كائناً (مستقلاً) بذاته بدون أن يكون متحداً مع الله الابن.

ولا يستطيع موقف لاهوتي مثل هذا أن يعترف باتحاد إلاّ في نطاق (أو على مستوى) البروسوبون فقط، كما أنه لا يعتبر موقفاً لاهوتياً كافياً لتأكيد المفهوم الحقيقي للتجسد. وفي ضوء هذه النظرة (للتجسد) قام الأنطاكيون برفض تعبير والدة الإله ’ثيؤطوكس‘ عند الإشارة إلى العذراء مريم. وقد وجد البطريرك ساويروس نفس الفكرة عند كل من ثيؤدور الموبسويستي ونسطوريوس وثيؤدوريت أسقف قورش.

من ثيؤدور الموبسويستي:[21]

“وعندما يسألون هل كانت مريم ’والدة الإنسان – أنثروبوطوكس‘ أو ’والدة الإله – ثيؤطوكس‘، نجيب بأنها كانت كلتيهما ـ (اللقب) الأول بسبب طبيعة ما حدث بالفعل، أما الثاني فعلى أساس الإعلاء. فبالطبيعة كانت ’أنثروبوطوكس‘ لأن ذاك الذي كان في رحم مريم كان إنساناً وهو قد وُلد من هناك، كما أنها كانت ’ثيؤطوكس‘ لأن الله كان في الإنسان الذي وُلد. وهذا ليس معناه أن الله انحصر فيه بالطبيعة، وإنما كان فيه بواسطة شركة الإرادة”.

من نسطوريوس:[22]

“إن مريم لم تلد اللاهوت، ما أعظمه. فالذي وُلد من الجسد هو جسد، والمخلوق لا يلد غير المخلوق. والآب لم يلد الله الكلمة ثانية من العذراء، ولكنها ولدت الإنسان الذي كان أداة للاهوت. والروح القدس لم يخلق الله الكلمة حيث إن الذي كان فيها قيل إنه من الروح القدس، ولكن الروح القدس كوَّن من العذراء هيكلاً لله الكلمة. والله لم يمت بكونه صار إنساناً، ولكنه أقام ذاك الذي فيه صار إنساناً”.

من ثيؤدوريت أسقف قورش:[23]

“ومن الصحيح بنفس الطريقة أن نعترف ببروسوبون واحد، المسيح والابن، ولكن (بـ) هيبوستاسين إثنين وهما اللذين اتحدا،أي الطبيعتين”.

“نحن نشير إلى المسيح بكونه إنساناً يلبس الله، ليس بمعنى أنه تقبل العطية الإلهية جزئياً، ولكن بكونه واحداً اتحد به كل اللاهوت”.

وبناءً على تلك الفقرات والعديد من الفقرات الأخرى المقتبسة من كتاباتهم، توصل البطريرك ساويروس إلى أن رجال التقليد الأنطاكي لم يقروا بإتحاد حقيقي للطبيعتين؛ ولكنهم اعترفوا فقط بالوجود المشترك لله الابن والإنسان، في المسيح، ولكي يؤكدوا هذا الموقف أصروا على ’طبيعتين بعد الإتحاد‘. ومن ثم لا يمكن لمجمع خلقيدونية ـ في سياقه التاريخي هذا ـ أن يكون قد عني بعبارة ’في طبيعتين‘ أي شيء أكثر مما أكده التقليد الأنطاكي.[24]

ومن الجدير بالذكر أننا هنا لسنا بصدد الدفاع عن وجهة نظر ساويروس، ولكن ما أردنا تأكيده فقط هو أن البطريرك ساويروس والقادة غير الخلقيدونيين في انتقادهم لعبارة ’في طبيعتين‘ ـ الواردة في تعريف الإيمان الخلقيدوني ـ لم يكونوا متبنين موقفاً ’مونوفيزايت‘ (أي موقفاً ينادي بطبيعة وحيدة للمسيح). ويتضح لنا من السياق التاريخي لمجمع خلقيدونية أن القادة الذين تربوا على التقليد اللاهوتي السكندري كانت لديهم الفرصة ليعبِّروا عن اعتراضهم على عبارة ’طبيعتين بعد الاتحاد‘ أو عبارة ’في طبيعتين‘، ولكن الحقيقة الجلية هي أن الجانب الخلقيدوني لم يتعامل مع تلك الاعتراضات بصورة جدية على الإطلاق.

وقد أكد البطريرك ساويروس أنه على أحسن الأحوال يمكن لعبارة مجمع عام 451م ’في طبيعتين‘ أن تعني ’طبيعتين متحدتين بعد الاتحاد‘،[25] وكان هذا التفسير مقبولاً حتى من نسطوريوس نفسه ومن مؤيديه. ولذلك لا يستطيع مجمع خلقيدونية ـ الذي يزعم بأنه قد استبعد النسطورية ـ أن يبرر نفسه في تبنيه لعبارة ’في طبيعتين‘.

وماذا أيضاً عن الاتحاد الهيبوستاسي، والهيبوستاسيس الواحد؟ هل لم يوافق مجمع خلقيدونية عليهما، مع أن النسطورية كانت قد رفضتهما؟.

يقول البطريرك ساويروس، إنه من الصحيح أن مجمع خلقيدونية تكلم عن ’هيبوستاسيس واحد‘، ولكن ماذا كان يعني المجمع بذلك التعبير؟، وهنا يصر ساويروس أن تعبيري ’الاتحاد الهيبوستاسي‘ و ’الهيبوستاسيس الواحد‘ لا يمكن أن يتفقا مع عبارة ’في طبيعتين‘ أو ’طبيعتين بعد الإتحاد‘.[26]

ولهذا السبب فإن مجمع خلقيدونية في تأكيده على هذين التعبيرين (أي الإتحاد الهيبوستاسي والهيبوستاسيس الواحد) لم يستطع أن يحافظ على المعنى الحقيقي الذي قصده الآباء منهما. وأشار البطريرك ساويروس كتأييد لحجته إلى خطاب أرسله ثيؤدوريت أسقف قورش إلى يوحنا أسقف (Agae)، كما أشار كذلك إلى طومس ليو.

ويُظهر خطاب ثيؤدوريت إلى يوحنا أسقف (Agae)[27] كيف كان كاتبه يفهم معنى تعبير ’هيبوستاسيس واحد‘ الوارد في تعريف الإيمان الخلقيدوني. وكان يوحنا هذا متمسكاً بالتقليد الأنطاكي، لذلك اعترض على تبني مجمع خلقيدونية لتعبير ’هيبوستاسيس واحد‘. فكتب له ثيؤدوريت خطاباً جاء فيه:

“ومن هنا فإن أولئك الذين أشاروا إلى طبيعتين، (قد أكدوا) الاتحاد غير المختلط. ومن الواضح أيضاً أنهم لم يأخذوا تعبير ’هيبوستاسيس واحد‘ بمعنى الجوهر (الأوسيا) ولا بمعنى الطبيعة (الفيزيس)، ولكن بمعنى البروسوبون”. وفي فقرة ثانية كتب ثيؤدوريت: “وهكذا أكد المجمع المقدس على تعبير ’هيبوستاسيس واحد‘، ولكنه ـ كما قلت ـ لم يأخذ كلمة ’هيبوستاسيس‘ بمعنى ’الطبيعة‘ ولكن بمعنى ’البروسوبون‘، وهذا يتضح من تعريف الإيمان لأن ’بروسوبون‘ و’هيبوستاسيس‘ هما مصطلحان شقيقان”.[28]

ويذكر البطريرك ساويروس أن “طومس ليو قد أشار إلى ’الإتحاد‘ ثلاث مرات، ولكنه لم يصون في أي مرة منها المعنى الذي يفيد الاتحاد الهيبوستاسي أو أن الطبيعتين الإلهية والبشرية قد إنجمعا معاً في وحدة، ولم يقر الطومس إلا بالاتحاد في (نطاق) البروسوبون فقط.[29] ومن الواضح على أية حال أن طومس ليو لم يُظهر فهمه للإتحاد الهيبوستاسي، وبالتالي ناقض التقليد العقائدي للكنيسة.

وارتكب مجمع خلقيدونية نفس الخطأ، لأنه من غير الممكن تبرير استخدامه لعبارة ’في طبيعتين‘ لا في ضوء التقليد ولا في ضوء المبادئ اللاهوتية المستقرة.

ولم تكن حجج البطريرك ساويروس التي ساقها ضد مجمع خلقيدونية ـ كما ذكرنا قبلاً ـ هي نتيجة تمسكه بهرطقة ’المنوفيزايت‘ (أو هرطقة الطبيعة الوحيدة)، ولكن أي واحد في القرنين الخامس والسادس من الذين تربوا على التقليد السكندري ـ وغير منساق في الدفاع عن مجمع خلقيدونية ـ كان يستطيع أن يتبنى بسهولة نفس وجهة النظر التي تمسك بها البطريرك ساويروس.

(هـ) القادة غير الخلقيدونيين الآخرين:

وبعد عصر البطريرك ساويروس وحدوث الانقسام الدائم بين الخلقيدونيين وغير الخلقيدونيين، صدرت سلسلة من الوثائق من جانب غير الخلقيدونيين.[30] ونجد أنه في جميع تلك الوثائق، حينما كانت تأتي الإشارة إلى مجمع خلقيدونية، كان أحد أسباب رفض المجمع التي يذكرها الشخص أو المجموعة أن المجمع تعدى تقليد الكنيسة الثابت. وكان الدليل الذي يُذكر على ذلك هو تبني عبارة ’في طبيعتين‘ وطومس ليو الذي أعلنه المجمع كوثيقة للإيمان.

(و) بعض الملاحظات الختامية:

إن الفحص الدقيق للشروح اللاهوتية وتصريحات الإيمان التي أصدرها القادة غير الخلقيدونيين منذ وقت مجمع خلقيدونية، يُظهر بوضوح الحقائق التالية:

  • لا يمكن لأي ناقد أن يشير إلى فقرة واحدة في الإنتاج الضخم لغير الخلقيدونيين، ويثبت من خلالها أنه في وقت ما كان هناك واحد من القادة ـ الذين يعتبرهم التقليد غير الخلقيدوني لاهوتيين وآباء للكنيسة ـ قد انتقد مجمع خلقيدونية بسبب تأكيد المجمع على كمال وحقيقة ناسوت المسيح.

     

  • لقد عارض القادة غير الخلقيدونيين عبارة ’طبيعتين بعد الإتحاد‘ بسبب خوفهم الصادق من كونها عبارة غير كافية لتأكيد وحدة المسيح.
  • لم يزد اعتراض غير الخلقيدونيين عن مجرد طلب تعديل في الصياغة العقائدية التي تبناها مجمع خلقيدونية. ولكن لا القوى التي سيطرت على المجمع، ولا القيادة الخلقيدونية بعد ذلك، أظهرت من طول الأناة ما يسمح بالاستماع لما تعين على غير الخلقيدونيين أن يقولوه ثم اقتراح طريقة لعلاج انقسام الكنيسة.

     

  • وأمام النقد الذي واجهه الخلقيدونيون من معارضيهم، شرعوا في إعطاء تفسير لعبارة’في طبيعتين‘، وأوضحوا أن تلك العبارة إنما تؤكد: الاستمرار الديناميكي للطبيعتين ـ مع كمال وحقيقة وسلامة خواصهما وملكاتهما ـ في المسيح الواحد بغير اختلاط. وحيث إن هذا التفسير كان هو نفس الموقف الذي طالما أكده الجانب غير الخلقيدوني، فلم يرى القادة غير الخلقيدونيين أي داعٍ لعبارة ’في طبيعتين‘ التي وضعها المجمع.

3. الاعتراضات الأخرى على المجمع:

أما الأسباب الأخرى التي أشار إليها الجانب غير الخلقيدوني في رفضه لمجمع خلقيدونية، فكانت تؤخذ في الأغلب كدليل إضافي يؤيد حجتهم في أن المجمع كان مخطئاً بالفعل ومتسرعاً في قراراته. وكانت هذه الأسباب تدور حول:

– قبول المجمع لطومس ليو

– صياغة المجمع لتعريف (جديد) للإيمان

– تبرئة المجمع لثيؤدوريت أسقف قورش وإيباس

وقد قام الجانب الخلقيدوني بالتسليم ضمنياً بقناعته بكل تلك الاعتراضات، فعلى سبيل المثال أدى التفسير الذي قدَّمه الجانب الخلقيدوني لعبارة ’في طبيعتين‘، إلى توضيح المعنى الذي يجب أن يؤخذ عليه طومس ليو. كما أظهرت حقيقة كون الجانب الخلقيدوني لم يحاول على الإطلاق استبدال قانون إيمان نيقية بصيغة مجمع خلقيدونية، أن خوف الجانب غير الخلقيدوني في هذا الشأن لا ينبغي أن يدوم.

هذا بالإضافة إلى أن قرار مجمع عام 553م بخصوص ’الثلاثة فصول‘، كان إقراراً واضحاً بأن مجمع عام 451م قد ارتكب خطأ في قضية ثيؤدوريت وإيباس. ولو كان الجانب الخلقيدوني والسلطة الإمبراطورية في القسطنطينية، مستعدون فقط للاعتراف صراحة بأن مجمع خلقيدونية يحتاج إلى مراجعة، لكان من الممكن لتاريخ الكنيسة في الشرق أن يكون مختلفاً.

[1]  Contra Grammaticum, op. cit., III, p. 12.

[2]  يشير البطريرك ساويروس إلى التعبيرات غير المحددة التي استخدمها الآباء أمثال ق. أثناسيوس وق. غريغوريوس النزينزي وحتى ق. كيرلس قبل إندلاع الجدل النسطوري. انظر:

(Severi Antiocheni Orationes ad Nephalium, C. S. C. O. Tomus VII, ed. J. Lebon, 1949, Syriac, pp. 3f and Contra Grammaticum, op. cit., III, pp. 1f).

[3]  هذه النقطة يكررها البطريرك ساويروس بإستمرار في كل كتاباته تقريباً التي تتعرض لهذا الموضوع.

[4]  يرى الباحثون المعاصرون أن الفقرات التى اقتبسها البطريرك ساويروس والقادة غير الخلقيدونيين الآخرين هي من مصادر أبولينارية ملفقة. وهذا الأمر لم نتجاهله هنا، ويمكن الرجوع إلى تعليقاتنا عليه في صفحة 350 وما يليها.

[5]  Philalethes, op. cit., p. 137.

[6]  Ad Nephalium, op. cit., p. 83.

*  انظر نفس هذا المفهوم عند ق. كيرلس في الحاشية صفحة 507.

[7]  للرجوع إلى مناقشة حول الكتاب الخلقيدوني وكتاب ساويروس ’محب الحق‘، انظر:

(R.V. Sellers, The Council of Chalcedon, op. cit., pp. 284f, with the notes).

[8] النسخة السريانية لكتاب ’محب الحق‘ (Philalethes) التي نُشرت في (C. S. C. O.) غير كاملة، حيث إنها تفتقد لأجزاء عديدة منه.

[9] وهذا يُظهر أنه كان يتم الدفاع عن مجمع خلقيدونية من خلال تحريف موقف منتقديه.

[10] Philalethes, op. cit., p. 187.

[11]  لقد كرر البطريرك ساويروس هذه النقطة مراراً، ففي كتابه ’محب الحق‘ على سبيل المثال، وبعد شرحه لعبارة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”، كتب البطريرك ساويروس: “وهذا يدل على الوحدة غير المنقسمة، لأن الجسد استمر على ما هو عليه بدون أن يتحول إلى طبيعة الكلمة؛ ولا تغيرت طبيعة الكلمة إلى الجسد، ولكن التجسد حدث حقاً بدون أي تغيير أو خيالية”. (المرجع السابق صفحة 133).

وفي كتابه ’ضد النحوي‘ حينما كان يناقش معنى مصطلحي ’هيبوستاسيس‘ و’بروسوبون‘، وبعد إشارته إلى تشبيه ’الجسد – الروح‘، كتب البطريرك ساويروس: “وبنفس الأسلوب، من اللاهوت والناسوت، أي من الجسد البشري المحيَّ بنفس عاقلة، وكل (منهما) بكماله وحسب أصل مبدأه، فإن عمانوئيل هو ’بروسوبون‘ واحد من خلال الوجود المتزامن لكليهما في الإتحاد بدون تغيير أو اختلاط”. (مرجع سابق، 1: صفحة 77).

[12]  ينبغي أن نتذكر أن جهود المؤيدين لخلقيدونية في القرن السادس من أجل الدفاع عن مجمع عام 451م، كانت ترتكز على الإدعاء بأن مجمع خلقيدونية قد تبنى نفس تعليم ق. كيرلس الذي كان قد استبق المجمع بهذا التعليم.

[13]  لقد شكا البطريرك ساويروس “أن مؤلف الكتاب قد شوّه بمكر كلمات ق. كيرلس، حيث قام في بعض المواقف بإضافة أشياء وفي البعض الآخر بحذف أشياء أخرى”. انظر:

(Philalethes, op. cit., p. 129)

[14] ناقش البطريرك ساويروس مسألة إعادة الوحدة عام 433م بالتفصيل في كتابيه ’محب الحق‘ و’ضد النحوي‘، وأشار إلى رسائل البابا كيرلس إلى أكاكيوس أسقف ميليتين وفالريان أسقف إيقونيوم وسكسينسوس أسقف ديوقيصرية. انظر:

(Philalethes, pp. 197f, and Contra Grammaticum, II, pp. 10f) 

[15]  للرجوع إلى هذا الموضوع انظر صفحة 36 وما يليها. وقد اقتبس البطريرك ساويروس الفقرة محل التساؤل في كتاب ’محب الحق‘ صفحة 201 وفي كتاب ’ضد النحوي‘ 2: صفحة 33.

[16] Philalethes, op. cit., pp. 200-201.

[17]  كتب البطريرك ساويروس: “إن عبارة ’طبيعتين بعد الإتحاد‘ تعني بالنسبة للمتمسكين بها أن الإنسان قد تكوَّن بنفسه أولاً في الرحم، ثم سكنه الكلمة فيما بعد. وهم يصفون هذه السكنى  بكلمة ’الاتحاد‘، وطبقا لهذا هم ينسبون طبيعتين لعمانوئيل، ويستخدمون عبارة “طبيعتين بعد الإتحاد” للتعبير عن ذلك”. انظر: (Philalethes, op. cit., p. 138).

[18]  ولم تكن نظرة البطريرك ساويروس للموقف الأنطاكي ـ كما سنرى ـ نظرة خاطئة.

[19] Philalethes, p. 140 and Contra Grammaticum, I, p. 182.

*   يشير ديودور في هذه العبارة إلى (عب 7: 7 – 10)، حيث قيل أن لاوي قبل ولادته كان له نفس وضعه الذي ناله فيما بعد، لأنه أُعتبر أنه كان في صلب أبيه إبراهيم حتى قبل الولادة.

[20] Philalethes, p. 140.

[21] Contra Grammaticum, I, pp. 134-135.

[22] Philalethes, pp. 140-141.

[23]  المرجع السابق صفحة 148-149.

[24]  يؤكد البطريرك ساويروس أنه إذا أُخذ تعبير ’هيبوستاسيس واحد‘ الذي ورد في تعريف الإيمان الخلقيدوني بمعنى ’بروسوبون واحد‘، فلن يكون هناك عندئذ أي شيء يمكن أن يرفضه نسطوريوس.

[25] Contra Grammaticum, I, pp. 118f.

اقتبس البطريرك ساويروس قول نسطوريوس: “أنا أجسد الكنيسة، وأتحدث عن نفس الشيء لكل واحد. أنا، المسيح، إله كامل وإنسان كامل، ليس كطبيعتين مختلطتين الواحدة مع الأخرى، ولكن كطبيعتين متحدتين”. (ص 119).

[26] هذا التأكيد كان البطريرك ساويروس قد شدد عليه في أماكن عديدة. انظر على سبيل المثال: (Contra Grammaticum, I, pp. 178f)

[27]  للإطلاع على إشارة البطريرك ساويروس للخطاب انظر: (Philalethes, pp. 177-78).

[28]  يشير سيلرز إلى خطاب ثيؤدوريت إلى يوحنا أسقف (Agae)، في كتابه:

(The Council of Chalcedon, op. cit., p. 213, n. 2).

وقد علق بأن ثيؤدوريت حاول أن يقنع يوحنا بأن مصطلح ’هيبوستاسيس واحد‘ الخلقيدوني لم يعني ’جوهر واحد‘ (one substantia)، ولكن سيلرز مع ذلك لم يبين ماذا كان يعني هذا المصطلح عند أسقف قورش. ويرى شارلز موللر أن محاولة ثيؤدوريت لجعل معنى ’هيبوستاسيس‘ يتوازى مع معنى ’بروسوبون‘ هي مساهمة لاهوتية منه. انظر: (Das Konzil Von Chalkedon, op. cit., I, p. 658)

[29] Contra Grammaticum, I, p. 294.

[30]  عدد كبير من هذه الوثائق تضمنته أعمال ’زكريا الخطيب‘، و’يوحنا أسقف أفسس‘، و’ميخائيل السرياني‘. وقد ذكرنا العديد منها في دراستنا الحالية.

الاعتراضات على مجمع خلقيدونية ج2