أبحاث

مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج2

مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج2

مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج2

مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج2
مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج2

الجزء الأول: مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج1

4. يوحنا الدمشقي:

كان يوحنا الدمشقي راهباً رقد في حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي، وكان بحق واحداً من أهم اللاهوتيين النظاميين في التقليد الكنسي الخلقيدوني في العصور القديمة. وقد قدَّم يوحنا الدمشقي في كتابه ’نبع المعرفة‘ (Fount of Knowledge)[1] عرضاً مختصراً للهرطقات المختلفة، وهذا العرض يستوجب الانتباه لأنه يُظهر مدى تشوه صورة الموقف غير الخلقيدوني لديه، وكانت تلك الصورة في الأغلب هي التي لدى كل الجانب الخلقيدوني بصفة عامة.

وفي كتابه ’الإيمان الأرثوذكسي‘ (Orthodox Faith) نستطيع أن نجد شرحاً نظامياً لعقيدة التجسد التي يتمسك بها الجانب الخلقيدوني في الشرق.

(أ) تقييم الجانب غير الخلقيدوني:

ذكر يوحنا الدمشقي في قائمة الهرطقات التي أشار إليها أربعة عناوين (أو مجموعات)، وقد قام بتقديم وصف لكل مجموعة منها. وكانت هذه المجموعات هي كالتالي:

-المصريون

-أتباع ساويروس (Severians)

-الذين يؤمنون بعدم قابلية جسد المسيح للفساد (Aphthartodocetae) *

-الذين يدّعون أن المسيح كان يجهل بعض الأمور (Agnoete) أو أتباع ثيميستيوس[2] (Themistians) #

وكان يوحنا الدمشقي يرى أن كل تلك الهرطقات هي أقسام مختلفة للهرطقة التي أسماها ’أتباع ساويروس (Severians)‘ أو ’أتباع ثيؤدوسيوس (Theodosians)‘. وكان خطأ ’المصريين‘ من وجهة نظر الدمشقي أنهم لم يقبلوا مجمع خلقيدونية وأنهم انتقدوه، وحيث إن قائدهم كان ثيؤدوسيوس لذلك دعاهم ’أتباع ثيؤدوسيوس‘.

أما وصفه لأتباع ساويروس فكان مثيراً للغاية، لأنه يبدو في الأغلب أنه لم يرى أياً من أعمال البطريرك ساويروس نفسه، ولذلك ففي تفنيده للموقف اللاهوتي لساويروس قام اللاهوتي الخلقيدوني ببساطة بذكر فقرات معينة من كتاب يوحنا فيلوبونوس الذي كان من جماعة المنادين بثلاثة آلهة في القرن السادس، وكان الكيان غير الخلقيدوني قد بادر بإدانة فيلوبونوس عدة مرات كهرطوقي.[3]

وبالنسبة لمن دعاهم (Aphthartodocetae) فكان يوحنا يشير إلى الجماعة التي تقتدي بشخصية وتعليم يوليان أسقف ’هاليكارنيسوس‘ (Halicarnassus). ولقد ذكرنا فيما قبل أن يوليان ومؤيده قيانوس السكندري ـ واللذين كانا بالنسبة ليوحنا الدمشقي من أتباع ساويروس ـ قد أدانهما الكيان غير الخلقيدوني تحت قيادة البطريرك ساويروس نفسه.[4] أما الجماعة الأخيرة والتي دعاها الدمشقي (Agnete) فهم شيعة ليس لدينا عنها أية معلومات.

وكانت كتابات البطريرك ساويروس الأنطاكي الأصلية المدونة باليونانية قد دُمرت بالكامل بأوامر الإمبراطور جوستينيان؛ ولكنها نجت بجملتها في ترجمتها السريانية فقط والتي كانت هي المتاحة في تلك الأزمنة القديمة. وعلى هذا فمن الممكن ألا يكون يوحنا الدمشقي قد قرأ أياً من أعمال البطريرك ساويروس الأنطاكي.

وفي كتابه ’الإيمان الأرثوذكسي‘ وصف الدمشقي البطريرك ساويروس بأنه تابع ’للمهلك ديسقوروس‘ ولأوطيخا و’رفقائهم الملاعين‘، كما قال عنه أنه قد علَّم بأن اتحاد الطبيعتين في المسيح قد حدث “بالامتزاج، والاختلاط والدمج والتحضير (أي تكوين منتج جديد)”.[5]

وكل هذه الحقائق تُظهر بوضوح أن يوحنا الدمشقي لم يتلقى معلومات حقيقية عن طبيعة الشقاق الذي حدث في الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية؛ كما تُظهر أيضاً أنه لم يكن لديه فهم صحيح للموقف اللاهوتي الذي يتمسك به الجانب غير الخلقيدوني. ومن ناحية أخرى وكما سنرى، فإن أي شيء ذو قيمة في التعليم الخريستولوجي للدمشقي، سنجد أننا نستطيع أن نتتبع أثره عند البطريرك ساويروس نفسه وبقية اللاهوتيين في الجانب غير الخلقيدوني.

(ب) يسوع المسيح، الله الابن المتجسد:

كان الفكر اللاهوتي ليوحنا الدمشقي هو في الواقع امتداد للتقليد الذي وضعه يوحنا النحوي ومؤلف كتاب ’الاقتباسات الكيرلسية‘. ولذلك زعم الدمشقي ـ متفقاً في ذلك مع النحوي ـ أن مصطلح ’طبيعة‘ في عبارة ’في طبيعتين‘ يدل على ’الأوسيا‘، وكان هذا المفهوم يخص بالتحديد ناسوت المسيح. كما تبع الدمشقي يوحنا النحوي أيضاً في إصراره على أن الناسوت لم يكن له هيبوستاسيس خاص به، وهذه العبارة يمكن أن تعني إما أن الله الابن اتخذ الناسوت كحقيقة عامة مجردة، أو أن الناسوت لم يصبح هيبوستاسيس بذاته (مستقلاً).

وكان النحوي قد تبنى المفهوم الأول مؤكداً في نفس الوقت أن الناسوت قد صار واقعاً خاصاً محدداً برغم أنه لم يكن واقعاً أقنومياً (hypostatic). ولكن الدمشقي اعترف بأن ناسوت المسيح لم يكن بغير هيبوستاسيس، لأن الله الكلمة أعطاه الهيبوستاسيس الخاص به. وهذا هو مفهوم ’التأقنم‘ (enhypostasia) أي أن الناسوت الذي لم يكن متأقنماً قد صار متأقنماً باستلامه الهيبوستاسيس الخاص بالله الكلمة.*

ويمكننا أن نرى في هذا التفسير  أن اللاهوتي الخلقيدوني يشرح مفهوم ’الهيبوستاسيس الواحد‘ للمسيح بحسب تعريف الإيمان الخلقيدوني، أي إنه هو هيبوستاسيس الله الابن. وفي التجسد وحَّد الله الابن بنفسه ناسوتاً بأن قدم له الهيبوستاسيس الخاص به.

وهنا يبرز السؤال التالي: هل صار الناسوت واقعاً أقنومياً (hypostatic) في اتحاده بالله الكلمة، أم أن الجسد الذي له روح عاقل مفكر، والذي اتخذه الله الكلمة من رحم العذراء كجسده الخاص، كان ناسوتاً بالمعنى العمومي المجرد فحسب؟ فإذا كانت إجابة الدمشقي هي الحالة الأولى، فإن هذا بالتحديد هو ما كان يؤكد عليه البطريرك ساويروس الأنطاكي. ولكن هذا السؤال مع ذلك ليس من السهل الإجابة عليه.

ولا يقر الدمشقي أن ناسوت المسيح كان له الهيبوستاسيس البشري الخاص به، ولكنه مع ذلك ذكر في مواقف متعددة أن المسيح له شخص مركب[6] والذي اعتبرته بمعنى ’هيبوستاسيس مركب‘. وكما رأينا، كان ’الهيبوستاسيس المركب‘ عند البطريرك ساويروس يُعامل نفس معاملة ’الطبيعة المركبة‘،[7] وهو يعني كيان متفرد (مخصخص) تكوَّن نتيجة الوجود المتزامن لاثنين من الأوسيا معاً.

وفي تواجدهما المتزامن، يكون لكل واحد من الاثنين أوسيا، حقيقته الأقنومية في ’الهيبوستاسيس المركب‘. وعلى سبيل المثال فإنه في يسوع المسيح، وحَّد لاهوت الكلمة ـ الذي هو هيبوستاسيس أزلي ـ بنفسه ناسوتاً أصبح واقعاً أقنومياً (hypostatic) في اتحاده مع هيبوستاسيس الله الكلمة. فهل هذا هو المعنى الذي كان يقصده الدشقي في تأكيده أن يسوع المسيح هو ’شخص مركب‘*؟.

ومن المناسب هنا ـ ونحن نضع نصب أعيننا هذا السؤال ـ أن نقدِّم ملخصاً مختصراً للشرح اللاهوتي الذي قدَّمه الدمشقي عن شخص المسيح. فقد أكد يوحنا الدمشقي عقيدة الثالوث القدوس بكونه ثلاثة هيبوستاسيس في أوسيا واحد. وأقر أن الله الابن، أو الله الكلمة، الواحد من الثلاثة هيبوستاسيس، قد صار إنساناً.

وأن طبيعتي اللاهوت والناسوت قد اتحدتا أقنومياً (hypostatically) بدون أن تتغير واحدة منهما إلى الأخرى أو تختلط واحدة منها بالأخرى، وبدون أن تدخل الطبيعتان معاً في تكوين طبيعة واحدة (جديدة) كشيء ثالث (tertium quid[8] ولكن الطبيعتان تزامنتا معاً في اتحاد أقنومي (hypostatic union) بواسطته صار ’هيبوستاسيس‘ الله الابن هو ’هيبوستاسيس‘ يسوع المسيح[9] الذي يتركب من ويوجد في الطبيعتين اللتين بقيتا كاملتين وصحيحتين حتى بعد الاتحاد.

وهكذا فإن المسيح الواحد يتضمن المخلوق وغير المخلوق، الفاني وغير الفاني بدون اختلاط، ويوجد بينهما تبادل للخصائص الذي من خلاله “يجعل الكلمة الأشياء البشرية خاصة به، لأن ما يخص جسده المقدس ينتمي له؛ والأشياء التي تخصه (أي التي تخص الكلمة) أوصلها إلى جسده”.[10] 

وبقيت الطبيعتان بكل خواصهما وملكاتهما في الهيبوستاسيس الواحد، ولذلك استمر المخلوق مخلوقاً واستمر غير المخلوق غير مخلوق، واحتُفظ بالاختلافات التي بينهما كما هي في المسيح الواحد.[11]

أما السؤال عن كيفية تصور وحدة المسيح فقد شرحها يوحنا الدمشقي على النحو التالي: عندما تجسد الله الابن، وحَّد بنفسه جسداً مُحيَ بروح عاقل مفكر وجعله جسده الخاص.

ولكن “جسد الله الكلمة لم يكن كائناً بشكل مستقل، ولا كان هناك شخص آخر بجانب شخص كلمة الله. وإنما على العكس ففي شخص الكلمة صار الجسد كائناً (أوجد)، أو بالأحرى أصبح له شخصية (تأقنم)، ولم يصبح (الجسد) شخصاً كائناً في استقلالية بذاته. ولهذا السبب لم يكن (الجسد) تنقصه الشخصية ولا أدخل شخصاً آخر في داخل الثالوث.”[12]

وبالنسبة لتلك الفقرة التي تعتبر هي الحاسمة في فهم التعليم الخريستولوجي الرسمي للجانب الخلقيدوني في الشرق، فإنها لا تحتوي إلا على نقطة واحدة كان من المحتمل أن يطلب ساويروس عنها توضيحاً. وهذه النقطة تتعلق بالسؤال الذي ذكرناه آنفاً وهي بالتحديد التي جاءت في عبارة: “في شخص الكلمة صار الجسد كائناً (أوجد)، أو بالأحرى أصبح له شخصية”.

وقد عبَّر الدمشقي في الحقيقة بهذه الكلمات عن نظرية ’التأقنم‘ (enhypostasia) الخاصة باتحاد الطبيعتين في المسيح الواحد. وكان يعني بالتأكيد أن الله الابن، وهو هيبوستاسيس أزلي، صار متجسداً بأن وحد بنفسه ناسوتاً كطبيعة ثانية بالإضافة إلى اللاهوت الذي هو طبيعته الخاصة، ولذلك فإن يسوع المسيح هو هيبوستاسيس واحد يُعرف في طبيعتين.

وتتضمن نظرية ’التأقنم‘ (enhypostasia)، بالشكل الذي اعتنقها به اللاهوتيون الخلقيدونيون، اهتمامين أساسيين. أولاً، كانت تلك النظرية تسعى لكي تستبعد عقيدة وجود أربعة أقانيم (بعد التجسد) بدلاً من الثالوث، وكان هناك اعتقاد أن التأكيد الأنطاكي على أن ’الطبيعة‘ هي مرادف ’للهيبوستاسيس‘[13] يمكن أن يؤدي إلى موقف مثل هذا، ولذلك قصدت نظرية ’التأقنم‘ (enhypostasia) أن تُظهر أن تعريف الإيمان الخلقيدوني قد تجنب هذه الاحتمالية. ثانياً، كانت النظرية تهدف إلى تأكيد وحدة شخص (هيبوستاسيس) المسيح مع الحفاظ في نفس الوقت على حقيقة الطبيعتين.

وكان كل من الجانب الخلقيدوني وغير الخلقيدوني يوافق على هذا الأمر، ولكن الأخير كان قد عبَّر عنه بدون نظرية ’التأقنم‘ (enhypostasia)، أما الأول فقد قدَّم تلك النظرية على أمل أنه يستطيع من خلالها أن يستبعد بنجاح الهرطقة التي كان يتصورها عند المعارضين لمجمع خلقيدونية. ونجد أن الدمشقي على سبيل المثال يقوم بعرض نفس النقطة مرات عديدة:[14]

“لأنه اتخذ باكورة جسدنا البشري، ليس ككائن بذاته وكشخص (قد تكوَّن) مسبقاً ثم أخذه على هذا النحو، ولكن (كجسد) أخذ وجوده في شخصه (أي في شخص الكلمة). وهكذا فإن شخص الكلمة صار هو شخص الجسد”.*

والقول إن الطبيعة البشرية قد تخصخصت (تفردت) (individuated) قبل الاتحاد كان بالنسبة لكلا الجانبين هو تعليم المدرسة النسطورية.

وكان يوحنا النحوي ويوحنا الدمشقي قد عبرا ـ كما ذكرنا قبلاً ـ عن قبولهما لعبارة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”. ولم يكن البطريرك ساويروس يعارض رؤية الدمشقي في أن مصطلح ’طبيعة‘ الوارد في تلك العبارة كان يقصد به حقيقة اللاهوت العمومية التي هي أزلياً بكمالها في الله الكلمة.[15]

وأصر يوحنا الدمشقي على أن ق. كيرلس السكندري قد أكد أن لاهوت الكلمة في التجسد، وحَّد البشرية في شخصه، لذلك نستطيع أن نقول أن “اللاهوت اتحد بالبشرية في واحد من أشخاصه (أقانيمه)”، وكذلك أن “الله أخذ جوهرنا في اتحاد مع نفسه”.[16]

وكان يوحنا الدمشقي واضحاً في أن الله الابن لم يُنزل جسده من السماء،[17] ولكنه بسكناه في رحم العذراء، وبدون أن يخضع لأي تغيير في ذاته، صار جسداً وولد منها. ولم تلد العذراء مجرد رجل وحسب، ولكن الله الذي صار جسداً:

ولذلك فهي والدة الإله (ثيؤطوكس). وتحدث الدمشقي بمنتهى الوضوح عن المفهوم الخلاصي وراء هذه التأكيدات، حيث أقر أن الله الابن  صار إنساناً لأن “الطبيعة ذاتها التي أخطأت وسقطت وأصبحت فاسدة، ينبغي أن تتغلب على الطاغية الذي خدعها”.[18] وكان البطريرك ساويروس قد أكد نفس هذا المفهوم مراراً في مقاومته ليوليان أسقف هاليكارنيسوس.[19]

والسؤال الآن بعد عرضنا لتعاليم الدمشقي: هل توجد هناك أي فكرة في تعاليم الدمشقي ـ ماعدا ما يخص مسألة الحالة الأقنومية لناسوت المسيح ـ لم يقم البطريرك ساويروس واللاهوتيون غير الخلقيدونيين بتأكيدها مراراً وتكراراً؟.

(ج) إرادتان وفعلان:

يؤكد الدمشقي أنه تطابقاً مع (وجود) الطبيعتين فإن ليسوع المسيح “مجموعة مزدوجة من الخواص الطبيعية تنتمي إلى الطبيعتين: أي إرادتين طبيعيتين الإلهية والبشرية، فعلين طبيعيين إلهي وبشري، حكمة ومعرفة إلهية وأخرى بشرية”.[20] ومع ذلك أصر الدمشقي أنه في كلتا الطبيعتين يكون نفس الشخص هو الذي يعمل ويريد. كما أقر أن العدد “يُظهر الاحتفاظ والإبقاء على الطبيعتين حتى في الاتحاد، ولاشيء غير ذلك”.[21]

وأكد يوحنا أن آدم سقط من خلال استعمال الإرادة، ولذلك ـ تمشياً مع ق. غريغوريوس النزينزي ـ قال الدمشقي أنه لو لم يكن الله الكلمة قد أخذ إرادة بشرية لما كان من الممكن أن نتحرر من الخطية، وبالتالي فإن رفض الاعتراف بالإرادة البشرية في المسيح هو حكم بالإدانة على خليقة الله.[22]

وكان يوحنا قد ميَّز بين ’الإرادة‘ (willing) والكيفية التي يريد بها كل واحد (how one wills)، كما طبَّق نفس التمييز على ’الفعل‘ أيضاً. فالإرادة والفعل ـ عند الدمشقي ـ هما من ملكات الطبيعة،* ولكن الطريقة التي بها يريد أو يفعل أي واحد تتوقف على الشخص.[23]

فالطبيعة ممنوحة ملكة الاختيار وملكة العزم (على الفعل)، ولكن الإرادة والعمل الفعليين يتممهما الشخص. وفي يسوع المسيح، كان كل من اللاهوت والناسوت يمتلك ملكة الاختيار وملكة العزم (على الفعل) الخاصة به، ولكن الشخص الذي “يريد إلهياً فيه ويريد بشرياً هو نفس (الشخص) الواحد”.[24]

وبمقارنة هذه المفاهيم عند الدمشقي مع الموقف الذي تمسك به البطريرك ساويروس والجانب غير الخلقيدوني، سنجد أنه بصرف النظر عن الاختلاف في المصطلحات المستخدمة في ’إرادتين‘ و’فعلين‘ عند الأول و’إرادة واحدة‘ و’فعل واحد‘ عند الأخير، فإنهما يتفقان في التأكيد على أن الطبيعتين استمرتا صحيحتين (كاملتين دون أي نقصان) في المسيح الواحد بدون اختلاط أو انقسام، بحيث أن قدراتهما وخواصهما كانتا فيه (أي في المسيح) كاملتين بصورة ديناميكية، وأن الإرادة والعمل الفعليين يتممهما شخص الله الكلمة المتجسد الواحد. وفي الحقيقة كان سؤال الدمشقي:[25]

“ما هو العائد الذي يمكن أن نأخذه من التجسد، لو أن ذاك الذي عانى أولاً (أي الناسوت) لم يتم خلاصه وتجديده أو تقويته من خلال اتحاده مع اللاهوت؟”

وهذا السؤال كان من الممكن أن يسأله البطريرك ساويروس أيضاً، لأنه كان قد أكد أن:[26]

“الله الكلمة الذي أحضرنا إلى الوجود، والذي بواسطته عمل الآب كل الأشياء، عندما أراد ـ من قبل رحمته فقط ـ أن يُرجع من سقط إلى رتبته الأصلية وأن يعيد إليه نعمة عدم الفساد، لم يفعل ذلك من خلال ممارسة القوة (العليا) مستخدماً القدرة الإلهية.

ولكنه على العكس، وتمشياً مع كلمة العدل، جعل الذي سقط أن يحارب ثانية في المعركة… وكان من الضروري للإنسان أن ينال إكليل النصرة على الشيطان الذي كان قد سبق وخدعه وهزمه”.

وأصر البطريرك ساويروس أنه لذلك وحَّد الله الابن بنفسه ناسوتاً ممنوحاً كل الخواص والقدرات الإنسانية، والذي كان بحسب الطبيعة قابلاً للموت والتألم. وأراد الله الابن للناسوت أن يقوم بكل أدواره الطبيعية في عمل الفداء الذي جاء ليتممه، لأن ذلك كان ضرورياً لخلاصنا بحسب العدل الإلهي.

ومن أجل هذا السبب، جعل الناسوت يخوض كل مسالكه الطبيعية بدون أي نقصان. وإذا وضعنا كل هذه المفاهيم في الاعتبار، نستطيع أن نقول أن اللاهوتيين الخلقيدونيين لم يحافظوا ـ باستخدام تعبير ’إرادتين‘ و’فعلين‘ وغيرها ـ على أي فكرة لاهوتية فعالة، لم يكن البطريرك ساويروس قد تمسك بها بالفعل وحفظها.

          وقبل أن ننهي هذا النقاش ينبغي علينا أولاً أن نذكر نقطتين هامتين تكلم عنهما يوحنا الدمشقي بخصوص ’الإرادة‘ و’الفعل‘: النقطة الأولى هي أنه بينما توجد إرادتان وفعلان في المسيح، إلا أن الإرادة البشرية كانت خاضعة وطائعة للإرادة الإلهية، وكان الفعل البشري يعمل وفق الفعل الإلهي تماماً. وعلى هذا النحو لم يكن هناك أي تضارب في المسيح. وكتب يوحنا الدمشقي في هذا الصدد:[27]

“وحيث إنه كان إلهاً كاملاً مع إنسانيته، وكان إنساناً كاملاً مع إلوهيته، فإنه كإنسان أخضع إنسانيته في ذاته ومن خلال ذاته لله الآب، وصار مطيعاً للآب، وبالتالي وضع لنا أسمى مثال ونموذج”.

أما النقطة الثانية، فهي أنه كان يوجد تبادل للإرادة والفعل بين الطبيعتين. وقد كتب يوحنا عن ذلك: أنه بالرغم من أن الطبيعتين بقيتا غير مختلطتين وظلت خواصهما كاملتين بدون نقصان، إلا أن الجسد بسبب ’الاتحاد الهيبوستاسي‘ (الأقنومي) اغتنى بالأفعال الإلهية (divine operations)؛ ولكن بدون أن يفقد الجسد أي من خواصه الطبيعية بأي شكل من الأشكال.[28]

ولذلك كان الجسد نفسه قابلاً للفناء ومعطياً الحياة في ذات الوقت: قابلاً للفناء بالطبيعة، ومعطياً الحياة بفضل الإتحاد الهيبوستاسي.

          وعلاوة على ذلك، أصر الدمشقي أنه كان هناك تأليه للإرادة الإنسانية (في المسيح)، وبواسطة هذا التأله صار الجسد ـ بدون أن يخضع لأي تحول في وضعه الطبيعي ـ متحداً مع الإرادة الإلهية الفائقة. وأكد يوحنا أنه عندما صار الله متجسداً “فإن فعله الإنساني كان إلهياً، أي أنه قد تأله. ولم يكن (الفعل الإنساني) مستبعداً من فعله الإلهي، ولا كان فعله الإلهي مستبعداً من فعله الإنساني. وإنما على العكس كان كل واحد منهما موجوداً في الآخر”.[29]

          وهنا يبرز مرة أخرى السؤال التالي: هل كانت الطبيعة الإنسانية (في المسيح) في الحالة الأقنومية (hypostatic) أم كانت ناسوتاً بالمعنى العمومي المجرد؟. فلو كان الاحتمال الثاني هو ما أراد الدمشقي بالفعل أن يؤكده، فإن كلامه عن تأله ناسوت المسيح سيقتضي وجود معنى من الممكن ألا يقبله البطريرك ساويروس والجانب غير الخلقيدوني.

لأنه قد يعني على سبيل المثال أن الناسوت المتكون من جسد بشري ممنوح روح عاقل مفكر ـ بما أنه ليس إلا طبيعة في معناها العمومي المجرد ـ قد احتاج إلى فاعل (subject) يعبِّر عن خواصه وملكاته. ولو قيل أن هذا الفاعل كان هو الله الكلمة، فسيعني ذلك أن كل شيء بشري في المسيح كان يُعبر عنه إلهياً، أما الأشياء الإلهية فلم يُعبر عنها إنسانياً،* فهل يمكن أن يزعم موقف مثل هذا أنه بالحقيقة موقف أرثوذكسي؟ وهل كان الدمشقي يتمسك بالفعل بهذه الرؤية؟.

وبالنسبة لمسألة ’الفعل‘ (operation)، توجد مناقشة حول هذا الأمر في خطاب البطريرك ساويروس إلى سرجيوس النحوي.[30] وكان البطريرك ساويروس قد ذكر في ذلك الخطاب أن اللاهوت والناسوت كانا مستمرين بكل خواصهما في المسيح الواحد.

وبخصوص ’الفعل‘، ميَّز البطريرك ساويروس بين ’الفاعل subject‘ و’المفعول به object‘ و’الفعل operation‘ نفسه،[31] وأكد أن ’الفعل‘ هو حركة الشخص لينجز عملاً ما. ولذلك فإن ’الفعل‘ و’الإرادة‘ وما يشابههما ليست عند البطريرك ساويروس هي مجرد ملكات (قدرات) للطبيعة؛ ولكنها تعبير (expression) عن تلك الملكات.

فالإرادة في المسيح على سبيل المثال، هي التعبير المتحد(united)  لملكتي (أو قدرتي) الإرادة اللتين للاهوت والناسوت (معاً)، وكذلك ’الفعل‘ هو التعبير المتحد لملكتي العزم على الفعل اللتين لهما ـ وكل من ’الإرادة‘ و’الفعل‘ يعبر عنهما (أو يُظهرهما) الشخص (الواحد) المركب. ويقول البطريرك ساويروس:[32]

“لقد كابد الرب الشعور الشديد بالجوع الذي يستحث التوق إلى الطعام. ولذلك فإن الآلام الإرادية (البريئة مثل الجوع) التي سمح بها الكلمة لم تكن بدون فعل (operation)؛ ولكن كان هناك فيه (أي في المسيح) تحريك لهذه الأفعال. ورغم ذلك كانت تلك (الأفعال) خاضعة لقوة الله غير المغلوب..”

ومرة أخرى يقول البطريرك ساويروس:[33]

“وبموته قهر مخلصنا الموت، وهكذا يتضح أنه لو لم يمت لما كان من الممكن أن يَبطل الموت. ونفس الأمر ينطبق على كل ألم من آلام (أو ضعفات) الجسد: فإذا لم يَخَف لما كان ممكناً للطبيعة أن تتحرر من الخوف”.

ومن هنا نرى أن الفرق بين الدمشقي والبطريرك ساويروس ـ فيما يخص مسألة ’الإرادة‘ و’الفعل‘ ـ لم يكن أن الأول أقر بحقيقتيهما بالنسبة للاهوت والناسوت وأن الأخير لم يفعل ذلك، ولكن الحقيقة أنه لو كان يمكن للدمشقي أن يؤكد على الحالة الأقنومية للناسوت، لكان للإثنين (الدمشقي وساويروس) تقريباً نفس جوهر الموقف اللاهوتي.

أما فيما يتعلق بالقضية التي أثارها يوليان أسقف هاليكرنيسوس، فقد احتفظ يوحنا الدمشقي بأفكار معينة كان البطريرك ساويروس قد رفضها بالفعل، لأن الدمشقي لا يذكر غير خطأ واحد كبير في موقف يوليان و قيانوس (Gaianos)، بينما كان ذلك الموقف بالنسبة للبطريرك ساويروس يتضمن عدة أخطاء. وكما ذكرنا قبلاً،[34] كان يوليان يصر على عدم قابلية جسد ربنا للفساد حتى قبل القيامة، معتمداً على وجهة نظر لاهوتية شاملة. ولم يعر الدمشقي التفاتاً لوجهة النظر اليوليانية ككل، ولكنه رأى أن خطأ يوليان وقيانوس الوحيد هو إصرارهما على أن جسد المسيح كان غير قابل للفساد قبل القيامة.

وكان تعليم يوليان يشتمل على النقاط التالية:

  • لم تكن الآلام (البريئة) والموت جزءاً من الناسوت الأساسي (الأصلي)، ولكنهما دخلا الخبرة الإنسانية بسبب سقوط آدم.
  • اتخذ الله الابن في تجسده ناسوتاً أساسياً، وبالتحديد ناسوت آدم قبل السقوط. ولذلك لم يكن الناسوت في ذاته خاضعاً للألم والموت.
  • ولا يعني هذا أن آلام المسيح وموته كانا غير حقيقيين؛ بل كانا بالقطع حقيقيين بسبب أنه (أي المسيح) تحملهما إرادياً من أجلنا.
  • وعلى هذا الأساس، أصر يوليان على أن جسد ربنا كان غير قابل للفساد منذ لحظة الحمل به في رحم العذراء.

وفي أثناء دحضه ليوليان، قام البطريرك ساويروس بالتشكيك في كل تلك المزاعم حيث أكد أن الناسوت المخلوق سواء كان قد سقط أم لا، فإنه بالطبيعة خاضع للجوع* والعطش والتعب والألم النفسي و(قابل) للموت، وبسقوط آدم حُرم فقط من وعد الحياة الأبدية الذي كان الله قد أعطاه له في البداية، وكان هدف التجسد هو استعادة ذلك الوعد للإنسان.

وقد وحَّد الله الابن ناسوتنا بنفسه في التجسد، وليس ناسوت آدم قبل السقوط، وذلك بالرغم من أنه كان بلا خطية. وكانت آلام وموت المسيح ’إرادية‘ من جهة الله الابن، ولكنها كانت ’طبيعية‘ من جهة ناسوت المسيح.

وكان يوحنا الدمشقي متفقاً مع البطريرك ساويروس في التسليم بأن يوليان وقيانوس كانا مخطئين في وصفهما لجسد ربنا أنه كان غير قابل للفساد قبل القيامة، ولكن يبدو أن الدمشقي كان متفقاً مع يوليان في الاعتراف بأن الآلام الطبيعية البريئة مثل الجوع والعطش والتعب والألم والانزعاج من الموت وغيرها، “والتي ليست تحت سيطرتنا”، “قد دخلت إلى حياتنا كنتيجة للإدانة التي حدثت بسبب السقوط”.[35] ومرة أخرى يتفق الدمشقي بصورة أكثر خطورة مع خطأ يوليان ويقول بإصرار:[36]

“وحيث إن ربنا يسوع المسيح كان بلا خطية، فإنه لم يكن خاضعاً للموت بالرغم من أن الموت كان قد دخل إلى العالم بالخطية. ولذلك خضع للموت من أجلنا، ومات وقدَّم ذاته للآب ذبيحة لأجلنا”.*

ويمكننا أن نقارن كلام يوحنا الدمشقي مع الفقرة التالية للبطريرك ساويروس:[37]

“فلو كان عمانوئيل يريد أن يتحد مع جسد غير قابل للموت وغير قابل للتألم ويحارب المعركة من أجلنا، فماذا كانت حاجته لأن يتجسد وهو بالطبيعة له عدم قابلية الألم وعدم قابلية الموت؟”.

إذن فعند البطريرك ساويروس، كان الاعتراف بأن ناسوت المسيح كان غير قابل للألم وغير قابل للموت هو إنكار للتجسد عينه. ومرة أخرى نجده يقول:[38]

“لقد أبطل عمانوئيل موت جسده بواسطة القيامة من الأموات. ولهذا فلو كان الجسد غير قابل للموت ـ كما يجازف الموقر يوليان بهذا الوصف ـ لكان الموت الخلاصي وهمياً وخيالياً وحسب. لأن الجسد القابل للموت هو الذي يموت”.

وإذا أخذنا تلك الفقرة في الاعتبار ـ مع فقرات عديدة أخرى من كتابات البطريرك ساويروس ـ يمكننا أن نقول بكل يقين إنه على الرغم من أن يوحنا الدمشقي كان قد زعم أن اليوليانية مشتقة من هرطقة ’أتباع ساويروس‘، إلا أنه هو نفسه كان محتفظاً بتعاليم يوليان التي كان البطريرك ساويروس يرفضها بثبات.

(د) نقاط الاتفاق والاختلاف:

كان الطرفان (الخلقيدوني وغير الخلقيجدوني) يتفقان على النقاط التالية:

  • إن يسوع المسيح هو الله الابن، الواحد من الثالوث القدوس، الذي تجسد من أجل خلاص العالم.
  • إنه في التجسد، لم يوَّحد الله الابن بنفسه ناسوتاً كان قد تكوَّن من قبل في الرحم؛ ولكن الناسوت تكوَّن فقط في الإتحاد مع الله الابن.
  • وحيث إن العذراء ولدت الناسوت المتحد هيبوستاسياً مع الله الابن، فإنها هي والدة الإله ’ثيؤطوكس‘.
  • وبما أن الاتحاد هو اتحاد هيبوستاسي، فإن يسوع المسيح هو شخص واحد أو هيبوستاسيس واحد وبروسوبون واحد.
  • إن الناسوت كان كاملاً وحقيقياً، ولذلك كانت كل الخواص والملكات البشرية ماخلا الخطية (والتي بالتأكيد ليست جزءاً من جوهر الناسوت) موجودة في المسيح الواحد بصورة ديناميكية وبدون أي نقصان.

     

  • إن الناسوت لم يتغير إلى اللاهوت ولا فُقد بسبب ’تفوق‘ (preponderance) اللاهوت.
  • إن الناسوت ظل في الاتحاد بكل حقيقته وسلامته كناسوت مخلوق.
  • إن الناسوت أُعيد إلى علاقته الأصلية مع الله، وأن يسوع المسيح سيظل بالنسبة لنا ’الله – الإنسان‘ (الله المتأنس) الذي فيه ومن خلاله دخل الله والإنسان في اتحادهما النهائي.

ومع ذلك كان هناك عدم اتفاق بين الجانبين في النقاط التالية:

  • عبَّر اللاهوتيون الخلقيدونيون عن قبولهم لكل العبارات السكندرية بما في ذلك عبارة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”. وفي أثناء ذلك أخذوا كلمة ’طبيعة‘ الموجودة في عبارات مثل “من طبيعتين” و”في طبيعتين” بمعنى ’الأوسيا‘ (كحقيقة عامة). ولكن البطريرك ساويروس أصر على أن هذا المعنى لا يمكنه أن يحمي الحقيقة التاريخية للمسيح، والتي ينبغي ـ لكي نحافظ عليها ـ أن نؤكد على الحقيقة الأقنومية (hypostatic reality) للطبيعتين اللتين اتحدتا.

     

  • لقد اعترف الدمشقي بتعبير ’شخص مركب‘ أو ’هيبوستاسيس مركب‘ في إشارته للمسيح، ولكنه لم يوضح ماذا كان يعني بهذا التعبير.* وكما رأينا، كان هذا التعبير يعني بالنسبة للبطريرك ساويروس أن الهيبوستاسيس الواحد للمسيح قد تكوَّن بالوجود المتزامن للاهوت الابن وللناسوت الذي صار متفرداً ومخصخصاً (individuated) في الاتحاد.

    وبهذه الطريقة حافظ البطريرك ساويروس على الحالة الأقنومية للناسوت، وكذلك أصبح من الممكن لنا أن ندرك ذهنياً (في المسيح) إمكانية التعبير عن القدرات والخصائص الإلهية بشرياً بجانب التعبير عن القدرات والخصائص البشرية إلهياً. فإذا لم يكن يوحنا الدمشقي يحافظ على هذا المفهوم، فلن يستطيع أن يؤكد وجود تعبير بشري حقيقي في المسيح الواحد.
    وهذه في الحقيقة تعتبر نقطة اختلاف خطيرة بين الجانبين، ونحن نعتقد أنه لا يمكننا هنا أن نتجاهل أفضلية الموقف الذي حفظه البطريرك ساويروس عن التعليم الذي قدَّمه يوحنا الدمشقي.

  • لا يعتقد البطريرك ساويروس أن تعبيرات مثل “في طبيعتين”، و”إرادتين”، و”فعلين” هي ضرورية من أجل الإقرار بوجود ناسوت حقيقي في المسيح متحداً مع اللاهوت. كما أن هذه التعبيرات من وجهة نظره، لا تستطيع أن تصون (مفهوم) وحدة المسيح بالمعنى الحقيقي.
  • بالنسبة لقضية يوليان، لم يجد يوحنا الدمشقي خطأ في تعليم أسقف هاليكرنيسوس إلا فيما يتعلق فقط باستنتاجه اللاهوتي بأن جسد ربنا كان غير قابل للفساد قبل القيامة. أما بالنسبة لافتراضات يوليان (الأخرى)، فقد سعى يوحنا للحفاظ عليها.
  • أصر الدمشقي على تأله ناسوت المسيح بصورة أكثر تطرفاً مما فعل البطريرك ساويروس.*

    فإذا لم يكن الدمشقي يؤيد التأكيد على ’الحالة الأقنومية‘ لناسوت المسيح، يكون لهذا الأمر تبعاته المؤثرة، لأنه سيتحتم عندئذ ـ كما رأينا ـ أن يتم التعبير عن الخصائص والملكات البشرية بواسطة هيبوستاسيس الله الابن. وقد أعطى هذا (الفهم) ليوحنا الأساس لتعاليمه التي اشتملت على إصرار مغالى فيه على تأله ناسوت المسيح.

 

  • ألقى يوحنا الدمشقي اللوم على “ذلك الغبي بطرس القصّار” لإدخاله إضافة “الذي صُلب عنا” في تسبحة الثلاثة تقديسات (Trisagion)، وذلك على أساس أن هذه التسبحة مقدمة للثالوث القدوس وأن الثالوث لم يُصلب. ومع ذلك أمكن للدمشقي (في نفس الوقت) أن يقر أن “واحداً من الثالوث تألم في الجسد”.
    وحيث إن تسبحة الثلاثة تقديسات التي نشأت في الكنيسة السريانية، كانت تُقدم ـ في تلك الكنيسة ـ للابن وليس للثالوث، فإن اعتراض يوحنا على تلك الإضافة يصبح بلا أي تأثير على الإطلاق.[39]

 

ويُظهر العرض السابق لنقاط الاتفاق والاختلاف في التعليم الخريستولوجي بين الجانبين الخلقيدوني وغير الخلقيدوني، أن وصف الخلقيدونيين لغير الخلقيدونيين بأنهم ’مونوفيزايت‘ (أي أصحاب الطبيعة الوحيدة) لا أساس له على الإطلاق. وفي الحقيقة، إذا قارنا بين التعليم الخريستولوجي عند يوحنا الدمشقي وعند البطريرك ساويروس الأنطاكي سنجد أن الأخير هو الذي رفض واستبعد كلاً من ’اليوليانيزم‘ و’المونوفيزيتيزم‘ بصورة أكثر ثباتاً وفعالية من الأول.

ومن هنا نرى أن رجال التقليد الكنسي الشرقي الذين رفضوا قبول مجمع خلقيدونية، كانوا قد تبنوا هذا الموقف (الرافض للمجمع) ليس من منطلق عدم جديتهم بالنسبة لحقيقة وكمال ناسوت المسيح ولكن بسبب أنهم رأوا في طومس ليو وفي اعتراف الإيمان الخاص بالمجمع بالإضافة إلى عبارة “في طبيعتين” موقفاً لاهوتياً لا يمكنهم أن يقبلوه بأمانة في ضوء تقليدهم اللاهوتي.

ولكن الجانب غير الخلقيدوني قام في نفس الوقت برفض واستبعاد كل الهرطقات المعروفة بصورة أكثر وضوحاً مما فعله الخلقيدونيون في أي وقت مضى خلال العصور القديمة. وعلاوة على ذلك، كان تعليمهم الخريستولوجي يقر بكمال ناسوت المسيح بأكثر التعبيرات تحديداً وقوة، ولذلك كان فهمهم للحقيقة التاريخية لحياة المسيح البشرية أكثر تفوقاً من فهم الجانب الخلقيدوني لها في الشرق على الأقل.

[1]  ويحتوي كتاب: (St., John of Damascus: writings, op. cit.) على هذا العمل في جزئه الأول.

*   الأصل اليوناني للكلمة يتكون من مقطعين، الأول (¥φθαρτος) ويعني غير القابل للفساد والثاني (δοκšω) ويعني يعتقد.

[2] St., John of Damascus: writings, op. cit.,

#   كان ثيميستيوس معلماً سكندرياً في القرن السادس نادى بأن المسيح كان يعاني الجهل (ignorance) ببعض الأمور.

[3]  انظر صفحة 281 وما يليها وصفحة 297 وما يليها.

[4] انظر صفحة 250 وما يليها وصفحة 406 وما يليها.

[5] John of Damascus, op. cit., p. 273.

* انظر مدلول الهيبوستاسيس عند يوحنا الدمشقي في الملحق الموجود في نهاية الكتاب.

[6] John of Damascus, op. cit., p. 274 & c.               

[7]  كتب يوحنا الدمشقي أن المسيح هو “طبيعة مركبة” ليس بمعنى الشيء الجديد الناتج عن شيئين. (المرجع السابق صفحة 271).

*   كان الدمشقي يعتبر أن المسيح هو هيبوستاسيس مركب لأن الله الابن، وهو هيبوستاسيس أزلي، صار متجسداً بأن وحد بنفسه ناسوتاً كطبيعة ثانية بالإضافة إلى اللاهوت الذي هو طبيعته الخاصة وبالتالي أصبح هيبوستاسيس يملك طبيعتين ولذلك فهو هيبوستاسيس مركب.

أما البطريرك ساويروس فقد كان يرى مثل ق. كيرلس أن المسيح هو هيبوستاسيس مركب لأنه تكوَّن من اتحاد هيبوستاسيس الله الكلمة مع الناسوت وهو في الحالة الهيبوستاسية، ومن هنا هو هيبوستاسيس مركب. (للمزيد انظر الملحق الموجود في نهاية الكتاب)

[8]  John of Damascus, op. cit., p. 271.

[9]  كتب يوحنا الدمشقي: “إن ميلاد ربنا لم يكن بزرع (بشر)، ولكن بالخلق بواسطة الروح القدس، والتشكل لم يكن بتجميع جزء مع جزء ولكن اكتمل ككل مرة واحدة مع الله الكلمة نفسه الذي كان هو شخص الجسد”. (المرجع السابق صفحة 270). وعلى الجانب الآخر، أصر الدمشقي أن الطبيعتين اتحدتا الواحدة مع الأخرى في شخص واحد مركب”. (المرجع السابق صفحة 274).

[10] المرجع السابق صفحة 274.

[11]  أكد الدمشقي أن “الطبيعتين بعد الإتحاد، قد حُفظتا (كاملتين) في الشخص المركب، أي في المسيح الواحد، وأنه كان لهما مع خواصهما الطبيعية وجود حقيقي”. (المرجع السابق صفحة 277).

[12]  المرجع السابق صفحة 287.

[13]  انظر صفحة 536 وما يليها.

[14]  المرجع السابق صفحة 290.

*   هناك فرق في المدلول اللاهوتي بين قول يوحنا الدمشقي أن شخص الكلمة صار هو شخص الجسد، وبين تعليم ق. كيرلس والبطريرك ساويروس أن شخص المسيح هو شخص الكلمة المتجسد (الهيبوستاسيس المركب).

[15] انظر صفحة 499.

[16] المرجع السابق صفحة 291.

[17] المرجع السابق صفحة 292.

[18] المرجع السابق صفحة 293.

[19] انظر صفحة 413 وما يليها.

[20] John of Damascus, op. cit., p. 296.

[21] المرجع السابق صفحة 297.

[22] المرجع السابق صفحة 301.

*  انظر الفرق بين تفسير الجانب الخلقيدوني وغير الخلقيدوني للإرادة والفعل بالحاشية صفحة 495.

[23] المرجع السابق صفحة 297.

[24] المرجع السابق صفحة 298.

[25] المرجع السابق صفحة 318.

[26] La Polemique…. I, pp. 36f.

[27] John of Damascus, op. cit., p. 320.

[28] المرجع السابق صفحة 317.

[29] المرجع السابق صفحة 323.

*  وهذا الشرح يتعارض مع مفهوم التأله نفسه.

[30] انظر صفحة 404 وما يليها.

[31] Ad Nephalium, op. cit., pp. 82f.

[32] La Polemique…. II B, p. 193.

[33] Ibid., I, p. 134.

[34] انظر صفحة 406 وما يليها.

* كان آدم يأكل قبل السقوط حسبما أمره الله (تك 1: 29، 2: 16).

[35] John of Damascus, op. cit., p. 323.

[36] المرجع السابق صفحة 332.

*  هذا الكلام يتعارض مع تعليم ق. أثناسيوس عن جسد المسيح حيث يقول: “لهذا فمن الصواب أن يُدعى أيضاً ’أخانا‘ و’بكرنا‘ لأنه بما أن البشر قد هلكوا بسبب مخالفة آدم، فإن جسده كان أول من خُلِّص وحُرر بكونه جسد الكلمة، وهكذا نحن من خلال إتحادنا بجسده نخلص على مثال هذا الجسد” (ضد الأريوسيين، 2: 61).

[37] La Polemique…. I, p. 130.

[38] La Polemique…. II A, p. 20.

* انظر الحاشية صفحة 511.

*    إن التأله عند غير الخلقيدونيين كان بسبب أن الناسوت المخصخص قد اتحد هيبوستاسياً بالله الابن وصار جسده الخاص بالتالي كان هناك تبادل للخواص بين اللاهوت والناسوت.

أما التأله عند الدمشقي فكان بسبب أن الناسوت لم يكن في الحالة الأقنومية وبالتالي صار هيبوستاسيس الله الابن هو الهيبوستاسيس الخاص به وهو الذي يقوم فيه بكل ما هو بشري.

[39]  يقدم البطريرك ساويروس في عظته رقم 125 شرحاً لتسبحة الثلاثة تقديسات (Trisagion). انظر صفحة 217.

مقارنة بين الجانب غير الخلقيدوني والجانب الخلقيدوني ج2

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)