أبحاث

النبوءة الرابعة – العظة الثامنة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الرابعة - العظة الثامنة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الرابعة – العظة الثامنة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الرابعة - العظة الثامنة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد
النبوءة الرابعة – العظة الثامنة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

النبوءة الرابعة لبلعام

 

        1ـ لنأخذ الآن النبوءة الرابعة التي نطقها بلعام تحت إلهام كلمة الله لتكشف ما يريد الله أن يعطينا أيضًا في هذه النبوءة.

 

الأحــوال

على رأس هذه النبوءة يوجد الاستهلال المناسب لما سبق        « فاشتعل عصى بالاق على بلعام وصفق بيديه وقال بالاق لبلعام: لتشتم أعدائي دعوتك وهوذا أنت قد باركتهم الآن ثلاث دفعات. فالآن اهرب إلى مكانك. قلت أكرمك إكرامًا وهوذا الرب قد منعك عن الكرامة » (عد10:24ـ12). الكتاب يوضح هنا أن بالاق أدرك أن بلعام توقف عن عبث الشياطين التي تحضره رغم أن قوة الله تساعده لكي تجعله يتقدم لذلك يقول: ” الرب قد منعك عن الكرامة “. لكن لنترك هذه الموضوعات جانبًا ولنأخذ البقية، وبلعام يقول لبالاق: « ألم أكلم أيضًا رسلك قائلاً: ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبًا، لا أقدر أن أتجاوز قول الرب لأعمل خيرًا أو شرًا من نفسي. كل ما يقوله الله لي سأقوله. والآن هوذا أنا منطلق إلى شعبي » (عد12:24ـ14). كان بلعام يعرف أن الإجابات لم تكن معطاة له عن طريق وكلائه المعتادين ولكن عن طريق الكلي القدرة. إذًا لديه حق فقد تراءى له الاعتراض بأنه لا يستطيع نقض كلمة الرب، ” ولا يعمل شيئًا صغيرًا أو كبيرًا من نفسه “. الذي كان يحدثه لم يكن من الذين يلينون بالتقدمات والهدايا ولكن «هو الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران » (يع1: 17)، والكاهن لم يرد أن يتركه لكي يتأثر بالمال بما أن الله لا يتأثر بالهدايا.

 

المشورة

في هذه الأثناء في وقت التباعد، بدأ بلعام في التنبؤ « هلم أنبئك بما يفعله هذا الشعب بشعبك في آخر الأيام » (عد24: 14). لكن قبل تفسير النبوءة أريد البحث عن المعنى وما هي بقية الأفكار في الكلمات “احضر لأنبئك”، في الحقيقة إنه لا يعطي نصيحة لكنه يقول ما سيفعله هذا الشعب بشعبه في آخر الأيام. أنه يبدو أكثر منطقيًا قول: ” تعال لأنبئك بما سيفعله هذا الشعب بشعبك في آخر الأيام ” وذلك سيتسلسل منطقيًا. بلعام سيتنبأ بما سيفعله شعب إسرائيل بشعب بالاق أو بالأمم الأخرى وبما سيفعله في قوته وعدم تركه ليعيش في مدن موآب.

2ـ في الحقيقة فهي نبوءة عن المسيح الذي سيشير إليه بهذه الديباجة أنه سيرفع نجمة يعقوب وأنه سيظهر إنسان في إسرائيل سيحطم أمراء موآب. هذه النبوءة تبدو في موقعها إذا قيل “احضر لأنبئك”. ولكن ماذا نقول عن من كتب “احضر لأنصحك” بما سيفعله هذا الشعب بشعبك. لنبحث إذًا كيف يجب أن نفهم “أنصحك”.

 

مشورة الله

بالتفكير الكثير لم أجد أية وسيلة إذا أردنا أخذ “أنصحك” بالمعنى المقبول بالاستخدام الحالي والمعتاد، لكنني وجدت أن هذه الكلمات تتوافق أكثر مع معنى القطعة إذا أردنا فهمها هنا. المشورة الإلهية التي يجب أن تكمل في الأيام الأخيرة أوحت لي وسأكشفها لك وسأوضحها لتعلم ما سيفعله هذا الشعب بشعبك. هكذا يتضح معنى الكلمات أنصحك بما سيفعله هذا الشعب بشعبك تعني: أنا أنبئك وأظهر لك “مشورة” الله. أنني بحثت في بعض القطع من الكتابات الإلهية وهكذا نستطيع أن نجد لفظًا مناسبًا أوضح الرب أنه يمكن سماعه بنفس الطريقة التي قالها الرسول: « من الذي عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا » (رو11: 34). هنا اللفظ الاستفهامي “مَنْ” لا يجب أن يكون مأخوذًا كمساوٍ لشخص ولكنه يمثل كائن فريد وغير عادي. كيف؟ في الحقيقة إن فكر الله لا يعرفه إلا ابنه الوحيد الذي يقول « ليس أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له » (مت19: 29). ما هي معرفة الآب إلاّ معرفة مشورته وفكره، والروح القدس، الذي يفحص حتى أعماق الله (1كو2: 10) كيف لا يعرف فكره. فالابن والروح القدس والذين يريد الابن أن يعلن لهم، هؤلاء يعرفون فكر الرب. فإن كان الابن يعرف فكر الله إذًا فهو مشيره ولا ينبغي تخيل أن المشير هنا معناه أنه يقدم مشورة إلى كائن آخر يجهل ما سوف يفعله. فلا يجوز تصور كلاً من الابن أو الروح القدس أنه مشير بهذه الصورة. فالابن والروح لهما نصيب في مشورة الآب ومشيئته وهما يعرفان هذه المشورة وهذه المشيئة.

بنفس الطريقة تصرف بلعام مع بالاق بالمشورة التي أظهرها الله له إذ قال: « هلم أنبئك » (عد24: 4)، لأنه رائي حقيقي، وقد سمع كلمات الله حقيقة كما ثبت من كلام النبوة بعد ذلك التي تقول « وحي بلعام بن بعور وحي الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة العلي … الذي يرى رؤيا القدير … هو مكشوف العينين » (عد24: 15، 16).

 

ديباجة:

IIـ معرفة العلي

إنني تحدثت عن كل هذا لأن الديباجة هي نفسها كالنبوءة الثالثة. لا نجد هنا سوى هذه الإضافة عن معرفة العلي. (المتعالي ـ الفائق). هذا لم يكن قد قيل لبلعام، ولم أُلاحظ وجود هذا التعبير عند أي واحد من الأنبياء القديسين. أنني أتعجب عندما أنظر إلى سلوك بلعام أنه لا يتكلم بالشكل المعتاد للنبوات التي قالها الرب، لكنه يقول: « بلعام الذي يرى رؤيا القدير » (عد24: 16). إذًا، كيف استحق بلعام أن يفهم هذا المدح العظيم الذي وجه إليه أنه ” يعرف معرفة العلي؟ ” (عد24: 16). وهو الذي علّم الملك بالاق الطريقة التي بها يضع عثرة أمام الإسرائيليين أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان ويزنوا. مثل هذه المعرفة ” علم معرفة العلى “، قلما نجدها عند الأنبياء القديسين أو الرسل. والرسول بولس رغم أنه قال أنه « سمع كلمات لا ينطق ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها » (2كو12: 4)، لكنه لم يدّعِ أنه يملك علم معرفة العلي. إذًا، فلنبحث هذا الأمر بعمق، فقد ينعم الله علينا بكشف بعض الأفكار الهامة في هذا الموضوع.

 

كل حكمة هي من الله

مكتوب في سفر حكمة يشوع ابن سيراخ، « كل حكمة هي من الله » (سيراخ1: 1)، ومنه يمكن أن نستنتج أن ” حكمة هذا العالم ” التي قيل إنها يجب أن تكون قد أُبطلت، والتي ” هي من عظماء هذا الدهر “، وكل حكمة تأتي من العلم الخاطئ، هي أيضًا من الله، لو لم يقل السِفر نفسه بعد ذلك: « معرفة الشر ليست حكمة » (ابن سيراخ22:19)، وهذا يبرهن على أن الكل يعرف الكذب ويريد أن يبدو أنه قوي ويصعب هدمه وأبطاله. وهذا لا ينبغي أن يُسمى حكمة. فما هو المقصود إذًا بمعنى القول “كل حكمة هي من الله”؟

يبدو لي أن معنى هذا القول هو أن كل موهبة في أي فن نافع للإنسان، أو في أي علم مهما كان موضوعه، فهو يعتبر حكمة معطاة من الله. لأنه مكتوب في سفر أيوب: « من الذي أعطى النساء المهارة في النسج ومعرفة التطريز » (أي38: 36 سبعينية). وقال الرب لموسى في سفر الخروج: « انظر قد دعوتُ بصلئيل بن أوري بن حور من سبط يهوذا باسمه، وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة لاختراع مخترعات ليعمل في الذهب والفضة والنحاس ونقش حجارة للترصيع ونجارة الخشب ليعمل في كل صنعة. وها أنا قد جعلت معه أهولياب بن أخيساماك من سبط دان. وفي قلب كل حكيم القلب جعلت حكمة ليصنعوا كلّ ما أمرتك » (خر31: 2ـ 6).

ومن كل هذا فإن مهارة الصياغة في عمل الذهب، والفضة وكل المهارات الأخرى، وأيضًا ” المهارة في النسيج ” نفهمها ويمكن أن نقول عنها إن ” المعرفة هي من العلي “. وأن كانت معرفة صياغة الذهب تنسب للعلي، فبالأحرى جدًا يُنسب علم الهندسة لله، والذي منه يستمد علم الكتابة الذي سُمّي علم البناء. وأيضًا في سفر زكريا فإن حبل القياس الذي قاس به الملاك أورشليم دُعى هندسة. ولكن ماذا نقول عن الموسيقى؟ كان داود الحكيم يملك موهبة كبيرة في الوزن والنغم حتى أنه استطاع بألحانه أن يهدئ ملك ثائر ومُعذب من روح رديء. وأظن أنه لن يعترض أحد على أن كل العلوم هي من الله (كما هو مكتوب)، « كل حكمة هي من الله » (ابن سيراخ1: 1). وأظن أن الطب أيضًا لا يتناقض مع هذا القول، بل إن علم الصحة يعرف فصائل الزرع وخصائص العصائر.

وينتج من كل هذا أن معرفة بلعام التي من أجلها أتي من الشرق من جبال ما بين النهرين لكي يلعن يعقوب في منشأة وفي أصله، هى من العلي. من هنا فإنه حصل على معرفته بالطبيعة والحيوانات وحركات الطيور وفوارق الأصوات، ولكن كل هذه المواهب التي حصل عليها لأجل معرفة الأعمال الصالحة استخدمها للشر. وهذه الحالة تبدو مشابهة لحالة إنسان تعلم الطب، وهو يعرف فصائل الزروع وخصائصها وكل الأشياء المعطاة من الله للبشر لتستخدم كعلاج، ولكنه بانقلاب إرادته استخدم كل هذه المعرفة والعلم الذي أعطى لأجل خلاص الأجساد استخدامًا شريرًا، فصارت كسم بدلاً من العلاج، وبدلاً من الشفاء صار الطب في هذه الحالة يؤدي إلى الموت بدلاً من الصحة. 

ولكي نفهم أكثر أن الحكمة المتضمنة في كل علم هي من الله، وأن البشر ذوي النية السيئة بل وحتى الشياطين، هم الذين يحولون الحكمة الإلهية إلى الشر، فإننا نذكر حادثة دانيال وأصدقائه الثلاثة الذين أخبرهم الملك نبوخذ نصر أن يصيروا حكماء جدًا في حكمته أي في حكمة بلاده، أي في حكمة بابل. فأعطاهم الله معرفة، وعقلاً وفطنه في كل كتابة وحكمة، « وأعطي لدانيال الفهم في كل كلمة وفي الرؤى والأحلام. وجاءوا عند الملك، وفي كل كلمة وفطنه وعلم، وجدهم الملك في كل الموضوعات التي سألهم فيها، أضعاف في المعرفة أكثر من كل السفسطائيين والحكماء الذين كانوا في مملكته » (دا 1: 17، 19ـ 20سبعينية). هذا هو نص النسخة السبعينية، لكني أجد أن النسخة العبرانية أفضل. ونقرأ فيها ما يلي: ” الله أعطى الفهم والفطنة في كل حكمة كتابة، وُوجد دانيال فهيمًا في كل رؤية وحلم “، وأيضًا ” وآتي بهم أمام الملك، وفي كل كلام في الحكمة والعلم في كل ما سألهم الملك عنه وجدهم عشر مرات أعلم من كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته “. وبعد ذلك يمكننا أن نفهم بأي معنى قال بلعام عن نفسه إنه ” الذي يعرف معرفة العلي “، وهذا لكي نفهم أن منبع كل معرفة إنما يصدر من الله، ولكن بسبب خطأ الجنس البشري، وبسبب أفكار الشياطين وخداعاتهم، فإن ما أُعطى لأجل الخير صار للهلاك.

هذا لكي نشرح ـ بقدر قوتنا معنى القول: « من يعرف معرفة العلي؟ ».

 

النبوة

4ـ يقول بلعام بعد ذلك « الذي يرى رؤيا القدير… وهو مفتوح العينيين » (عد24: 15، 16)، وهذا كان قد سبق شرحه بصورة كافية عند حديثنا عن الرؤية الثالثة، وليس نافعًا أن نعيده.

 

المسيح يُعلن أنه ينبوع الغبطة

لنلاحظ إذًا ما يلي: « أراه ولكن ليس الآن. أعلنه مباركًا ولكن ليس قريبًا » (عد24: 17 سبعينية). وأيضًا كلمات أخرى تحمل نفس المعنى: “سأراه ولكن ليس الآن”. فإذا قبلنا هذه القراءة الأخرى سنفهم النص بسهولة أكثر. فيبدو كما يقول بلعام بعد ذلك عن المسيح:     « يبرز كوكب من يعقوب، ويظهر إنسان في إسرائيل » (عد24: 17 سبعينية). يقول بلعام إنه يجب أن يُرى ولكن ليس الآن، أي أنه لا يراه الآن في الوقت الذي يتكلم فيه. إذ في الأيام الأخيرة عندما يأتي ملء الزمان الذي فيه يرسل الله ابنه (انظر غل 4: 4).

ولكن إن كان يلزم أن نتبع ما نعرفه من النسخة المخطوطة فإننا نجد مكتوبًا فيها: « أراه ولكن ليس الآن، أعلنه مباركًا وليس قريبًا » (عد24: 17 سبعينية)، هذه الكلمات تنطبق لا على بلعام الذي نطق بها، بل على الذين يمثلهم كما قلنا سابقًا[1]. إن معلمي الناموس والكتبة لا يرون المسيح الآن معلنًا في الناموس الأنبياء، أي في مجيئه الحالي (بالجسد)، ولكن عندما « يدخل ملء الأمم، ويخلص جميع إسرائيل » (انظر رو11: 25، 26). هذا هو الذي يرونه، وهو الذي يعلنونه مباركًا. هذا هو الذي يجدفون عليه الآن… ولكن الوقت الذي يأتي فيه “ليس قريبًا”، ويجب أن نرضى ونرجو (ظهوره)، عند نهاية القرن. لهذا يقول بلعام “أراه ولكن ليس الآن”، ويقصد بالذي سيراه، الشعب الذي سيخلص.

               

الكوكب: ألوهية المسيح وإنسانيته

       ثم يقول: « يبرز كوكب من يعقوب » (عد24: 17). قلنا سابقًا عن هذه الكلمات أنها تتنبأ بوضوح عن “النجم” الذي ظهر للمجوس في المشرق، والذي قادهم إلى اليهودية للبحث عن « المولود ملك إسرائيل » (انظر2: 2ـ 11)، ووجدوه وقدموا له هدايا وسجدوا له.

ولكنني أتعجب أن الإنجيل بعد أن ذكر لنا أن النجم سبق المجوس إلى بيت وتوقف فوق المكان الذي كان فيه الطفل يسوع، فإنه لم يذكر أن النجم ابتعد واختفى وصعد، أو أي أمور أخرى. بل قال فقط أن النجم جاء ووقف فوق الموضع حيث كان الصبي. أليس هذا هو مثل ما حدث وقت المعمودية؟ لأنه بعد معموديته « صعد يسوع للوقت من الأردن، وإذا السموات قد انفتحت له. فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه وصوت من السموات قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت » (انظر مت3: 16، 17). وهكذا النجم أيضًا قد أتى فوق الموضع حيث كان الصبي، وهو الذي توقف هناك. وظل كذلك على المسيح، وهذا كله يشير إلى أن “الروح القدس في هيئة حمامة استقر عليه، ونحن نعرف أنه لم يتركه أبدًا، فأني أعتقد أننا يجب أن نعترف بأن النجم أتى واستقر عليه لكي لا يتركه أبدًا.

ويبدو لي أيضًا، أن هذا يرمز إلى ألوهيته. وتوجد أقوال أخرى في أقسام النبوة تشير إليه: وهي تقول عن ألوهيته: ” يبرز كوكب من يعقوب ” وعن طبيعته الإنسانية تقول: ” ويظهر إنسان في إسرائيل “. وهكذا فإن المسيح يظهر واضحًا في كل النبوات التي تتنبأ عن ألوهيته وإنسانيته.

 

انتصار المسيح

« وسوف يحطم رؤساء موآب » (انظر عد24: 17 سبعينية). موآب هي أمة أمراؤها لا يمثلون أي شئ سوى أرواح الشر والرئاسات المضادة للإنسان الخارج من إسرائيل. هذا الإنسان الخارج من إسرائيل سيحطمهم عندما « سيجرد الرئاسات والسلاطين ويشهرهم بصليبه » (انظر كو2: 15). لأنه لا يمكن أن يخلص الموآبيين ويقودهم إلى معرفة الله دون أن يقضى على رؤسائهم الذين كانوا يمارسون عليهم طغيانًا شريرًا.

« ويهلك وينهب كل أبناء شيث » (انظر عد24: 17سبعينية). وشيث هو ابن آدم وحواء الذي قالت عنه حواء عند ولادته « الله قد وضع له نسلاً آخر عوضًا عن هابيل الذي قتله قايين ». هذا هو شيث الذي كتب عنه، أن جميع الأجناس البشرية المنتشرة على الأرض خرجت منه، لأن نسل قايين هلكوا في الطوفان، فكل الناس الذين كانوا في هذا العالم (عندئذ) هم إذًا أبناء شيث. إنه « قيل إنه سيسلب كل أبناء شيث ». فلنعطِ لهذا السلب نفس المعنى الذي أعطيناه لذاك الذي قيل عنه: « سيأكل أمم أعداءه » (انظر عد24: 8، 9 سبعينية). وللذي قورن  « بأسد وبشبل أسد » (انظر عد24: 9 سبعينية). وهنا أخذ غنيمته من كل أبناء شيث. وبعد أن قهر أعداءه الشياطين فإن المسيح قاد بانتصاره الغنيمة وكأنه سلب الذين كانوا مستعبدين لطغيان الشياطين وخلصهم. ومكتوب عن هؤلاء أنفسهم في موضع آخر « إذ صعد إلى العلاء سبي سبيًا وأعطى الناس عطايا » (أف4: 8). هذا القطيع من المسبيين من جنس البشر الذين قيدهم الشيطان لأجل إهلاكهم، فإن المسيح أعادهم في الاتجاه العكسي ودعاهم من الموت إلى الحياة.

ليتني أستطيع أنا أيضًا أن أكون أسيرًا ليسوع المسيح وأكون من ضمن غنيمته وأن أكون مقيدًا بوثقه، لكي أحسب مستحقًا أن يقال عني أنا أيضًا “أسير يسوع المسيح”، كما كان هذا هو مجد بولس.

 

أدوم: الجسم

« ويكون أدوم ميراثه، وعيسو عدوه » (عد24: 18 سبعينية). أدوم وعيسو ـ هما بالمعنى التاريخي شخصية واحدة. هو عدو إسرائيل، ولكن عند مجئ المسيح، يقول بلعام، أنه سيصير (أي عيسو) ميراثًا لإسرائيل، وهذا يعني أنه سيُقبل في الإيمان، ولن يستبعد من ميراث المسيح. بالمعنى الروحي، آدوم هو « الجسد الذي يقاوم الروح » (انظر غل5: 17)، وهو عدو له. وعند مجئ المسيح، بسبب أن الجسد سيُخضْع للروح، برجاء القيامة، سيحصل على نصيب في الميراث. لأنه ليس النفس وحدها، بل الجسد أيضًا، عدوها، كلاهما سيخضعان للروح، ويصير لهما نصيب في الميراث الآتي.

 

قوة إسرائيل

« وإسرائيل يصنع ببأس ». أي يريد أن يقول إن أدوم أو عيسو، أي الطبيعة الجسدانية، سيصير لها نصيب في الميراث بسبب إسرائيل، أي أن النفس ستصنع ببأس، وسيصير لها الإمكانية بشكل كافٍ على العمل بشجاعة. فإذا لم تعمل النفس بشجاعة وظلت في جبنها، فإن الجسد لن يكون له نصيب في الميراث، بل يسقط تحت دينونة ذلك « الذي يهلك الجسد والنفس في جهنم » (انظر مت10: 58).

 

التحرر من رباطات العالم

« ويتسلط الذي من يعقوب ويهلك الشارد من المدينة » (عد19:24). هذا هو الذي “يبرز” مثل كوكب “من يعقوب”، وسوف    ” يهلك الشارد من المدينة ” فالكتب المقدسة – ليس في هذا الموضع فقط، بل في كل الكتابات النبوية أيضًا، تكون التعبيرات مغلفة وغامضة، لأن الروح القدس الذي أوحى بهذه الموضوعات، لم يرد أن تكون مكشوفة أو مداسة من أهل العالم، بل احتاط لذلك، حتى أنه في حالة النقاش العام تكون مدفونة داخل الألغاز، وتكون المعاني سرية بفضل غموض التعبير.

والآن، بخصوص العبارة: ” يهلك الشارد من المدينة “، إذا لم نتمسك بالصيغة المعتادة للنبوات، التي قيل عنها: “إن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص”، فستبدو صعبة جدًا على الفهم. ولكن يمكن أن نشرحها هكذا. المدينة هنا تشير إلى العالم. وأيضًا قصة الإنجيل عن الابن الضال، نحن نقول عنه إنه بدد ثروة أبيه، وذهب إلى مواطن هام في مدينة من تلك البلاد، حيث نال ترحيبًا كبيرًا، ثم أرسله ليرعى الخنازير. فالمدينة التي كان فيها هذا المواطن المهم هي العالم. فهذا الذي أنقذ من هذه المدينة، هذا يعني أن المسيح ينقذه من هذا العالم، أي المسيح يهلكه. لأنه يقول: « من يهلك نفسه لأجلي فهو يخصلها ». إذًا فالمسيح يهلك هلاكًا يخلص ذلك الذي أُنِقَذ من مدينة هذا العالم.

فإذا أردنا أن نصل إلى الخلاص وأن ننقذ من هذا العالم يجب علينا أن نهلك أنفسنا هلاكًا نافعًا وضروريًا. لأن من يهلك نفسه في إتباعه للمسيح، فهو يكبح رغباته، ويقطع أهوائه، ويتخلى عن تمتعاته وتكاسله، عاملاً ليس مشيئته الخاصة بل مشيئة الله هذا هو معنى ” أن يهلك نفسه “، حسب قول الكتاب. لأن الحياة الأولى هلكت، وتبدأ حياة جديدة في المسيح. هذا القول يقودنا إلى قول آخر « إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه » (2تي2: 11)، وأيضًا « إن كنتم قد متم مع المسيح عن أركان العالم، فلماذا كأنكم عائشون في العالم، تفرض عليكم فرائض؟ » (كو12: 20).

إذًا، هو يؤكد في هذه النصوص، أنه من الضروري أن نهلك أنفسنا إن كنا قد متنا مع المسيح. فهذا الذي يهلك نفسه هنا على الأرض، فسيجدها بدون شك هناك (في السماء)، حسب قول الرسول: « حياتكم مستترة في المسيح في الله » (كو3: 5)، الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين.

[1] انظر عظة 14: 4.

النبوءة الرابعة – العظة الثامنة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد