أبحاث

الذبائح والنذور – العظة الرابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الذبائح والنذور - العظة الرابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الذبائح والنذور – العظة الرابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الذبائح والنذور - العظة الرابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد
الذبائح والنذور – العظة الرابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الذبائح والنذور

 

تمهيد: تعليم كلمة الله

1ـ كل من يريدون تثبيت علم راقي قليلاً سوف يجدون تعليمات شاقة طالما هم يجهلون هدف وامتيازات العلم التي نلقنه لهم. لكنهم سيصلوا بالتدريج إلى هذا العلم وسوف يسّرون بتحمل المصاعب التي يواجهونها في هذا التعليم، وفي الأنباء المقدسة والإلهية التي يجب أن يمر بها هذا التعليم الذي يتجه إلى ملء السعادة. وهذا ما يعني بكلمات واضحة أن خادم الله في سفر الخروج: ” تجئ بهم وتغرسهم في جبل ميراثك المكان الذي صنعته يا رب لسكنك” (انظر خر15: 27). الرسول بولس أيضًا، كان يعرف أن هناك عناصر أولية يلزم أن يرسخها في الذهن ولا نصل إليها إلا بعد فترة، مع الزمان ومع الوصول للكمال كان يكتب للمسيحيين “ لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين بسبب طول الزمان، تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله وصرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعام قوي. لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر، لأنه طفل. وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 5: 12-14).

وفي مكان آخر يذكرنا بأن حروف الناموس وكل جزء من الكتاب يشكّل ” أركان العالم” (انظرغل4: 3؛ كو2: 8). إن التعاليم المعطاة للمبتدئين تظهر لنا الآن صعبة الفهم، كل مستمع يريد أن يتعلم ما يختص بالخلاص، وعندما نقرأ له نصوصًا تتصل بذبائح الكباش والماعز والثيران، يقول إن هذه القراءة لا تعطيه أية استفادة، طالما أنها تلقي على المستمعين بطريقة سلبية. لكن إذا وُجِدَ من يرفع       ” البرقع الموضوع على قراءة العهد القديم” (انظر2كو3: 14) والبحث عما هي الذبائح الحقيقية، التي تطّهر الشعب في أيام العيد، سيرى العجائب المدهشة التي تحتوي عليها النصوص، أو التي تظهر للجهلاء تافهة ومليئة بالشكوك. القديس بولس والمقتدون به يملكون هذه المعرفة أكثر وبصورة كاملة وأفضل، وقد اكتسبوها من “الحكمة” ومن “كلمة لله”، بينما نحن، بالقياس إلى ما نستطيع استخلاصه من الكلمة في النص الذي فيه الكلمة والحكمة التي تعطينا الحقيقة في شكل ظل وصورة، سوف نحاول تحليل بعض النقاط بخصوص طقوس الذبائح بهدف البناء العام.

 

الذبائح: التضحيات الكفارية

في عيد الفصح، فإن حملاً هو الذي يُقدم لأجل تطهير الشعب، وفي أعياد أخرى تكون بقرة وفي أخرى تكون ماعز، أو كبش أو عنزة أو عجل كما عرفتم من قراءة اليوم. الحمل هو إذن أحد الحيوانات التي تستعمل في تطهير الشعب. هذا الحمل، نحن نعرف أنه يشير إلى ربنا ومخلصنا شخصيًا، وهذا ما فهمه يوحنا الذي هو “أعظم الأنبياء”، وعبر عن ذلك قائلاً: “ هوذا حمل الله، الذي يرفع الخطية عن العالم” (يو1: 29). في هذه الحالة إذ كان الحمل الذي قدم للشعب من أجل التطهير يمثل شخص ربنا ومخلصنا، فإن باقي الحيوانات المعينة لنفس الغرض يجب أيضًا أن تمثل، كما يبدو، الأشخاص الذين، باستحقاق دم المسيح، يؤدوا إلى تطهير الإنسانية. إن ربنا ومخلصنا “عندما أقتيد إلى الذبح كحمل وقُدم للتضحية في المذبح قد أعطى مغفرة الخطايا للعالم أجمع، ألا يكون أيضًا بنفس الطريقة أن تُغفر الخطايا بسبب دم القديسين الآخرين، وما قد ” سفك منذ أيام هابيل حتى دم النبي زكريا الذي قتل بين المعبد والمذبح” (مت23: 35)، ألم يسفك دم أحدهم مثل العجل، ودم آخر مثل الماعز؟ باختصار كواحد من الحيوانات التي تؤدي إلى التصالح بين الشعب. هل يجب أن يطبق عليهم البر؟ أي على الأنبياء الذين ذبحوا في هذا العالم، ولمن يقول: “لأجلك نُمات اليوم كله، قد حسبنا مثل غنم للذبح”، هل أيضًا يجب تطبيقه على القوات العليا التي أخذت على عاتقها مسئولية النوع الإنساني؟ من يستطيع أن يؤكد ذلك.

لأنه ليس بالمظهر فقط، ولكن هذه الحيوانات ترمز إلى معنى آخر أو إنسان آخر. إذا كان الرب يسوع المسيح هو بنفسه يحمل اسم الحمل، فهذا ليس لأن شكله تغير، وتحول إلى خروف، ولكن لأنه أراد ذلك، في صلاحه جاء للناس بمغفرة الخطايا مع الله، وقام بدور خروف بالنسبة للنوع الإنساني، الذبيحة التي بلا عيب أو خطية، والتي بواسطته نؤمن أننا ننال الصلح مع الله.

وأيضًا ربما أن، كل ملاك، وكل قوى عليا مقدسة، وكل بر لا بل وكل نبي قديس أو قديس رسول يتشفع بإلحاح من أجل مغفرة خطايا الإنسان، يمكن اعتباره مثل النعجة أو البقرة أو العنزة المقدمة كضحية للحصول على طهارة الشعب. القديس بولس، ألا يبدو وكأنه كبش أو ماعز مقدم كضحية إلى المحرقة من أجل شعب إسرائيل، عندما قال ” كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح، من أجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو9: 3). لكن نريد برهانًا أن القديس بولس يقدم مثل ضحية للذبح؟ أن نسمعه يقول في مكان آخر من الكتاب المقدس ” لأني أنا الآن أُسكب سكيبًا ووقت انحلالي قد حضر” (2تي6:4). هكذا أيضًا أحدهم قُدِمَ في عيد الباكورات، والآخر في عيد السبت، وآخر في عيد المظال على شكل كبش أو بقرة أو نعجة، من أجل مصالحة الله مع الناس. لأنه مادامت الخطايا موجودة، فإنه يجب أن نجد ذبائح للتكفير عنها. فلو لم تكن هناك خطية، لما صارت هناك أي ضرورة أن يصبح ابن الله حملاً، ولما كان هناك أي احتياج أن يصنع لنفسه جسدًا، لكي يقدمه ذبيحة.

كان سيظل كما كان ” في البدء” الله الكلمة (يو1:1)، لكن ” دخلت الخطية إلى العالم” (رو5: 12)، في هذه الحالة فإن نتائج الخطية تتطلب تكفير، والتكفير لا يكتمل سوى بذبيحة. كان إذن من الضروري انتظار ذبيحة من أجل الخطية. وأشكال الخطية مختلفة ومتنوعة، ولذلك كانت الوصية أن يُقدم أنواع كثيرة من الذبائح، بحسب أنواع الخطايا. وهكذا تارة تكون الذبيحة ثورًا، كرمز للقديسين والملائكة، أو البشر، كما قلنا، الذي في مثل هذا العيد يستخدم تقديم شفاعة عن الخطايا التي ارتكبها الشعب، تارة يكون كبش، بواسطته يتم تطهير الشعب.

إذًا لو أن الناس قد نالوا تطهيرًا من خطاياهم، ولو كانوا أكثر نقاء، لقلت الذبائح. إذًا كان في الحقيقة عدد الذبائح نسبيًا غير متكافئ مع الخطايا، وإن كثرة عدد الخطايا سوف يتبعه زيادة في عدد الذبائح، وبالعكس إذا قل عدد الخطايا. الكتاب المقدس يشير إلى هذا. وفي آخر عيد، وهو عيد المظال، كان يوصى بتقديم الذبائح خلال ثمانية أيام. اليوم الأول بسبب كثرة الخطايا، يجب أن يقدم أربعة عشر من الأبقار. في اليوم التالي فإن الخطايا تكون قد خفضت، وعدد الذبائح أيضًا، لذلك تقدم ثلاثة عشر بقرة. وثالث يوم، اثنى عشر ثورًا ثم إحدى عشر. وهكذا كما لو كانت التطهيرات تنقص يوم فيومًا عدد الخطايا، وعدد الذبائح ينقص نتيجة لذلك.

فلنفهم أن في التدبير العام في العالم فإن عملية التنقية هي بعينها. لأن الحاجة إلى التطهير لا تشعر بها فقط الكائنات التي على الأرض، ولكن أيضًا من في السماء. إن السموات أيضًا مهددة بالهلاك لأن النبي يقول: ” إن السموات سوف تبيد وكلها كثوب تبلي كرداء تغيرهن فتتغير” (مز102: 26). إذًا لنعتبر التطهير في العالم كله، أي كل الكائنات ” السماوية والأرضية والشيطانية “، لكي نرى كم من الذبائح يجب أن تكون لكل هذه الكائنات، كم من الأبقار أو الكباش أو الماعز، ولكن من كل هذه الحيوانات فإن “الحمل” هو الوحيد الذي استطاع أن ينتزع الخطية من العالم بأسره. ولهذا السبب اختفت بقية الذبائح. هذه الذبيحة وحدها تكفي لخلاص العالم بأسره. الآخرون يمحون الخطايا بتضرعاتهم، هو وحد مسحها بسلطانه هو الذي قال: ” يا بني مغفورة لك خطاياك” (مت9: 2)، وهكذا فإن العالم يتعلم أولاً البحث عن مغفرة الخطايا بواسطة ذبائح مختلفة، إلى أن تأتي الذبيحة الكاملة التامة، “حمل عمره عام، صحيح” هو الذي ينزع خطية العالم، بفضل ذلك الكامل نحتفل بالأعياد الروحية لا لإشباع الجسد، ولكن لتقدم الروح ونموها، بواسطة تقديم الذبائح الروحية لأجل تطهير العقل. يجب في الحقيقة أن نقدم لله ذبيحة القلب. نقدم له ” ذبيحة روح مماتة ” ” ليس ذبيحة من لحم ودم، لأننا إن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعد” (2كو5: 16)، لنقم إذًا الأعياد بالروح ولنقدّم الذبائح الروحية.

لقد كرسنا هذا الشرح عن الذبائح المختلفة، على قدر طاقتنا الجسدية، لكن معنى التضحية واضح، ومحجوز له أي الله الذي كل شئ عريان ومكشوف في عيني ذلك الذي ليس شئ مخفيًا عنه     (انظر عب4: 13).

 

النذور: الإنسان ـــ إنسان

2ـ بعد ذلك تأسس ناموس النذور. موسى بدأ هذا التشريع بطريقة غريبة. ” الإنسان ـ الإنسان الذي نذر نذرًا للرب؟ ” ما هو السبب الذي جعله يكرر هذا الاسم؟ ألا يكفي أنه يقول: ” الإنسان الذي نذر نذرًا لسيده “، لماذا يقول عندئذ “الإنسان – الإنسان”، ما هو معنى هذا التكرار لهذا اللفظ ” إنسان؟ ” إنه سؤال لا يجب إهماله في نظري أن الرسول يميز بين ” الإنسان الداخلي و الإنسان الخارجي “، الأول هو الذي يتجددَّ، من يوم ليوم حسب صورة خالقه (كو3: 10)، الإنسان الثاني هو الذي يموت، عندما نصل إلى حالة التقدم في العمر ونستلم ناموس الله، والذي فيه نقدم نذورًا للمسيح – ولكننا لا نستطيع تقدمة نذور للسيد بدون أن يكون لدينا في داخلنا، شيء جوهري لنقدمه. الإنسان الخارجي غير قادر على استقبال ناموس الله، وأن يهب له فقط هبات، لأنه لا يستطيع أن يكون لديه ما هو جدير بالله. على عكس ذلك، فإن ” الإنسان الداخلي” لديه في ذاته ما يقدمه إلى الله، لأنه فيه يتماسك قرار الفضائل، تكامل العقل والعلم، وينفتح في العقل تجديد صورة الله[1]. وعندما اكتشف الإنسان الشكل الذي أعطاه له الله منذ البداية، عندما أعاد الفضائل واسترجع جماله البدائي، عندئذ استطاع أن يهب نذوره لله، عندئذ سوف نسميه بدلاً من إنسان بلا زيادة ” إنسان ـ إنسان”.

 وإذا لم يتشدد الإنسان الداخلي، إذا لم نعتن به، إذا لم نزيّنه بالفضائل، إذا لم نمده بالعادات الحسنة، إذا لم ندربه على التعاليم الإلهية، إذا لم نطبقه على العلوم المقدسة، لن نستطيع أن نُدعىَ “إنسان، إنسان”، أو “إنسان” بلا زيادة أو “إنسان نفساني”، لأن “الإنسان الداخلي” الذي بالنسبة له  لقب إنسان معناه موثوق به وأكثر نبلاً، ولكن بسبب رذائل الجسد، والمشاكل والاضطرابات التي في هذا العالم، فإنه لا يستحق أن يدعى بهذا الاسم.

لذلك يجب بذل كل مجهود، إذا رأينا “الإنسان الداخلي” الذي في داخلنا هارب تحت قذارة الخطايا ودمار الرذائل، لكي ننتشله في أسرع وقت ممكن من النجاسات، وننتزعه في أسرع وقت ممكن من دنس الجسد والدم، ونحوله. أخيرًا يجب أن يلجأ الإنسان إلى العقاب، وتذكير نفسه في داخله بذكرى الله والرجاء في الخلاص.

إنها ليست في الحقيقة أشياء طيبة التي يجب البحث عنها في جهة أخرى في الخارج “خارج الإنسان”، إنما يمكن أن يوجد الخلاص بداخلنا، كما يتضح من أقوال ربنا “ ها، ملكوت الله داخلكم”        (لو21:17)، فنحن بداخلنا إمكانية الاهتداء. عندما سوف نهتدي بواسطة الدموع، سوف نخلص عندئذ، سوف نتمكن من ” تقديم النذور إلى الرب ” ويمكن أن يسمى “إنسان، إنسان”.

 

ما هي النذور؟

لكن هناك نذر عندما نقدم لله شيئًَا من ذواتنا. إن الله يريد أولاً أن يأخذ شيئًا منا، وإذا كان يريد أن يظهر سخيًا تجاهنا، إذا كان يريد أن يوزع هباته وهداياه، فإنها لمن يستحق وليس للآخرين. ولكن ماذا يريد الله أن يتقبل منا؟ استمع لهذه الجملة من الكتاب المقدس: ” والآن إسرائيل ماذا يطلب منك سيدك إلهك، أنك تسير في كل طرقه، وأنك تحبه من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك” (تث10: 12)، هذا هو ما يطلبه منا الله. إذا لم نقدم له أولاً، لن نأخذ منه أبدًا ونقرأ في نص آخر: ” أعطِ المجد لله، وأعط العظمة لله”. إذا كنت تعطيه المجد سوف تأخذ المجد. لأن الله نفسه قال: ” أكرم الذين يكرمونني” (1صم2: 30). وأنا أقول من جانبي: إذا قدمنا له برنا سوف نستقبل منه المجد.

وإذا قدمنا له عفتنا وأقصد بذلك عفاف جسدنا سوف يقدم لنا عفة الروح كما يقول الرسول: “ نحن لنا فكر المسيح” (1كو2: 16)، فعندما نقدم إلى الله ما هو فينا، وأن يعطينا ما هو “له”، فإننا سوف نُسمى حقيقة، ليس فقط “إنسان” لكن إنسان – إنسان، لأن كل واحد من جانبي الإنسان يحصل على الكمال الذي يناسبه.

 

أمثلة من النذور

هذه هي النذور التي يجب أن يلتزم بها من يسمى “إنسان – إنسان”، أعرف أنواع كثيرة متعددة في الكتاب المقدس، وهبت حنة للرب ثمرة بطنها، وكرست صموئيل للهيكل (انظر1صم11:1،54) ووهب آخر للرب الشئ الذي سوف يظهر له عند عودته بعد الانتصار. وكانت ابنته هي التي ظهرت وأكمل هذا النذر المحزن (انظر قض31:9). آخرون يقدمون لله أبقار، كباش، منازل أو كائنات أخرى غير عاقلة.

النذير أو القديس

أما الذي نسميه النذير فقد نذر نفسه لله. هذا هو نذر النذير، وهو متفوق على الجميع. لأن من يهب أبنًا أو بنتًا أو حيوانًا أو عقارًا كل هذا خارج عنه تمامًا. ولكن أن يقدم نفسه لله ويرضيه ليس باستحقاق شخص آخر ولكن بواسطة نفسه، فإن هذا يتفوق في الوصول للكمال والسُمُوّْ عن جميع الأنواع الأخرى من النذور. من يفعل هذا هو متمثل بالمسيح. في الحقيقة إن الله هو الذي أعطى للإنسان الأرض والبحر وكل ما تحتويها، ووضع في خدمة الإنسان السماء، والشمس أيضًا، والقمر والنجوم، وأغدق على الإنسان بالأمطار والرياح وكل ما يحتويه العالم، وبعد ذلك كله أعطى نفسه له. الرب في الحقيقة أحب العالم كثيرًا حتى بذل ابنه الوحيد (يو3: 16) لأجل حياة العالم. ما هو الاستحقاق العظيم الذي يمكن أن يقدمه الإنسان للرب، الذي “بذل نفسه” أولاً له؟ إذًا إذا “ أخذت صليبك” (مت10: 38)، وإذا اتبعت المسيح، وإذا استطعت أن تقول ” أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل20:2)، وإذا كانت روحنا لديها الرغبة، والعطش للرجوع إلى المسيح تبعًا لكلمة الرسول، وإذا لم تحب أبدا انجذابات العصر الحاضر، وإذا أكملت روحيًا كل الصفات التي تختص بالنذير عندئذ فإنه هو يهب نفسه لك، وتكون أنت لله وهو لك. وأما الذي يعيش في الطهارة، فهو يهب جسده لله تبعًا للنص: ” العذراء تهتم أن تكون مقدسة جسدًا وروحًا” (1كو34:7). الكلمة نفسها ” مقدسة ” تؤكد ما نقوله، إننا نسمى “قديسين” مَن نَذورا أنفسهم لله. مثلاً نسمى قديس، من ينذر نفسه لله. الكبش لا يجب أن نجزه ليخدم الاستعمالات المدنسة. وأيضًا فإن البقرة التي كرست لله تسمى مقدسة، ليس من المسموح أن تربط للعمل في أعمال دنيوية. وتبعًا لهذه الأمثلة، لنعرف ماذا يرتكز عليه الفعل ” نذر نفسه”. إذا نذرت نفسك لله، يجب أن تكون كالبقرة المكرسة لله التي يجب أن لا تخدم في الأعمال الإنسانية ولا تعمل أيضًا للإنسان، هكذا أنت أيضًا فإنك لا تعيش وتعمل للحياة الحاضرة، بل لكل ما يختص بالروح وبالتأملات والعبادة الإلهية، هذا هو ما يجب أن تفعله، هذا هو ما يجب أن تفكر فيه.

 

نذورات مختلفة: درجات للكمال

ومع ذلك فإن قراءة اليوم تحتوي على بعض التميزات النوعية في مادة النذر، إذا كان الإنسان هو الذي يعمل النذر، يقال عنه إنه حر في نذوره، ولا يتبع أحدًا. “إذا كانت امرأة هي التي تقوم بالنذر” وإذا كانت في منزل والدها، فإن نذرها يتبع الأب، وإذا لم يرضَ به، فإنها غير مسئولة عن ذلك، ولكن إذا رضى به، فهو وأبنته مُلزمون بتنفيذه. وإذا حدث أن الأب لم يعلن أنه غير راضٍ عن ذلك، فإن الفتاة إذًا لم تكمل هذا النذر، فإن الخطية تبقى عليه. وهناك نظام مثله يختص بالزوج، إذا كانت سيدة قامت بالنذر وهي في بيت زوجها، فإذا تفاهم معها زوجها ولم يلغه، فإنه يكون مسئولاً عن النذر بنفس المقدار مثل زوجته، “وإذا لم يلغه” فإن الزوجة والزوج يكونان مسئولان عن ذلك. وإذا لم يتكلم الاثنان كما قلنا فإنهما مسئولان عن ذلك، هذا هو النص. ولكن إذا أردنا فلنطلب من الله فهمًا يجعلنا نستحق أن نفهم هذا النص، كما يناسب كلمات الله. نحن الذين نعيش تحت ناموس الله، والذين نكّون كنيسته، ويعيش البعض تحت سيطرة أب، والآخرون تحت سيطرة زوج، إذا كانت روحنا صغيرة وحديثة في مدرسة الله، يجب النظر إلينا كما لو كنا نعيش تحت سيطرة الأب. لكن إذا تقدمت نفسنا لدرجة أن تصبح ناضجة للزواج، لتتقبل حصاد كلمة الله وتفهم أسرار التعليم الروحاني،فهي موضوعة تحت سيطرة الزوج. وهذا ما قاله القديس بولس لأهل كورنثوس: “خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو1:1ـ2). أما من هم المجموعة الأخيرة فهم الأكثر كمالاً، والأكثر سموًا ولا يقال عنهم أنهم تحت سيطرة زوج، ولكن استمع إلى ما يقوله القديس بولس وكيف يقول عن نفسه وعن أمثاله: ” إلى أن نصل إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملئ المسيح ” (أف4: 13). والنذور التي تقدمها هذه النفس التي تصل إلى الإنسان الكامل، لا أحد يستطيع أن يأمرها، فالمرأة تمتلك ثروتها وهي حرة في نذورها.

 

النفوس التي لا تمتلك نفسها

ولكن إذا كانت النفس أيضًا من الجنس الأنثوي وإذا كان زوج أو أب يستطيع التصرف في نذرها، فالخطأ لا يقع عليها، فهو يقع في بعض الأحيان على الأزواج أو على الآباء. وبالرغم من أن هذه المواد صعبة للوصول إلى الميناء، ولكننا سنقدم أفكارًا بحسب ما يعطينا الرب.

 

دور الملائكة الحراس

لقد قلنا مرارًا إن العناية والاتجاه إلى النفوس في كنيستنا الإلهية تعطي مسئوليتها للملائكة، وأشرنا إلى أنها تظهر شخصيًا عند محاكمة الإنسان حتى تنظم في المحاكمة الإلهية. إذا أخطأ الإنسان بفعل سقوطه نفسه أو بإهمال أساتذته يبدو في هذا النص أيضًا، تحت ستار الغموض. هناك معنى يبرهن على أن بعض النفوس لديها صلات مع فتيات، والبعض مع زوجات حسب نوعها الذي ذكرناه أعلاه. إذا كانت إذًا واحدة منهن تريد أن تهب نفسها أو تنذر نفسها أو شئ منها إلى الله، إذا كان نذرها غير ناضج وليس مناسبًا جدًا، فإن ذلك يرجع إليه، إلى الملاك الحارس والناصح، فعليه أن يوقف النذر، وأن يلغي جرأة صاحب النذر. لكن إذا، بعد الاستماع إليه لا يوقفه، ولا ينذره فإن هذه الروح سوف تكون مثالاً للخطأ لكن هو (أي الملاك) سوف يبقى مسئولاً عن النذر.

وهذا هو ما يحدث لمن هم أقل كمالاً، هذا هو معنى النص، ولكن بالنسبة للأكثر اكتمالاً، فإن الله نفسه يساعدهن. وكبرهان على ذلك ما كتب عن شعب إسرائيل: ” الله نفسه كان يقودهم “، ولكن بعد أن سقطوا، وأصبحوا أقل رتبة مما كانوا قبلاً، فقد عهد بهم إلى ملاك. وهذا ما جعل موسى يقول: ” إذا لم تأت بنفسك معنا، لا تجعلني أرحل من هنا ” (خر33: 15)، ويقول الله أيضًا عن البار ” أنا معه في المحنة ” (مز92: 13)، ويقول في مكان آخر ” لا تخف من النزول إلى مصر لأني سأكون معك ” (تك46: 3-4). إن الرب يحضر إذًا “بنفسه” ليساعد الأبرار والصديقين، أما الذين هم أقل من ذلك فالملائكة هم الذين يكونون معهم، وكما برهنا قبل ذلك، فهم الذين يسوسونهم، ويسهرون عليهم، تارة يأخذون نذورهم لحسابهم، وتارة أخرى يتركونها.

 

حرية النذور للكاملين

لكننا يجب أن نتجه إلى الالتقاء بالإنسان الكامل، إلى قياس قامة ملء المسيح، حتى يكون لنا حرية اختيار النذور. وهكذا نسرع إلى الاتحاد بالرب حتى نكون معه روحًا واحدًا (1كو6: 17)، بدلاً من الاتحاد مع ملاك وهكذا يظل “هو” فينا، ونحن ” فيه ” (يو4:15)، ولا يكون فينا أي شئ أنثوي أو طفولي يضطر الأب أن يتركنا لمعلمين ووكلاء. لنسرع بالعكس إلى فهم كلمة ربنا ومخلصنا والآب نفسه الذي يحبنا (يو27:16)، ” له المجد في أبد الآبدين آمين” (رو36:11)

 

[1]  “الإنسان الداخلي” هو الذات بالجمع أي الـ “نحن” عند الفلاسفة، وهو مقر العقل الذي يشترك في العقل المطلق، أي ((Λóγος اللوغوس الذي هو صورة الله، والذي خلق الإنسان على صورته، وفيه أيضًا يتجدد.

الذبائح والنذور – العظة الرابعة والعشرون من عظات أوريجانوس على سفر العدد