أبحاث

الأصغر في ملكوت الله – إنجيل لوقا 7 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الأصغر في ملكوت الله – إنجيل لوقا 7 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الأصغر في ملكوت الله – إنجيل لوقا 7 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

الأصغر في ملكوت الله – إنجيل لوقا 7 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
الأصغر في ملكوت الله – إنجيل لوقا 7 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو 7: 24- 28) ” فَلَمَّا مَضَى رَسُولاَ يُوحَنَّا، ابْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لاَبِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَذَا الَّذِينَ فِي اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَالْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا اللهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ “.

 

أنتم الذين تعطَشون لمعرفة التعاليم الإلهية افتحوا مرة أخرى مخازن عقولكم واشبِعوا أنفسكم بالكلمات المقدسة أو بالحرى لا تستسلموا لأي إحساس بالشبع هنا، لأن النهم في الأمور التي تبني هو صفة جديرة بالاقتناء. دعونا إذًا نقترب من كلمات المخلِّص، ليس بإهمال ولا بدون استعداد لائق، بل بذلك الانتباه وتلك اليقظة التي تناسب أولئك الذين يريدون أن يتعلموا، لأنه بهذا يمكن أن تكون موضوعات التأمل هذه التي يصعب فهمها، تُفهم بطريقة صحيحة. لذلك دعونا نسأل من المسيح أن يعطينا ذلك النور الذي ينزل على العقل والقلب لكي إذ نستطيع بطريقة صائبة أن نفهم قوة ما يُقال فإننا نعجب مرة أخرى بالمهارة الجميلة لعمله، لأنه سُئل بواسطة تلاميذ يوحنا إن كان هو الآتي؟ وحينئذ حينما أجابهم بطريقة مناسبة وأمرهم أن يرجعوا إلى الذي أرسلهم، بدأ يكلم الجموع عن يوحنا قائلاً: “ ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟” وما هو التعليم الذي نأخذه من هذا؟ أو ما هي الغاية التي تشير إليها كلمات المخلِّص؟ إنه أمر جدير بأن نسأل عنه؟ لذلك دعونا نفتِّش عن معنى ما قيل، دعونا نبحث عنه ككنز، دعونا نفتش عن أسراره، ونثبت ذهننا على عمق السر، دعونا نكون مثل الصيارفة الحريصين، المدققين نمتحن كل شيء”، كما يقول الكتاب (1تس5: 21).

 

كان هناك البعض يستكبرون بسبب ممارستهم لما يطلبه الناموس مثل الكتبة والفريسيين وآخرين من حزبهم الذين كانوا يُعتبرون بحسب مهنتهم حافظين مدققين للناموس، وكانوا على هذا القياس يطلبون أن تُزيَّن رؤوسهم بالكرامات. وهذا هو السبب في أنهم لم يقبلوا الإيمان بالمسيح ولا أعطوا تكريمًا لطريقة الحياة التي هي بالحق ممدوحة وبلا لوم، تلك الحياة التي تنظمها وصايا الإنجيل. لذلك فكان غرض المسيح مخلِّص الكل أن يُبيِّن لهم أن الكرامات الخاصة بالخدمة الدينية والأخلاقية التي حسب الناموس هي ذات قيمة صغيرة وليست جديرة بالسعي للوصول إليها، أو حتى ربما هي لا شيء بالمرَّة وغير نافعة للبنيان، بينما النعمة التي بواسطة الإيمان به هي عربون البركات الجديرة بالإعجاب، وهي قادرة أن تُزيِّن أولئك الذين يملكونها بمجد لا يقارن.

 

كثيرون كما قلت كانوا حافظين للناموس ومنتفخين جدًّا لهذا السبب، بل ويصرحون أنهم قد وصلوا إلى كمال ما هو جدير بالمدح بممارستهم بدقة للبر الذي يتكون من ظلال ورموز. لذلك فلكي يبرهن أن أولئك الذين يؤمنون به هم أفضل وأعلى منهم وأن أمجاد تابعي الناموس هي بالتأكيد قليلة جدًّا بالمقارنة بنموذج الحياة الإنجيلية، فإنه يتخذ ذاك الذي هو أفضلهم جميعًا ولكنه مع ذلك مولود من امرأة، وأنا أعني المعمدان المبارك. وإذ قد أكد أنه نبي، أو بالحرى أعلى من درجة الأنبياء وأنه بين أولئك المولودين من النساء ليس هناك من هو أعظم منه في البر، أي البر الذي بالناموس، وهو يُعلِن أن الذي هو أصغر من مقياسه، أي أقل منه في البر الذي بالناموس ـ هو أعظم منه ـ  ليس أعظم من البر الذي بالناموس، بل أعظم في ملكوت الله، أي في الإيمان والأمجاد التي تنتج عن الإيمان، لأن الإيمان يُتوِّج أولئك الذين ينالونه بأمجاد تفوق الناموس.

 

وهذا أنتم تعلمونه وسوف تؤكدون أنتم بأنفسكم، حينما تقابلون كلمات المبارك بولس، لأنه إذ قد أعلن بنفسه أنه حُر من اللوم في البر الذي بالناموس، فإنه أضاف بعد ذلك “ ولكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح. وليس لي بري الذي من الناموس، بل الذي بإيمان يسوع المسيح” (في3: 7ـ9). وهو يعتبر الإسرائيليين مستحقين للوم عظيم، ولذلك يقول  ” إذ كانوا يجهلون بر الله“، أي الذي بالمسيح “ويطلبون أن يُثبـِتوا بر أنفسهم“، أي الذي بالناموس ” فإنهم لم يُخضعوا لبر الله” (رو10: 3). ” لأن غاية الناموس هى المسيح للبر لكل من يؤمن” (انظر رو10: 4). وأيضًا حينما يتكلم عن هذه الأمور يقول” نحن بالطبيعة يهود ولسنا من الأمم خطاة، إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرَّر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرَّر فيه” (غل2: 15، 16). لذلك فالتبرير بالمسيح أي بالإيمان به، يفوق أمجاد البر بالناموس، لهذا السبب فهو يُبرز المعمدان أمام الجميع كواحد قد وصل إلى أعلى مكانة في البر بالناموس، وهو مستحق لمديح لا يقارن. ومع ذلك فإنه يُحسب كأقل من الذي هو أصغر منه، لأنه يقول “إن الأصغر أعظم منه في ملكوت الله”. ولكن ملكوت الله كما أوضحنا يشير إلى النعمة التي بالإيمان، التي بواسطتها نُحسب مستحقين لكل بركة، ونُحسب أهلاً لامتلاك المواهب الغنية التي تأتي من فوق من الله، لأن النعمة تُحرِّرنا من كل لوم، وتجعلنا أن نكون أبناء الله، وشركاء الروح القدس وورثة الميراث السماوي.

 

وإذ قلنا هذا كمقدمة، كنوع من التمهيد لذلك لكي نشرح ارتباط الأفكار، تعالوا الآن ودعونا نفحص الكلمات نفسها. وكما سبق أن قلتُ هو يرفع المعمدان الإلهي إلى درجة أعظم ويتوِّج السابق بكرامات فائقة عن قصد. وذلك لكي ما يتعجبوا بالأكثر بالإيمان، الذي يجعل المؤمنين تكون لهم عظمة تفوق الناس البارزين كالمعمدان. وهو يسأل اليهود بعد ذلك قائلاً “ ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟” والآن هو يقارن القصبة التي هي شيء يهتز ذهابًا وإيابًا بواسطة شدة الريح، يقارنها بالإنسان الذي يعيش في كرامات ولذَّات عالمية، وفي عظمة سيادة زمنية. لأنه بالنسبة لهؤلاء الأشخاص لا يوجد شيء راسخ أو ثابت أو لا يهتز، بل تتغير الأمور دائمًا بطريقة غير متوقعة وبصورة لم يكونوا يفكرون فيها مقدمًا، ” وكل مجد إنسان كزهر عشب، العشب يبس وزهره سقط” (1بط1: 24). ويقول هل تذهبون إذًا إلى البرية لتنظروا إنسانًا مثل القصبة؟ إن المعمدان ليس هكذا، بل هو من نوع مختلف، وهو ليس من أولئك الذين يحيون في ملذات، أو الذين يرتدون ملابس فاخرة، ويُسرون بالكرامة الصبيانية، ونحن لا نرى مثل هؤلاء الأشخاص يسكنون في البرية بل في قصور الملوك. أما لباس المعمدان المبارك فكان من وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه.

 

فماذا إذًا ذهبتم لتنظروا؟ ربما تقولون نبي، نعم أنا أوافق لأنه قديس ونبي. لا بل هو يفوق كرامة النبي، فهو ليس فقط قد أَعلن مسبقًا أني سآتي، بل أشار إليَّ عن قرب قائلاً “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو1: 29). وبالإضافة إلى ذلك فإن صوت النبي شهد عنه أنه “ مُرسل أمامي ليعد الطريق قدامي” (انظر ملا3: 1)، وأنا أشهد له أنه لم يقم بين المولودين من هو أعظم منه، ولكن الأصغر وأعني الأصغر في الحياة حسب الناموس، هو في ملكوت الله أعظم منه. كيف وبأي طريقة؟ بأن يوحنا المبارك هو وكثيرين من الذين سبقوهم مولودون من النساء ولكن الذين نالوا الإيمان لا يعودون يُدعون مواليد النساء، بل كما يقول الإنجيلي الحكيم هم مولودون من الله لأنه يقول: “ وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو1: 12، 13). لأننا قد وُلدنا ثانية بالتبني لنكون بنين “ ليس من زرع يفنى بل بكلمة الله الحي الباقي إلى الأبد” كما يقول الكتاب (1بط1: 23)، فأولئك الذين ليسوا من زرع يفنى، بل بالعكس قد وُلدوا من الله هم أعظم من أي واحد مولود من امرأة.

 

فتوجد ناحية أخرى أيضًا يتفوَّقون فيها على أولئك المولودين من النساء، لأن هؤلاء لهم آباء أرضيين، أما نحن فلنا ذاك الذي هو فوق في السماء. لأننا قد نلنا هذا أيضًا من المسيح، الذي يدعونا إلى تبني البنين والأخوَّة معه، لأنه قد قال “ لا تدْعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السموات وأنتم جميعًا إخوة” (مت23: 8، 9)، وبولس الحكيم جدًّا يعطينا تأكيدًا لهذا إذ يكتب هكذا “ ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبّا الآب” (غل4: 6). لأنه حينما قام المسيح وأباد الجحيم فحينئذ أعطي روح التبني لأولئك الذين آمنوا به، وأول الكل أعطى للتلاميذ القديسين. لأنه نفخ فيهم وقال “ اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسِكَت” (يو20: 22). ولأنهم صاروا شركاء الطبيعة الإلهية بسبب أنهم توشحوا بغنى بروح السيادة الضابط الكل، لذلك أعطاهم أيضًا قوة إلهية لغفران خطايا البعض وإمساك خطايا آخرين.

 

ويوضِّح الإنجيلي الحكيم جدًّا يوحنا أنه لم يكن هناك روح تبني قبل قيامة المسيح من الأموات وصعوده إلى السماء حيث يقول “ لأن الروح لم يكن قد أُعطيَ بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد” (يو7: 39). وكيف يمكن أن يكون الروح غير مساوٍ في الأزلية للآب والابن؟ فمتى لم يكن هو الذي قَبْل الكل؟ لأنه مساوٍ في الجوهر للآب والابن. ولكنه يقول ” لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد“، أي لم يكن قد قام من الأموات وصعد إلى السموات. لذلك فروح التبني لم يكن موجودًا في الناس بعد. ولكن حينما صعد كلمة الله الوحيد إلى السماء أرسل المعزي من فوق بدلاً عنه، والذي هو فينا بواسطته (بواسطة المسيح)، وهذا هو ما علَّمنا إياه قائلاً هكذا ” إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزي، ولكن أن ذهبتُ سوف أرسله إليكم” (يو16: 7). لذلك حتى لو كنا أقل من أولئك الذين قد تمَّموا البر الذي بالناموس، وأنا أعني أقل في بر الحياة، إلا أننا نحن الذين نلنا الإيمان بالمسيح قد تزوَّدنا بامتيازات أعظم، وينبغي أن نضع في أذهاننا أنه رغم أن المعمدان المبارك كان عظيمًا هكذا في الفضيلة، إلا أنه اعترف بوضوح أنه محتاج للمعمودية المقدسة، لأنه قال في موضع ما متحدثًا إلى المسيح مخلصنا جميعًا: “ أنا احتاج أن أعتمد منك” (مت3: 14)، ولكنه لو كان غير محتاج للمعمودية المقدسة ما كان قد طلب أن تُمنح له، لو لم يكن فيها أمر أعظم وأفضل من البر الذي بالناموس.

 

لذلك فالمسيح لا يجادل ضد كرامات القديسين وليس هدفه أن يقلل أو أن يصغِّر من قيمة أولئك الرجال القديسين الذين قد وصلوا سابقًا إلى النصرة، بل كما قلت إنه بالحري يُـبرهِن أن طريقة الحياة الإنجيلية هي أعلى من العبادة الناموسية، وأن يتوِّج الإيمان بكرامات فائقة، وذلك لكي ما نؤمن به جميعًا. لأننا هكذا ندخل بواسطته ومعه إلى ملكوت السموات، والذي به ومعه لله الآب كل تسبيح مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

الأصغر في ملكوت الله – إنجيل لوقا 7 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)