أبحاث

مثل الزارع – إنجيل لوقا 8 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مثل الزارع – إنجيل لوقا 8 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مثل الزارع – إنجيل لوقا 8 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

مثل الزارع – إنجيل لوقا 8 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
مثل الزارع – إنجيل لوقا 8 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو 8: 4ـ 8) ” فَلَمَّا اجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَل: خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسْطِ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَرًا مِئَةَ ضِعْفٍ. قَالَ هذَا وَنَادَى: مَنْ لَهُ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ “.

 

قد تكلم الأنبياء المباركون إلينا بطرق متنوعة عن المسيح مخلِّصنا جميعًا. لأن البعض بشَّروا به كالنور الذي كان مزمعًا أن يأتي، وآخرون بشَّروا بملوكيته وعظمته، لأن واحد منهم يقول: ” طوبى لمن له زرع في صهيون وأقرباء في أورشليم، لأن ها ملكها البار سوف يملك وأمراؤها سوف يسودون بالحكم” (إش31: 9س). ” وذلك الإنسان سيكون إنسانًا كلماته خفية” (إش32: 2س). لأن كلمة المخلص كما لو كانت خفية. هكذا أيضًا المرنم المبارك قد أظهره أمامنا قائلاً: “سأفتح فمي بأمثال” (مز78: 2). لذلك انظروا أنَّ ما تكلم به في القديم قد حدث, لأن جمعًا كثيرًا من الناس من كل اليهود قد اجتمع حوله، فتكلم إليهم بأمثال. ولكن لأنهم لم يكونوا مستحقين أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، فإن الكلمة كانت بالنسبة لهم مغلّفة بالظلام، فهم قد قتلوا الأنبياء القديسين وهم مذنبون بدم كثير من الأبرار، ولذلك قيل لهم بوضوح: ” أي الأنبياء لم يقتله آباؤكم” (أع7: 52). وأيضًا ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا” (لو13: 34، 35). ولكن أعمالهم الشريرة لم تمتد فقط إلى الأنبياء القديسين، بل تصاعدت حتى إلى ذلك الذي هو رب الأنبياء، أي المسيح. ولكن إذ هم متغطرسون، وكما لو كانوا يرفعون في وجهه رقابهم المتكبرة، فإنهم لم يعطوا أي اهتمام لواجب قبول الإيمان به، بل قاوموا بخبث تعليمه الجهاري، ووبخوا أولئك الذين أرادوا أن يكونوا معه دائمًا، والذين كانوا يعطشون لتعليمه، قائلين بعدم تقوى: ” إن به شيطان وهو يهذي، فلماذا تسمعون له” (يو10: 20)، لذلك لم يعط لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، بل بالحري أعطى لنا نحن الذين لنا استعداد أكثر لقبول الإيمان، بل بالحري قد أعطى لنا ـ كحكمة كاملة ـ القدرة على فهم ” الأمثال والأقوال واللغز, أقوال الحكماء وغوامضهم” (أم1: 6). لأن الأمثال يمكن أن تقول عنها إنها صور لا لأمور منظورة، بل بالحري لأمور روحية وتُدرَك بالعقل. لأن ذلك الذي لا يمكن أن يُرى بعيون الجسد تُشير إليه الأمثال بعيون العقل، وهي تُشكِّل الأمور العقلية بصورة جميلة بواسطة الصُوَر الحسيَّة، وبواسطة ما يمكن أن يُلمس. لذلك دعونا نرى ما هي المنفعة التي تنسجها لنا كلمة المخلِّص.

يقول إن الزارع خرج ليزرع زرعه إلى آخره… فعن من يتكلم هكذا؟ مِن الواضح أنه يتكلم عن نفسه، لأنه هو بالحقيقة زارع كل ما هو صالح، ونحن حقله، ومنه وبواسطته يأتي كل حصاد الثمار الروحية. وهذا هو ما علَّمنا إياه حينما قال     ” بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو15: 5).

لذلك فبالتصوُّرات العقلية أرجو أن تنظروا زارعًا يمشي، وحينما يمشي يلقي بذارًا في الحقول، البعض منها يسقط على الطرقات، والبعض على الصخور، والبعض على أماكن بها أشواك، والبعض الآخر على أرض جيدة أي على أرض خصبة. فذلك الذي على الطرقات اختطفته طيور السماء، والذي على الصخور بمجرد أن نبت جف بسرعة، وذلك الذي وسط الأشواك اختنق، وأما الذي سقط على الأرض الصالحة فإنه نما وأعطى ثمرًا مئة ضعف كما يقول.

والآن ما هو الهدف من الحديث، وما هو التعليم العميق للمثل؟ هذا سوف نتعلمه منه هو، الذي شَرَحَه. وحتى التلاميذ المباركين قبلَنا وجدوا هذه الأشياء صعبة الفهم، واقتربوا من مُعلِن الأسرار وسألوه قائلين “ما هو المثل؟” فماذا كان جواب المسيح؟    ” الزرع هو كلام الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم لكي لا يؤمنوا فيخلُصوا” (لو8: 11، 12).

الذين على الطريق:

ونرى  أنَّ السبب في  أنَّ الزرع الذي على الطريق يُختطف هو جفاف الأرض. فأي طريق هو دائمًا جاف وغير محروث وتدوسه الأقدام، لذلك فلا تدخل فيه أي بذار، بل تظل على السطح فتلتقطها الطيور وتأكلها. لذلك فكل أولئك الذين عقلهم جاف وعنيد، وكما لو كان مضغوطًا على نفسه، لا يقبلون الزرع الإلهي، لأن الكلام الإلهي المقدس لا يجد مدخلاً إليهم، ولا هم يقبلون الكلمات التي تُنتِج فيهم مخافة الله، والتي بواسطتها كانوا يستطيعون أن يأتوا بثمار أمجاد الفضيلة. لقد جعلوا أنفسهم طريقًا مداسًا للأرواح النجسة، نعم للشيطان نفسه. فهؤلاء لا يستطيعون أن يأتوا بثمر مقدس. لذلك فأولئك الذين قلبهم عقيم وغير مثمر فليستيقظوا ويفتحوا عقلهم ويقبلوا الزرع المقدس، ويكونوا مثل الأرض المحروثة جيدًا والمُثمرة، ويأتوا بثمار لله ترفعهم إلى حياة غير فانية وتحرس عقلهم وتغلق الباب أمام اللص، وتطرد من قلوبهم أسراب الطيور، وذلك لكي يبقى الزرع ويمكث داخلهم ويكونوا مخصبين جدًّا وأغنياء بوفرة في إنتاج الثمر.

الذين على الصخر:

وبعد ذلك دعونا نتحدث عن أولئك الآخرين الذين قال عنهم المسيح: ” والذين على الصخر هم الذين متى سمعوا يقبلون الكلمة بفرح، وهؤلاء ليس لهم أصل فيؤمنوا إلى حين وفي وقت التجربة يرتدُّون” (لو8: 13). هؤلاء بالحقيقة هم أناس إيمانهم لم يكن قد ثبت، بل هو يعتمد على مجرد كلمات، ولا يُركِّزون عقلهم في إدراك السر، مثل هؤلاء تقواهم جافة وبلا أصل.

لأنهم حينما يدخلون الكنائس فإنهم يشعرون بسرور في أن يروا كثيرين مجتمعين ويقبلون التعليم بفرح من فم الذي يُعلِّمهم ويمدحونه كثيرًا. ولكنهم يفعلون هذا بدون تمييز، بل بإرادة غير طاهرة، وحينما يخرجون من الكنائس فإنهم في الحال ينسون التعاليم المقدسة ويسيرون في سيرتهم التي تعوَّدوا عليها، ولا يكونون قد اختزنوا داخلهم أي شيء لمنفعتهم المستقبلة. لأنه لو كانت أمور المسيحيين تمضي في هدوء ولا تزعجهم أي تجارب فحينئذ بالكاد يثبت فيهم الإيمان، وعندئذ يكونون في حالة مُشوَّشة متداعية. وإذا وقع عليهم إضطهاد وهاجم أعداء الحق كنائس المخلِّص، فإن قلبهم لا يحب الجهاد وعقلهم يلقي عنه الستر الواقي ويهرب، إذ أنهم خالون من كل غيرة، ومقفرون من المحبة لله ومستعدون للفرار. ولكن يا أيها الخائفون والضعفاء أقول لكم، لماذا تهربون مما سوف يكون هو مجدكم؟ وتهربون من النضالات التي قد تدرَّبتم عليها؟ فإنه بهذا النضال يربح الراغبون جائزة النصر لأنفسهم. فصارِعوا واجدلوا إكليل الشجاعة، واعطشوا إلى مكافآت المثابرة، وإلى كرامات الصبر. 

وأظن أيضًا أنه من الصواب أن أقدم الحديث الآتي:

أولئك الذين يلمعون فوق العروش العالية، ويحكمون الأمور الأرضية، متى ينظرون الجندي الثابت الذي يرغب في النصر الأكيد؟ هل يرونه في أوقات السلام وحينما يصمت ضجيج الأسلحة؟ أم هل يرونه بالحري حينما يذهب بشجاعة ضد أولئك الذين يرتبون صفوفهم للهجوم؟ كما أتصور أنه يصدق هذا عن الحالة الأخيرة وأكثر من الأولى لذلك كما قال إرميا النبي ” أعدوا المجن والترس“(إر46: 3)، وخاصة  أنَّ يمين الله مخلّصنا لا تُُغلَب في المعركة، وكما قال بولس الحكيم ” إنه لا يدع الناس يجربون فوق ما يستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، ليستطيعوا أن يحتملوا” (انظر 1كو10: 13).

ولكن حتى إ إن كان نصيبنا أن نتألم حينما نناضل لأجل التقوى في المسيح، وحينئذ نكون من كل جهة موضع حسد الآخرين، ونكون ممجدين وتكون لنا آمال عظيمة باهرة، وأكثر من ذلك فإإن موتًا ممدوحًا هو أفضل بما لا يقاس من حياة شائنة. لأجل هذا أيضًا قال المخلّص للرسل القديسين ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلوا النفس, بل بالحري خافوا من الذي يستطيع أن يهلك النفس والجسد في جهنم” (انظر لو12: 4، 5). لذلك فهل هو يأمرنا ألا نبالي بهذه الأخطار الشديدة، بينما هو نفسه ظل بعيدًا عن مثل هذه التجارب؟ ولكن عجبًا إنه قد وضع حياته من أجلنا، وافتدى العالم بدمه. لذلك فنحن لسنا ملكًا لأنفسنا، بل له هو الذي اشترانا وافتدانا ونحن مدينون له بحياتنا. لأنه كما قال بولس الإلهي ” لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يكون ربًّا على الأحياء والأموات” (رو14: 9)، لذلك ينبغي أن يكون لنا عقل لا يقبل التزعزع حتى حينما تأتي التجربة فإنَّنا نُظهر أنفسنا مقبولين ونكون منتصرين بقوة الصبر، ونكون مستعدين أن نجوز الصراع بفرح وننتهز فرصة الآلام لأجل التقوى في المسيح.

الذي سقط وسط الشوك:

وبعد هذا الشرح الكثير، فلنأتِ إلى موضوع الأشواك التي تخنق الزرع الإلهي. فماذا يقول المخلِّص أيضًا؟ “والذي سقط وسط الشوك هم الذين يسممعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذَّاتها، ولا ينضجون ثمرًا” (لو8: 14). لأن المخلص يلقي البذار، التي إذ تضرب بجذورها في النفوس التي تقبلها وتبتدئ أن تبرُز إلى فوق وتصير منظورة فإنها تختنق بالهموم العالمية وتجف وتُغطِّي عليها الانشغالات الفارغة كما قال النبي “ زرع ليس له غلة لا يصنع دقيقًا” (هو8: 7). لذلك فإننا في هذه الأمور ينبغي أن نكون مثل الزُُرّاَّاع المهرة الذين ينقُّون الأرض من الأشواك بمثابرة ويرفعون من الأرض كل ما هو مؤذي، ثم يلقون البذار في حقول نقية، ولذلك يستطيع الواحد أن يقول بثقة أنهم بلا شك “ يعودون بالفرح حاملين حزمهم” (مز126: 6). ولكن إن كان الإنسان يلقي بذاره في أرض مملوءة بالأشواك وكثيرة الحشائش ومغطاة، بنفايات الحصاد فإإنه يتعرض لخسارة مزدوجة، إذ يخسر بذاره أولاً، كما أنه يعاني تعبًا كثيرًا. لذلك فلكي تزدهر البذرة الإلهية جيدًا فينا فلننزع أولاً من قلوبنا الاهتمامات العالمية والقلق غير النافع الذي يجعلنا نسعى أن نكون أغنياء، “ لأننا لم ندخل العالم بشيء، ولا نقدر أن نخرج منه بشيء” (1تي6: 7). لأنه أية منفعة من امتلاك الأشياء الزائدة؟ ” كنوز الشر لا تنفع، أما البِر فينجي من الموت” (أم10: 2). فإنه حالما يتم امتلاك أشياء وفيرة وبزيادة فإإنه تجري فينا ـ وكما لو كانت تطوِّقنا ـ أحط الشرور: “ولائم بتبذير وإسراف، وتلذُّذات البطن وأطعمة جيدة الإعداد بالتوابل، وموسيقى، وسُكْر، ومهاوي الدعارة، واللذات الشهوانية، والكبرياء المكروه من الله”, وقد قال تلميذ المخلِّص ” كل ما في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة… والعالم يمضي وشهوته، أما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد” (1يو2: 16، 17).

في الأرض الجيدة:

هذا هو الزرع الجيد، والجدير بالإعجاب: الأرض غنية ومثمرة جيدًا وتأتي بثمار مئة. لأن الناس يقولون إ  أنَّ أحسن أنواع التربة تعطي أحيانًا عند زراعتها مئة ضعف، حتى  أنَّ هذه هي علامة لكل بقعة خصبة منتجة، وعن هذا قال الله بحق بواسطة أحد الأنبياء القديسين ” ويطوِّبكم كل الأمم لأنكم تكونون أرض مَسرَّة” (ملا3: 12). فحينما تقع الكلمة الإلهية على عقل نقي وماهر في تطهير نفسه من الأشياء المؤذية، فإإنها حينئذ تُثبِّّت جذورها في الأعماق وترتفع مثل سنابل القمح. وإذ تكون أوراقها قوية ومزهرة حسنًا فإنها تأتي بثمرها كاملاً.

ولكني أظن أنه نافع أن أذكر هذا لكم أيضًا أنتم الذين ترغبون أن تتعلموا ما هو صالح. لأن الإنجيلي القدِّيس متى حينما قَصَّ هذا الفصل علينا، قال إ إنَّ الأرض الجيدة أعطت ثمارًا في ثلاث درجات. إذ يقول ” فيصنع بعض مئة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين ” (مت8:13)”. لذلك لاحظوا أنه كما ذكر المسيح ثلاث درجات من الخسارة هكذا بالمثل درجات النجاح هي مساوية في العدد. لأن تلك البذار التي تسقط على الطريق تخطفها الطيور، وتلك التي على الصخور بمجرد أن تبرز في خلال فترة صغيرة فإنها تجف، وتلك التي بين الأشواك تختنق. أما الأرض الجيدة فتعطي ثمرًا في ثلاث درجات، كما قلت مئة، وستين، وثلاثين. لأنه كما كتب بولس الحكيم جدًّا “ كل واحد له موهبته الخاصة من الله, الواحد هكذا والآخر هكذا” (1كو7:7). لأننا لا نجد  أنَّ نجاحات القديسين هي بمقياس متساوي، أما نحن فيلزمنا أن نتمثل بالأمور التي هي أفضل وأعلى من تلك الأمور التي من نوع وضيع. فإإنه هكذا سيسكب المسيح علينا السعادة بسخاء، وهو الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمين.

مثل الزارع – إنجيل لوقا 8 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)