أبحاث

أعطنا كل يوم خبزنا – إنجيل لوقا 11 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

أعطنا كل يوم خبزنا – إنجيل لوقا 11 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

أعطنا كل يوم خبزنا – إنجيل لوقا 11 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

أعطنا كل يوم خبزنا – إنجيل لوقا 11 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
أعطنا كل يوم خبزنا – إنجيل لوقا 11 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو11: 3 )

          أولئك الذين يقتنون الثروات الأرضية يَدعون أصحابهم الذين يودُّون أن يكرموهم إلى بيوتهم، ويضعون أمامهم المآدب الفاخرة، قاصدين بذلك أن يعطوهم الفرصة ليمتِّعوا ذواتهم، مع أنهم لم يعدُّوا لهم شيئًا أكثر مما يشبع شهيتهم للطعام المادي. أمَّا مخلِّصنا رب الكل، فلا يقدم لنا مأدبة نستمتع بها جسديًّا، فهذا ليس بنافع لنا، بل قد يكون ضارًّا حتى للجسد نفسه، وإنما هو يقدم ولائم روحية لقلوب أولئك الذين يريدون أن يحيوا بالتقوى، مانحًا إياهم تعليم الإنجيل الخلاصي الذي به يصير الإنسان ممتلئًا من كل صلاح ووارثًا للحياة الأبدية، وما قد قلته، تُعلِّمه لنا بوضوح هذه الفقرة التي أمامنا الآن، والرب يقول: “متى صلَّيتم ينبغي أن تقولوا: ” أعطنا كل يوم خبزنا الضروري“.

          ولكن ربما يعترض البعض قائلاً: إنه ليس من المناسب ولا من اللائق بالقديسين أن يطلبوا من الله هذه الأمور الجسدانية، ولذا قد يأخذون ما قيل بالمعنى الروحي، ويؤكدون أنهم لا يسألون الخبز الأرضي أو ما هو للجسد، بل ذلك الذي نزل من فوق، من السماء فأعطى الحياة للعالم. وأنا أيضًا بلا أدنى شك أقول: إنه من الأليَق جدًا بالقديسين أن يسعوا بكل جهد ليُحسَبوا مستحقين للعطايا الروحية، ولكن من جهة أخرى ينبغي لنا أن نفهم أنه حتى إذا ما كانوا يطلبون مجرد الخبز العادي إلاَّ أنه لا لوم عليهم البتَّة في ذلك إذا كانوا يسألونه من الله حسبما يدعوهم المخلِّص أن يفعلوا هكذا، لأن هذا يليق بتقوى حياتهم. فيجب علينا أن نمعن النظر في المعنى المتوارى لهذه الكلمات وما يحتويه من تعليم.

          فالرب إذ أوصاهم أن يسألوا من أجل الخبز، أي من أجل خبز يوم واحد، فهذا برهان واضح على أنه لا يسمح لهم بامتلاك أي شيء، بل يطلب منهم أن يمارسوا الفقر اللائق بالقديسين. فالطلب ليس من حق من يمتلكون بل لمن هم بالحري في حاجة لم يحتاجه الجسد بصورة ضرورية، ولا يستطيع أن يعمل بدونه. فإذا افترضنا أن واحدًا ليس محتاجًا إلى شيء، وطلب من الله العالِم بكل شيء قائلاً: ” أعطنا خبز اليوم“، فإنه يبدو بطبيعة الحال كمن يأخذ باستهزاء، أو ربما كمن يجعل الوصية مدعاة للسخرية، ويتصور كما يفعل البعض أن ” الرب لا يبصِر وإله يعقوب لا يلاحِظ” (مز94: 7).

          ولكن بهذه الوصية نفسها ـ طالما هم يسألون ما ليس عندهم نفهم أن الرب لا يروم لتلاميذه أن يبتغوا الغنى الأرضي، وهو ينهاهم في مناسبة أخرى قائلاً لهم بوضوح:  ” لا تقلقوا من أجل حياتكم ماذا تأكلون أو ماذا تشربون، ولا أجسادكم ماذا تلبسون لأن هذه الأمور كلها تطلبها الأمم، ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت6: 25ـ33).

          وكلمة ” إيبى أوسيوس ” επιούσιον  التي تُطلَق على الخبز، يشرحها البعض بمعنى ما هو آتٍ، أي المزمع أن نُعطاه في العالم الآتي بالمفهوم الروحي أيضًا، في حين أن آخرين يُعطون للكلمة معنىً مغايرًا. ولكن إذا كان حقًّا أن الخبز الذي يُشار إليه في هذه الطلبة سيعطى في العالم الآتي، فلماذا يضيفون: ” أعطنا كل يوم“؟ لأن من هذا نرى أنهم يلتمسون مؤونتهم اليومية، وهم يسألون لا كأناس محبين للثروة بل كأحرار من كل هَّم أرضي. فمعنى επιούσιον  إذن ما هو ضروري وكافي. والرسول المغبوط بولس قد استخدم هذا التعبير مع تحوير طفيف عندما تكلم عن المسيح مخلِّص العالم قائلاً عنه: ” أنه أعد لنفسه شعبًا خاصًا περιούσιον مستعملاً “بيرى أوسيوس” بدلاً من ” إيبى أوسيوس” قاصدًا بذلك ” شعب كُفء لا يعوزه الكمال” فهم عندما يطلبون قوت يومي فحسب (كفافهم) يعرفون أنهم يقدمون طلبتهم كأناس أحرار من شهوة الغنى بل ويحسبونه فخرًا لهم أن يكونوا معدمين تمامًا من كل الأشياء الأرضية.

          لأنه يليق بمن تعيَّنوا للخدمة الكهنوتية أن يكونوا خالين من كل هّم وإنشغال دنيوي، غير منقادين وراء تلك الأمور التي تغرق الناس في الهموم وتلقى بهم كما في حمأة، في قاذورات الشهوات العالمية: ” لأن محبة المال أصل لكل الشرور“. ومِن الصواب أن أقول لمن يبتغون أن يقلعوا عن مثل هذه العيوب أنهم ينبغي أن يتركوا للعالم ما يخصه وأن يجحدوا كل الأمور الجسدية، وأن يطلبوا من الله فقط ما هو ضروري لقوام الحياة، مُتَحَدِّين عجز الجسد الذي لا يكف عن طلب الطعام، ومستعدِّين ـ لو كان ذلك جائزًا ـ أن يهربوا منه تمامًا، وبذا يمكن أن تطول الحياة، بل وأن يتقبَّلوا هذا بفرح عظيم، بقبول هذا التجرُّد.

          لأنه كما أن أولئك الذين يعرفون كيف يجاهدون المصارعات الجسدانية، ويبرعون في ألعاب المسابقات، يتجرَّدون حتى من ثيابهم، ويقفون بشهامة صامدين أمام شِدَّة بأس مقاوميهم، كذلك القديسون إذ يتخلصون من كل الهموم الدنيوية والشهوات الجسدانية، بل ولا يبالون حتى أن يقتنوا وفرة من القوت، متجرِّدين ـ كما قلت ـ لمقاومة إبليس وكل أعوانه أعداء الحق، فإنهم يُكرِّسون أنفسهم تمامًا للجهاد الموضوع أمامهم في الخدمة الكهنوتية، فينالون النصرة كمجاهدين.

          وهذا ما يقوله أيضًا الرسول الإلهي بولس في إحدى رسائله (2تى2: 4) عن أولئك الذين يحاربون في الجسد: ” ليس أحد وهو يتجنَّد يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنَّده“، لأنه ليس من محارِب يذهب إلى معركة وهو محمَّل بأشياء زائدة عن الحاجة، بل فقط تلك المُعدَّات الضرورية المناسبة للمحاربين.

          إذن يليق بالقديسين، كأناس أُعطي لهم أن يجاهدوا ليس فقط ضد: ” دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة عالم ظلمة هذا الدهر مع أرواح الشر في السماويات” (أف6: 12)، يليق بهم أن يمنطقوا حسنًا أحقاء ذهنهم حتى لا يكونوا معرَّضين لضربة أولئك الخصوم الذين يقاومونهم ويحاربون ضد الرسالة التي يكرزون بها. ومن اللائق بهم أيضًا أن يكونوا ذوي غرض واحد في حياتهم، بمعنى أن يفكروا ويسعوا فقط فيما يرضى الرب، وأن لا يسمحوا بأن يتسرب إليهم شيء من هذا العالم، بل إذ يكونون كلهم مقدَّسين بالتمام وبلا لوم، فإنهم يجعلون حياتهم ذبيحة مقدَّمة لله، لأنه مكتوب أن ” كل تقدمة كاهن تحرق بكمالها” (لا6: 23). لأن حياة محبِّي العالم تكون منقسمة (بسبب هَمّ العالم) بحسب تعبير القديس بولس[1]، أمَّا حياة القديسين فليست كذلك، إذ أنهم كرَّسوا حياتهم بالكامل وتقدَّسوا تمامًا، فتنبعث منهم رائحة طيِّبة أمام الله.

          وهذا هو ما نقول عنه إنه ” محرقة كاملة ” أو ” تُحرق بكاملها ” ولكن إذا وُجد شيء ما غير مقدَّس في أيَّة تقدمة فإنه يلوِّث الذبيحة ويُغيِّرها ويقسمها أو بالحري يختلط النجس بالطيِّب. وتتلاشى رائحته الطيِّبة، فمحبة المال إذا تسربت إلى حياة القديسين فهي تكون كشيء كريه الرائحة، وكذلك القلق من أجل أمور الجسد، لأن الله في كل مكان قد وَعَدَ القديسين أنهم لن يكونوا في عوز إلى شيء.

          فإذا كنا لا نثق أنه سيمنحنا هذا، فقد صرنا شركاء اليهود في عدم إيمانهم، لأنه عندما أخرج الله الكُلِّي القدرة لهم ماء من الصخرة، بطريقة إعجازية لا يُعبَّر عنها ـ تذمَّروا عليه قائلين: ” هل يقدر الله أن يرتِّب مائدة في البرية؟” (مز78: 19).

          ولماذا لا يقدر، ولماذا لا يعطي ما قد وعد به؟ لأنه إذا كان الناس ذو السجايا الحسنة يكونون دائمًا أوفياء لما تنطق به أفواهم، فكيف يكون الله الذي هو أسمى من الجميع غير صادق فيما وعد به، بل إن البشر بعد أن يَعِدُوا بشيء صالح، كثيرًا ما يعجزون أن يوفوا بما وعدوا، أما هو الذي لا يشوبه ضعف، بل هو رب القوات، الذي يفعل كل ما يريد بلا مشقة بل بكل سهولة، كيف لا يُتمِّم كل ما يَعِد به البشر.

          إذن فلنسأله ونحن ” ملقين كل همنا عليه” (1بط5: 7)، ما يكفي لحياتنا، أي الطعام والكساء وكل ما يقوم بضروريات الحياة متجنِّبين كل رغبة في الغِنى، لأن ذلك يهدِّد حياتنا بالدمار، وإن كانت هذه هي إرادتنا فإن المسيح يقبلنا ويباركنا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

[1] يشير القديس كيرلس هنا إلى حديث الرسول بولس عن هم العالم في (1كو32:7ـ34) (المعرِّب).

 

أعطنا كل يوم خبزنا – إنجيل لوقا 11 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)