أبحاث

اغفر لنا خطايانا – إنجيل لوقا 11 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

اغفر لنا خطايانا – إنجيل لوقا 11 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

اغفر لنا خطايانا – إنجيل لوقا 11 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

اغفر لنا خطايانا – إنجيل لوقا 11 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
اغفر لنا خطايانا – إنجيل لوقا 11 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

و اغفر لنا خطايانا، لأننا نحن أيضًا نغفر لكل من أساء إلينا

(لو11: 4)

          إن إشعياء النبي المبارَك عندما كان يتنبأ عن طريق الخلاص بالكرازة بالإنجيل، نطق هكذا قائلاً في موضع ما: “ وستكون هناك طريق مستوية يُقال لها الطريق المقدَّسة” (إش35: 9س)، لأنها تقود أولئك الذين يسلكون فيها إلى القداسة بعبادة روحية وبِر أعلا من الناموس.

          ويحضرنا كذلك ما يقوله المسيح لمن يحبونه: ” الحق أقول لكم، إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوت الله” (مت5: 10). وأقول إنه من واجب من دُعوا بالإيمان إلى معرفة مجد المسيح مخلِّصنا جميعًا، وقد اتخذوه رأسًا لهم أن يفرحوا في تمثُّلهم بأعماله، وأن يكونوا جادِّين في أن يجعلوا نورهم يضيء بالسِّيرة المقدسة التي لم تكن لهم قبل أن يأتوا إلى الإيمان: ” لأن كل الأشياء قد صارت جديدة في المسيح” (2كو5: 17).

          فالرب يطلب من تلاميذه أن يكونوا ودعاء بطييء الغضب، حتى يستطيعوا أن يقولوا بلا لوم في صلواتهم: ” واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضًا نغفر لكل من أساء إلينا“.

          يا لعظمة حكمة الله العجيبة وعُمق غنى معرفته الفائقة ! إنه يطلب منهم أولاً أن يسألوه الغفران عن خطاياهم التي ارتكبوها، وبعد ذلك أن يعترفوا أنهم يغفرون أيضًا كُليَّة للآخرين، وكأنهم يسألون الله أن يطيل أناته عليهم كما يفعلون هم أيضًا مع الآخرين، وأن يعاملهم بمثل اللطف الذي يمارسونه هم مع العبيد. إنهم يتوسلون أن ينالوا نفس الكيل من الله الذي يُعطي بعدل، ويعرف كيف يُظهِر الرحمة لكل إنسان.

          فتعالوا بنا نسعى لندرك بوضوح أكثر معنى هذه الصلاة، بالتعمُّق في هذا المقطع الذي أمامنا والتدقيق فيه. فكما قلت: إن الرب أوصانا عندما نتقدَّم إليه أن نقول:      “ اغفر لنا خطايانا“. فلنفحص معًا من فضلكم ما هي المنفعة التي ننالها من هذه الصلاة. فالذين يتوسلون إلى الرب هكذا، ليسوا متشامخين، وهم لا يرتأون في أنفسهم أمورًا عظيمة، ولا يتعالون على الضعفاء، بل كما يقول الكتاب ” هم قضاة لأنفسهم” (أم13: 10س). فهم ليسوا مثل ذلك الفريسي، الجاهل والمتكبر، الذي تجاسر حتى على أن يجعل الرب نفسه شاهدًا له، حسبما يقول ذلك المثل ” إنسانان صعدا إلى الهيكل ليُصلِّيا، واحد فريسي والآخر عشار، أما الفريسي فوقف يُصلِّي في نفسه هكذا: اللهم أنا أشكرك أنِّي لستُ مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأُعشِّر كل ما أقتنيه، وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ، أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبرَّرًا دون ذاك” (لو18: 10ـ14).

  فانظروا كم هو مهلك للنفس أن يتعالى الإنسان بنفسه على الضعفاء، متوهمًا أن سلوكه غير معرَّض للوم من أي ناحية مطلقًا. بل بالحري ينبغي علينا أن نضع في اعتبارنا على الدوام ونُفكِّر: “ إننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا” (يع3: 2). بل ويمكننا أن نقول إننا دائمًا نخطئ، وأحيانًا حتى بغير إرادتنا، لأنه مكتوب: ” مَن يستطيع أن يدرِك خطاياه؟” (مز18: 12س)، وها هو مُنشِد المزامير المغبوط يتوسل إلى الله بحرارة وبصراحة تامة قائلاً: ” مِن الخطايا المستترة طهِّرني، ومِن المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا عليَّ، حينئذ أكون بلا لوم، وأتنقَّى مِن خطية عظيمة” (مز18: 23 س).

          وكذلك أيضًا أيوب الذي كان مثالاً عظيمًا في الصبر، نراه يُقدِّم ذبائح عن خطايا أبنائه، غير المعروفة، أو بالأحرى غير المكتشفة، قائلاً: ” ربما أخطأ بنيَّ وجدَّفوا على الله في قلوبهم” (أى1: 5)، ونذكُر أيضًا بولس ذا الحكمة العالية الذي عندما كتب قائلاً: “ فإنِّي لستُ أشعر بشيء (من الخطأ) في ذاتي“، استدرَكَ قائلاً ” لكنني لست بذلك مبرَّرًا، ولكن الذي يَحكُم فيَّ هو الرب” (1كو4:4).

          إذن من النافع لنا جدًّا وعلى الدوام أن نخرَّ ساجدين أمام الله الذي يُحب كل ما هو صالح ونقول: ” اغفر لنا خطايانا“، فهو قد قال بفم أحد أنبيائه القديسين: ” اعترف أولاً بتعدياتك لكي تتبرَّر” (إش43: 26س). وإذ لم يكن هذا المبدأ مجهولاً لدى المغبوط داود، فقد أنشد هكذا في مزاميره: ” قلتُ أعترف للرب بذنبي، وأنت غفرتَ إثم قلبي” (مز31: 5).

          لأن الله سريعًا ما يرضى على الإنسان ويتراءف على من لا يتناسون ذنوبهم، بل يسقطون على وجوهم أمامه ويسألونه الغفران، إلاَّ أنه شديد بحق وعدل على قساة القلوب والمتكبِّرين، وعلى كل من يسعى بمنتهى الجهل أن يُبرئ نفسه من اللوم. فالرب قد قال لمن هو على مثل هذا الحال: ” هاأنذا أحاكمك لأنك قلتَ، إنِّي لم أخطئ” (إر2: 35)، لأنه مَنْ يمكنه أن يفتخر بأن له قلبًا نقيًّا؟ أو من يقدر أن يتجاسر ويقول إنه برئ من الخطايا؟ إذن فالطريق المؤدِّي إلى الخلاص والذي ينقذ الجادِّين في السير من غضب الله، هو الإقرار بالذنوب، وأن نقول في صلواتنا لمن يبرِّر الأثيم: ” اغفر لنا خطايانا“.

          هناك أيضًا طريقة أخرى ننتفع بواسطتها: فأولئك الذين يعترفون بحق أنهم أخطأوا، ويريدون أن ينالوا الصفح من الله، فهؤلاء بالضرورة يهابونه باعتباره أنه هو الذي سيكون الديان، فهم لا يمكنهم أن ينسوا أنهم سيقفون أمام كرسي دينونة الله الرهيب، وكما يكتب بولس الحكيم جدًّا: ” لأنه لابد أنَّنا جميعًا نُظهَر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًّا” (2كو5: 10).

          إن أولئك الذين يضعون في اعتبارهم أنهم لابد أنهم سيقفون أمام كرسي الديان ويعطون حسابًا عما فعلوا، وأنهم إذا أُخذوا بجريرة ما، فسوف يقاسون عقابًا مريرًا، أو سيُمدحون إذا ما كانوا قد سلكوا سلوكًا حسنًا وعاشوا حياة فاضلة في الجسد على الأرض. مثل هؤلاء، من جهةٍ، سيتُوقون إلى الصفح عما ارتكبوا من خطايا حتى ينجو من العذاب الذي لا نهاية له والعقوبة الأبدية، ومن جهةٍ أخرى، فإنهم يهتمون بأن يحيوا باستقامة ويسيروا سيرة لا عيب فيها، حتى يمكنهم أن ينالوا الإكليل اللائق بحياتهم الفاضلة، لأنهم بهذا سيتلطَّف بهم الديان، ولن يذكر لهم شيئًا مما عملوه من سيئات، فالرب يقول: ” شَر الشِّرير لا يؤذيه يوم يتوب عن شرّه” (حز33: 12س).

          ولكن لا يتوهَّم أحد، أنه يحق لكل الناس بلا تفرقة أن يقولوا: ” اغفر لنا آثامنا“، فإنه لا يليق بمن يستمرِئون البقاء في شرورهم أن يقولوا: ” اغفر لنا خطايانا“، بل لمن تخلُّوا عن رذائلهم السابقة راغبين بكل جدية أن يحيوا كما يليق بقديسين، وإلاَّ فلا شيء يمنع فعلة الشر، ضاربي الآباء وقاتلي الأمهات، والزناة والسحرة، وكل من ارتكب مثل هذه الجرائم الأشد شناعة، أن يستمر في فعلها ويعزِّز وجود دوافعها الشريرة كما هي بدون تغيير، ويُنجِّس نفسه بكل الأفعال الدنيئة، ثم يتقدم إلى الله بجسارة ويقول: ” اغفر لنا خطايانا“. لهذا السبب فإن مخلِّص العالم ورب الكل لم يختم هذه العبارة عند هذا الحد، بل أمرنا أن نضيف قائلين: ” لأننا نحن أيضًا قد غفرنا لكل من أساء إلينا“. فإن هذا لا يتناسب إلا مع الذين قد اختاروا لأنفسهم الحياة الفاضلة، وساروا بلا تراخٍ في طريق مشيئة الله، تلك التي هي كما يقول الكتاب: ” صالحة ومرضيَّة وكاملة ” (رو12: 2). هؤلاء يتحلُّون بطول الأناة، ولا يلومون الذين أساءوا إليهم. وحتى إذا ما أساء إليهم أحد، فإنهم لا يفكرون في هذا الأمر. فبطء الغضب هو فضيلة ممتازة، وهو ثمرة تلك المحبة التي قال عنها الرسول الحكيم إنها: ” تكميل الناموس” (رو13: 10).

          ثم تأملوا معي في جمال هذه الفضيلة الفائقة ولو بالمقارنة مع قبح الرذيلة المضادة لها، لأن الغضب في الواقع هو مرض خطير، ومن استسلم له بفكره صار إنسانًا حادَّ الطبع، نكدًا، عنيفًا، وعنيدًا، ومَرتعًا خصبًا للغضب والصياح، وإذا ما استمر المرء على هذا الحال وقتًا طويلاً لكان من الصعب شفاؤه، بل، وأكثر من ذلك نجده دائمًا ينظر بعين شريرة لكل من أساء إليه فهو يترقبه بحقد شديد، متطلعًا إلى متى وأين يمكنه أن يلحق الضرر به، وهذا في أغلب الأحيان لا يكون كيلاً بكيل، بل مرات كثيرة يكون الانتقام أشد من الإساءة بكثير.

          إن مثل هذا الإنسان لا يكف عن تدبير المكيدة في الخفاء. ألا يكون مثل هذا قد عرَّض نفسه لكل العيوب، بل ويكون مبغضًا لله ومرفوضًا منه، وبالتالي يكون في غاية البؤس ؟ كما هو مكتوب: ” أمَّا سبل الغضوب فهي إلى الموت” (أم12: 28 س).

          ولكن الإنسان البسيط القلب غير الغضوب يتَّسِم أوَّل ما يتَّسِم بالاحتمال، إلا أن الاحتمال الذي يمارسه البشر ليس بنفس القدر كالذي يأتي من فوق ومن الله، فإنسان الله الذي لا يستسلم قلبه لانفعال الغضب، بل يسود عليه ويتحكَّم في نفسه أمام كل إثارة مكدِّرة تنشأ فيه. إنه صفوح وعطوف على كل رفقائه، لطيف وودود ومترفِّق بضعف قريبه ـ وهذه كانت سجايا تلاميذ المخلِّص ـ وها هو المغبوط بولس يكتب قائلاً: ” نُشتم فنبارِك، نُضطهد فنحتمِل، يُفترى علينا فنعظ” (1كو4: 12،13). لأنهم تمثلوا بربهم: ” الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلِّم لمن يقضي بعدل” (1بط23:2). فنحن إذن ينبغي علينا أن نطلب من الله مغفرة خطايانا التي ارتكبناها عندما نكون نحن أنفسنا قد سبقنا وغفرنا لمن أساء إلينا في أي شيء، بشرط أن تكون خطيتهم ضدنا وليس ضد مجد الله الكائن على الكل، لأنه ليس لنا سلطان على هذه الأخيرة، بل على تلك التي تكون قد ارتُكِبَت ضدنا نحن، وهكذا، بالصفح لإخوتنا عما عملوه في حقنا فإننا يقينًا سنجد المسيح مخلِّص الكل مترفِّقًا بنا مستعدًّا أن يُظهِر رأفته، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

اغفر لنا خطايانا – إنجيل لوقا 11 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 4.33 ( 2 أصوات)