أبحاث

طهارة الداخل – إنجيل لوقا 11 ج14 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

طهارة الداخل – إنجيل لوقا 11 ج14 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

طهارة الداخل – إنجيل لوقا 11 ج14 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

طهارة الداخل – إنجيل لوقا 11 ج14 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
طهارة الداخل – إنجيل لوقا 11 ج14 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو11: 37ـ41) ” وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ الْغَدَاءِ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافًا وَخُبْثًا. يَا أَغْبِيَاءُ أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضاً؟. بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيًّا لَكُمْ“.

 

          يخبرنا الحكيم جدًّا بولس بحق، ” إن المسيح جاء إلى العالم ليخلِّص الخطاة” (1تى1: 5) فهذا كان هدفه، ولأجل هذا الغرض، أوضع ذاته لدرجة أنه أفرغ نفسه من مجده، وظهر على الأرض في الجسد، وتحدث مع الناس لأنه كان لائقًا به، لكونه الخالق ورب الكل أن يعطى يدًا منقذة لأولئك الذين سقطوا في الخطية، ويظهر لأولئك الذين كانوا تائهين في الضلال، طريقًا يقودهم مباشرة نحو كل عمل صالح وإلى إمتياز أفعال الفضيلة.

          وقد قال واحد من الأنبياء القديسين بخصوص الذين دُعوا بالإيمان إلى معرفة مجده: ” ويكون الجميع متعلِّمين من الله” (إش54: 13س). إذن كيف يقودنا إلى كل أمر نافع؟ ذلك بأنه ينزل بنفسه ليصير مع الخطاة، بل وأيضًا بارتضائه أحيانًا أن يهبط إلى مستوى تلك الأمور التي لا تناسبه، حتى يمكنه بذلك أن يُخلِّص كثيرين، وهذا ما يمكن أن نتعلَّمه من فصل الإنجيل الموضوع أمامنا الآن: إذ يقول إن أحد الفريسيين سأله أن يتغذى في بيته فدخل واتكأ ليأكل، كيف لا يكون واضحًا لكل أحد أن زمرة الفريسيين كانت دائمًا طبقة شريرة ودنسة، وهم مكروهون، وحاسدون، ومتحفِّزون للغضب، وعندهم كبرياء فطري، ويتجاسرون دائمًا بالكلام ضد المسيح مخلِّصنا جميعًا؟ لأنهم اعترضوا على معجزاته الإلهية، وحشدوا فِرق مشيرين أشرار ليخطِّطوا لموته. كيف يكون المسيح إذن ضيفهم؟ أما كان يعلم خبثهم؟ ولكن كيف يمكننا تأكيد هذا ؟ لأنه كإله، هو يعلم كل الأشياء فما هو التفسير إذن؟ التفسير هو أنه كان مهتمًّا بنوع خاص أن يحذِّرهم، وفى هذا فهو يشبه أمهر الأطباء. لأن الأطباء المهرة يستخدمون علاجاتهم مع المرضى بأخطر الأمراض ـ الذين يصارعون ضد المرض الذي يعانون منه ـ حتى يُسكِّنوا هجماته الضارية، أما الفريسيون وإذ هم قد استسلموا بلا رادع إلى ذهن مخدوع، فكان من الضروري أن يُحدِّثهم المسيح بما هو لازم ونافع لخلاصهم، فقد قال هو نفسه في مكان ما: ” إنه لم يأتِ ليدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة ” (مت9: 13)، كما قال أيضًا: ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مت 9: 12).

          لذلك فالفريسي لغرض ما في نفسه يدعو (المسيح) إلى وليمة، ومخلص الجميع يقبل هذا، كما قلت، من أجل التدبير، ولكنه جعل هذا الأمر فرصة لإعطاء تعليم، وهو لا يُضيِّع وقت اجتماعهما للتلذذ بالطعام والمشهيات، بل لكي يجعل المجتمعين هناك يزدادون فضيلة. أما الفريسي الأحمق، فقد أوجد لنفسه فرصة للحديث، لأنه تعجَّب أن (يسوع) لم يغتسل قبل الغذاء، إذن هل تعجب الفريسي كأنه فعل شيئًا هو يستحسنه كأنه لائق بالقديسين؟ لم تكن هذه هي نظرته، فكيف يمكن أن تكون هكذا؟ وحدث العكس فقد كان ممتعضًا بسبب أنه كانت للمسيح شهرة بينهم كإنسان بار ونبي، إلاَّ أنه لم يكن يماثلهم في عاداتهم غير المعقولة لأنهم يغتسلون قبل الأكل كما كانوا يُطهِّرون أنفسهم من كل نجاسة. ولكن كان هذا أمرًا في غاية السخف، لأن الاغتسال بالماء نافع جدًّا لإزالة وسخ الجسد، ولكن كيف يستطيع أن يُطهِّر الناس من دنس الفكر والقلب؟

          أيها الفريسي الأحمق، احتجاجنا هو هذا: أنت تتفاخر كثيرًا بمعرفتك للكتب المقدسة وتقتبس دائمًا من ناموس موسى، لذلك فأخبرنا في أي موضع كتب لك موسى عن هذه الفريضة؟ أيّ وصية أمر بها الله تطالِب الناس بأن يغتسلوا قبل الأكل؟ إنَّ مياه الرش قد أُعطِيَت فعلاً بأمر موسى لتُطهِّر من القذارة الجسدية، كمثال للمعمودية التي هي بالحق مقدسة ومطهرة، وهذا يتم بالمسيح. وأيضًا أولئك الذين كانوا يُدعون إلى الكهنوت، كانوا يغتسلون بالماء، لأنه هكذا فعل موسى الإلهي مع هارون واللاويين معه، فالناموس يُعلِن بواسطة الاغتسال الذي تمَّ في مثال وظل، أنه حتى كهنوت الناموس ليس فيه ما يكفي للتقديس، ولكن على العكس ـ يحتاج إلى معمودية إلهية ومقدسة للتطهير الحقيقي، وأكثر من ذلك يرينا ببراعة أن مخلِّص الجميع هو كاف أن يقدسنا بحق، نحن جيل المكَّرسين لله ومختاريه بواسطة المعمودية المقدسة والثمينة، وفضلاً عن ذلك، من الواضح أنه لم يأمر في أي موضع بالاغتسال قبل الأكل كأمر واجب. إذن فلماذا تتعجب ولماذا تمتعض أيها الفريسي؟ إنه هو نفسه الذي أمر بالفريضة في القديم، لم يخالف ما قاله موسى. وكما قلتُ فإن الناموس الذي تجعله وسيلة للحصول على الكرامة، لم يعطك مثل هذه الوصية في أي موضع.

          ولكن ماذا يقول المخلِّص؟ لقد وجد الفرصة ليوبِّخهم قائلاً: ” أنتم الآن أيها الفريسيون، تنقُّون خارج الكأس والقصعة؛ وأما باطنكم فمملوء اختطافًا وخبثًا“، لأنه كان من السهل على الرب أن يستخدم كلمات أخرى بقصد تهذيب الفريسي الأحمق، ولكنه انتهز الفرصة لأن يمزج تعاليمه بالأشياء الموجودة أمام أعينهم. وحيث أنه كان وقت الغذاء، والجلوس حول المائدة، فإنه استخدم الكأس والقصعة كوسيلة مقارنة واضحة، وبيَّن أن أولئك الذين يخدمون الله بإخلاص يجب أن يكونوا أنقياء وأطهارًا، ليس فقط من النجاسة الجسدية، ولكن أيضًا مما هو خفي في داخل العقل. وبالمثل أيضًا، فإن الأواني التي تُستخدم على المائدة يجب أن تكون نقية ليس من الأقذار الخارجية فقط، بل من الداخلية أيضًا. لأنه يقول: ” أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا“، وهو يقصد بهذا أن الذي خلق الجسد خلق النفس أيضًا، وبما أن كليهما هما صنعة إله واحد محب للفضيلة، فلهذا يلزم أن يكون نقاؤهما واحدًا.

          ولكن لم تكن هذه عادة الكتبة والفريسيين، لأنه ما أن ذاع صيتهم أنهم أطهار، حتى صاروا شغوفين أن يعملوا كل شيء، فإنهم مضوا بوجوه معبَّسة شاحبة اللون من الصوم، وكما يقول المخلِّص: ” يُعرِّضون عصائبهم ويُعظِّمون أهداب ثيابهم” (مت23: 5)، و” يُصلُّون قائمين في الشوارع لكي يظهروا للناس” (مت6: 5)، راغبين أن ينالوا المدح من الناس لا من الله، وأن يستجدوا استحسان الناظرين. وباختصار فبينما هم يُبيِّنون للناظرين أنهم يمارسون بالضبط نمط حياة الفضيلة التي بحسب الناموس، نجدهم قد ابتعدوا بكل طريقة ممكنة عن أن يكونوا محبِّين لله. لقد كانوا ” قبورًا مبيضة من الخارج ” كما قال المخلص عنهم التي: “من الخارج تظهر جميلة وهى من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت23: 27).

أما المسيح فلا يريدنا أن نكون مثلهم، ولكن أن نكون عابدين بالروح وقديسين وبلا لوم في النفس والجسد كليهما. لأن واحد من شركتنا يقول أيضًا: ” نقُّوا أيديكم أيها الخطاة وطهِّروا قلوبكم يا ذوى الرأيين” (يع4: 8)، ويرنِّم داود النبي في موضع ما ويقول: ” قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي” (مز51: 10). ويتكلم أيضًا إشعياء النبي كما لو كان في شخص الله ويقول: ” اغتسلوا، تطهروا، اعزلوا شر أفعالكم من أنفسكم من أمام عيني، كفُّوا عن فعل الشر” (إش1: 16س). لاحظوا دقة التعبير لأن كلماته هي: ” من أمام عيني، اعزلوا شر أفعالكم من أنفسكم“. لأنه يحدث أحيانًا أن يهرب الأشرار من أعين الناس، ولكنهم لا يقدرون أن يهربوا من عيني الله. علينا إذن ما دام الله يرى الخفيات، أن نعزل الشر من أمام عينيه.

          أما الفريسيون، فلم تكن لديهم أية معرفة عن حياة القداسة هذه، فأي دواء يقدمه لهم المخلِّص بعد توبيخاته؟ بأية طريقة يشفيهم من ضربتهم، إنه يقول: ” أعطوا ما عندكم صدقة، فهوذا كل شيء يكون نقيًا لكم” إننا نؤكد أنه توجد طرق كثيرة للسلوك الفاضل كالوداعة والاتضاع وما إليها من فضائل، فلماذا لم يذكر هذه، وأوصى الفريسيين أن يكونوا رحماء؟ أيَّة إجابة نقدمها؟ إن الفريسيين كانوا بخلاء جدًّا، وعبيدًا للربح القبيح، ويجمعون بطمع كنوزًا من المال. وها رب الكل يقول في موضع عنهم: ” كيف أن صهيون المدينة الآمنة الملآنة بالحق صارت زانية! كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون! فضتك صارت زغلاً، وتجارك يخلطون الخمر بالماء، ورؤساءك متمردون ولغفاء لصوص، يحبون الرشوة ويسعون وراء العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم ” (إش1: 21ـ23). لذلك فهو يكشف عن قصد هذا الداء المتملِّك عليهم ويُمزِّق طمعهم من جذوره، حتى إذا ما شفوا من شرِّه وبلغوا نقاء الفكر والقلب يصيرون عابدين حقيقيين.

          لذلك فقد تصرَّف المخلِّص في كل هذه الأمور بحسب خطة الخلاص، فإذ دُعي إلى وليمة، فإنه منح طعامًا روحيًّا، ليس فقط لمن دعاه، بل ولجميع الذين كانوا في الوليمة معه. ليتنا نصلِّي إليه من أجل هذا الطعام الروحي، لأنه هو ” الخبز الحي النازل من السماء والواهب حياة للعالم” (يو6: 51)، هذا الذي به ومعه، لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

طهارة الداخل – إنجيل لوقا 11 ج14 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد