أبحاث

محبة المال – إنجيل لوقا 16 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

محبة المال – إنجيل لوقا 16 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

محبة المال – إنجيل لوقا 16 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

محبة المال – إنجيل لوقا 16 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
محبة المال – إنجيل لوقا 16 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو16: 14ـ 17): ” وَكَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضًا يَسْمَعُونَ هَذَا كُلَّهُ وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ فَاسْتَهْزَأُوا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمُ الَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ! وَلَكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. أن الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ. كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ. وَلَكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ..”.

يا إخوتي إن محبة المال هي داء شرير جدًّا وليس من السهل التحرُّر منه، لأنه بعد أن يزرع الشيطان هذا المرض في نفس الإنسان فإنه يبدأ أن يعميه ولا يسمح له أن ينصت إلى كلمات الوعظ لكي لا نجد لأنفسنا سبيلاً للشفاء يستطيع أن يخلِّص من البؤس أولئك الذين وقعوا في شراكه. وأرجوكم أيضًا أن تلاحظوا مدى صدق كلامي في هذا الموضوع من مثال الفريسيين، لأنهم كانوا محبين للمال ومغرمين بالربح وينظرون باحتقار إلى مجرد الاكتفاء، لأنه يمكن للمرء أن يري أنهم ملومون لهذا السبب نفسه عندما يرجع إلى الكتب الإلهية الموحَى بها. إذ قيل بصوت إشعياء لأورشليم أُم اليهود: ” رؤساؤك متمردون وشركاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ولا يلتفتون إلى دعوى الأرملة” (إش 23:1 س). وأيضًا قال حبقوق النبي: ” حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلِّص؟ القضاء أمامي والقاضي أخذ رشوة ولذلك فالشريعة لا تنفع ولا يصل الحكم إلى الاكتمال، لأن الشرير ينتصر على الصديق، لذلك يخرج الحكم معوجًا” (حب 2:1ـ4 س). لأنه كما قلت بسبب كونهم محبيّن للربح، فإنهم يحكمون باستمرار في الأمور التي أمامهم ليس حسب ما يوافق شرائع الله، بل على العكس يقضّون بالظلم وبما يتناقض مع مشيئة الله.
ثم إن المخلّص نفسه وبخّهم هكذا قائلاً: ” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون، لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل ما في الناموس، الحق والرحمة والإيمان” (مت 23:23). لأنه إذ قد أعطاهم الناموس حق قبول العشور، فإنه امتدوا ببحثهم وراء العشور بتدقيق حتى وصلوا لأتفه النباتات وأقلها أهمية، بينما لن يعطوا سوى اعتبار قليل لأمور الشريعة الأثقل، أي لتلك الوصايا التي كانت واجبة وضرورية وكانت لخير الناس.
لذلك يقول الإنجيل: ” لأن الفريسيين كانوا محبين للمال”، فإنهم استهزأوا بيسوع لأنه كان يوجهّهم بتعاليمه الخلاصية إلى طريقة سلوك جديرة بالمدح، وجعلهم راغبين في أمجاد القديسين. وهو يخبرهم بأنه كان يجب عليهم أن يبيعوا ممتلكاتهم ويوزعوا على الفقراء. لأنهم بهذا يقتنون لهم كنزًا في السماء لا يمكن أن يُسرق، وأكياس لا تبلى، وغنى لا يضيع ولا يفنى، إذن فلماذا سَخرَ منه الفريسيون؟ لأن التعليم كان خلاصيًا بالتأكيد وطريقًا للرجاء في الأمور الآتية وباباً يؤدي إلى الحياة غير الفانية. لأنهم كانوا يتعلّمون منه أساليب النجاح الحقيقي، ويتعلّمون كيف ينبغي أن يمسكوا بإكليل الدعوة السماوية، وأيضًا كيف يصيرون شركاء مع القديسين، وأبناء المدينة التي فوق، أي أورشليم التي في السماء والتي هي حُرَّة حقًا وأم الأحرار. ولأنه هكذا يكتب بولس المبارك: ” وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة” (غل 26:4). فلماذا استهزأوا به إذن؟
لننظر إلى سبب شرهم. لقد تملّك داء الطمع على قلبهم، وإذ صار ذهنهم مستعبدًا للطمع فإنه أصبح خاضعًا له حتى ضد إرادته، ومذلولاً تحت قوة الشر، ومقيدًا بقيود لا فكاك منها.
يقول كاتب سفر الأمثال إن: ” كل إنسان مُقيَّد بحبال خطاياه” (أم 22:5 س). فكما أن أكثر أمراض الجسد خبثًا لا تقبل علاجات الطب، وكأنها تهرب من الشفاء وحتى إن استخدم أحدهم ذلك العلاج الذي يؤدي إلى الشفاء بطبيعته، فإنها تتهيج أكثر وتثور مهما كان اللطف الذي يعاملها به فن الطب، هكذا أيضًا تلك الشهوات التي تتعرض لها نفوس الناس، فإنهم يكونون أحيانًا معاندين ويرفضون الإنصات للنصح، ولا يسمعون كلمة واحدة تدعوهم لترك الشر وتوجهّهم إلى طريق أفضل. وكما أن الخيول الجامحة والمشاكسة والزائدة النشاط لن تطيع اللُجم، كذلك أيضًا ذهن الإنسان عندما يكون تحت تأثير الشهوة، وميالاً تمامًا للانقلاب إلى الشر، فإنه يكون عاصيًا وعنيدًا ويرفض الشفاء بكراهية شديدة.
لذلك بعد أن كلّمهم مخلّص الجميع بكلمات كثيرة، ورأى أنهم لم يتغيروا عن شهواتهم ومقاصدهم الماكرة، بل فضّلوا بالأحرى أن يظلّوا في حماقتهم الغريزية، فإنه لجأ أخيرًا إلى توبيخات أشد. لذلك ففي هذه المناسبة يُظهِر أنهم مراءون وكذَّابون يستغلون المذبح طلبًا للمديح ويتلهّفون على الكرامة التي يستحقها الأبرار والصالحون دون أن يكونوا كذلك فعلاً وهم غير جادين في طلب رضا الله، بل على العكس يفتّشون بحماس عن المجد الذي من الناس. لذلك، يقول: ” أنتم الذين تبررون أنفسكم قدام الناس. ولكن الله يعرف قلوبكم، إن المستعلي عند الناس هو رجس قدام الله” (لو 15:16)، وهذا ما يقوله لهم أيضًا في موضع آخر: ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًّا بعضكم من بعض والمجد الذي من الله الواحد لستم تطلبونه” (يو 44:5)، لأن إله الكل يُكّلل بالمديح للبر، الذين هم صالحون حقيقة؛ أما أولئك الذين لا يحبون الفضيلة، بل هم مراءون، فإنهم يختلسون بأنفسهم وحدهم شهرة الكرامة. وربما يقول البعض، ولكن أيها السادة المحترمون، ليس أحد يُكلِّل نفسه، لأن الإنسان الذي يصطنع المديح لنفسه يُستهزئ به بعدل، لأنه مكتوب: ” ليمدحك القريب لا فمك أنت، الأجنبي لا شفتاك أنت” (أم 2:27 س). لكن رغم أن المرائين يمكن أن يظلوا دون اكتشاف، ويأخذوا الكرامات التي من الناس، إلاّ أنه يقول هنا: ” لكن الله يعرف قلوبكم”. فالديان لا يمكن أن يُخدع؛ فهو يري أعماق ذهننا؛ ويعرف مَنْ هو المجاهد الحقيقي، ومَنْ الذي يسرق بالاحتيال، الكرامة التي يستحقها غيره بحق، وبينما هو يُكرِم مَنْ هو بار حقًا فهو ” يبدد عظام الذين يسعون لإرضاء الناس” بحسب تعبير المرنم (مز 5:52 س)، لأن شهوة إرضاء الناس هي دائمًا أم الكبرياء الملعونة ورأسها وجذرها، وهي التي يبغضها الله والناس على السواء. لأن مَنْ يقع ضحية لهذا الداء فإنه يشتهي الكرامة والمديح؛ وهذا الأمر كريه لدى الله؛ لأنه يبغض المتكبر، لكنه يقبل ويرحم ذاك الذي لا يحب المجد (لنفسه) والذي هو متواضع القلب.
وعندما سحقهم المسيح بهذه التوبيخات، أضاف أيضًا شيئًا أكثر، وأعني به، ما كانوا مزمعين أن يعانوه بسبب عصيانهم وشرهم إذ يقول: ” كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا، ومن ذلك الوقت يُبشَّر بملكوت الله وكل واحد يغتصِب نفسه إليه، ولكن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس”. فهو يخفي أيضًا وفي غموض ما سوف يسبب لهم ألمًا ويحجب تنبؤه بخصوص تلك الأشياء التي كانت عتيدة أن تحدث لكل الذين لن يطيعوه، وهو يقول: إن موسى ومعه جماعة الأنبياء القديسين أعلنوا من قبل مضمون السر الخاص بسكان الأرض. فالناموس يُعلِن بالظلال والمثالات أنه من أجل خلاص العالم ينبغي أن احتمل موت الجسد، وأبيد الفساد بالقيامة من الأموات، كذلك أيضًا تكلّم الأنبياء بنفس المعنى من كتابات موسى، لذلك يقول: إنه ليس غريبًا أو ليس غير معروف من قبل أنكم تزدرون بكلامي وتحتقرون كل ما هو نافع لخيركم، لأن كلمة النبوة عني وعنكم تمتد إلى القديس يوحنا المعمدان، ولكن ” من أيام يوحنا يُكرز بملكوت السموات، كل واحد يغتصِب نفسه إليه”. ويقصد هنا بملكوت السموات: التبرير بالإيمان، وغسل الخطية بالمعمودية المقدَّسة، التقديس بالروح، العبادة بالروح، الخدمة التي هي أعلى من خدمة الظلال والرموز، كرامة تبني البنين، ورجاء المجد العتيد أن يُعطَى للقديسين.
لذلك يقول: ملكوت السموات يُكرز به، لأن يوحنا المعمدان وقف في وسطهم وقال: ” أعدوا طريق الرب” (لو 4:3)؛ وقد أظهر قائلاً: ها هو قد اقترب، وكأنه داخل الأبواب وهو الحَمَل الحقيقي لله، الذي يحمل خطية العالم، لذلك فكل مَنْ يسمع ويحب الرسالة المقدَّسة فإنه يغتصبها، وهو ما يُقصد به: أنه يستخدم كل اجتهاده وكل قوته في رغبته للدخول داخل نطاق الرجاء. لأنه ـ كما قال في موضع آخر ـ ” ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه” (مت12:11).
وهو يقول: إن ” زوال السماء والأرض قبل اليوم الذي يأمر به الله فيه بهذا، أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس”، ويشير أحيانًا بكلمة الناموس إلى الكتب الإلهية الموحى بها معًا، أي كتابات موسى والأنبياء. فما الذي أنبأت به الكتب والذي يجب بالضرورة أيضًا أن يكتمل؟ إنها تنبأت أنه بسبب كفر إسرائيل الشديد وفجوره المفرط سيسقط من كونه من عائلة الله، رغم أنه الابن الأكبر، وأن أورشليم ستُطرح بعيدًا عن إمهال الله ومحبته، لأنه هكذا تكلّم عنها بصوت إرميا : ” هاأنذا سأسيج طريقها بالشوك وأسد طرقها وهي لن تجد مسلكها” (هو6:2س). لأن من يخشون الله فطريقهم مستقيمة ولا يوجد فيها أي موضع شديد الانحدار، بل كلها مستوّية وممهّدة جيدًا. ولكن طريق أم اليهود، مُسيّج بالشوك لأن طريق التقوى قد صار متعذرًا السير فيه بالنسبة لهم.
وكونهم مظلّمي الذهن ولا يقبلون نور مجد المسيح ـ لأنهم لم يعرفوه ـ فهذا ما سبق أن أعلنه بقوله لجموع اليهود: ” أنا شبهت أمك بالليل، هلك شعبي من عدم المعرفة لأنك رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنا أيضًا بنيك” (هو5:4و6).
أنت تسمع أن جموع العصاة يُشبهون عن حق بالظلمة والليل. لأن كوكب الصبح العقلي، وشمس البر، يشرق ويضيء في ذهن وقلب من يؤمنون، أما ذهن أولئك الذين يزدرون بالنعمة العظيمة والتي تستحق أن نقتنيها، فقد اسودَّ في الظلمة، والعتمة العقلية، فكثير إذن مما يختص بتلك الأشياء، سبق أن أعلنه جماعة الأنبياء القديسين من جهة إسرائيل.
ولكن الذين يعترفون باستعلان مجد المسيح مخلّص الجميع، فإن الله الآب وعد بواسطة أحد الأنبياء القديسين هكذا قائلاً: ” وسأقويهم في الرب إلههم، وباسم إلههم يثبتون” (زك12:10س). ويقول المرنم مخاطبًا ربنا يسوع المسيح بالروح: ” يا رب بنور وجهك يسلكون، باسمك يبتهجون اليوم كله، لأنك أنت فخر قوتهم، وببرك يرتفع قرننا” (مز15:88 ـ17س). لأننا نفتخر في المسيح، لأننا تبرّرنا بواسطته فإننا قد ارتفعنا، وإذ طرحنا عنا ذُل الخطية، ونحن نحيا في امتياز كل الفضائل فقد اغتنينا أيضًا بالمعرفة الصحيحة والنقّية لتعاليم الحق. لأن هذا ما وعدنا الله به حيث يقول بصوت إشعياء: “وسأقود العمى في طريق لا يعرفونها. وسأجعلهم يمشون في مسالك لم يعرفوها. أجعل ظلمتهم نورًا، وكل مواضعهم المنحدرة أجعلها ممهدة” (إش16:44س). لأننا نحن الذين كنا مّرة عميانًا قد استنرنا ونحن نسير في مسلك جديد من البّر؛ بينما الذين افتخروا بالناموس كمعلّم لهم، قد اظلموا كما قال المسيح نفسه: ” قد أعمت الظلمة عيونهم” (انظر يو4:12) والعمى قد حصل جزئيًا لإسرائيل (رو5:11) لأنهم مبصرين ولا يبصرون، وسامعين لا يسمعون (مت13:13). لأنهم أخطأوا ضد الأنبياء القديسين بل وتجاسروا أن يرفعوا أياديهم ضد الذي كان يدعوهم إلى الخلاص والحياة. لذلك يقول، ولو أنكم عصاة، ورغم أنكم بحماقة تزدرون بكلماتي التي ستقودكم إلى بلوغ ما هو نافع ولائق، إلاّ أن المسيح سبق فأعلن بواسطة الناموس والأنبياء أمرًا يستحيل أن لا تكتمل فيه كلمات الله، لأنه أعلن ما علم أنه ينبغي حتمًا وبالضرورة أن يحدث.
لذلك، فعدم الإيمان يجلب الهلاك على البشر، مثلما يفعل أيضًا عنق الذهن المتعالي في تصلبه بسبب الكبرياء الزائد ضد المسيح مخلّصنا جميعًا الذي به ومعه لله الآب يحق التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى أبد الآبدين. آمين.

 

محبة المال – إنجيل لوقا 16 ج3 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)