أبحاث

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

” فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح ” (رو1:5).

          1 ـ ماذا تعنى عبارة ” لنا سلام”؟ يقول البعض إن ” لنا سلام” تتعلق بالالتزام بأعمال الناموس، إلاّ أنه يبدو لى وكما هو واضح من الكلام، أنه يتحدث عن كيفية السلوك. لأنه قد تكلم كثيرًا عن الإيمان والبر بالأعمال، لذلك نجده هنا يبدأ بالكلام عن السلام. ولكى لا يظن أحد أن هذا الكلام ليس له أهمية، يقول: ” لنا سلام” وهذا يعنى أنه لا ينبغى أن نُخطئ بعد، ولا أن نعود للأمور السابقة، لأننا إن فعلنا هذا نكون مقاومين لمشيئة الله. وكيف نستطيع ألاّ نخطئ أبدًا؟ أُجيب، ألم نحصل على السلام من قبل؟!! لأنه وإن كُنا مسئولين عن هذا القدر الكبير من الخطايا، إلاّ أننا قد تخلّصنا منها كلها بالمسيح، ولهذا بالأولى جدًا الآن سيمكننا بالمسيح أن نبقى في ذلك الوضع (أى حالة البر) التي كانت لنا في الماضى.

          لأن اكتساب السلام الذي لم يكن موجودًا والاحتفاظ بالسلام الذي أُعطى لنا لا يعتبرا شيئًا واحدًا، لأنه من المؤكد أن اكتسابه هو أكثر صعوبة من الاحتفاظ به. بيد أن ما هو أكثر صعوبة، صار سهلاً وقد تحقق. وبناء على ذلك فإن الأكثر سهولة، سيكون سهلاً أكثر فأكثر بالنسبة لنا لو أننا تبعنا ذاك الذي حقق لنا البر والسلام. لكن يبدو لى هنا أنه لا يقصد فقط الأمر الأسهل، بل أيضًا الأمر المنطقى أو الصحيح. لأنه إن كان المسيح قد صالحنا ونحن بعد أعداء، فمن المنطقى أن نحافظ الآن على استمرارية هذا الصلح، وأيضًا أن ننسب الفضل فيما تم للمسيح، حتى لا يبدو أن أولئك الذين صالحهم مع الآب لازالوا قساة وجاحدين. 

 

” قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون” (رو2:5).

إذًا إن كنا ونحن بعيدين قد جعلنا قريبين، فبالأكثر جدًا سيُثّبتنا فيه، إن بقينا بالقرب منه.

          2 ـ لكن لاحظ ـ من فضلك ـ كيف أن الرسول بولس يُشير في كل موضع إلى الأمرين، إلى الأمور الخاصة بالله وتلك الأمور الخاصة بنا. بيد أنه من المؤكد أن الأمور الخاصة بالله هى متنوعة وكثيرة، لأنه مات لأجلنا وصالحنا، وجعلنا قريبين منه ووهبنا نعمة لا يُعبر عنها، هذا ما قدّمه هو لنا أما ما قدمناه نحن هو الإيمان فقط. ولهذا قال ” بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون“. أخبرنى، عن أى نعمة يتحدث؟ إنه يتحدث عن نعمة أن نكون مستحقين لمعرفة الله وأن نُنقذ من الخداع وأن نعرف الحقيقة جيدًا وأن نحصل على كل الخيرات بواسطة المعمودية. لقد قادنا نحو البر لكى نحصل على كل هذه العطايا. ومن المؤكد بالطبع أن كل هذا لم يصر لمجرد الغفران والتخلص من الخطايا فقط، بل لكى نتمتع بامتيازات لا تُحصى. ولم يتوقف عند الوعد بهذه الخيرات، لكنه وعد بخيرات أخرى غير مُعلنة وهى التي تفوق كل فكر وكل لغة والتي لا يُعبر عنها. ولهذا عينه أشار إلى الاثنين. لأنه عندما يتحدث عن “النعمة” فهو يقصد الخيرات الحاضرة التي حصلنا عليها، ولكن عندما يقول: ” ونفتخر على رجاء مجد الله” فإنه يكشف عن غنى خيرات الدهر الآتى. وحسنًا قال ” التي نحن فيها مقيمون“. لأن هكذا تكون نعمة الله، لا نهاية لها، ولا تعرف التوقف عند حد معين، لكنها تقود دومًا نحو الأمور الأسمى، الأمر الذي هو خارج قدرات البشر. بمعنى أنه يمكن أن يكتسب شخص ما مبادئ معينة ومجدًا وسلطة، إلاّ أنه لا يستطيع أن يُقيم فيها على الدوام، لأنه سيفقدها سريعًا، حتى لو لم ينزعها منه إنسان، لأن الموت عندما يأتى سينزعها منه على كل حال، بيد أن الخيرات الإلهية لا تخضع لمثل هذه التحولات. لأنه لا الإنسان ولا الزمن ولا الظروف العارضة ولا الشيطان نفسه ولا الموت عندما يأتى سيستطيع أن يُبعدنا عن هذه الخيرات، بل عندما ننتقل من هذا العالم سنملك المزيد من هذه الخيرات وسنتمتع بها أكثر.

          وبناء على ذلك ينبغي ألاّ ينتابك أى شك من جهة خيرات الدهر الآتي لأنها استعلنت بالفعل في الخيرات التي نلناها في هذه الحياة الحاضرة. لهذا قال: ” ونفتخر على رجاء مجد الله“. هذا لكي تعرف ماهية الحالة الروحية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن. لأننا تأكدنا ليس فقط من جهة الخيرات التي أُعطيت لنا بل أيضًا من جهة الخيرات التي ستُعطى لنا في الدهر الآتى كما لو كانت قد أُعطيت بالفعل، لأن الإنسان يفتخر بتلك التي أُعطيت بالفعل. إذًا طالما أن الرجاء في خيرات الدهر الآتى هو أمر مؤكد وواضح، تمامًا مثلما تحقق الرجاء في الخيرات التي أُعطيت لنا في الحياة الحاضرة، فلذلك يجب أن نفتخر بهذا الرجاء (أى المتعلق بخيرات الدهر الآتى) بطريقة مشابهة، ولهذا فإنه أطلق كلمة مجد على هذه الخيرات. لأنه إن كانت هذه الخيرات تُساهم في اعلان مجد الله، فإنه من المؤكد أنها ستتحقق، وإن لم يكن لأجلنا فقط بل لحساب مجد الله أيضًا. ماذا أقول، هل أن خيرات الدهر الآتى هى فقط التي تستحق الافتخار؟ بالطبع لا، بل أن الضيقات الحاضرة قادرة أيضًا على أن تجعلنا نفتخر بها ونزهو بسببها. ولهذا فقد أضاف: ” وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا في الضيقات“. تأمل إذًا كم ستكون خيرات الدهر الآتى عظيمة ومهمة، وذلك عندما نفتخر بتلك الأمور التي تبدو أنها محزنة لأن عطية الله هى عظيمة ولا يوجد فيها أى شئ مُحزن. لأن الجهاد فيما يختص بأمور هذا العالم الحاضر، يحمل مشقة وألم وتعب، لكن فيما يختص بالأمور الروحية، لا يحدث نفس الشئ بل إن الجهاد بالنسبة لنا، ليس أقل بهجة من المكافآت. فالتجارب آنذاك كانت كثيرة، ومع هذا فقد تجلى الملكوت بالرجاء الذي فينا، وكان يُنظر للخيرات على رجاء تحقيقها في الدهر الآتي، مع أن الضيقات أيضًا كانت حقيقة واقعة، وهذا ما جعل الضعفاء يتشددون. هكذا يُقدم الرسول بولس فعليًا المكافآت قبل التتويج، بقوله: ” إنه ينبغي أن نفتخر في الضيقات “. ومن الملاحظ أنه لم يقل إنه يجب أن تفتخروا، لكنه قال “نفتخر”، مقدمًا النصح لشخصه أيضًا. ثم بعد ذلك لأن الكلام يبدو أنه غير مُعتاد وغريب على الآذان ـ إذ أنه يجب أن يفتخر كل مَن يُصارع الجوع والمقيد والذي يُعذب وأيضًا مَن يُحتقر ويُستهزئ به ـ ولذلك فهو يقدم شرحًا لهذا المفهوم فيما بعد. والأمر المهم هنا هو أن ما يستحق الافتخار ليس هو فقط خيرات الدهر الآتى التي تنتظرنا، بل وخيرات الحياة الحاضرة أيضًا. فالضيقات نفسها هى أمرًا صالح. ولماذا تعتبر أمر صالح؟ لأنها تُنشئ صبرًا. ولهذا تحديدًا، فبعدما قال ” نفتخر في الضيقات”، أضاف السبب (الذي من أجله، نفتخر في الضيقات)، قائلاً:

 

” عالمين أن الضيق يُنشئ صبرًا ” (رو3:5).

          انظر إلى إصرار الرسول بولس، فإنه يحول كلمته مرة أخرى في الاتجاه الآخر. لأن الضيقات جعلت هؤلاء يتعبون، فعلى الرغم من أنهم كانوا يترجون خيرات الدهر الآتى إلاّ أنها قادتهم لليأس، فيقول لهم إنه يجب من جهة هذه الضيقات أن نتحلى بالشجاعة ولا نيأس لأن خيرات الدهر الآتى هى أمر مؤكد:

 

” لأن الضيق يُنشئ صبرًا والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى” (رو4:5ـ5).

          فالضيقات إذًا لا تستطيع أن تمحى هذا الرجاء بل على العكس فإنها تُزيده. لأنه من المؤكد أن الضيق له ثمر عظيم حتى قبل الحصول على خيرات الدهر الآتى، هذا الثمر هو الصبر الذي يجعل مَن يتذوقه إنسانًا كاملاً، بل ويُساهم أيضًا في التطلع نحو خيرات الدهر الآتى، طالما أنه يجعل الرجاء يزدهر داخلنا. لأنه لا يوجد شيئًا يجعلنا نترجى خيرات الدهر الآتى أكثر من الضمير الصالح.

          3 ـ ولا يوجد أحد ممن عاشوا في حياة مستقيمة يمكن أن يشك في خيرات الدهر الآتى، تمامًا كما أن هؤلاء الذين أهملوا وتهاونوا كثيرًا في حياتهم إذ قد صاروا مأسورين من جهة ضميرهم الشرير، فإنهم لا يريدون أن تكون هناك دينونة ولا مجازاة. إذًا ماذا يحدث؟ هل ما ننتظره من خيرات يتحقق بالرجاء؟ من المؤكد أنه يتحقق بالرجاء، لكن ليس في الرجاء الإنسانى، لأنه رجاء كاذب. وكثيرًا ما تخيب آمال مَن وضع رجائه في إنسان، فقد يحدث أن يفارق الحياة ذاك الذي كان يُنتظر منه تحقيق هذا الرجاء، أو قد يغير رأيه وهو لا يزال على قيد الحياة. إلاّ أن الخيرات التي تنتظرنا ليست هكذا، إذ الرجاء فيها مؤكد وثابت. لأن ذاك الذي وعد هو حى على الدوام، أما من جهتنا نحن الذين سنتمتع بهذه الخيرات، حتى وإن متنا، إلاّ أننا سنقوم مرة أخرى. وبشكل عام لا يوجد شئ يمكن أن يُخزينا، كما لو أننا قد تباهينا بلا داعٍ في أمور لا طائل منها.

إذًا بعدما أزال الرسول بولس كل شك فيما يتعلق بالخيرات الإلهية كما أوضح في كلامه السابق، فإنه لم يكتفِ بالحديث عن خيرات الحياة الحاضرة بل أخذ يتكلّم مرة أخرى عن خيرات الدهر الآتى، لأنه يعرف أن الضعفاء في الإيمان يطلبون أمور الحياة الحاضرة، لكنهم لا يكتفوا بها. ولذلك يؤكد على تحقيق خيرات الدهر الآتى من خلال الخيرات التي أُعطيت في هذه الحياة بالفعل. ولكى لا يقول أحد، ماذا لو أن الله لم يُرد أن يمنحنا هذه الخيرات؟ لأنه من حيث إنه يستطيع وإنه باقٍ، وأنه حى (إلى الأبد)، فهذا نعرفه جميعًا، لكن ما الذي يجعلنا مُتيقنين من أنه يريد (أن يهبنا هذه الخيرات)؟ نستطيع أن نتيقن من هذا من خلال الخيرات التي أُستعلنت لنا بالفعل وأين أُستعلنت؟ أُستعلنت في المحبة التي أظهرها لنا. وهل ما يقوله يفعله؟ بالطبع لأن هذا ظاهر من خلال وعده بعطية الروح القدس. ولهذا فبعد أن قال: ” والرجاء لا يُخزى” أضاف الدليل على هذا بقوله: ” لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا“. ولم يقل أُعطيت، لكن ” انسكبت في قلوبنا“، لكى يُظهر فيض هذه المحبة. لأن تلك العطية العظمى التي وهبها ليست هى السماء والأرض والبحر، بل هى أكثر غنى من كل هذه الأمور، إذ جعل من البشر ملائكة وأولادًا لله وإخوة للمسيح. وما هى هذه العطية؟ هى عطية الروح القدس. لأنه إن كان لا يشاء أن يهبنا تيجانًا مُنيرة بعد كل الأتعاب، لما كان قد أعطانا خيرات وفيرة قبل هذه الأتعاب. والآن هو يظهر دفء محبته في الحياة الحاضرة لأنه لم يكرمنا رويدًا رويدًا وقليلاً قليلاً، لكنه سكب كل مصدر الخيرات التي صارت لنا قبل أن نجتاز في الجهادات.

          وبناء على ذلك حتى وإن كنت غير مستحق لا تيأس لأن لديك مُدافعًا عظيمًا، التي هى محبة الديان. ولهذا بعدما قال: ” الرجاء لا يخزى“، نسب كل شئ لمحبة الله وليس لإمكانيات خاصة بنا. لكنه بعدما أشار إلى هبة الروح القدس، ينتقل مرة أخرى إلى الكلام عن الصليب قائلاً الآتى:

 

” لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار. فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار. ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضًا أن يموت لكن الله بيّن محبته لنا ” (رو6:5ـ7).

إن ما يقوله يعنى إن كان من أجل إنسان صالح لا يُفضل أحد أن يموت على الفور، فانظر إلى محبة الرب الذي صُلب لا من أجل أتقياء، بل من أجل خطاة وأعداء. وبعد هذا قال:

 

” لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. فبالأولى كثيرًا ونحن متبررون الآن نخلص به من الغضب. لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه. فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته” (رو8:5ـ10).

          إن هذا الكلام يبدو كأنه نفس الكلام السابق، إلاّ أنه يبدو مختلفًا بالنسبة  للشخص المدقق الذي يفحص المعنى بعناية. انتبه، فهو أولاً يريد أن يؤكد لهم على الخيرات التي تنتظرهم في الدهر الآتى. ويوضح كيف كان إبراهيم البار ينظر إلى إمكانية حصوله على تلك الخيرات، قائلاً إنه ” تيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا[1]،وهذه الخيرات قد تحققت بعد ذلك من خلال النعمة التي أُعطيت لنا، ثم من خلال الضيقات لأنها تقودنا إلى الرجاء، وأيضًا من خلال عمل الروح القدس الذي أخذناه. لكنه يُبرهن فيما بعد على هذا الأمر من خلال الحديث عن الموت الذي ملك علينا وخطايانا السالفة. الواضح ـ وهو الأمر الذي أشرت إليه سابقًا ـ أن الكلام يحمل بُعدًا واحدًا ولكنه في الحقيقة يحمل أبعاد ثانية وثالثة وأكثر من ذلك. أولاً أنه مات. ثانيًا أنه مات لأجل الخطاة. ثالثًا أنه صالحنا وخلصنا وبررنا وجعلنا أبناءً وورثة.

          الواضح أننا لن نكون أقوياءً فقط في مواجهة الموت، بل نحن أقوياء بواسطة هذا الذي أُعطى لنا بالموت. وإن كان من المؤكد أنه ونحن بعد خطاة قد مات المسيح لأجلنا، فهذا في حد ذاته يعد دليلاً على محبة الله التي لا توصف، أما من حيث أنه مات ونحن بعد خطاة وأعطى عطايا لا يُعبّر عنها، فإن هذه العطايا تفوق كل امتياز وتقود إلى الإيمان حتى بالنسبة لمَن فقد الحس تمامًا. لأنه ليس آخر هذا الذي خلّصنا، لكنه هو ذاك الذي أحبنا بشكل فائق، على الرغم من أننا كنا خطاة، حتى أنه قدّم نفسه للموت لأجلنا. أرأيت كم يُساهم هذا الكلام المشار إليه في التطلع نحو خيرات الدهر الآتى؟ لأنه قبل أن يتحقق هذا كان هناك أمران يتسمان بالصعوبة يعوقان نوالنا الخلاص، لقد كنا خطاة وكان ينبغى أن يموت الرب عنا لكى نخلص، وهذا يعنى أن الخلاص كان يستحيل إتمامه بالفعل قبل (موت الرب). وأن الخلاص كان يحتاج لمحبة غامرة، فإن كان كل هذا قد تحقق فما يتبقى يكون سهل التحقيق، فلن يسود علينا الموت فيما بعد، لأننا صرنا محبوبين جدًا.

          إذًا فذاك الذي قهر الأعداء وأذلهم، ألا يُقدم لنا العون؟ الآن وقد صرنا محبوبين وحيث لا توجد حاجة بعد لأن يُسلّم ابنه للموت ثانية، فنحن نرى أن المرء لا يُقدم على إنقاذ الآخر لاعتبارات كثيرة، إما لأنه لا يريد أو لأنه لا يستطيع حتى ولو أراد، وهى أمور لا نستطيع بالطبع أن ننسبها لله لأنه قد سلم ابنه (للموت). فمن حيث إنه يستطيع، فهذا ما أظهره لأنه قد برّرنا ونحن بعد خطاة. إذًا هل هناك عائق يمكن أن يمنعنا بعد ذلك أن نتمتع بخيرات الدهر الآتى؟ لا يوجد.

ثم بعد ذلك أيضًا، ولكى لا تشعر بالخجل في المستقبل، إذ أنك قد سمعت كلمات مثل خطاة وأعداء وضعفاء وجاحدين، فاسمع ما يقول:

 

” وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة ” (رو11:5).

          ماذا يعنى بعبارة “وليس ذلك فقط”؟ يعنى أننا لم ننل فقط الخلاص، بل أننا نفتخر أيضًا بهذا الخلاص، وتحديدًا بالخلاص الذي قد يتخيله البعض، أننا نخجل منه. لأننا عندما نخلص، بينما كنا نحيا في الشرور فهذا دليل قوى جدًا على أن ذاك الذي خلّصنا قد أحبنا بشكل يفوق الوصف (وهذا ما يدعو للافتخار). لأنه لم يخلّصنا بملائكة أو رؤساء ملائكة، بل بابنه وحيد الجنس[2]. وليس هذا فقط بل أنه قد ضفر لنا تيجان افتخار كثيرة جدًا بدم ابنه. لأنه لا يوجد شيئًا يعادل ـ إذا ما تحدثنا عن سبب المجد والافتخار ـ حقيقة محبة الله لنا ومحبتنا نحن لذاك الذي أحبنا. هذا (الحب) جعل الملائكة والرئاسات والقوات في بهاء، وهذا الحب هو أعظم من مجرد التمتع بالملكوت. ولهذا فإن الرسول بولس قد وضعه قبل الملكوت. ومن أجل ذلك فإنى أطوّب القوات غير المرئية لأنهم يُحبون الله ويخضعون له في كل شئ. ولهذا السبب أيضًا فإن النبى قد أُعجب بهم، قائلاً: ” باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة الفاعلين أمره[3]. ولهذا السبب فإن إشعياء قد امتدح خدمة السيرافيم[4]، مشيرًا إلى فضيلتهم العظيمة من حيث إنهم يقفون بالقرب من العرش الإلهى، الأمر الذي يُعد دليلاً على المحبة الكبيرة.

[1] رو21:4.

2 هذا ما يُصليه الأب الكاهن في صلاة الصُلح قائلاً: ” لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي إئتمنتهم على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست .. ” (القداس الغريغوري).

[3] مز20:103.

[4] إش1:6ـ7.

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)