أبحاث

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب 

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

بقية العظة الرابعة عشر:

         9 ـ ومن حيث إن هذه الأمور تحمل هذا المعنى، وإن ما قيل ليس إدانة للجسد، فإنه يستخدم أيضًا هذه الكلمة (أى الجسد). فلنفحص الأمر بدقة أكثر: ” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” ماذا إذًا؟ ألم يكن لهم جسد؟ أم أنهم سلكوا بلا جسد؟ وكيف يمكن أن يكون هذا الأمر؟ أرأيت أنه يُشير إلى الحياة الجسدية؟ ولأى سبب لم يقل، أما أنتم فلستم خطاة؟ فعل هذا، لكى نعلم أن المسيح لا يُلاشي فقط سلطان الخطية، بل أنه جعل الجسد أكثر خفة وأكثر روحانية، بل وسما به أكثر. تمامًا كما أن النار حينما تلتقي بالحديد، ويصير الحديد نارًا، بينما يبقى محتفظًا بطبيعته، هكذا جسد المؤمنين والذي يحمل الروح أيضًا، يُشارك في هذه الطاقة الروحية، ويصبح كله روحيًا، محلقًا مع النفس إلى أعلا ، هكذا كان جسد ذاك الذي قال هذه الأمور (أى الرسول بولس). ولذلك فقد احتقر كل متعة وشهوة، وتحمل الجوع والجلد والسجن، ولم يتألم ولم يشكو من كل هذا. ولكى يُعلن ذلك قال: ” لأن خفة ضيقتنا[1]. لقد درَّب الجسد جيدًا أن يكون في خدمة الروح.

          “ إن كان روح الله ساكنًا فيكم “، لفظة “إن كان”، أشار إليها في مواضع كثيرة، لا لأنه يشك، بل لأنه يؤمن بالأكثر، وبدلاً من ” إن كان “، يقول ” إذ هو”، مثلما يقول: ” إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقًا[2]. وأيضًا ” أهذا المقدار احتملتم عبثًا إن كان عبثًا[3]. “ لكن إن كان أحد ليس له روح المسيح “. لم يقل إن لم يكن لكم، لكنه ذكر الأمر المحزن أو المؤلم لأولئك (السالكين حسب الجسد). ” فذلك ليس له ” ثم يقول ” وإن كان المسيح فيكم “. مرة أخرى يُشير إلى الصلاح الذي في هؤلاء (السالكين حسب الروح). وهو يُشير إلى الشئ المحزن في عجالة وفي جملة عرضية، بينما الأمر المرغوب فيه يُشير إليه من جانبين (أى من جهة الجسد ومن جهة النفس) وبأساليب كثيرة، حتى يُغطى على ذلك (الأمر المحزن) وهو يقول هذا، لا لكى يطلق على الروح اسم المسيح، حاشا، بل لكى يُظهر أن مَن له الروح، ليس فقط ينتسب للمسيح، بل يكون له المسيح نفسه. لأنه ليس ممكنًا عندما يكون الروح حاضرًا، ألا يكون المسيح حاضرًا. لأنه حيث يوجد أقنوم واحد في الثالوث، هناك يكون الثالوث كله حاضرًا، طالما أنه غير منقسم، وواحد في الجوهر. وماذا سيحدث لو كان المسيح فيكم؟

 

” وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر ” (رو10:8).

          أرأيت كم من الشرور تأتى لو أن شخصًا ليس له الروح القدس؟ موت وعداوة لله، لمن لا تعجبه نواميس الله، ولذاك الذي لا ينتسب كما ينبغي للمسيح، ومن لا يكون المسيح فيه. لاحظ إذًا كم الخيرات الذي يأتى من كون الروح فيه، وأنه ينتسب للمسيح، ويكون المسيح فيه، ويُنافس الملائكة. لأن هذا ما يعنيه بقوله “فالجسد ميت”. إذ نحيا حياة خالدة، ويكون لك من الآن ضمانًا للقيامة، وتركض بسهولة في طريق التقوى،لأنه لم يقل إن الجسد لن يفعل الخطية بعد ذلك، بل قال ” فالجسد ميت“، فيزيد من سهولة الطريق، إذ أنه بدون صعوبات وأتعاب يُتوج الجسد من الآن فصاعدًا. ولهذا فقد أضاف فمن جهة “الخطية”، لكى تعلم أن ما قضى عليه المسيح إلى الآبد هو الشر، وليس طبيعة الجسد؛          ولذلك إن كان هذا قد حدث، فستختفي أشياء كثيرة من تلك الأمور، وهذا ما يعود بالفائدة على النفس. لا يقصد هذا، لكن ما يقصده هو أنه مع بقاء الجسد، فإنه يكون ميتًا (من جهة الخطية). لأن هذا يمثّل دليلاً على أن لنا الابن وأن الروح القدس داخلنا، وأن أجسادنا بالنسبة للخطية لا تختلف عن أجساد الأموات. لكن لا تخف، عندما تسمع كلمة الموت، لأنك تحمل الحياة الحقيقية، ولن يسودك أى موت. مثل هذه الحياة هى حياة الروح التي لن تتراجع أمام الموت، بل تهدمه وتلاشيه، وذلك الذي أخذ الروح يحفظه الروح خالدًا. ولهذا تحديدًا فهو، عندما قال، الجسد ميت، لم يقل إن الروح حيّ، بل قال: ” أما الروح فحياة “، لكي يُبرهن كيف أنه يستطيع أن يهب الحياة للآخرين. ومرة أخرى يجذب انتباه المستمع، فيتحدث عن سبب الحياة، وهو البر. لأنه حيث لا توجد خطية، فإن الموت لن يظهر، وحين لا يظهر الموت، فإن الحياة تكون أبدية.

 

” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنـًًا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” (رو11:8).

          مرة أخرى يعود إلى الكلام عن القيامة، لأن هذا الرجاء أعطى شجاعة كبيرة جدًا للمستمع، ويؤكد على القيامة من خلال تلك الأمور التي حدثت للمسيح. إذًا لا تخف كما يؤكد الرسول بولس، لأنك تحمل جسدًا ميتًا (من جهة الخطية) خذ الروح داخلك، والروح سيقيمك على أي حال.

          ماذا إذًا؟ هل الأجساد التي ليس لها الروح القدس لا تقوم؟ وكيف سَيمثُل الجميع أمام عرش المسيح؟ وكيف يكون الكلام عن جهنم موضع ثقة؟ لأنه إن لم يقم أولئك الذين ليس لهم الروح، فإن جهنم أيضًا لن توجد. ماذا يعنى هذا الكلام إذًا؟ يعنى أن الجميع سيقومون، لكن ليس الجميع للحياة، بل أن البعض للجحيم، والبعض للحياة. ولهذا لم يقل سيقيم، لكن “سيُحيي”، الأمر الذي هو أكثر من مجرد القيامة، والذي أُعطى فقط للأبرار. وبعدما أشار إلى سبب هذه الكرامة العظيمة، أضاف قائلاً: ” بروحه الساكن فيكم“. وبناءًا على ذلك، فإذا كنت ترفض نعمة الروح القدس وأنت في هذه الحياة الحاضرة، فستموت دون أن تحصل على البراءة، وستخسر كل شئ، حتى وإن قمت. لأنه كما أنه لا يحتمل أن يُسلّمك للجحيم، عندما يرى أن روحه مشرق فيك، هكذا عندما يراه مُنطفئًا، فلن يقبل أن يقودك إلى عرسه، تمامًا مثلما حدث مع العذارى الجاهلات.

          10 ـ لا تترك جسدك يحيا الآن في الخطية، لكى يحيا حينذاك يوم الدينونة، اجعله يموت عن الشهوات، لكى لا يموت فيما بعد. لأنه لو بقى حيًا، فلن يعيش. هذا سيحدث في القيامة العامة، لأنه ينبغي أن يموت الجسد أولاً ويُدفن، وبعد ذلك سيصير خالدًا. وهذا قد حدث في المعمودية. إذًا فقد صُلب الجسد أولاً، ودُفن، وبعد ذلك قام. وهذا قد حدث أولاً في جسد الرب. لأنه بالحق قد صُلب، ودُفن، وبعد ذلك قام. فلنصنع هذا نحن أيضًا. لنميت الجسد دومًا في أعماله. لا أقصد جوهر الجسد، فمثل هذا التفكير بعيد تمامًا، لكن ينبغي أن نُميت الشهوات المرتبطة بالأعمال الشريرة. لأنه بالحقيقة هذه هى الحياة، أو من الأفضل القول إن هذا فقط هو حياة؛ ألا يعانى أحد من أي شئ بشرى، ولا أن يكون عبدًا للشهوات. لأن كل مَن يخضع لهذه الشهوات لا يمكنه أن يحيا، بسبب الضيقات التي تأتى منها، ومن المخاوف، ومن الأخطار، ومن الآلام الكثيرة التي لا تُحصى. لأنه لو أدرك أن الموت قادم، فإنه يكون قد مات خوفًا قبل أن يأتى الموت. وأيضًا إن توجس خوفًا من مرض، أو هوان، أو فقر، أو أى شئ آخر من الأشياء غير المتوقعة، فحينئذٍ يكون قد فُقِدَ وهَلَكَ من جراء ذلك. إذًا هل يمكن أن تكون هناك تعاسة أكثر من هذه الحياة؟

          الأمر يختلف بالنسبة لمن يحيا بالروح،فهو يعلو على المخاوف، والأحزان والأخطار، وكل التقلبات، ليس من حيث إنه لا يتكلم بشئ، لكن من حيث إنه يحتقر هذه الأشياء عندما تحل، الأمر الذي يُعد أكثر أهمية بكثير. لكن كيف سيحدث هذا؟ يحدث عندما يسكن الروح بالكامل داخلنا. لأنه لم يقل فقط إن الروح يسكن فينا لفترة قصيرة، بل يسكن على الدوام. ولهذا لم يقل الروح الذي سكن، لكن “الساكن”، مُظهرًا إقامته الدائمة. وبناءً على ذلك فمَن يحيا، يكون أساسًا هو الذي مات عن الحياة في الخطية. لهذا قال ” وأما الروح فحياة بسبب البر . ولكى يصير الكلام أكثر وضوحًا، دعونا نستعرض اثنين من البشر: واحد منهما إستسلم للفسق واللذات، والحياة الزائفة، والآخر عاش ميتًا من جهة هذه الأمور، ولنرى مَن هو الذي يحيا بالأكثر. ليُفتـرض أن واحــد من الاثنيــن غنـي جدًا  ومشهــور،
ويتغذى على التطفل والنفاق، يلهى ويسكر ويستنزف كل يومه لتحقيق هذا الهدف. بينما الآخر يحيا في فقر وصوم، ويحيا يومه في تجرد وعفة، وفي المساء يأكل الطعام الضرورى فقط. ولو كنت تريد الحقيقة، فهو في الغالب يبقى لمدة يومين وثلاثة أيام صائمًا. إذًا مَن فيهما الذي يحيا بالحق؟

          اعرف جيدًا أن الكثيرين سينظرون بتقدير إلى ذاك الذي يحيا باستمتاع ويُبذر ثروته، أما نحن فنُقدّر الذي يتمتع لكن باعتدال واتزان. إذًا لأنه يوجد اختلاف حول ذلك، لندخل بيوت الاثنين، وبالرغم من أنك تعتقد أن الغني يحيا في نفس الوقت نفس المتع، بيد أنك سترى جيدًا حالة كل منهما بعدما تدخل، لأن الأعمال هى التي تظهر وتوضح مَن الذي يحيا؟ ومَن الذي مات؟

فالواحد ستجده حسنًا ـ بعين الأعتدال ـ يدرس الكتاب المقدس ويصلي ويصوم، وفي الأمور الأخرى الهامة نجده يقظًا وهادئًا، ويتحدث مع الله، بينما الآخر ستجده ثملاً وليس بأي حال أفضل من الميت. ولو أننا إنتظرنا حتى المساء، سترى أن الموت يأتى بالحري إلى هذا الشخص. في إطار هذه الحالة أيضًا، أى حالة السكر، يُداهمه النوم، بينما الآخر ستجده وقت المساء متيقظًا وفي حالة سلام. مَن منهما إذًا تقول عنه إنه يحيا حقًا، هل الذي يرقد بلا وعى والذي يثير سخرية الكل؟ أم ذاك الذي يعمل ويتحدث مع الله؟ فإنك إن إقتربت من ذاك الثمل وقلت له شيئًا خطيرًا، فلن تسمعه يقول شيئًا تمامًا كما لــو كــان ميتًـــا. لكــن لو رغــبت أن تقتــرب
من الآخر سواء في الليل أو النهار فسترى إنه ملاك أكثر منه إنسان، وستسمعه يتكلم بالحكمة عن الأمور التي في السماء.

 

          أرأيت أن الواحد يحيا أكثر من كل الأحياء، بينما الآخر هو أكثر تعاسة من الأموات؟ ولو أنه قرر أن يضع شيئًا في مكان ما، فإنه يضعه في غير موضعه ويشابه المختلين، أو من الأفضل القول إنه أكثر بؤسًا منهم. لأنه بالنسبة لهؤلاء فإذا وجدنا شخصًا منهم يُهان سنُشفق عليه ونوبخ من يهينه. أما بالنسبة لذاك الثمل، فحتى لو رأينا شخصًا يندفع نحوه ويلقيه أرضًا، فإننا ليس فقط لن نتأثر ولن نشفق عليه، بل ونكون ضده. أخبرنى إذًا هل هذه حياة، بالطبع ليست هذه حياة، إنها رديئة أكثر من آلاف الميتات؟

 

          أرأيت أن الذي يلهو، ليس فقط يعتبر ميتًا، بل هو أسوأ من ميت، وأكثر تعاسة من الذي به شيطان؟ لأن الواحد (الميت عن الخطية) يُحَب، بينما الآخر (الثمل) يُبغَض. والأول يتمتع بالغفران، بينما الآخر يُعاقب من أجل شهواته هذه، وهو مثار لسخرية كبيرة من الخارج ، يسيل منه لُعاب قذر وتفوح منه رائحة خمر. تأمل في تلك النفس البائسة المدفونة في هذا الجسد كما لو كانت في قبر، في حالة وحدة. نفس الشئ يمكن أن تراه، لو أن شخصًا أعطى الإمكانية لخادمة همجية ووقحة أن تندفع وتُهين سيدة وقورة، مُهذبة، حرة، نبيلة وحسنة، فهذا هو السكر.

          إذًا مَنْ مِن هؤلاء الذين لديهم فكرًا أو رؤية لا يُفضل الموت آلاف المرات على أن يحيا على هذا النحو يومًا واحد؟ لأن الثمل حتى لو أنه بدا هادئًا، بعدما يفيق من ذلك الوضع المهين، لن يكون لديه عقل نقي، طالما أن الضباب الذي يأتى من شهوة السُكر يمتد ويخيم على عينيه. أما إذا حدث وكان ساكنًا تمامًا. فما هو النفع؟ فهذا السكون لا يمثل نفعًا في أى شئ لهذا الشخص، إلاّ فقط من حيث إنه يرى الذين يدينوه. كما أنه حين تسوء حالته، يفقد وعيه ولا يعرف هؤلاء الذين يسخرون منه. لكن عندما يطلع النهار فهو يفقد حتى هذه الحالة، أى عدم المعرفة، إذ يعي بعدها أن خدامه يتململون من خدمته، وزوجته تخجل منه، وأصدقاؤه يوشون به، وأعداؤه يستهزئون به. هل توجد تعاسة أكثر من تعاسة هذه الحياة، حيث يهزأ الجميع به ليلاً، وفي المساء التالي يكرر نفس الأمور المشينة؟

[1]  2كو17:4.

[2]  2تس6:1.

[3]  غل4:3.

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب