أبحاث

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

العظة الخامسة عشر:

” فإذًا أيها الاخوة نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” (رو12:8ـ13).

          بعدما أظهر كيف أن مجازاة الحياة الروحية هى عظيمة، وأن المسيح يعمل في هذه الحياة، وأنه يحيي الأجساد الفانية ويعطى أجنحة للتحليق نحو السماء، ويجعل طريق التقوى سهلاً، يرى من الضرورى أن يُضيف بعد ذلك كله، ناصحًا: فإذًا نحن مدينون ألا نحيا بحسب شهوات الجسد. ومن المؤكد أنه لم يقل هذا بشكل ضعيف، لكنه تكلم بأكثر حماس وأكثر قوة، قائلاً: نحن مدينون أن نحيا بالروح. وكونه يقول ” نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد“، فهو يريد أن يؤكد ويشدّد على هذه الحقيقة. وفي كل موضع، يوضح أن تلك الأمور التي صنعها لنا الله، لا تمثل دينًا، لكنها تعتبر فقط دليل نعمة، بينما تلك الأمور التي نصنعها نحن بعد كل هذا، هى دليل دين. لأنه عندما يقول: ” قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس[1] فهذا هو ما يقصده. وعندما يكتب “.. أنكم لستم لأنفسكم[2]. فهو يعني بالضبط الأمر ذاته. وفي موضع آخر يُذكِّر أيضًا بتلك الأمور عينها، قائلاً: ” إن كان واحد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا .. كى يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم[3]. هذا بالضبط ما يُدلل عليه هنا، إذ يقول: ” نحن مدينون “.

          ثم بعد ذلك، لأنه قال: ” نحن مدينون ليس للجسد “، ولكى لا تعتقد أنه يُشير لطبيعة الجسد، لم يكتفِ بهذا، بل أضاف ” لنعيش حسب شهوات الجسد “. لأنه بالحقيقة هناك أمور كثيرة نحن مدينون بها للجسد: أن نُطعمه، أن ندّفئه، أن نعتنى به حين يمرض، أن نكسوه، وأن نُقدم له أمورًا أخرى كثيرة. ولكى لا تتصور أنه يُبطل هذه الخدمة، فبعدما قال: ” نحن مدينون ليس حسب الجسد ” فسّر هذا قائلاً: ” لنعيش حسب “شهوات الجسد”. إذًا هو يُبطل هذا الاهتمام أى “شهوات الجسد”، الذي يقود للخطية، لأنه يريد أن نسلك وفقًا لكل ما هو خارج شهوات الجسد، الأمر الذي شرحه بعد ذلك. لأنه بعدما قال: ” لا تصنعوا تدبيرًا للجسد ” أضاف: ” لأجل الشهوات[4]. هذا ما يُعلّم به هنا تحديدًا، قائلاً: لنعتنى بالجسد، لأننا مدينون لهذا الجسد، لكن ينبغي علينا ألا نعيش وفقًا لشهوات الجسد، بمعنى ألا نجعل الجسد يسود على حياتنا، أو ينظم حياتنا، بل أن نُخضعه لناموس الروح.

          إذًا بعدما حدّد وبرهن على ما يقول، أى أننا مدينون أن نعيش بحسب الروح، أظهر بعد ذلك أفعال وإحسانات نحن مدينون لها، وهو لا يتكلم عن الأمور الماضية بل عن أمور الدهر الآتى، الأمر الذي لأجله تتجلى حكمة الرسول بولس بشكل خاص. وإن كان من المؤكد أن تلك الأمور الماضية تُعدّ كافية، لكنه لا يُشير إليها الآن، ولا يتحدث عنها، بل يتحدث عن أمور الدهر الآتى. لأنه أي إحسان أُعطى مرة واحدة، لا يمكن عادةً أن يجذب عددًا كبيرًا من البشر، بقدر ما يجذبهم انتظار أمور الدهر الآتى. ولأنه يهدف إلى ذلك، فهو يُثير المخاوف من الأمور المحزنة والشرور التي تنتج عن الحياة حسب الجسد، قائلاً الآتى:

 

” لأنه  إن عشتم حسب الجسد فستموتون .. ” (رو13:8).

          مُشيرًا إلى الموت الذي لا ينتهي، أى الجحيم، والعقاب في جهنم. لكن لو أراد المرء أن يفحص بتدقيق هذا الأمر، سيجد أن مثل هذا الإنسان يموت في هذه الحياة أيضًا، الأمر الذي شرحته لكم بكل وضوح في حديث سابق. ” لكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” أرأيت أنه لا يتحدث عن طبيعة الجسد، بل عن أعمال الجسد؟ لأنه لم يقل: إن كنتم بالروح تميتون طبيعة الجسد، بل “أعمال الجسد”، وليست كل أعمال الجسد، بل الأعمال الشريرة فقط. وهذا صار واضحًا من الكلام الذي أتى بعد ذلك. لأنه يقول إن فعلتم هذا، فستحيون.

          وكيف يكون ممكنًا أن يحدث هذا، إذا كان يتكلم عن كل الأعمال؟ لأن الرؤية والسمع، والكلام، والمشى هى من طبيعة الجسد، فإن حدث وجعلنا هذه الأعمال تموت، فسنغادر الحياة، طالما أننا سنُعاقب أنفسنا بالقتل. إذًا فما هى الأعمال التي يريد الرسول بولس أن نُميتها؟ هى الأعمال المرتبطة بالشر، تلك التي تسير نحو الخطية، والتي من غير الممكن أن نُميتها بطريقة مختلفة، إلاّ بواسطة الروح فقط. لأن الأعمال الأخرى من الممكن أن يُميتها المرء، بعدما يقتل نفسه، الأمر الذي هو غير مقبول، بينما هذه الأعمال نُميتها بالروح. لأنه في حضور الروح تهدأ كل الأمواج، والشهوات كذلك ستتراجع، ولن يثور أى شئ ليتواجه معنا. أرأيت كيف أنه بحديثه عن أمور الدهر الآتى، الأمـر الذي سبـق وأشـار إليـه، يحثنـا ويبرهـن          على أننا مدينون، وليس من قِبَل تلك الأمور التي حدثت سابقًا؟ لأن الإنجاز الذي حققه الروح لا يقتصر فقط على أنه خلَّصنا من الخطايا السالفة، بل جعلنا لا نُهزَم في مسيرتنا نحو الدهر الآتى، وجعلنا أيضًا مستحقين للحياة الأبدية.

2 ـ وهو يشير إلى مكافأة أخرى يقول:

 

” لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ” (رو14:8).

          هذه المكافأة هى أكبر بكثير من السابقة. ولهذا لم يقل لأن كل الذين يحيون فقط بروح الله، لكن ” كل الذين ينقادون بروح الله ” مُظهرًا كيف ينبغي أن يكون الروح القدس هو المهيمن على حياتنا، مثل قائد السفينة، أو مثل اللجام في يد قائد عربة يجرها جوادان. وليس الجسد فقط، هو الذي يخضع لهذا اللجام، بل والنفس أيضًا.

          لأنه لا يريد لهذه النفس أن تسود أو تتسلط، بل تكون السيادة لقوة الروح القدس. قال هذا حتى لا يهملوا أو يتهاونوا، بعدما نالوا الجرأة، بواسطة نعمة المعمودية في سلوكهم المتوقع (أى بعد المعمودية)، وهو يؤكد هكذا على أنه حتى وإن إعتمدت، فقد يحدث ألا تنقاد بالروح، وتخسر الرتبة التي أُعطيت لك، وتخسر كرامة التبنى. ولهذا لم يقل كل مَن أخذ الروح، لكن ” كل الذين ينقادون بروح الله ” بمعنى كل الذين يحيون هكذا كل حياتهم ” هؤلاء هم أبناء الله. ثم بعد ذلك، لأن هذه الرتبة أو المقام قد أُعطى لليهود: ” أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم “[5]. وأيضًا “ ربيت بنين ونشأتهم[6]، و” إسرائيل ابنى البكر[7]، وأيضًا يقول الرسول بولس “ولهم التبنى”[8]، يبيّن فيما بعد، مقدار الفرق بين الكرامة القديمة، وهذه الكرامة (الخاصة بالبنوة لله تحت قيادة الروح القدس).

          لأنه إن كانت التسميات هى نفسها، لكن الأشياء ليست هى نفسها. وهو يعطى دليل واضح لهذه الأمور، ويصنع مقارنة مع أولئك الذين نالوا شيئًا، وتلك الأمور التي أُعطيت، وتلك التي ستحدث. أولاً يُظهر ما هى تلك الأشياء التي أُعطيت للقدماء. حسنًا ما هى هذه الأشياء؟ هى روح العبودية، ولهذا أضاف:

 

” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف ” (رو15:8).

          ثم بعد ذلك وطالما أنه أغفل الإشارة إلى ما هو عكس العبودية، أى روح الحرية، ذكر ما هو أعظم بكثير، روح التبنى، والذي به أدخل أيضًا روح الحرية، قائلاً: ” بل أخذتم روح التبنى “. وهذا واضح، لكن ماذا يعني بروح العبودية؟ هذا غير واضح. ولذلك كان عليه أن يجعل هذا الأمر واضحًا. لأن ما قيل، ليس فقط غير واضح، بل أنه لم يفسره أو يشرحه على الاطلاق، لأن الشعب اليهودى لم يأخذ الروح. إذًا ماذا يقصد هنا؟ أنه قد وصف الحروف أو الكلمات بأنها روحية، لأنها كانت روحية، تمامًا كما دُعىّ الناموس روحيًا، وهكذا أيضًا بالنسبة للماء الذي جرى من الصخرة، والمن الذي نزل من السماء. لأنه يقول ” جميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا. وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا[9]. والصخرة دعاها أيضًا هكذا قائلاً:   ” لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم “. إذًا لأن كل هذا الذي حدث، كانت أشياء تفوق الأمور الطبيعية، فقد دعاها روحية، وليس لأن أولئك الذين شاركوا فيها كانوا قد نالوا الروح في ذلك الوقت.

          وكيف كانت تلك الحروف حروف عبودية؟ ادرس كل حياة بني إسرائيل وحينئذٍ ستعرف هذا جيدًا. لأن العقوبات أيضًا كانت أمامهم والمكافأة كانت تعطى على الفور، وكانت قانونية، ومثل طعام يومى أُعطيت للعبيد، وكان هناك خوفٌ شديد في كل موضع من تطهيرات الجسد، والانضباط مرورًا بالأعمال الجسدية. لكن بالنسبة لنا لم يحدث نفس الشئ، بل أن الفكر والضمير قد تنقيا بالكامل. لأن المسيح لم يقل فقط لا تقتل، بل أيضًا لا تغضب، ولم يقل فقط لا تزن، بل لا تنظر بشهوة، حتى يصل الإنسان إلى النقاء الكامل، لا بسبب الخوف من العقوبات الحاضرة، بل بسبب الشوق والمحبة لله، والرغبة في ممارسة الفضيلة كشئ معتاد، بالإضافة إلى بعض الإنجازات الأخرى. ولم يَعِّد الله بأرض تفيض عسلاً ولبنًا، بل جعل الإنسان وارثًا مع ابنه وحيد الجنس، مُبعدًا إيانا ـ بكل الوسائل ـ عن الاعتماد على الخيرات الحاضرة، واعدًا إيانا بالخيرات التي ينبغي أن يأخذها معنا أيضًا أولئك الذين صاروا أبناء لله، تلك الخيرات التي ليس فيها شيئٌ مادي، ولا جسدي، بل كل ما هو روحي. حتى أن الذين قد دُعوا سابقًا أبناء قد ابتعدوا كعبيد، أما نحن فقد نلنا التبنى وننتظر ملكوت السموات لأننا صرنا أحرارًا.

          وبالنسبة لأولئك (أى اليهود) فقد كلّمهم عن طريق أناس آخرين (أى آباء ـ أنبياء ـ مرسلين)، أما نحن فقد كلّمنا هو بنفسه[10]. وأولئك فعلوا كل شئ مُنقادين بالخوف من العقاب، بينما الروحيون فيصنعوا كل شئ بدافع الاشتياق والرغبة في الإتحاد بالله. وهذا أظهروه بممارسة الوصايا التي تفوق الوصايا القديمة. أولئك اليهود مثل أجراء وجاحدين، لم يتوقفوا قطعًا عن التذمر، بينما ما نصنعه نحن هو من أجل أن نكون مرضيين لدى الآب.

          أولئك أيضًا على الرغم من أنهم نالوا إحسانات، إلاّ إنهم جدّفوا، بينما نحن فعلى الرغم من أننا نتعرض لمخاطر، فإننا نفرح. وإن كان ينبغي أن نُعَاقَب، فذلك لأننا نُخطئ، وهنا فالفارق كبير في العقاب. لأننا لسنا مثل هؤلاء الذين عندما يخطئون يُرجمون ويُحرقون ويُستأصلون من قِبَل الكهنة، أما نحن يكفي أن نبتعد عن المائدة الأبوية، ونقضى بعض الأيام بعيدًا عنها. والبنوة بالنسبة لليهود كانت مجرد كرامة إسمية فقط، أما بالنسبة لنا فهى واقع يتمثل في التطهير بالمعمودية، ونوال الروح، ومنحنا النعم الأخرى. وعطايا أخرى أكثر بكثير من هذه، من الممكن أن نتكلم عنها، والتي تُظهر ما لنا من كرامة حقيقية، وما لأولئك من كرامة شكلية. وبعدما أشار الروح إلى كل ذلك، وإلى الخوف، والتبنى، نجده يحمل دليلاً آخر يثبت أن لنا روح التبنى. فما هو هذا الدليل؟ هو أننا “نصرخ يا أبا الآب“. وكم هو هام هذا الأمر، ويعرفه الداخلون للإيمان، والذين يُرشَدون في صلواتهم السرية، إذ يقولوا هذا النداء أولاً.

          ماذا إذًا؟ ألم يدعُ هؤلاء اليهود الله آبًا؟ ألم تسمع موسى الذي يقول ” الذي ولدك تركته ونسيت الله الذي أبدأك ؟”[11]. ألم تسمع ملاخى الذي يصرخ ويقول: ” أليس أب واحد لكلنا. أليس إله واحد خلقنا[12]، فإن كان هذا الكلام وأكثر منه قد قيل، فإننا لا نجد في أى موضع أن هؤلاء يدعون الله بهذه الكلمة (يا أبّا الآب). ولا أن يُصلّوا هكذا. أما نحن جميعًا، كهنة، وشعب، وأراخنة ومواطنون، فقد تعلّمنا أن نُصلى هكذا (يا أبّا الآب). وهذا الصوت نخرجه أولاً بعد آلام المخاض العجيبة، وناموس الولادة الجديدة المدهش والعجيب. وهكذا إن كانوا قد دعوا الله أحيانًا بهذه التسمية مرة، إلاّ أنهم لا يعبرون بذلك عن تبنّيهم ذهنيًا لمثـل هذا الفكر الذي لنـا،  بينما الذين يحيون في النعمة فإنهم يدعونه آبًا. انطلاقًا من العمل الروحى الداخلي. وتمامًا كما يوجد روح حكمة والذي به صار غير الحكماء، حكماءً، وهذا ما يتضح من خلال التعليم، وكما يوجد روح قوة، والذي به أقام الضعفاء أمواتًا، وطردوا شياطين، وكما يوجد روح موهبة للشفاء، وروح نبوة، وروح تكلم بألسنة، هكذا يوجد روح تبني. وتمامًا مثلما نعرف روح النبؤة، من حيث إن ذاك الذي يحمله يتكلم مسبقًا عن المستقبل، متحدثًا ليس بفكره الخاص، بل يتحرك بالنعمة، هكذا تعرف روح التبنى، من حيث أن ذاك الذي أخذه، يدعو الله آبًا، مدفوعًا من الروح. إذًا هذا ما أراد أن يُظهره بشكل تام على أنه أمر حقيقي، فاستخدم لغة العبرانيين. لأنه لم يقل فقط، أب، لكن “أبا الآب”، الأمر الذي هو بشكل خاص، كلام الأبناء الحقيقيين الذي يتحدثون به مع آبائهم.

[1]  1كو23:7.

[2]  2كو14:5ـ15.

[3]  1كو19:6.

[4]  رو14:13.

[5]  مز6:82.

[6]  إش2:1.

[7]  خر22:4.

[8]  رو4:9.

[9]  1كو3:10ـ4.

[10]  انظر عب1:1.

[11]  تث18:32.

[12]  ملا10:2.

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)