أبحاث

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

بقية العظة الخامسة عشر:

6 ـ ” فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن ” (رو22:8).

          أرأيت كيف أنه يُبكت المستمع، قائلاً ما معناه أنه لا يجب أن يكون أسوأ من الخليقة وألا ينحصر في الأمور الحاضرة؟ لأنه ليس فقط، لا يجب أن نركّز أنظارنا على هذه الأمور، بل ويجب أن تئن لتأخر ارتحالك من الأرض. لأنه إن كانت الخليقة تصنع هذا (أى تئن)، فبالأولى أن تفعل أنت هذا، أنت يا مَن كُرّمت بالعقل. لكن هذا ليس بعد هو الأمر الأكبر، بل أنه أراد أن يجعلهم يخجلون. ولهذا تحديدًا أضاف:

 

” وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا ” (رو23:8).

          بمعنى أننا بالفعل قد تذوقنا خيرات الدهر الآتي. ولو أن شخصًا لازال بعد بدون احساس مثل الحجر، فإن ما أُعطى هو كاف بالفعل حتى يُحرك اهتمامه، ويبعده عن الأمور الحاضرة، ويحركه نحو أمور الدهر الآتي، بطريقة تحمل وجهين، من حيث إن ما أُعطى يعتبر أمور عظيمة، ومن حيث إن تلك الأمور التي تُشكّل البداية، هى أمور كثيرة جدًا ومبهرة أيضًا. لأنه إن كانت البداية عظيمة بهذا القدر، حتى أننا بهذه البداية نستطيع أن نتحرَّر من الخطايا، وننال البر والقداسة، وأولئك الذين عاشوا من قبل، أخرجوا شياطين، وأقاموا موتى، وشفوا أمراضًا بظلالهم وملابسهم، ففكر كم يكون الوضع عند اكتماله. فإن كانت الخليقة التي ليس لها عقل ولا فكر، ودون أن تعرف أى شئ من هذه الأمور، تئن، فبالأكثر جدًا يجب أن نئن نحن.

          ثم بعد ذلك لكي لا يُعطى دافعًا للهراطقة، ليتهمونه كأنه يُدين الأمور الحاضرة، فإنه عندما يقول نئن، يوضح أننا لا نُدين الأمور الحاضرة، بل لأننا نشتهي الأفضل. هذا ما أعلنه قائلاً: ” متوقعين التبني فداء أجسادنا “. ماذا تقول؟ أخبرني. إنك دائمًا ما تكرر وتنادى قائلاً إننا صرنا بالفعل أبناء، والآن تُشدد على الرجاء من جهة هذا الصلاح، مؤكدًا على أنه ينبغي أن ننتظره؟ هذا ما يُصححه بما أضافه فيما بعد، إذ يقول: ” فداء أجسادنا “، أى المجد الكامل. أى أن كل ما لنا الآن ليس نهائيًا حتى آخر نفس في حياتنا، لأنه برغم أننا أبناء، فإن كثيرين منا، صاروا بسبب رجوعهم للخطية سُفهاء وأسرى. ولكن إذا متنا ولنا هذا الرجاء الصالح، فالعطية حينئذٍ ستكون مؤكدة، وواضحة وعظيمة، دون خوف بعد من تحولات أو تغييرات بسبب الموت والخطية. حينئذٍ ستكون النعمة أمرًا مؤكدًا، عندما يتخلص جسدنا من الموت والشهوات التي لا تُحصى. وهذا هو معنى الخلاص، ليس فقط التحرر، لكن عدم العودة مطلقًا إلى الأسر السابق.

          وحتى لا تشك وأنت تسمع باستمرار كلمة مجد، ولا تعرف شيئًا واضحًا، يكشف لك الرسول رويدًا رويدًا أمور الدهر الآتي: تغيير الجسد وتغيير الخليقة كلها معه، الأمر الذي أعلنه بأكثر وضوح في موضع آخر قائلاً: ” الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده[1]. وفي موضع آخر يقول: ” ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذٍ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة[2]. كذلك لكي يُظهر أنه بالإضافة إلى فساد الجسد، ستزول الحالة الخاصة بالكائنات الحيّة (أى مظاهر الحياة)، يكتب أيضًا في موضع آخر ” لأن هيئة هذا العالم تزول[3].

 

7 ـ لأنه يقول: ” لأننا بالرجاء خلصنا ” (رو24:8).

          ولأنه انشغل بالوعد بالحياة الأبدية، فمن الواضح أن هذا قد أحزن المستمع ضعيف الإيمان، طالما أن الخيرات هى في الرجاء، أولاً بعدما أظهر أن هذه الخيرات تعتبر واضحة جدًا من خلال الأمور الحاضرة والمنظورة، وبعدما قال الكثير عن العطايا التي أُعطيت بالفعل، وبعدما أوضح أننا نلنا باكورة هذه الخيرات، ولكي لا نطلب كل الأشياء هنا، ونخون أصلنا النبيل الذي يأتي من الإيمان، يقول:      ” لأننا بالرجاء خلصنا”. وما يقوله يعني الآتي: أنه لا ينبغي أن نطلب كل الأشياء هنا، بل أن نترجاها. لأن هذه هى العطية الوحيدة التي نقدمها لله، أى أن نؤمن بذاك الذي وعد بالأمور الأبدية، وبهذه الطريقة فقط خَلُصنا. إذًا لو أننا فقدنا الرجاء، فإننا نكون قد فقدنا مُجمل العطايا الخاصة بنا. لأنه سيسألك قائلاً: ألم تكن مسئولاً عن شرور كثيرة؟ ألم تكن يائسًا؟ ألم تكن في أزمة؟ ألم يكن الجميع غير قادرين على خلاصك؟ مَن خلّصك إذًا؟ ينبغي فقط أن تضع رجاءك في الله، وأن تؤمن بالذي وعد بخيرات الدهر الآتي وأعطاها. لا يمكنك أن تقدم شيئًا أكثر من ذلك، فإذا كان هذا الرجاء قد خلّصك، فيجب أن تتمسك به الآن. لأن هذا الرجاء الذي منحك هذا القدر الكبير من الخيرات، من الواضح جدًا أنه لن يخدعك حتى في الدهر الآتي.

          إذًا طالما أنه قد قبلك وأنت ميت، وضائع، ومأسور، وعدو، وجعلك محبوبًا، وابنًا، وحرًا، وبارًا، ووريثًا معه، ومنحك كل هذه الخيرات، والتي لم يتوقعها أحد مطلقًا، فكيف يمكن بعد كل هذه الخيرات الجزيلة والمحبة، أن يتركك في الدهر الآتي؟ إذًا لا تحدثني مرة أخرى عن موضوع الرجاء، والانتظار، وكذلك الإيمان. لأنك هكذا خلصت منذ البداية، وهذه التقدمة قد قدمتها فقط للعريس. إذًا لنمسك بهذا الرجاء ونحفظه. لأنه إن طلبت كل الأمور هنا، ستفقد إنجازك الذي به قد صرت في بهاء. ولهذا أضاف قائلاً:

 

” ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا. ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر ” (رو24:8ـ25).

          بمعنى أنه لو أنك ستحصل على كل شئ هنا، فما هو الإحتياج للرجاء؟ إذًا ما هو معنى الرجاء؟ أن يكون لديك ثقة في أمور الدهر الآتي. وما هو الشئ الفائق الذي يطلبه الله منك، وهو الذي أعطى من تلقاء نفسه كل هذه الخيرات؟ إن كان يطلب منك فقط أن تتمسك بالرجاء، فلكي يكون لك أنت أيضًا شيئًا تقدمه، لأجل خلاصك، ولكي يوضح ما يقصده أضاف: ” إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر “. لأنه كما أن الله يُتوج ذاك الذي يجاهد ويتعب ويعاني آلام كثيرة، هكذا أيضًا فإنه يتوج من يترجى. لأن كلمة الصبر هى كلمة لها دلالة التعب والعرق والجهد والتحمل. وهكذا الصبر قد منحه لمَن يترجى، لكي يُعزي النفس التي تعبت كثيرًا.

          8 ـ ثم بعد ذلك يوضح أنه لأجل هذا الأمر البسيط نتمتع بمعونة كبيرة، قائلاً:

” وكذلك الروح أيضًا يُعين ضعفاتنا ” (رو26:8).

          إذًا فأحد الأمرين يخصك أنت، أى الصبر، بينما الآخر يكون نتيجة عطية الروح القدس الذي يعدَّك للرجاء، وبهذا الرجاء أيضًا تهون المتاعب. بعد ذلك، ولكي تعرف أن هذه النعمة لا تسندك فقط في المتاعب والأخطاء، بل وتُعينك أيضًا في الأمور التي تبدو سهلة جدًا، وأنها تقدم العون في كل مكان، فقد أضاف قائلاً: ” لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي .. ” وقال هذا لكي يعرض العناية الكبيرة التي يقدمها الروح لنا، ولكي يُعلّمهم، ألاّ يعتقدوا بأن تلك الخيرات أيًا كانت والتي تبدو للذهن الإنساني مُفيدة، هى ليست مثل عطية الروح. لأنه كان من الطبيعي، بعدما جُلدوا أو عُذبوا، أن يُطرَدوا ويعانوا آلام كثيرة، أن ينشدوا الراحة، وأن يطلبوا من الله هذه العطية، ويظنون أنهم ينتفعون بها في تسهيل أمورهم، لذلك يقول لا تعتقدوا أن تلك الأمور أيًا كانت والتي تبدو لكم أنها نافعة، هى بالحقيقة كذلك. لأننا في هذا نحتاج إلى معونة الروح. إن الإنسان ضعيف جدًا، وهو في ذاته لا شئ. ولهذا قال: ” لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي “.

          ولكي لا يُخجِل الرسول بولس أى تلميذ يسمع تعاليمه بسبب عدم المعرفة، أظهر أن المعلّمين هم أيضًا يشاركونهم في ذلك. ولهذا لم يقل “لا تعلمون”، بل قال “لسنا نعلم”. وكل ما لم يقله نتيجة تواضعه، ذكره بطريقة أخرى. لأنه في كل تضرعاته، صلى أن يرى روما،  وهو لم يحقق هذا على الفور حين كان يصلي. ومن جهة الشوكة التي أُعطيت له في الجسد، صلى مرات كثيرة أن تفارقه، ولم يتحقق هذا أبدًا. وموسى في العهد القديم لم ينجح رغم صلاته أن يرى فلسطين، وإرميا ترجى من أجل اليهود، وابرآم تشفع من أجل أهل سدوم. ” ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها”. هذا كلام غير واضح، لأن كثيرًا من المعجزات التي حدثت قديمًا، قد توقفت الآن. ولهذا تحديدًا، أجد أن هناك ضرورة أن أشرح الحالة التي كانت في السابق، وهكذا سيصير الحديث أكثر وضوحًا فيما بعد. إذًا ما هى الحالة التي كانت في السابق؟ إن الله أعطى مواهب متنوعة لكل من نال المعمودية آنذاك، والتي سُميت أرواحًا، لأنه يقول: “وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء[4]. ومن هؤلاء واحد كانت لديه موهبة النبؤة، وتحدث عن أمور مستقبلية، وآخر كانت له موهبة حكمة وعلم غزير، وآخر لديه موهبة قوات، وإقامة أموات، وآخر موهبة تكلم بألسنة وتكلم بلغات متنوعة. بالإضافة إلى كل هذه المواهب، كانت هناك “موهبة صلاة”، وهذه الموهبة دُعيت أيضًا روح، ومَن له هذا الروح، كان يُصلي لأجل كل الشعب.

          ولأننا نجهل الكثير من تلك الأمور التي تنفعنا، فإننا نطلب تلك التي لا تنفعنا، وقد أتت موهبة الصلاة إلى واحد من الذين أشرنا إليهم، وهذا قد صلى من أجل خير الكنيسة العام، ولأجل خلاص الجميع، وعلّم الآخرين. إذًا موهبة الصلاة هى التي يدعوها هنا الروح، والنفس هى التي تقبل الموهبة وتتشفع لدى الله وتتنهد. لأن ذاك الذي استحق هذه النعمة، بكل وقار، طرح نفسه أمام الله، بذهن يقظ تمامًا، وطلب تلك الأمور التي تنفع الجميع. ومثال هذا هو الخادم الذي يطلب طلبات من أجل الشعب[5]. هذا ما أراد الرسول بولس أن يعلن عنه بقوله: ” الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها “.

 

” ولكن الذي يفحص القلوب ” (رو27:8).

          أرأيت أن الحديث ليس لأجل المعزي، ولكن لأجل القلب الروحي؟ لأنه إن لم يكن هذا هو المقصود، لكان ينبغي أن يقول، الذي يفحص الروح. لكن لكي تعلم أن الكلام هو لأجل الإنسان الروحي، ذلك الإنسان الذي لديه موهبة الصلاة، أضاف: ” يعلم ما هو اهتمام الروح “، أى ما هو اهتمام الإنسان الروحي، ” لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين “. هذا الأمر قد صار لكي نعرف أن نصلي كما ينبغي ونطلب من الله تلك الأمور التي هى صالحة بحسب مشيئته. وهذا هو معنى ” بحسب مشيئة الله “. وبناء عليه هذا قد حدث بسبب تضرع أولئك الذين دخلوا إلى الإيمان، ومثال للتعليم الحسن. لأنه حقًا المعزي هو بالحقيقة الذي منح المواهب وأعطى الخيرات التي لا تُحصى، لأنه يقول: “ ولكن هذه كلها يعملها الروح[6]. لأجل تعليمنا صار هذا، ولكي تظهر محبة الروح، وإلى هذا الحد وصل عمل الروح الرحوم. ولهذا استجاب للذي صلى، لأن الصلاة صارت بحسب مشيئة الله.

          9 ـ أرأيت كم هى الأمور التي بواسطتها يُعلن الروح محبته لهم، والكرامة التي صارت لهم؟ لأنه ما هو الشئ الذي لم يفعله الله لأجلنا؟ جعل العالم فاسدًا لأجلنا، كما جعله غير فاسدًا لأجلنا أيضًا. سمح بأن يُهان الأنبياء من أجلنا، أرسلهم للسبي من أجلنا، سمح أن يسقطوا في كمين النار، وأن يصبروا على إهانات لا تعد. ولنا نحن أنفسنا أرسل أنبياء ورسلاً، وسلم ابنه وحيد الجنس للموت من أجلنا، وعاقب الشيطان لأجلنا، وأعطانا أن نجلس عن يمينه، وأهين من أجلنا، لأنه يقول: ” تعييرات مُعيريك وقعت علىّ[7]، بل أنه بعد كل هذا، وبينما نحن نبتعد عنه، فإنه لا يتركنا، بل يترجانا أيضًا، ويُعّد آخرين لكي يُصلّوا لأجلنا، الأمر الذي حدث في حالة موسى. لأنه يقول لموسى: ” اتركني لأفنيهم[8]، قال هذا لكي يدفعه للتضرع من أجلهم. والآن هو يفعل نفس الشئ. ولهذا أعطى موهبة الصلاة. وقد فعل هذا، لا لأنه يحتاج إلى توَّسل، لكن لكي لا نصير نحن أكثر وضاعة أو دناءة، بل نكون مُخلصين. ومن أجل هذا يقول الكتاب، إنه تصالح معهم من أجل طلب داود، ومن أجل طلب فلان أو فلان، مبينًا بالضبط نفس الشئ، حتى يُضاف على الأقل مبرر لإتمام التصالح. ولكن الله كان سيظهر محبته للبشر بدرجة أعلى، لو أنه قال لهم، إنه ترك غضبه، لا من أجل فلان وفلان، بل فعل هذا من نفسه.

          إلاّ أنه لم يقدم الأمر هكذا، حتى لا يصير موضوع التصالح دافعًا للخمول من جهة الذين خَلِصوا. ولهذا قال لإرميا: ” وأنت لا تُصلِ لأجل هذا الشعب .. لأني لا أسمعك[9]. لا لأنه أراد أن يمنع إرميا أن يطلب من أجلهم، طالما أنه يشتهي خلاصنا بشدة، ولكن لكي يخيفهم. ولأن النبي كان يعرف هذا جيدًا، لم يتوقف عن الصلاة من أجلهم. ولكي نعلم أنه قال هذا الكلام، لا لأنه أراد أن يمنعه، لكن لكي يُحثه على الصلاة لأجلهم، اسمع ماذا يقول:” أما ترى ماذا يعملون[10]. وأيضًا من جهة المدينة يقول: ” وإن اغتسلت بنطرون وأكثرت لنفسك الأشنان فقد نُقش اثمك أمامي[11]، ولم يقل هذا لكي يقودهم إلى اليأس، بل ليدفعهم للتوبة. وكما أخبر أهل نينوى بقرار غير محدد، ولم يعد بخيرات مرتجاة، بل بالأكثر قد أخافهم وقادهم للتوبة، هكذا هنا أيضًا فعل نفس الأمر، إذ قد حثهم على التوبة، وصار للنبي تقديرٌ خاص من الله، حتى على الأقل بهذه الطريقة يسمعوا له.

          ثم بعد ذلك لأنهم استمروا في مرض لا شفاء منه، ولم يتعقلوا أيضًا عندما أُدين الآخرين، فإن أول شئ فعله، هو أنه نَصَحَهم أن يبقوا في نفس المكان، ولكنهم ذهبوا إلى مصر، لأنهم لم يحتملوا هذا، وقد غفر الله لهم ذلك، ولكنه طلب منهم ألاّ ينجرفوا في الطغيان أو الجحود، تلك الأمور التي كانت سائدة في مصر. لكن نظرًا لأنهم لم يصغوا لطلب الله، فقد أرسل معهم النبي، حتى لا ينحرفوا بالكامل فيما بعد. ولأن هؤلاء لم يتبعوا ذاك الذي دعاهم، فإنه هو ذاته قد تبعهم، لكي يُصلحهم، ويمنعهم من الإنقياد إلى شرور أكبر، وذلك كأب حنون تجاه ابنه الذي أصابه الضيق في كل شئ، يذهب معه في كل مكان ويتتبعه. ولهذا لم يرسل فقط إرميا إلى مصر، بل أرسل حزقيال إلى بابل، ولم يُعارضا في هذا. لأنهما رأيا أن سيدهما يحبهما حبًا لا حدود له، لذا صنعا نفس الأمر، مثلما يحدث لو أن عبدًا أمينًا ترفق بابن جاحد، فإن فعله هذا راجع إلى أنه يرى أبوه يتألم ويتمزق من أجله. إذًا ما الذي لم يتألم به الأنبياء من أجل اليهود؟ نشروا، طُردوا، أُهينوا، رُجموا، وعانوا آلام لا حصر لها، وبعد كل هذا، أسرعوا أيضًا نحوهم.

          وصموئيل أيضًا لم يتوقف حزنه على شاول، وإن كان قد أُهين إهانة قاسية منه، وعانى شرورًا لا تُحصى، لكنه لم يتذكر شيئًا من هذا. وكتب إرميا أيضًا مراثيًا تجاه الشعب اليهودي. وبينما منحه قائد جيوش الفرس أن يقيم في أمان وحرية حيثما يريد، إلاّ أنه فضّل البقاء في الوطن وسط معاناة الشعب. هكذا موسى أيضًا ترك الحياة في قصر الملك، وأسرع لمشاركة اليهود في معاناتهم. وأيضًا دانيال الذي بقى صائمًا لمدة عشرون يومًا متصلة، مُجبرًا نفسه على صوم شديد، لكي يتحنن الله عليهم ويصالحهم. والثلاثة فتية أيضًا، بينما كانوا وسط أتون النار المشتعل، صلّوا من أجل الشعب. لأنهم لم يتألموا من أجل ذواتهم التي أُنقذت، بل لأنه كانت لديهم جرأة، ولهذا صلّوا من أجل هؤلاء. ومن أجل هذا قالوا: ” ولنيل رحمتك ولكن لإنسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا أقبلنا[12]. ويشوع بن نون مزَّق ثيابه من أجل هؤلاء، وحزقيال حزن وناح عندما رآهم وهم يهلكون. وقال إرميا: ” إقتصروا عني فأبكي بمرارة[13]. ولكن قبل هذا، لأنه لم يتجرأ أن يطلب صفحًا كاملاً عن كل المآسي، طلب مهلة قائلاً:   ” إلى متى أيها السيد[14]. هكذا كل القديسين هم مُحبون. ولهذا قال بولس: ” فالبسوا كمختارين الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفًا وتواضعًا[15].

          أرأيت دقة الكلام، وكيف أنه يريد لنا أن نكون على الدوام شفوقين؟ لأنه لم يقل فقط اتسموا بالرأفة، لكنه قال ” البسوا”، حتى أنه مثلما أن الملابس لا تفارقنا البتة، هكذا ينبغي أن تكون الرأفة. ولم يقل رحمة، لكنه قال “أحشاء رأفات”، لكي نُحاكي الرأفة الطبيعية. لكننا للأسف، نحن نصنع العكس.

          وإن اقترب منا أحد طالبًا فِلسًا، فإننا نهينه، ونوجه له كلامًا قاسيًا، وندعوه مُحتالاً. ألا تفزع أيها الإنسان وتخجل، إذ تدعوه محتالاً، لأنه طلب الخبز؟ لكن لو أن هذا الإنسان صار مُحتالاً، فإنه لهذا السبب تحديدًا، يصير مستحقًا للرحمة، لأنه يعاني من الجوع إلى الحد الذي جعله يظهر في شكل المحتال. لكن هذا يُمثل إدانة لقسوتنا. لأننا لا نحتمل أن نعطي بسهولة، ونضطر أن نبتكر حيلاً عديدة. فلنعرف إذًا قساوتنا، ولنحول القساوة إلى ليونة. فضلاً عن ذلك، لو أنه طلب مالاً وذهبًا، فإن شكوكك ستكون مُبررة، أما أنه قد إقترب منك يسألك الطعام الضروري، فلماذا تُفلسف الأمر باطلاً، وتفحص بتفصيل أمورًا غير نافعة، متهمًا إياه بالكسل واللامبالاة؟

          إذًا إن كان يجب أن نقول هذه الأمور، فينبغي أن نقولها لأنفسنا وليس لآخرين. لذا عندما تقترب من الله طالبًا مغفرة الخطايا، عليك أن تتذكر هذا الكلام، وستدرك أنه أكثر عدلاً أن تسمع أنت هذه الأمور من الله، من أن يسمعها الفقير منك. لكن الله لم يقل لك هذا الكلام مطلقًا، أى لم يقل لك ارحل أو اذهب بعيدًا. لأنك أنت أيضًا محتال، إذ أنك تدخل إلى الكنيسة باستمرار وتسمع وصاياي، لكن من جهة شراء الذهب، ومن جهة الصحبة وإشباع الشهوة، وكذلك كل الأمور بشكل عام، فإنك تفضّلها عن وصاياي. والآن كان عليك أن تصير متضعًا بعد صلاة الإيمان، إلاّ أنك صرت وقحًا، وقاسيًا ومتوحشًا.

          هكذا فنحن نستحق أن نسمع هذا الكلام بل وأكثر منه، بيد أن الله لم يديننا مطلقًا عن هذا السلوك، فهو طويل الأناة، ويوفي بكل ما له، ويُعطي أكثر جدًا مما نطلب.

[1]  في21:3.

[2]  1كو54:15.

[3]  1كو31:7.

[4]  1كو32:14.

[5]  يشير هنا إلى خدمة الشماس الدياكون في القداس الإلهي.

[6]  1كو11:12.

[7]  مز9:69.

[8]  خر10:32.

[9]  إر16:7.

[10]  إر17:7.

[11]  إر22:2.

[12]  دا39:3. (تتمة دانيال).

[13]  الكلام هنا هو لإشعياء (4:2).

[14]  إش11:6.

[15]  كو12:3.

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)