أبحاث

رسالة رومية الأصحاح12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

4 ـ ” فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل. كما قسم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان ” (رو3:12).

          فبعدما قال قبلاً ” أطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله “، يقول هنا مرة أخرى “بالنعمة” لاحظ إتضاع المعلم، لاحظ الإرادة الخجولة. لا يقول قط أنه هو ذاته، مستحق أن يوجه مثل هذه النصيحة وهذه المشورة، بل مرة يأخذ معه رأفة الله، ومرة نعمة الله. هكذا يوضح أنه لا يتحدث بكلامه الشخصي، بل بكلام الله. ولم يقل، إنني أكلمكم باسم حكمة الله، وباسم ناموس الله، لكنه قال: ” بالنعمة المعطاة لي ” لكي يُذكّر على الدوام بإحسانات الله، لكي يجعلهم بالأكثر ممتنين لله، وأن يُظهر بهذه الطريقة أنهم مسئولون عن الطاعة لكل ما يُقال.

          ” لكل من هو بينكم “. وليس لفلان وفلان فقط، بل للأرض، وللغنى، وللعبد والحر، وللبسيط والحكيم، وللمرأة والرجل، وللشاب والشيخ. لأن هذا الناموس هو واحد للجميع، لأنه ناموس الرب. وهكذا لا يجعل كلامه مُزعجًا، طالما أنه يُقدم التعاليم للجميع، ولأولئك الذين ليسوا هم مسئولين، لكي يتقبل المسئولون بأكثر سهولة هنا التوبيخ وهذا الاصلاح. أخبرني ماذا تقول؟ ” أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي “. أنه يعرض هنا لتاج الصالحات، الإتضاع، متمثلاً بمعلمه. لأنه مثلما أن سيده صعد إلى الجبل وألقى الموعظة هناك، وكانت هذه هى البداية، وقد وضع هذه الأساسات، قائلاً: ” طوبى للودعاء “[1]، هكذا بولس أيضًا، بعدما تدّرج من العقائد (الإيمانية)، إلى الموضوعات الأخلاقية، علم بشكل عام عن الفضيلة، بأن يطلب منا الذبيحة المرضية، لكنه يُريد أن يصفها بشكل منفصل، يبدأ من الإتضاع، كما كان قد بدأ من الأهم، ويقول: ” أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي “، لأن هذه هى إرادة الله، ” بل يرتئي إلى التعقل “.

          ما يقوله يعني الآتي: لقد وُهبنا عقلاً، لا لكي نستخدمه بتباهي، بل بتعقل. ولم يقل بوداعة، بل قال “بتعقل”، قاصدًا بالتعقل هنا، ليس الفضيلة التي هى عكس الفجور، ولا التحرر من الفسق، بل الصفاء الروحي، والصحة الذهنية. كذلك فإن هذا يُقال عنه تعقلاً، من حيث إنه صحيح ومنطقي لكي يُظهر إذًا أن ذاك الذي ليس لديه تواضعًا، لا يمكنه أن يقتني التعقل، أى لا يمكن أن يكون متوازنًا بشكل جيد، وأن يحكم على الأمور بشكل صحيح، بل يكون ذلك الإنسان بلا منطق وقد أصيب بالجنون، وهو أكثر من أى محتل العقل يعتبر التواضع تعقلاً. وكما قسّم الله لكل واحد مقدار من الإيمان “.

          فنظرًا لأن منح المواهب دفع الكثيرين للإفتخار، فعليك أن تلحظ الطريقة التي أوضح بها للكورنثيين سبب المرض وكيف حاصره تدريجيًا. لأنه بعدما قال إنه ينبغي أن يكون التفكير بتعقل، أضاف: ” كما قسّم الله لكل واحد مقدار من الإيمان “. داعيًا الموهبة هنا، إيمانًا. ولكن بقوله كما قسّم، يكون قد عزّى مَن نال القليل، وضبط الذي تمتع بالكثير.

          إذًا إن كان الله هو الذي قسّم، وأن ما تحقق هو ليس منك، فلماذا تفتخر؟ لكن لو أن أحدًا قال، إن الإيمان هنا لا يدعى موهبة، فهذا أيضًا يُظهر بدرجة كبيرة كيف أنه يجعل المفتخرين مُتضعين. إذًا فإن كان سبب الموهبة، أى الإيمان الذي به تحدث المعجزات، يأتي من الله، من أين يفتخر؟ بالتأكيد إن لم يكن رب المجد قد أتى ولم يصر إنسانًا، فإن أمور الإيمان ما كان لها أن تتقدم. وبناءً على ذلك فإن بداية كل ما يتعلق بالأمور الصالحة تأتي من هنا. ولكن إن كان رب المجد يهب، فهو يعرف كيف يُقسّم. لأنه هو خالق الجميع، ويعتني بالجميع بنفس القدر. وكما أن سبب عطائه هى محبته للبشر، هكذا أيضًا مقدار العطية هى بسبب محبته للبشر. لأنه لم يكن ممكنًا أن يظلمك في القدر الذي يعطيك إياه، طالما أنه قد أظهر صلاحه في الأمم، بل والأكثر أهمية، هو منحه للمواهب. لأنه، إن كان يريد أن يُقلل من شأنك ما كان له أن يعطيك البداية، أما إن كان قد حرص على أن يُخلّصك ويكرّمك، خاصةً أنه لهذا قد أتى، وقسّم كل هذا القدر من الخيرات، فلماذا تقلق، وتضطرب، وتستخدم العقل في الحماقة، فتهين نفسك أكثر من الأحمق بطبعه؟ لأنه أن يكون أحد بطبيعته أحمق، فهذا ليس إتهامًا، ولكن أن يصير بالعقل، أحمق، فيكون قد حرم نفسه من التسامح، ونال أكبر عقاب.

          5 ـ مثل هؤلاء الذين يفتخرون بالحكمة (العالمية) ويسقطون في أسوأ افتخار. لأنه هكذا يصف النبي الشخص البربري بقوله: ” لأن اللئيم يتكلم باللوم “[2]. ولكي تعرف أن حماقته من كلامه، اسمع ماذا يقول: ” أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله .. أصير مثل العليّ “[3]. إذًا هل هناك حماقة أكثر من هذا الكلام؟ وكل كلام افتخار يجلب على الفور هذه الإدانة. وإن أوردت كل كلام يقوله المفتخرون، فلن يُمكنك أن تُميز أيًا من الكلام يتعلق بمفتخر أو بأحمق. هكذا فإن النقص أو العيب هو واحد هنا. وقد يقول بربري آخر: ” قلت أنا إله “[4]، يقول آخر: ” من هو الإله الذي ينقذكم من يدي “[5]. ومن ناحية أخرى يقول المصري: ” من هو الرب حتى اسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه “[6]. والجاهل الذي أشار إليه النبي هو مثل ذلك، عندما قال في قلبه “ليس إله”[7]، وقايين أيضًا هو هكذا، إذ يقول “أحارس أنا لأخي”[8].

          ترى، هل يُمكنك أن تُميز أيًا من الأمرين، هل تميز ما إذا كان الكلام هو للمفتخرين أم للجهال؟ لأن الشخص القاسي يفقد المعيار المتعارف عليه الذي يأتي من الذهن (ولهذا يُقال عنه تقسى)، كذلك فإن رأس الحكمة مخافة الله. وبناء على ذلك فإن رأس الحماقة هو الجهل بالرب. فإذا كانت المعرفة حكمة، فإن الجهل يكون حماقة، وهنا الجهل يأتي من الافتخار. لأن رأس الافتخار هو الجهل بالرب. إذًا فالافتخار هو أسوأ حماقة. مثلما كان نابال[9]، وإن لم يكن هكذا أمام الرب، فكان هكذا أمام إنسان، بعدما صار أحمق بسبب افتخاره، لكنه مات في النهاية كما ينبغي له أن يموت. لأنه حين يفقد المرء معيار التعقل، يصبح على التو جبانًا ووقحًا، بعدما تمرض نفسه. فكما أن الجسد حين يفقد صلابته ويصير ضعيفًا، تسود عليه كل الأمراض، هكذا النفس أيضًا، عندما تفقد تعقلها وتواضعها، تيًا، وارفًا مثل أرز لبنان عبرت فإذا هو ليس بموجود. هكذا اكتسحوا فجأة من نظر م الروحيةوتُصاب بمرض معتاد، تصير جبانة، ووقحة، وحمقى، وتجهل بالأكثر ذاتها.

          أما الذي يجهل ذاته، كيف سيعرف الأمور التي هى أسمى منه؟ لأنه مثلما أن الذي يُُصاب بمرض عقلي، عندما يجهل ذاته، لا يعرف ولا حتى الأمور التي هى أمام قدميه، والعين أيضًا عندما تُصاب بالعمى، يحدث لها نفس الأمر، فتُلقى بكل أعضاء الجسد الأخرى في ظلام، هكذا يحدث مع الافتخار. ولهذا فإن أولئك الذين هم بالطبيعة يكونوا أكثر بؤسًا وتعاسة من المجانين والحمقى. كذلك فإن أمثال هؤلاء يُثيرون السخرية، ويسببون إزعاجًا. وهم بكل تأكيد مجانين، تمامًا مثل هؤلاء، ولا يُترفق بهم مثل المجانين، هم مخبولين، تمامًا مثل هؤلاء، لكنهم لا يُسامحوا مثل هؤلاء المجانين، بل يُبغضوا فقط، وبينما يحملون نقائص الاثنين (أى المفتخرون والمخبولون)، لكنهم لا يلقون أى تعاطف، ويكونوا موضع سخرية، ليس فقط حين يتكلمون، بل وبحضورهم أيضًا.

          إذًا أخبرني لماذا ترفع قامتك بافتخار؟ لماذا تنفخ صدرك؟ إنك لا تستطيع أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء، وتتخيل أنك تسود على كل شئ. ربما أردت تزرع لك أجنحة، لكي لا تمشي على الأرض، ربما تشتهي أن تكون مسخًا. فبينما أنت إنسان، تحاول أن تطير؟ أو من الأفضل بعدما تطير في داخلك، تشتعل من كل جانب؟ ماذا أدعوك لكي أنزع عنك الافتخار؟ هل أدعوك ترابًا ورمادًا ودخانًا وغبارًا؟ من ناحية فإني أرجع افتخارك إلى تفاهتك، لكنني من ناحية أخرى لا أعرف أن أرسم لك الصورة التي أردتها. إنني أريد أن أعرض لحججهم، وكل مجدهم الباطل. إذًا ما هى الصورة التي يمكن أن نرسمها لتتطابق مع هؤلاء؟ يبدو لي أنهم يُشبهون الرماد، خاصةً وأن المفتخر بينما يكون منتفخًا باشتعاله، ويقف منتصبًا، لكن بمجرد أن يستقبل لمسة بسيطة من الأيدي يسقط كله إلى أسفل ويصير أكثر تفاهة من أى رماد.

          هكذا تكون نفوس هؤلاء (المفتخرين). لأن أى ضربة بسيطة يمكنها أن تُهين انتفاخهم الباطل وتُفتته. لأن المفتخر هو بالضرورة مريض. لأن الارتفاع ليس من سمات الصحة الجيدة، فكما تنفجر فُقعات الصابون بسهولة، هكذا هؤلاء (المنتفخون) ينهارون بسهولة. لكن إن لم تُصدق، قدّم لي شخصًا مفتخرًا ووقحًا، وستراه يصير أكثر جُبنًا من الأرنب، أمام أبسط شئ. لأنه كما أن الشعلة التي تنتج عن احتراق قطع صغيرة من الخشب، تشتعل سريعًا ثم تتحول إلى رماد، بينما الخشب الصلب لا يشتعل بسهولة، بل ويبقى مشتعلاً لفترة طويلة، هكذا النفوس القوية، فهى بكل تأكيد قوية، لا تشتعل ولا تُطفئ بسهولة، أما هؤلاء المفتخرون فهم يُعانون الأمرين في أقل من الثانية.

          إذًا ونحن نطّلع على هذه الأمور، لنعيش الإتضاع. لأنه لا يوجد شيئًا أكثر قوة من الإتضاع، بل هو أكثر قوة من الصخرة، وأكثر صلابة من الماس، ويجعلنا في أمان أكثر من الأبراج، ومن المدن، ومن الأسوار، طالما أنه (أى الاتضاع) يصبح أكثر علوًا من كل آلات الشيطان الحربية. إذًا فكما أن الافتخار يجعلنا عرضة للهزيمة بكل سهولة، حتى أمام الأمور العارضة طالما أنه ينكسر كما قلت بسهولة أكثر من فقاعات الصابون، ويتمزق بأكثر سرعة من العنكبوت، ويضمحل بأكثر سرعة من الدخان.

          فلكي نكون إذًا مُستندين على صخرة ثابتة، علينا أن نهجر الافتخار، ولنفضل الاتضاع. لأنه هكذا سنجد الراحة في الحياة الحاضرة، وسنتمتع في حياة الدهر الآتي بكل الخيرات بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.

 

[1] مت3:5.

[2] إش6:32.

[3] إش13:14.

[4] خر2:28.

[5] دا15:3.

[6] خر2:5.

[7] مز1:14.

[8] تك9:4.

[9] 1صم2:25ـ28.

رسالة رومية الأصحاح12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)