آبائياتأبحاث

الرسالة الفصحية الأولى ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الأولى ج2 - القديس كيرلس الكبير - د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الأولى ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الأولى ج2 - القديس كيرلس الكبير - د. ميشيل بديع عبد الملك
الرسالة الفصحية الأولى ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

 

الرسالة الفصحية الأولى لأبينا القديس كيرلس رئيس أساقفة الأسكندرية

الفقرة الثالثة:

          ليأتِ إذن تلميذ المسيح فى وسطنا ويعلّمنا طريق الصوم، حيث نسمعه يقول: ” الصوم النقى والطاهر أمام الله هو هذا: زيارة الأرامل وافتقادهم فى ضيقهم، وحفظ نفسه بلا دنس من العالم” (يع27:1). إنه من السهل اكتشاف كيف وبأى طريقة ندرك الذى قيل بالتمام. من جهتى، أعتقد أن الفهم الجيد يجد أن ناموس الطبيعة وافٍ، وهو يعلّمنا أن نبغض كل ما يظهر متعارضًا مع الوصايا الإلهية وأن نخضع لإرادة معطى الناموس حتى يسود فينا. فلو شعر أحد ما بالاحتياج إلى تعاليم أوضح، فلندعه يستمع إلى الرسول بولس حينما يقول: ” أميتوا أعضاءكم التى على الأرض الزنا، النجاسة، الشهوة الردية، الطمع” (كو5:3). لأننا لن نجد بالتأكيد الفائدة الحقيقية للصوم بالتقشف المجرد عن الأكل ورفض الطعام وأى شئ آخر مثل ذلك، ولن نكون أنقياء بالتمام ومقدسين بالابتعاد عن هذه الأشياء وحدها، ولكن بطرد الشرور من عقولنا والتى لأجلها وُضِعَ دواء الصوم. لذلك فلنطِع القديس يعقوب عندما يقول: ” نقوا أياديكم أيها الخطاة، وطهروا قلوبكم يا ذوى الرأيين” (يع8:4). هذا هو الطريق الحقيقى للصوم، لأنه بهذه المفاهيم تظهر الأعمال الأفضل. فلا تغذى العقل باللذة الفاسقة، وذلك لكى تبطل عنك شوكة الزنا؛ ليكن عقلك حرًا من الشهوات؛ اهرب من شركة الأشرار. بهذه الأمور ستظهر ذاتك أمام الله، و(هذه الأمور) ستكسبك إكليل الصلاح.

          بلا شك إنه يكون حسنًا الامتناع عن الأكل المفرط والابتعاد عن المائدة المسرفة، لكى لا نثير الخطية بإنغماسنا فى أكل مفرط وزائد عن احتياجاتنا. لأنه إذا سَمُنَ الجسد بالتساهل فى هذه الأمور، فإنه يكون جامحًا ويصير عدوًا للرغبات الروحية. وعندما يصير (الجسد) ضعيفًا ولا يزداد قوة بواسطة الإفراط (فى الأكل)، فإنه يُعطى الانتصار (للروح). وهذا هو ما يعلّمنا إياه الطوباوى بولس، إذ يقول: “ إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2كو 16:4). فحيث إن كل من الآراء المتعارضة والصفات المتنافرة تعوق الصداقة، لكن القوة الأعظم تجعل من المحتمل أن يتغلب طرف على الآخر. وأعتقد أن الكل سيتفق على أن الانتصار ينحاز للناحية الأفضل. أما بالنسبة للفائدة  التى سوف نحصل عليها من هذا الانتصار فإنها ستكون عظيمة مثل الخسارة التى سنعانيها إذا هُزِمَ الأفضل.

 

الفقرة الرابعة:

          لذلك فلنجعل الشر يخمد فينا ويتعطل، وليرحل عنا كل تنعم فى المأكل، ولندع الصوم المقرون بالزهد يدخل فينا، الذى هو عدو كل خطية. إننى أعتقد أيها الأحباء، أنه يجب علىَّ أن أظهر لكم جمال الصوم من الأمثلة القديمة بالرغم من أنكم تعرفونها.

          أخبرونى، لماذا ظهر المعمدان الطوباوى أنه رجل عظيم ومشهور؟ ولماذا فاز بالحكم الممتاز، عندما قال عنه مخلصنا الصالح: ” لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان” (مت11:11؛ لو28:7)؟ كيف أعد الله موسى معلّم الأقداس ليدخل فى السحاب ويظهر أمام الله؟

          أليس هو الصوم الذى يُوّلد فينا صورة كل فضيلة، الصوم الذى هو عبارة عن مشابهة الحياة الملائكية، ومصدر الاعتدال، وأساس ضبط النفس، ومحطم الشهوة؟

          بواسطة الصوم فإن الثلاث فتية وجدوا أمام أعين البابليين مخيفين ولا يُقهرون، فبالرغم من أنه سُمح لهم ليشاركوا المائدة الملكية الفخمة، ودُعوا ليتسمنوا من ثمار الأرض (راجع دانيال12:1)، لكنهم تركوا البدانة وشهوة الجسد للبابليين، ومُنحوا الانتصار حيث كانت لهم هناك تمجيدات لا تُقهر، وأحبوا كمية ضئيلة من طعام بسيط.

          أتوسل إليكم، لاحظوا ثمر هذا، لقد كانوا يفكرون فى الرؤى الإلهية. وقد شاهدوهم فوجدوهم أقوى من النار، واحتقروا تهديدات الملك؛ لقد قهروا الأسود محوّلين إياها إلى طبيعة أليفة (راجع دانيال17:6ـ25). لماذا ظل أهل نينوى مصونين من التهديد العظيم؟ عندما أعلن النبى: ” أن نينوى ستنقلب” (يون4:3)، لأنهم تمسكوا بحصن الصوم المنيع وهدأّوا الغضب الإلهى ومنعوا الكارثة المتوقعة. يمكننا أن نذكر فوائد أخرى كثيرة للصوم، لكن فى رأىِّ أنه يكون من غير المفيد البحث فى إظهار عدد من الأمثلة لمعرفة فائدته، وهى واضحة ومعروفة للكل.

          وحيث إن مقارنة المتضادات تكشف لنا فى الواقع صورًا كثيرة لجمال (الصوم)، لذلك دعنا نظهر الأخطار التى تنجم عن الإسراف فى الطعام وندعو أولئك الذين تألموا كشهود لكلامى. عندما كان العبرانيون مخيمين فى البرية ودُعى موسى إلى جبل سيناء لاستلام الشريعة من الله، حدث أن الناس بحماقتهم استغيبوا معلّمهم، واستهانوا بتهذيبهم السابق وتحولوا إلى الشهوات الغريبة، حيث قيل: ” وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب” (خر6:32). كلمة “اللعب” هنا هى عبارة عن تورية فى الكتاب المقدس لكلمة “الزنا”، والتى أُشير إليها بمعنى خفى تحت تعبير اللهو (التسلية).

          واسمع ما يقوله بولس عن الشر الذى ينجم عن ذلك بالنسبة للزناة: ” ولا نزنى كما زنى أناس منهم فأهلكتهم الحيات” (1كو 8:10و9)، كذلك أى تعاسة عانوها عندما ازدروا بالطعام السماوى، أى المّن، وتذكروا الطعام فى مصر قائلين: ” ليتنا متنا بيد الرب فى أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزنا للشبع” (خر3:16). لذلك، على ما أعتقد، قد أشير إليكم بوضوح عن فائدة الصوم من خلال هذه الأمثلة. لكن ربما يقول أحد ما: “أنا أعلم أن الصوم لا يكون بدون فائدة، ولكن ممارسته لا تكون بدون ألم، إنه فى الواقع يتعارض مع طبيعتنا”. ألاّ يكون إذن شيئًا مخزيًا وفى قمة السخف أننا نتشوق للأفضل ونضع قيمة عالية لاقتناء ما هو لفائدتنا، وحينما نأتى لمعرفة كيفية تهيئة هذه الفائدة وابتداء استخدامها، تظهر بعض درجات التهاون والقول إن الصوم لا يكون بدون فائدة، لكى نتجنب الألم (المصاحب للصوم) والذى به سنحصل على الفائدة! فهو (الصوم) مثل النباتات التى تنمو من التربة ولها جذور بدون أن يكون لها فرصة للظهور فى الحياة، هكذا أيضًا فإن بداية الفرح (εὐθυμια) توجد من خلال الآلام، وبالآلام يثمر ويُظهر. لذلك علينا أن نختار واحدًا من اثنين. فعندما نقرر أن نكون معارضين لعمل أى مجهود، فلن نملك أى نصيب أو شرف فى كل الاسم الصالح، ونكون تمامًا مثل أناس مائتين، وليس لنا اهتمام بخلاصنا؛ أما إذا أحببنا ألم الصوم، فسوف نظفر بحق بتلك المكافآت التى ستضيع علينا بعدم الصوم. إنه من الواضح، إذا أردنا أن نكون حكماء فإننا سوف نختار الرأى الممتاز فى صالحنا ونفضل الطريق الأفضل عن ذلك الذى لا يفيد. ولكن إذا تحاشينا الأعمال العظيمة بسبب الآلام الضئيلة، فسيكون هناك ضرر بالنسبة للذين يتحاشون الآلام، بل تجعل أولئك الذين اختاروا أن يفعلوا الأعمال العظيمة آمنين من كل ضرر أو خطر. فلو تحاشينا الالام الصغيرة ووقعنا مجبرين فى إحدى الأخطار الأعظم، فهل لا يتبع ذلك أن نفضل اختيار الطريق الذى فيه آلام وأخطار أقل؟.

          إننى أود الاستماع لأولئك الذين يميلون للقول إن الصوم أو الدينونة الأبدية، هى أمور ذميمة، أعتقد أنهم ربما يسلّمون على مضض بأن الشرير سوف يُسلّم للعقاب، لذلك بما أن الضرورة تجلب لنا كل فهم، فلماذا لا نتخذ القرار الأصوب لأنفسنا بإدراك الطريق الأفضل؟ لأنه يجب أن نهرب من الشر ولو باحتمال الألم، أما إذا رفضنا أن نفعل هكذا فإننا سنكون مدانين لعدم إخماد النار.

          إن أولئك الذين يرقدون مرضى تكون نعمة الصحة أكثر وضوحًا بالنسبة لهم. وأولئك الذين أُخمدوا بالهزال وعوز ضروريات الحياة يكونون أكثر لهفة للحصول على المكسب المادى. والذين هم مضطرون للبحث عن متعة لا يملكونها، يرغبون أن تزداد عندهم الأشياء المبهجة بدلاً من عوزهم.

          أيضًا فإن الله، الفنان الأعظم، أعد الكون ورتب للشمس أن تظهر بعد الليل والليل بعد الشمس حتى أنه بواسطة تعاقبهما يكون وجودهما لازمًا ومرحبًا بهما (عند البشر).

          لذلك نجد أن الصوم لا يكون بدون فائدة لدرجة أنه يجب أن يتملككم سرور عذب عندما يُعلن عن بداية الصوم.

 

الفقرة الخامسة:

          لذلك علينا أن نحب الصوم باعتباره مصدر كل صلاح وبهجة. اليونانيون الذين هم حكماء فى أعين أنفسهم، يحتقرونه؛ لكن اليهود الذين يفوقون كل البشر فى استحداث البدع، لا ينكرون أنهم يعرفونه، ولكنهم يمارسونه بخزى حتى أنه يكون من الأفضل لهم ألاّ يمارسوه. وكما يقال عنهم إنهم مملؤون من كل خبث وفيهم كل أثقال الدنس، فإنهم يتباهون فقط بالصوم اسميًا، ويتباهون بصنع الفضيلة. لأنه ماذا يمكن أن يُقال عن ذلك الفريسى الجاهل والأحمق، والذى وصفه المسيح ربنا فى الأناجيل وهو يصلى فى الهيكل ويصيح:        ” اللهم أنا اشكرك إنى لست مثل باقى الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين فى ألأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه” (لو11:18ـ12). ماذا تقول أيها الفريسى الغبى بافتخارك بالصوم؟ ألاّ ترى الكبرياء الذى تعانيه بالحديث المتحذلق عن هذه الأشياء المبتذلة؟ ألاّ ترى الغرور فى افتخارك؟ هل لن تتوقف عن تصفية البعوضة وابتلاع الجمل (راجع مت24:23)، كما يقول مخلصنا؟ إنك تقول عن نفسك إنك تعلمت الناموس، ولكنك تجهل بالكامل كل ما كُتب: ” ليمدحك جارك لا فمك. الغريب لا شفتاك” (أم2:27). ” الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المرأوون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهى من داخل مملوءة عظام أموات ونجاسة” (مت27:23). بالنسبة لليهود فقد امتلأ تفكيرهم بكل نوع من النجاسة ولا يوجد شئ قبيح لم يُكَرِّموه. وكما أنهم لا يريدون معرفة الناموس الإلهى، فقد لفظوا الوصية المعطاة لهم، واستمروا فى التمرد والعصيان. لهذا اتهمهم الله بالنبى صارخًا: ” من أكلمهم وأنذرهم فيسمعوا. ها إن أذنهم غلفاء فلا يقدرون أن يصغوا. ها إن كلمة الرب صارت لهم عارًا، لا يُسرون بها” (إر10:6). فأولئك الذين اعتادوا على الإثم، تكون النصيحة لممارسة الصلاح هى عبارة عن ثقل بالنسبة لهم، ولأولئك الذين يريدون أن يحيوا باستهتار فإن الاعتدال بالنسبة لهم ليس له جاذبية. فمثلما يغرق عقل السكارى من شرب الخمر، فى عدم الإحساس، ويكونون تبعًا لذلك عاجزين عن التفكير الصحيح؛ كذلك بنفس الشكل فإن الذين هُزموا بحب اللذة وسقطوا فى الخطية كما فى مستنقع عميق، وسيجوا العقل الرشيد بالشهوات غير الطاهرة، واقتنوا الشر لأنفسهم، واستغرقوا فيه بالتمام واستُعبدوا له، فإنهم يكونون قد تقيدوا بهذا المرض.

 

الفقرة السادسة:

          اليهود ألأكثر طياشة فى كل الجنس البشرى، الذين بسبب آثامهم تفوقوا على آبائهم فى عدم التقوى، اعتقدوا فى فعل ما هو مضحك ومخزى، لو أنهم كانوا قد نالوا الانتصار على اقتراف الإثم. فقد افترضوا أنهم سيُظهرون حالة أفضل من أسلافهم، ولكنهم تورطوا فى نفس الآثام وبدرجة أسوأ. وهذا قد تسبب فى سخط الله، سيد الكل ونقمته، إذ قال: ” فمن اليوم الذى خرج فيه آباؤكم من أرض مصر إلى هذا اليوم أرسلت إليكم كل عبيدى الأنبياء مبكرًا كل يوم ومُرسلاً. فلم يسمعوا لى ولم يميلوا أذنهم بل صَلَّبوا رقابهم. أساءوا أكثر من آبائهم” (إر25:7ـ26). أنتم يا من أظهرتم بتجاديفكم أنكم أبناء الذين أنجبوكم، وشابهتموهم فى الأفكار، وبذلك أكدتم أنكم أولادهم. أنتم يا من تفوقتم على الذين أنجبوكم، فى عدم التقوى، بتعديكم من جديد على الناموس، ومتهمين إياهم (أى أسلافهم) بالضعف، أنتم الذين وُهِبَ لكم وحدكم الانتصار فى الحروب حيث كان من الأفضل أن تعانوا الهزيمة. أنتم يا من انتزعتم نصرًا أكثر حزنًا، حيث لا يُدخل السرور.

          فالله حاكم الكل (ضابط الكل) يدينك عندما يقول: ” صَلَّبوا رقابهم” (إر26:7). علاوة على ذلك فإنه يدعو النبى ليندب عليهم قائلاً: “جزى شعرك واطرحيه وارفعى على الهضاب مرثاة لأن الرب قد رفض ورذل جبل رجزه. لأن بنى يهوذا قد عملوا الشر فى عينى يقول الرب” (إر29:7ـ30). بعد ذلك يشرح طريق جحودهم فيقول: ” وضعوا مكرهاتهم فى البيت الذى دُعى باسمى لينجسوه. وبنوا مرتفعات توفة…” (إر30:7ـ31). لقد وصلوا إلى درجة من التجاهل ورفضوا المحسن (إليهم) نفسه ورأوا أن عبادة الأوثان أكثر نفعًا؛ وهكذا اخترعوا أسماء لآلهتهم وقدموا لها الضحايا. آخرون (منهم) كرسوا أفكارهم للشهوات الجامحة معتمدين على جهادهم الخاص واستولوا على البساتين الأكثر ترفًا فى الجبال مقدمين ذبائحهم للشياطين، وكما أتصور أنهم ناجوا الحوريات بحسب الشعراء اليونانيين، “حورية الغابات” (Ἀμαδρύαδα) و”حورية الجبال” (Ὀρείαδα). وفى إدمانهم لشهواتهم القبيحة فقد تباهوا بهذه ألأشياء التى سوف تتلاشى، والتى سببت لمعطى الناموس حزنًا ليس بقليل. لذلك يقول إرميا النبى: ” هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطلقت إلى كل جبل عال، وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك. فقلت بعدما فعلت كل هذه ارجعى إلىَّ فلم ترجع” (إر6:3ـ7). بالنسبة لأولئك الذين لا يُسرّون بالخلاص، فإنهم يكرهون الطرق النافعة ولا يستطيعون الهروب من وقت الفرح إلاّ برفضه كلية؛ وحيث إنهم لا يملكون معرفة السرور المتعقل، لذلك يسعون دائمًا إلى الأسوأ . إن موقف اليهود المتصلب والمعاند يشهد على الأقوال، حيث إنهم لم يكونوا متيقظين لكى لا يتورطوا فى الآثام، واحتقروا إحسان الرب. لأنه عندما كان يمكنهم الندم ويكونون محفوظين، فإنهم يزدرون بكل ما هو صالح لهم ولا يُقدِّرون عظمة محبة الله للبشر؛ لذلك سوف لا يُحفظون ولا يستحقون أى رحمة.

          وهكذا هم يتجاوزون حدود كل غطرسة، فعندما كانت لهم فرصة الهروب من العقاب بالتخلى عن الخطية، جلبوا العقاب على أنفسهم مضيفين بذلك خطايا جسيمة لتلك التى اُقترفت؟ فالناس الذين يميلون لذلك سيُعاقبون أكثر بدلاً من أن يتحرروا من نتائج الشرور. لذلك ستمتنع الرحمة عن هؤلاء الأشخاص.

          هذا القول ليس منى، ولكن رب كل البشرية هو الذى تكلم بهذا عندما صرف النبى الذى كان يصلى متشفعًا لهم قائلاً: ” وأنت فلا تُصل لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلوة ولا تلح على لأنى لا أسمعك. أما ترى ماذا يعملون فى مدن يهوذا وفى شوارع أورشليم؟ الأبناء يلتقطون حطبًا والآباء يوقدون النار والنساء يعجن العجين ليصنعن كعكًا لملكة السموات ولسكب سكائب لآلهة أخرى لكى يغيظونى” (إر16:7ـ18). الأبناء يجمعون حطبًا والآباء يوقدون النار والنساء يعجن لدرجة أن لا شئ سيكون بريئًا من الخطية. إنهم يعملون بجهد لأجل خطاياهم وسوف يسمعون بعدل:     ” لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لى. ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو6:4). إن طريقة العقاب تتلائم دائمًا مع جسامة الخطايا، لذلك يجب على المذنبين أن يتحملوا عقابًا مساويًا لخطاياهم. فأى معاناة أعظم وأقسى يمكن أن توجه لأولئك الذين سقطوا فى الخطية، من أن يمنعوا من خدمة (الكهنوت) المقدسة ويفقدوا الحق فى التمتع بامتياز ذكر الله لهم، الذى من خلاله كانت لهم حياة كريمة ولم يشعروا بأى عوز أو احتياج بل كانت لهم كل بهجة. هذا حدث لشعب إسرائيل. فقد احتقروا محبة الله للجنس البشرى وعارضوا واجب حفظ شريعة الله، ولكنهم بأكثر غضب تمسكوا بكسلهم وانحرفوا إلى شهوات غير طبيعية، وكانوا غير راغبين فى القيام بمهام غير مهامهم، حسب ما كان يريد معطى الناموس. فكانت رغباتهم الخاصة هى ناموسهم ولم يسترشدوا إلاّ برأيهم الخاص. لقد حزن الرجال القديسون بحق على هؤلاء بسبب أفكارهم وتصورات قلبهم قائلين: ” اسمعوا هذا القول الذى أنا أنادى به عليكم مرثاة يا بيت إسرائيل. سقطت عذراء إسرائيل لا تعود تقوم” (عا1:5ـ2)؛ وأيضًا: ” ادعوا النادبات فيأتين وارسلوا إلى الحكيمات فيقبلن ويسرعن ويرفعن علينا مرثاة لأن قطيع الرب سُحق” (إر17:9ـ 18). ولكن النبى إرميا رآهم كما لو كانوا قد ابتُلوا، واقترب عقابهم وأظهر لهم حزنه عليهم قائلاً: ” قربت نهايتنا. كملت أيامنا لأن نهايتنا قد أتت. صار طاردونا أخف من نسور السماء” (مراثى 18:4ـ19). فمنذ أن استولى هذا الرعب الكبير على كل شئ وعلى كل المسكونة التى هُزمت من الشيطان، لذلك كما يقول النبى: ” وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاها بلا حد” (إش14:5). بالنسبة لليونانيين فإنهم بسبب غباءهم العظيم، يسقطون فى الشرك (الإيمان بتعدد الآلهة) ” وأبدلوا مجد الله الذى لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذى يفنى والطيور والدواب والزحافات” (رو23:1؛ عد15:4ـ19؛ مز20:106؛ إر11:2)، فكما لو كانوا يسرعون فى رحلتهم مسابقين الريح، كذلك فإنهم كانوا يسرعون إلى هاوية الموت الداخلية.

          من جهة أخرى فإن اليهود يزدرون بالوصية المعطاة لهم. فقد اخطأوا لدرجة من الحماقة حيث فكروا، بحسب زعمهم، وبشئ مخجل فى إظهار حياتهم الممتازة وأسرعوا ليسيروا فى نفس طريق اليونانيين. ولكن عندما ساد الليل والظلمة على الأرض والبحر، فإن الله سيد الكل، لم يشأ أن يرى هلاك خليقته على الأرض، أعنى الإنسان، بل على العكس، فلأجل أنه رأى أن الطبيعة البشرية قد أُصيبت بمرض عُضال، فقد أرسل كلمته الذى يستطيع وحده أن يحطم مملكة الشيطان ويحررنا من الشرور التى أمسكتنا فى قبضتها.

          فقد أخذ شبهنا وصار إنسانًا مثلنا (راجع فى7:2)، ووًلد من العذراء القديسة مريم، ولم يفقد ما كان له ولكن أضاف إليه ما لم يكن له، وتمم خلاصنا، وكما يقول بولس: ” هو أمسًا واليوم وإلى الأبد” (عب8:13)، فلم يخضع لأى تغيير أو تبديل فى ألوهيته بصيرورته إنسانًا، بل ظل كما كان وسيظل دائمًا. بمجيئه إلى العالم جعل الشيطان موضع هزء وسخرية عند الذين آمنوا بالمسيح، ذلك الشيطان الذى كان يصرخ طويلاً: ” فأصابت يدى ثروة الشعوب كعش وكما يجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف” (إش14:10). فقد حطم المسيح الخطية التى سيطرت علينا، بواسطة الاغتسال بالمعمودية والتى صارت ميلادًا جديدًا وأظهرت نقاوة العالم. لقد أرشدنا إلى طريق الخلاص، مبددًا غشاوة الجهل وضبابه ومظهرًا لنا معرفة الإيمان بالله فى كل لمعانها. لقد صار لنا بنفسه رفيقًا شريكًا لوطن الملائكة فى السماء. لقد وحَّدَ بنفسه الأشياء التى على الأرض بالتى فى السماء، وأظهر أن طبيعة الإنسان تشارك حياة الأرواح التى تُوجد فعلاً هناك (أى الملائكة فى السماء)، تلك الطبيعة التى انفصلت عن الله طويلاً بالخطية وكانت باستمرار مثل عبد، لكن الآن ارتبطت به بالإيمان والتقوى. اليهود فى شقائهم كانوا معاندين للاعتراف به كمخلص ورب، بل قاوموه وهو الذى جاء بينهم لمنفعة البشرية كلها، أى ليخلصنا من الهلاك الأبدى.

          وعوضًا عن ذلك عَبّروا عن انكارهم للجميل عن الإحسانات (التى صنعها معهم) وأسلموه للموت وللصليب. وعندما رأوه معلقًا على الخشبة، فإنهم جحدوه ثانية وسبوه بالكلمات: ” لو كنت ابن الله انزل من على الصليب فنؤمن بك” (مت40:27).

          وعندما تحمل المخلص الموت عنا كلنا ونزل إلى الجحيم، سلب ممالك الشيطان قائلاً: ” حتى سبى الجبار يسلب وغنيمة العاتى تفلت” (إش25:49)، كما يقول النبى. مقيمًا هيكله الخاص (جسده) فى اليوم الثالث ” كباكوة الراقدين” (1كو20:15)، محررًا طبيعتنا من قيود الموت، ومعلّمًا إيانا أن نقول بانتصار: ” أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية” (هو14:13؛ 1كو55:15، انظر 2تى10:1؛ عب14:2). لقد جعل السماء تنفتح على طبيعتنا وأُصعد بعد اكتمال العمل المحدد لتجسده، وقدم ذاته للآب كباكورة للطبيعة البشرية وأعطانا الروح كعلامة للرجاء الآتى، قائلاً: ” اقبلوا الروح القدس” (يو22:20).

          هذه هى علامات ظهور مخلصنا، لذلك نبشر به أنه هو المحسن والمخلص. فحيث إنه يكون صحيحًا أن الأبناء يثبتون شرعيتهم بأعمالهم؛ وحسنًا يردون للسيد المكافأة، دعنا نستمع لكلمات بولس:     ” لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة فى خوف الله” (2كو1:7). ولهذا دعنا نحتفل للرب بعيد نقى. وبداية الأربعين تكون فى الخامس عشر من شهر أمشير، مع أسبوع الفصح الخلاصى الذى يبدأ فى العشرين من برمهات منهيين الصوم فى الخامس والعشرين من نفس الشهر، وكعادتنا سنحتفل بالعيد فجر يوم الرب (أى يوم الأحد) فى السادس والعشرين من نفس الشهر، ومضيفين بعد ذلك الأسابيع السبعة للخمسين المقدسة. لذلك سوف نرث ملكوت السموات فى المسيح مع القديسين إلى الأبد. آمين.

 

الرسالة الفصحية الأولى ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك